مقدمة

تزخر جراسا جوهرة مدن الديكابولس الأردنية بالكثير من الآثار والتي تدلنا على أهم المظاهر الحضارية. وربما تكون أكثر مدن الديكابولس دراسة وبحثا وقد انصب عليها اهتمام حملات التنقيبات والحفريات. في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابولس الأردنية سنطلع على أهم معالم الحضارة في جراسا كاقتصادها وتجارتها وآثارها.

الاقتصاد في جراسا

اعتمد اقتصاد مدن الديكابولس الأردنية بشكل عام على الزراعة والصناعات المرتبطة بها تحت مظلة الاقتصاد الزراعي. وأتاحت الطرق التجارية التي استحدثها الأردنيون الغساسنة متفرعة من طريق الحرير القديم على جعل مدن الديكابولس الأردنية مراكز تجارية متخصصة في منتجات مميزة، كزيت الزيتون الذي اشتهرت فيه أبيلا (حرثا) أو تجارة الحيوانات المدجنة الذي اشتهرت فيه بيلا (طبقة فحل). ولكن تمتعت جراسا بمكانة مميزة لكونها تقع في قلب خريطة مدن الديكابولس الأردنية.

العلاقات التجارية مع الأردنيين الأنباط

 في نهاية القرن الأول قبل الميلاد بدأت المملكة الأردنية النبطية بالاتساع  حتى وصلت دمشق، فصارت بوسطرا (بصرى) مدينة نبطية وظلت جراسا (جرش) على مكانتها كمدينة ديكابولس أردنية مرموقة ولكنها تأثرت كثيرا بالثقافة الأردنية النبطية بفعل حركة التجارة العالمية التي قادها أجدادنا الأردنيون الأنباط في العالم القديم عبر ما سمي بطريق الملوك[1] وبالرومانية سمي  “طريق مارس”.

شهدت المملكة الأردنية النبطية في عهد الملك الأردني النبطي الحارث الرابع 9 ق.م – 41 م أشد حالات اتساع نفوذها السياسي والتجاري. حيث اعتمدت مدينة جراسا على النقد النبطي خصوصا الذي يعود لحقبة الحارث الرابع وقد وحجت الكثير من العملات النقدية خلال حملات التنقيب إضافة للعديد من المنتجات النبطية كالفخار النبطي ونرى أيضا تأثر جراسا بمعتقدات الأنباط الدينية وأنظمة الري والهندسة المعمارية. (شهاب: 1989)

لم يتغير الحال التجاري عندما سقطت المملكة الأردنية النبطية بعد حصار اقتصادي طويل عام 106 ميلادي فقد أعاد الإمبراطور تراجان تقسيم الطرق التجارية وجعل مركزها مدينة جراسا وكانت تابعة إلى ما سمي “الولاية العربية البترائية- بترايا أرابيا” ( العقيلي: 1973)

خريطة توضح خطوط التجارة الأردنية النبطية ومدى توسعها

أما في عهد الأردنيين الغساسنة (القرن 2-6 ميلادي) فقد شهدت مدن الديكابولس نهضة تجارية لا مثيل لها. وصارت المنتجات الزراعية والصناعية الأردنية تجوب أنحاء العالم القديم بفضل الشبكة التجارية المحكمة التي استحدثها الأردنيون الغساسنة كفروع عن طريق الحرير القديم. إضافة للمراكز التجارية وخطوط الطرق فقد عرف الأردنيون الغساسنة بأنهم حماة القوافل فقد كانت مهمتهم تأمين القوافل التجارية القادمة والذاهبة من مدن الديكابولس الأردنية إلى أنحاء العالم.

خريطة الطريق العربي الغربي وهو طريق تجاري استحدثه الأردنيون الغساسنة وكانوا مسؤولين عن حمايته. المصدر:
Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

الزراعة

 تحيط غابات عجلون بمدينة جراسا وقد وصفها العديد من الرحالة كجنة خضراء تحيط بها عيون الماء ويتخللها نهر متدفق لقب “بنهر الذهب” وقد ذكره ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان بأنه متدفق وغزير ويدير عدة طواحين. إضافة للنهر في جراسا عدة ينابيع طبيعية غزيرة كعين القيروان وعين البركتين واستخدمت الأولى للشرب والثانية للري. وقد أسس الأردنيون في جراسا نظاما مائيا يغذي المدينة وكان يستخدم لري كل البساتين حول المركز وقد خلصت دراسة أجرتها دائرة الآثار الأردنية عام 1982 إلى مخطط شبكة المياه والري والمجاري.

تتمتع جراسا بتربة خصبة للغاية كحال أغلب مدن الديكابولس الأردنية. وقد عزز توافر المياه والتربة الخصبة إضافة لإتقان الأردنيين لأسس الزراعة وأساليبها على جعل جراسا من أهم المدن الزراعية الأردنية التي تنتشر فيها كروم العنب والزيتون ونستدل على وجود معاصر الزيتون والنبيذ الحجرية المكتملة والتي تعد من المعاصر الأكبر حجما في الأردن.

من بقايا معاصر الزيتون في جراسا- حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

مخطط وبناء المدينة

 يتسم تخطيط مدن الديكابولس الأردنية بالتنظيم وبعناصر أساسية لا غنى عنها في كل مدينة. فلكل مدينة بوابة وسور عظيم وسبيل حوريات ومسارح (مدرجات) وشارعين رئيسين (كاردو) ( وديكيمانوس)، وتتابين التفاصيل الأخرى. ولكن في مدينة جراسا يختلف الأمر قليلا فقد تحكمت العوامل الجغرافية والطبيعية في بناء المدينة وتوسعها وأهم هذه العوامل هو وجود النهر الذي يقطع جراسا إلى جزأين غربي وشرقي وتقع أغلب المدينة الأثرية في الجزء الغربي إلا أن توسعها كان أمرا يتبع للحقبة التي تقع فيها.

مخطط المدينة الأثرية وقوس النصر وملعب الخيل إلى اليسار من المخطط

يمكننا تقسيم الطرز المعمارية وتوسع المدينة بحسب أهم الحقب التي مرت عليها. وسنبدأ من الحقبة البطلمية فكما أسلفنا وقعت جراسا تحت حكم السلالة البطلمية[2] في القرن الثالث قبل الميلاد. وبمقارنة جراسا بأختها فيلادلفيا نجد بعض الفروق في اعتبار جراسا حامية عسكرية بنيت فيها قلعة على الهضبة الغربية الجنوبية حيث يقع المدرج الجنوبي ومعبد زيوس. وتختلف هذه القلعة في تخطيطها عن القلاع العسكرية التي بنيت في فيلادلفيا أو جدارا. وفي تلك الفترة بني للمدينة أيضا سور عظيم فيه أبراج للمراقبة وتتميز هذه الأسوار بأنها تسير بشكل مستقيم ومن ثم تنحرف على شكل زاوية حادة وفي كل زاوية برج مراقبة وللسور بوابة واحدة تقع على الجهة الشرقية.  وتبلغ المساخة الداخلة ضمن هذا السور 147 ألف متر مربع. (شهاب: 1989)

جزء من سور المدينة الأثرية- حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

في القرن الثاني قبل الميلاد حتى القرن الأول دخلت المدينة في الحقبة السلوقية  وتمثلت أهم معالمها المعمارية ببناء سور دفاعي بطول خمسة كيلومترات وبعرض مترين لثلاثة أمتار. إضافة لذلك، شهدت هذه الحقبة تطور العلاقات التجارية مع الأردنيين الأنباط مما ساهم في تلاقح الأساليب المعمارية وتطويرها؛ فبنيت عدة بوابات للمدينة.  ففي السور الدفاعي أربعة بوابات رئيسة تم تغيير وإعادة بناء بعضها عند دخول المدينة الحقبة الرومانية، إلا أن البوابة الشمالية الغربية التي بنيت  76-75 ميلادي هي البوابة الوحيدة التي لم يتم تغييرها. (شهاب: 1989)

البوابة الشمالية – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

أما البوابات الأخرى فقد تأثرت كما أسلفنا بدخول الحقبة الرومانية في القرن الأول الميلادي. فالبوابة الشمالية قد أعيد بناؤها عام 115 ميلادي وذلك لحل مشكلة تقاطع شارعين رئيسيين الأول هو طريق تراجان القادم من بيلا (طبقة فحل) والثاني شارع الكاردو في المدينة. والبوابة الجنوبية الضخمة التي تتفرد بثلاثة مداخل قد أعيد بناؤها على فترات مختلفة وصولا إلى العصر الإسلامي.

تقع  البوابة الشمالية عند النهاية العليا لشاعر الكاردو  وهي على امتداد طريق بيلا (طبقة فحل) التجاري. فيها ممر واسع به جانبان أضيق قليلا وعلى الممر من الأعلى وجد النقش الذي يؤرخ لسنة إنشائها وهي أعرض قليلا من البوابة الجنوبية التي وجدت في حالة دمار بعد اكتشاف غرفة الحارس. البوابة الجنوبية مشابهة لقوس النصر ولكن أصغر حجما وهي مثله تحوي على أربعة أعمدة. (شهاب: 1989)

زودت البوابات بمداخل من نوعين الأول هو الدرجات للاستخدام البشري والثاني هو المنحدر لاستخدام الحيوانات والعربات. وقد اكتشفت بوابة أخرى من الجهة الشرقية أثناء شق طريق وهي مغلقة بالحجارة ولكنها جعلت الباحثين يعيدون النظر بتخطيط المدينة حيث اقترح بعضهم وجود شارعين آخرين رئيسيين وبهذا تصبح جراسا مدينة الديكابولس المتفردة التي تحوي أربعة شوارع رئيسة تقسم المدينة إلى مستطيلات تتراوح أبعادها بين الخمسين والمائة متر على مساحة خمس دونمات (شهاب: 1989)

المباني الأثرية

 كانت جراسا مدينة شديدة الازدهار وقد تجلى ازدهارها الحضاري بعظمة تخطيطها وبنائها وفي ما يلي أهم آثار المدينة :

قوس النصر 

إن قوس النصر هو أول ما يراه القادم من فيلادلفيا إلى جراسا وهو بناء ضخم وجميل بني على شرف الإمبراطور الروماني أدريان  129-130 ميلادي. .”  ولأنه يشرف على عمان ولأنه بني تخليدا للإمبراطور أدريانوس لقب قوس النصر (بوابة عمان) و(بوابة أدريان).

صورة لقوس أدريان أو بوابة عمان

 ونقش على قوس النصر “تخليدا للإمبراطور ادريانوس، أغسطس، الكاهن الأعظم أبي الوطن، ولسعادة وسلامة أسرته. إنها مدينة أنطاكية الواقعة على سيل كريزوراس، جرش بتوصية من فلافيوس أغربيا تتقدم هذه البوابة مع  تمثال النصر”

 يتكون البناء من مدخل كبير مقوس في الوسط ومدخلان جانبيان وفوق القوس الكبير وضع تمثال الإمبراطور أدريان ممتطيا عربة بأربعة خيول. وفي الواجهة أربعة أعمدة مزدانة بأكاليل الخرشوف والقوسان الصغيران فيهما حنايا لوضع التماثيل. (شهاب: 1989)

ملعب الخيل (هيبودروم)

 يقع ملعب الخيل على يسار قوس النصر ويمتد على شكل مستطيل طوله 160 متر وعرضه 65 متر وكان يحيط بالملعب جدار سمكه 5 متر. من المرجح أن هذا الملعب قد بني في القرن الثاني الميلادي بعد بناء قوس النصر. يعد هذا الملعب مرفقا ترفيهيا مهما حيث كانت تدار فيه ألعاب سباق الخيل والعربات. والجدير بالذكر أنه قد طرأ عليه بعض التغيرات عند الغزو الفارسي 614 ميلادي حيث عثر على ثغرات خاصة بلعبة الصولجان الفارسية. (العقيلي: 1973)

إطلالة على ملعب الخيل

للملعب مدرجات شمالية وغربية للمتفرجين وهي قائمة على أقبية كبيرة تشبه نظام بناء المسارح والمدرجات المغلقة. والأغلب أن هذه الأقبية استخدمت كإسطبلات للخيل. (العقيلي: 1973)

سبيل الحوريات

يعد سبيل الحوريات مبناً مشتركاً نجده في كل مدن الديكابولس الأردنية وهو دليل واضح على الرخاء والرفاه الاجتماعي. في جراسا، يتألف السبيل من طابقين وهو عبارة عن هيكل لعذارى الماء (النمفيوم) ويعد حمام جراسا متميزا من ناحية الزخارف والمعمار فتتدفق الماء من أفواه الأسود المنحوتة إلى المصارف تحتها إلى أن يمتلئ الحوض. وسبيل الحوريات مزود بشبكة تصريف مياه متميزة مكونة من قنوات فرعية تصب في أخرى رئيسية وأخرى أكبر تصل مدن الديكابولس الأردنية ببعضها. (العقيلي: 1973)

سبيل الحوريات المؤلف من طابقين والمزين بأجمل الزخارف

هيكل أرتميس

 تشتهر أرتميس بكونها آلهة الصيد وآلهة المدينة الأعظم وحاميتها. وبني هيكلها لتكريمها. يقع الهيكل في الجانب الغربي الشمالي من المدينة ويعتبر من أعظم آثار جراسا على الإطلاق. بني الهيكل في منتصف القرن الثاني الميلادي. (العقيلي: 1973)

تبلغ أبعاد الهيكل 40 متر طولا، 22.5 متر عرضا و4.5 ارتفاعا وقد بني على عدد كبير من الأقبية وهو مطل على أغلب المدينة الأثرية وقريب من البوابة الشمالية والبوابة الشمالية الغربية ومن القرب منه بنيت عدة حمامات لا زالت بعض بقاياها موجودة. كان للهيكل حرمة فلا يدخله سوى الكهنة. (العقيلي: 1973)

إطلالة على هيكل أرتميس – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

يعد هيكل أرتميس رائعة معمارية قل مثيلها في المدن التي بنيت على الطراز الروماني في العالم أجمع. فهو مبني على طراز الممرات والساحات ويبدأ نظام الممرات شرق سيل جراسا ب300 متر ويشكل الممر شارعا بطول 38.7 متر وعرض 11 متر يتقاطع مع الشارع الرئيسي ويصنع ساحة على شكل شبه منحرف. وللهيكل بوابة عظيمة يبلغ ارتفاع جدارها 14 متر ويمتد لمسافة 120 متر. وإلى الداخل توجد بوابة بديعة ثلاثية مزدانة بالأعمدة والزخارف النباتية وبعد البوابة تأتي الساحة الداخلية تليها عدة درجات ومن ثم الهيكل. يخلّف هذا النظام من تقاطع الممرات والساحات شارعا مقدسا وآخر للاحتفالات ويعد استغلالا رائعا للمساحات بهدف خلق حالة من الشعور بالرهبة والخشوع. (شهاب: 1989)

معبد زيوس

 زيوس هو كبير آلهة الأولمب اليونانية وهو سيد البرق والصواعق ويلقب بأب الآلهة والبشر وانتشرت عبادته في مدن الديكابولس التي خضعت للتأثيرات اليونانية لفترات طويلة.

معبد زيوس – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

  يقع معبد (هيكل) زيوس شرقي المسرح الجنوبي وأعمدته متساقطة في نفس الموقع وبعض من جدرانه لا يزال قائما. والمثير في هذا المعبد هو الأقبية الضخمة التي أُنشئت لرفع مستوى ساحة المعبد والتي استخدمت كمخازن للأدوات. (العقيلي: 1973)

وقد ذكر المسؤول عن حملة تنقيبات البعثة الفرنسية في ثمانينات القرن الماضي الباحث “جاك سين” أن أبرز ما اكتشفته البعثة هو أن بناء المعبد قد تم على يد وتحت إشراف واحد من أبناء جراسا بالاعتماد على الكتابة اليونانية التي وجدت في ساحة المعبد. (شهاب: 1989)

الساحة (الفورم)

تقع الساحة البيضاوية في مكان منخفض بين الهضبتين الشرقية والجنوبية الغربية وهي من أكثر المعالم الأثرية شهرة. تبلغ  أبعادها 80 × 90 مترا وهي مبلطة بالحجر الكلسي الأملس ويحيط بها 55 عمود. أما من ناحية تخطيط المدينة فهي تقع في نهاية الشارع الرئيسي في الجهة الجنوبية من المدينة الأثرية. (شهاب: 1989)

الساحة البيضاوية المحاطة بالأعمدة

يطلق عليها عدة أسماء (الفورم) باليونانية وساحة الندوة حيث كانت ملتقى اجتماعي وثقافي وسياسي. وهي تشهد على ازدهار جراسا في القرن الأول الميلادي. (شهاب: 1989) وفي الذاكرة الشعبية كانت تلقب الساحة “السحاجّة” للاعتقاد السائد بأن الله أنزل غضبه على أهل المدينة عندما كانوا يعدون لسهرة “الدحية والسحجة” فحولهم لأعمدة.

 شوارع الأعمدة

شارع الديكمانوس الفرعي والذي يتقاطع مع الكاردو

من الساحة البيضاوية  باستقامة حتى البوابة الشمالية، يبلغ طول الشارع الرئيس 600 متر وهو شارع مزدان بالأعمدة على جانبيه ( العقيلي: 1973) وتختلف الأعمدة في طرازها فمن الجانب الشمالي هي على الطراز الأيوني الذي يتميز بصغر قطر العمود نسبيا وتاجه البسيط أما من الجانب الجنوبي فتتبع الأعمدة الطراز الكورنثي وهي أعمدة بتاج مزخرف بزخارف نباتية وورود.  في شارع الكاردو قرابة الألف عمود ومن هنا أخذت جراسا لقبها “مدينة الألف عمود”

تصميم العمود الأيوني حيث يكون رفيعا وبنهاية ملتفة
نهاية العمود الكورنثي المزين بالزخارف النباتية

يتقاطع الشارع الرئيسي بشارعين متقاطعين آخرين. لا زال الشارع الفرعي الممتد من الشرق إلى الغرب ظاهرا بينما اختفت آثار الشارع  الفرعي الجنوبي. ومن المثير أن نجد في هذه الطرق آثار باقية للعربات وقنوات تجميع وتصريف المياه. ( العقيلي: 1973)

شارع الألف عمود

 

عمارة الكنائس

كما ناقشنا في البحث الأول عن مدينة جراسا ازدهرت المسيحية في  المدينة ولقت فيها تربة روحية خصبة وقد أسفر هذا عن إبداع غير مسبوق في مجال عمران الكنائس. حتى الآن، اكتشفت 15 كنيسة مسجلة ولكن الباحثين يرجحون أن المدينة حوت عددا أكبر وربما يكون هنالك المزيد من الكنائس المطمورة تحت الأنقاض.

 تتسم عمارة الكنائس بطابع جمالي يؤرخ لحقبة كان فيها الإنسان الأردني على قدر عال من الإبداع. أغلب الكنائس في جراسا تتبع طراز البازليكا أي الكنيسة المستطيلة وغالبا ما ترصف بالفسيفساء الجميلة الملونة والمزدانة بالزخارف النباتية والحيوانية إضافة إلى  الأعمدة والنوافير والغرف المرفقة. ( العقيلي: 1973)

من الزخارف النباتية على الجدران

وفي الحقيقة،  تمثلت الحركة العمرانية في جراسا بل في مدن الديكابولس الأردنية ببناء الكنائس ذات الطراز المعماري المميز. ونذكر من هذه الكنائس كنيسة القديس ثيودور التي تقع بجانب البركة المقدسة وكنيسة يوحنا وكنيسة القديس جورج وكنيسة الشهيدان قزمان ودميان (كوزموس ودميانوس) وكنيسة القديسين بطرس وبولس وآخر ما بني من الكنائس كانت كنيسة المطران جينيسوس. ( العقيلي: 1973) وهناك أيضا كنيسة الرسل والشهداء والكنيسة ذات الرواق وكنيسة بروكوبيوس وكنيسة إلياس وماري وسورح إضافة لكنيس يهودي حول إلى كنيسة عام 531 ميلادي. (شهاب: 1989)

كنيسة الكاتدرائية إحدى أقدم الكنائس في مدن الديكابولس

من الجدير بالذكر أنه في القرون الميلادية الأولى وخصوصا بعدما اعتنق الإمبراطور أوغسطين  المسيحية وأعلن أن دين الإمبراطورية هو الدين المسيحي بدأت مدن الديكابولس الأردنية باعتناق المسيحية وتحولت المسيحية من دين جديد مضطهد إلى دين الأغلبية وقضت الحاجة بتحويل المعابد الوثنية إلى كنائس. ففي فيلادلفيا (عمان) حُول هيكل فينوس إلى كنيسة وكذلك كان الحال في جراسا حيث تحول معبد ديونيسيوس إله الخمر إلى كاتدرائية وأقام الأردنيون بجانبه معبدا لمريم العذراء والملاكيين جبرائيل وميكائيل ويصعب تحديد عمر الكنيسة ولكن يرجح المؤرخون أنها لا تتعدى القرن الرابع الميلادي. (شهاب: 1989)

كنيسة القديس ثيودور واحدة من الكنائس المهمة في جراسا- حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

عمارة المسارح

 عاشت مدن الديكابولس الأردنية رفاهاً ورخاءً اقتصاديا واجتماعيا، وتساعدنا الآثار التي وجدت في مدن الديكابولس على اكتشاف ماهية معالم الحضارة الأردنية. تنتشر المسارح التي بنيت في الحقبة الكلاسيكية في الأردن وقد بلغ عددها 13 مسرحا 3 منها في جراسا: المسرح الجنوبي، والمسرح الشمالي، ومسرح البركتين. (العقيلي: 1973)

يشيع استخدام لفظة “مدرج” بدلا من المسرح، ولكن المدرج في الحقيقة جزء من المسرح. تبدو المسارح متشابهة في مدن الديكابولس الأردنية ولكن مع بعض التدقيق تظهر لنا اختلافات جوهرية فالمسارح التي بنيت في الحقبة اليونانية تكون مفتوحة السقف ولكن تلك التي بنيت في الحقبة الرومانية والبيزنطية تكون مغلقة بسقف خشبي أو واق من الشمس وهي معدة لتمثيل المسرحيات لا للمصارعة مع الحيوانات. (العقيلي: 1973)

كانت المسارح تبنى على سفوح الجبال أو تقتطع من الجبال وذلك لتجنب حوادث الانهيارات كحادثة انهيار المسرح الخشبي في أثينا 500 ق.م. ومن ثم تطور أسلوب البناء ليصبح البناء على “حجر الزاوية” وهو نمط معماري يقوم على تأسيس نظام من الأقبية والعقود لتتحمل مباني قد يصل ارتفاعها لأربعة طوابق. ويشمل هذا البناء على مداخل داخلية لممثلين وخشبة مسرح ومكان مخصص لأوركسترا ونوافير جانبية لتلطيف الجو أثناء العرض المسرحي. (العقيلي: 1973)

المسرح الجنوبي أكبر المسارح التي بنيت في مدن الديكابولس الأردنية

وبالعودة إلى مسارح جرش الثلاثة، بني المسرح الجنوبي وهو أكبر المسارح في الأردن في القرن الأول ميلادي  وتحديدا 81-98 ميلادي في عهد الإمبراطور روميتان ويؤكد هذا كتابة يونانية طويلة على الصف الأول وهي تؤرخ لتقديم ضابط نبطي تمثالا للنصر عقب الثورة على اليهود عام 70 ميلادي ويبلغ ثمن هذا التمثال ثلاثة آلاف دراخما. ويقع  المسرح قرب معبد زيوس. (العقيلي: 1973)

المسرح الشمالي

أما مسرح البركتين فهو يقع قرب البركتين على بعد 1200 متر شمال البوابة الشمالية. والبركتين عبارة عن نبع ماء غزير يسقي البساتين المحيطة وسمي بالبركتين لأنه يتكون من حوضين. اكتشف هذا المسرح المستكشف الألماني شوماخر. واكتشف بعض النقوش التي تعود للقرن السادس الميلادي أن احتفالا وثنيا يسمى “عيد ماء يوماس” كان يقام في هذا المسرح وكان المسيحيون لا يتقبلون هذا النوع من الأعياد ورغم ذلك ظل هذا العيد حتى وقت متأخر كالقرن السادس الميلادي. (العقيلي: 1973)

حوض البركتين – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود
المسرح الاحتفالي في موقع البركتين – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

المدافن واللقى الأثرية

خلال عمليات التنقيب التي أجرتها دائرة الآثار الأردنية عام 1985 اكتشفت العديد من الآثار التي تعود للحقب المتعددة التي مرت على المدينة. فقد اكتشف مدفن على الطراز الروماني يقع غرب البوابة الشمالية خارج سور المدينة. وهو مبني من الحجارة على طراز القناطر ويؤرخ للقرن الثاني الميلادي. (شهاب: 1989)

وكشفت تنقيبات عام 1984 عن غرفة ويتوسطها تماثيل بشرية رخامية بأسماء يونانية ويقع هذا الموقع شرقي المدينة الأثرية. كما اكتشف مفتش آثار جرش لعام 1967 السيد سليمان دعنه فسيفساء في استراحة جرش. وقادته الصدفة لاكتشاف غرف متعددة  مرصوفة بالفسيفساء الجميلة ولها أقواس وقناطر. أسفرت  التنقيبات عن العديد من اللقى الأثرية كسراج فخاري مميز عليه رسوم لأسماك وصليب وتدل الأسماك على فكرة “المسيح ابن الله” وهي رمز كان يستخدمه المسيحيون الأوائل  زمن اضطهاد الأباطرة الرومان لمعتنقي الديانة المسيحية وقد استمر استخدام هذا الرمز حتى يومنا هذا.

إطلالة على المدينة الأثرية

 ووجد فنجان وعدة عملات  ورأس تمثال وقبر مرسوم عليه بالدهان الأحمر صليب وقد أرخ الموقع لنهاية القرن الرابع 396 ميلادي. أسفرت التنقيبات الكشف عن قناة خاصة للمياه في هذه الغرف ومكان مخصص لوضع العلف للدواب وجداران مكتوب عليهما (أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمدا رسول الله)  ويدل هذا على استمرار استخدام هذه المساكن والمدافن في العصور الإسلامية.  (شهاب: 1989)

تتوالى المفاجآت الأثرية في جراسا حيث اكتشفت بقرب مخيم سوف كنيسة بيزنطية مزدانة برسوم نباتية وحيوانية ونقوش يونانية. إضافة لاكتشاف العديد من المنازل التي تعود للعصور الإسلامية واكتشاف شوارع داخلية فرعية بطول ستة أمتار ونصف وعلى جانبيها بقايا منازل تحوي الكثير من الخزفيات والفخار والعملات. إضافة لاكتشاف واجهة لمبنى ضخم يبلغ عرضه خمسين مترا ويقع خلف الشارع المعمد في منتصف المسافة الواقعة بين المصلبة الجنوبية والساحة  البيضاوية المعمدة. على جانبي المبنى شارعان بعرض ستة أمتار ونصف. واكتشفت أرضية فسيفسائية هندسية بجانب هذا المبنى أيضا. (شهاب: 1989)

صورة جوية لواحد من مواقع المدافن المكتشفة. حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

وأثناء عملية شق شبكة الصرف الصحي في جرش عام 1981 اكتشف أيضا مدفن  يحوي حجرتان  في كل حجرة ثلاثة نواويس (توابيت حجرية) وفي الغرفة الثانية عامودين عند المدخل وحجر لعصر الزيتون في المنتصف حيث يرجح استخدام الحجر كمعصرة قبل تحويلها إلى مدفن. والمدفن مرصوف بالحجارة الكلسية والتوابيت لها شناكل حديدية عبث بها من قبل اللصوص فكانت مفتوحة. واحتوى كل تابوت على عدة هياكل وعملة برونزية تعود لأوائل القرن الرابع ميلادي. عثر في هذا المدفن على عدد كبير من اللقى الأثرية كمعطرة زجاجية وفخاريات ملونة بالأحمر والوردي وجرار للخمر وسرج فخارية.

اكتشف أيضا مدفن روماني عام 1985 شرق قوس النصر ووجدت فيه هياكل عظمية لإناث وطفلة صغيرة ووجدت في التوابيت عدة حلي ذهبية وجرار فخارية للخمر والحبوب وأخرى زجاجية ويعود المدفن للقرن الثاني الميلادي. واكتشف في نفس العام مدفن جماعي يعود للقرنين الأول والثاني الميلادي بجثث مدفونة بالأرض دون توابيت إضافة لعدد من الجرار الفخارية والزجاجية.

الخاتمة

  استعرضنا في الجزء الثاني من بحثنا عن جراسا اقتصادها ومعمارها الذي يعد الأكثر تميزا من بين مدن الديكابولس الأردنية. تستقطب جراسا ملايين السياح سنويا، راغبين بالاستمتاع بالحضارة الأردنية.

المراجع

  • شهاب، أسامة (1989) جرش تاريخها وحضاراتها. دار البشير للنشر: عمان، الأردن
  • العقيلي، رشيد (1973) المسارح في مدينة جرش الأثرية، منشورات دائرة الثقافة والفنون الأردنية: عمان، الأردن
  • جراسا والديكابولس، موسوعة التراث غير المادي، موقع وزارة الثقافة الأردنية
  • مجلي،عبد المجيد (1982) نظام المياه والمجاري في مدينة جرش الكلاسيكية، حوليات دائرة الآثار الأردنية

[1] طريق الملوك أو الطريق السلطاني كما كان يسمى في العصور الإسلامية ظل مستخدما حتى نهايات الاحتلال العثماني وكان يربط العقبة بروما.

[2] البطالمة هم عائله من أصل مقدونى نزحت على مصر بعد وفاة الإسكندر الأكبر سنة 323 ق. م ، حيث تولى أحد قادة جيش الإسكندر الأكبر وهو “بطليموس” حكم مصر للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A9

مدن الديكابولس الأردنية : جراسا جوهرة الديكابولس الأردنية – الجزء الثاني

 مقدمة

من شمال الأردن الزاخر في الحضارات، ومنذ العصور القديمة التي كان الإنسان الأردني الأول يخطو خطواته من البدائية إلى الحضارة والمدنية، تأتينا مدينة بيلا، أو طبقة فحل كما يسميها الأردنيون اليوم، لتكشف لنا عن أصالة هذه الأرض، وعن حضارة تضرب جذروها في التاريخ. في سلسلة مدن الديكابولس الأردنية، سنستعرض مدينة بيلا، كمثال آخر على ازدهار الحضارة الأردنية الغسانية بشكل خاص.

ما قبل بيلا: موجز تاريخي

أثبتت الدراسات بأن بيلا قد سكنت منذ العصر الحجري القديم (Smith: 1987) ويجعلها هذا التاريخ العريق محط أنظار العلماء والباحثين حيث أجرت جامعة سيدني وجامعة ووستر التنقيبات في المدينة على مدار 22 عام وأثبتت دراستهما أن بيلا كانت مأهولة من أكثر من نصف مليون عام. وقد رسمت أبحاث الجامعتين خطا زمنيا لتاريخ المدينة:

  • مساكن من العصر الحجري الحديث (حوالي 6000 سنة قبل الميلاد)
  • مجمعات تخزين فترة العصر الحجري (حوالي 4200 قبل الميلاد)
  • منصات دفاعية من العصر البرونزي المبكر (حوالي 3200 قبل الميلاد)
  • أسوار طينية ضخمة من العصر البرونزي المتوسط (حوالي 1800 قبل الميلاد)
  • معابد العصر البرونزي الأوسط والمتأخر والمساكن الفخمة (حوالي 1800-1200 قبل الميلاد)
  • إقامة المحافظين المصريين[1] في العصر البرونزي المتأخر مع ألواح من الطين (حوالي 1350 قبل الميلاد)
باحثة من جامعة سيدني أثناء عملية تنقيب على أرضية معبد يعود للعصر البرونزي الوسيط (2000 سنة قبل الميلاد) . المصدر: موقع المعبد الكنعاني/ نتائج تنقيبات جامعة سيدني
إطلالة على المعبد الكنعاني، حيث أسس في مدخل المعبد عام 1600 قبل الميلاد وأضيفت المرافق الأخرى كالجدران وقدس الأقداس في فترات مختلفة. المصدر: موقع المعبد الكنعاني/ نتائج تنقيبات جامعة سيدني.

ومنذ العصر البرونزي المتأخر وصولا إلى غزو الإسكندر الأكبر للمشرق بأكمله عام 333 ق.م كانت المدينة مهجورة. وصلت التأثيرات الهلنستية للمدينة في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد.  وبين عام 323-31 ق.م. تحولت بيلا إلى مركز تجاري حيوي يذكر كثيرا في المصادر التاريخية الهلنستية وكإحدى اهم مدن الديكابولس التي سنأتي عليها بمزيد من التفصيل في الفصل القادم من هذا البحث.  وللأسف فإن هذا الازدهار لم يدم كثيرا، فقد قام الملك الحشموني ألكسندر جننيوس بحملة تدمير وإبادة لأبيلا عام 80 ق.م. وذلك لأن أهالي المدينة رفضوا بقوة ارتداء الزي اليهودي أو التحول لليهودية وفقا لما أرخه الأسقف يوسابيوس[2] أحد أهم مراجع التاريخ التوراتي والمسيحي.

صورة للملك الحشموني ألكسندر جننيوس الذي دمر أبيلا عام 80 قبل الميلاد لعدم خضوعها له

حلف الديكابولس

انطلقت فكرة الديكابولس في الحقبة الهلنستية لغايات تنظيمية سياسية، ومن ثم اكتسبت أهمية عسكرية عام 64 ق.م.  عندما اتخذها الإمبراطور الروماني بومبي كحُصن دفاعية في المشرق. تعني “ديكا” العشر أما بوليس  فتعني “المدن” ومجتمعة تعني مدن الحلف العشرة. ضمت المدن العشر في البداية (جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى) ) وكما نرى ثمان منها أردنية ثابتة، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) وبيت راس.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية ثابتة

وكما نرى فقد كانت بيلا من المدن العشرة الأساسية، التي تقع أغلبها في الأردن. ورغم الدمار الذي ألحقه الملك الحشموني بالمدينة إلا أنها استعادت مكانتها كمدينة ديكابولس، حظيت باستقلال وحكم ذاتي، وازداد تعداد السكان فيها كثيرا. وسرعان ما اتخذت موقعا متميزا أكثر عندما استغلها الأردنيون الغساسنة كحلقة وصل بين مدينتي الديكابولس في سورية (دمشق وبوسطرا -بصرى) وبين مدن الديكابولس الأردنية الثمانية الأخرى وحتى مدينة سيكثوبوليس (بيسان) الفسلطينية. إضافة إلى ذلك، فقد كانت قريبة لعاصمتي الأردنيين الغساسنة جلق والجابية في سهل حوران قبل أن يتخذوا من البلقاء عاصمة دائمة لهم.

الموقع والتسمية

تقع بيلا في وادي الأردن على بعد 5 كلم شرق نهر الأردن، وتتبع إداريا للواء الأغوار الشمالية. تبعد نصف ساعة عن مدينة إربد. ولأن المدينة واقعة في وادي الأردن فهي تتصف قليلا بالوعورة وتنخفض عن سطح البحر بمقدار 50 متر  وهذا ربما من أهم الأسباب التي جعلت الحضارات تهتم بالمدينة قرنا بعد قرن، إنه الموقع الاستراتيجي، فالمدينة مُقامة على ممر ضيق على وادي نهر الأردن وتقابلها مدينة سيكثوبوليس (بيسان) في فلسطين. تعطي هذه الممرات الضيقة بين أوديتها خاصية دفاعية ممتازة كان ولا بد للجيوش استغلالها.

أما تسميتها (بيلا) فجاءت إكراما من الإسكندر الأكبر الذي وجدها مهجورة منذ العصر البرونزي المتأخر وأعاد لها مكانتها وسميت بيلا نسبة لمسقط رأسه. أما اسمها “طبقة فحل” فهو أقدم بكثير من بيلا، ويعود للعصرين البرونزي المبكر (3000-2500 ق.م) من الكلمة “pihil” حيث يقابل الحرف p الصوت (ف) ويرجح أن pihil   تعني حيوانا منقرضا من فصيلة الأحصنة يدعى equid  ويشبه هذا الحيوان الحمار الوحشي. وهو من أولى الحيوانات التي تم تدجينها لخدمة الإنسان في العصور القديمة وكانت الأردن موطنا له لآلاف السنين. (Smith: 1987) ولأن المدينة كانت مركزا تجاريا مهما لبيع هذا النوع من الحيوانات التصق الاسم بها وتم نحت الاسم فيما بعد ليصبح فحل.

حيوان equid المنقرض الذي اشتهرت فيه مدينة بيلا

التجارة في بيلا

كما أسلفنا، حظيت بيلا بمكانة تجارية مرموقة نتيجة لموقعها الاستراتيجي كمدينة واقعة في وادي الأردن. كشفت لنا التنقيبات الأثرية عن هذه الأهمية التجارية المتميزة عن طريق اكتشاف الكثير من المنتجات غير المحلية وغير المتواجدة في طبيعة المدينة. (Smith: 1987) فمثلا وجد العلماء والباحثون  حجر الزبرجد البركاني البيضاوي المسطح ذي اللون الزيتوني وهو حجر لا يتواجد في محيط  ثلاثين كيلو حول المدينة (Smith: 1987) ويمتلك هذا الحجر خطوطا متداخلة ومتوازية وهو نمط لا نجده سوى في الحضارة السومرية. كما كشفت التنقيبات عن وجود حجر البازلت وهو بالتأكيد قد تم جلبه من مدن أخرى غالبا ما تكون جدارا (أم قيس) الشهيرة بحجر البازلت الأسود.

إطلالة على آثار أم قيس الشهيرة بحجرها البازلتي الأسود

وكما نقاشنا في الفصل السابق أصلا اسم “فحل” الذي تبين أنه يعود للعصر البرونزي المبكر نتيجة لاشتهار المدينة ببيع حيوان يتبع لفصيلة الحصان. وبذلك لا عجب أن تذكر البرديات المكتشفة أن بيلا اشتهرت بالصناعات الخشبية خصوصا المرتبطة بالحصان كالأسرجة وقد ساعدت الطبيعة المميزة للمدينة على تطوير هذا القطاع حيث كانت التلال المحيطة ببيلا كثيفة الأشجار(Smith: 1987)

وتذكر العديد من المصادر التاريخية السريانية والمصرية أن المدينة اشتهرت بالصناعات المحلية، كالزجاج والسيراميك ذي الجودة العالية، والصناديق والمعدات الحديدية والبرونزية(Smith: 1987). وللأسف، فقط توقفت هذه الصناعات عندما تم تدمير المدينة 80 ق.م. على يد الملك الحشموني. وعند دخولها في الحقبة الهلنستية عندما أعاد الإسكندر الأكبر بناءها دخلت أيضا حقبة جديدة في تجارتها.

وعلى غرار التنقيبات التي كشفت عن تواجد منتجات غير محلية في بيلا تعود للعصور القديمة وجدت الكثير من المقتنيات التي تعود للحقبة الهلنستية والرومانية. فقد وجدت عدة منتجات يونانية الصنع كالفخار والسيراميك، كما وجدت فخارات مميزة لحفظ النبيذ وأخرى للسمك. ومن آسيا الصغرى، وجدت أطباق صغيرة منبسطة. أما من مصر وإسبانيا وإيطاليا، فقد اكتشفت قوارير “جاروم” والجاروم هو مستخلص من نبات له ذات الاسم يستخدم في تتبيل الأسماك وفي ذلك الوقت لم يكن من الممكن جلبه سوى من مصر أو إسبانيا أو إيطاليا. (Smith: 1987)

قارورة جارووم من مدينية بومبي الإيطالية

ومن كل هذه المقتنيات المكتشفة، نستنتج أن المدينة احتلت مكانة مهمة كحلقة وصل تجارية في العالم القديم وذلك لتعدد الصناعات المكتشفة فيها وغناها وتعدد مصادرها. عند دخول المدينة في الحقبة الرومانية استمرت كمركز تجاري مهم في القرنين الأول والثاني الميلادي إلا أن الإمبراطورية الرومانية اعتمدت على تكثيف حضورها العسكري في المنطقة بسبب نشوب الحروب المتكرر مع الفرس أو القبائل الأردنية التي كانت ترفض فرض الولاية بالقوة. ولهذا فقد تحولت المدينة من مركز تجاري لما يشبه الثكنة العسكرية على طريق جراسا (جرش) وتم منع عبور الأحصنة والجمال التي كانت تستخدم لنقل البضائع وهذا ما أدى لتضاؤل حركة التجارة شيئا فشيئا. (Smith: 1987)

 وقد شهدت المدينة عودة إلى الحيوية التجارية مرة أخرى عند دخولها ضمن حكومة الأردنيين الغساسنة التي تأسست في القرن الثاني  الميلادي واستمرت حتى القرن السادس الميلادي. وفي هذه الفترة شهدت المدينة تنظيما أكبر ورفاهً نراه في البيوت الكبيرة التي بنيت، واتسمت بتنظيم مدني وديني كبير متمثلا في الكنائس التي بنيت. (Smith: 1987) ولوقوعها على خط التجارة الذي استحدثه  الأردنيون الغساسنة عبر ميناء يافا – تكريت – قبرص  من المؤكد أن بيلا عادت مركزا تجاريا من جديد.

البُعد الديني

لبيلا بُعد ديني قديم وتاريخي للغاية، فقد شهدت المدينة ظهور الممارسات الدينية القديمة إضافة لإقامة معبد كنعاني ضخم عام 1600 ق.م. وتحوي المدينة عدة مدافن قديمة تدلنا على وجود قيم ومعتقدات دينية متعلقة بالحياة الآخرة.

باحثة من جامعة سيدني تجد فخارة أثرية يقدر عمرها بثلاثة آلاف عام في تنقيبات المعبد الكنعاني عام 1999، وكانت الفخارات تستخدم لسكب الطعام، حيث ينزل الطعام من الفتحة السفلى كهدية من الإله. المصدر: موقع المعبد الكنعاني/ نتائج تنقيبات جامعة سيدني

 

لكن البُعد الديني الذي يهمنا في بيلا بوصفها واحدة من مدن الديكابولس التي رعاها الغساسنة هو ما روي عنها في كتب التأريخ الكنسي. فبحسب ما ذكره المؤرخ أوزيبيوس قيصرية أو (يوسابيوس) فقد لجأ أتباع المسيح الأوائل إلى بيلا هربا من الاضطهاد الروماني وذلك قبل أن يدمر الرومان مدينة “أورشاليم- القدس” عام 70 ميلادي. ولكن التنقيبات التي أجراها الباحث ستيفن بروك، المسؤول عن حملة التنقيبات الأكبر في بيلا، لم تسفر عن أي شيء يخص القرن الميلادي الأول، فلا مساكن ولا قبور عائدة لتلك الحقبة، وحتى المدافن الرومانية والكنيسة الغربية قد بنيا في وقت لاحق.

وبالرغم من ذلك، تعد بيلا إحدى المدن التي لا تزال تتمتع ببعد ديني وروحاني ويعتقد بحصول عدة معجزات فيها وهي على خارطة الحج المسيحي.

الآثار

الكنيسة الغربية

لفتت الكنيسة أنظار الرحالة والمستكشفين منذ القرن التاسع عشر فوصفها الرحالة إيربي والرحالة إنجليز والرحالة روبنسون وشوماخر وغيرهم، وبدأت التنقيبات فيها عام 1967 من جامعة ووستر واستكملت دائرة الآثار الأردنية تنقيباتها وترميمها فيما بعد.

منظر عام للكنيسة، المصدر: حوليات دائرة الآثار الأردنية 2009

تقع الكنيسة في الجزء الغربي من مدينة بيلا، وتعد واحدة من أكبر التجمعات الكنسية في شمال الأردن. والغالب أنها بنيت 527-565 ميلادي في عهد الأردنيين الغساسنة الذين اهتموا ببناء المجمعات الكنسية الضخمة في الأردن.

إحدى العملات الرومانية التي وجدت في محيط الكنيسة، وتؤرخ للقرن الثالت الميلادي. المصدر: حوليات دائرة الآثار 2009

تبلغ أبعاد الكنيسة 36×25 متر وتتخذ طراز البازيليكا (شكل الكنيسة المستطيل) هي مزينة ببلاط ملون وأرضيات فسيفسائية وأروقة، تتنوع الزخارف الفسيفسائية فيها بين الأشكال الهندسية وأشكال الحيوانات والنباتات إضافة لدخول عنصر الزجاج في صناعة الفسيفساء.

مخطط الكنيسة العام. المصدر حوليات دائرة الآثار الأردنية 2009
من فسيفساء الكنيسة، ويظهر رسم لثور. المصدر حوليات دائرة الآثار 2009

وجد في الجزء الشمالي من الكنيسة تابوت يحوي هيكلا بشريا يعود لعام 655 ميلادي ويرجع أن يكون للكاهن. تحوي الكنيسة عدة مرافق أخرى كفرن للخبز وأروقة مزدانة بأعمدة وخزان ماء مهدم بفعل الزلازل. ومن المثير للانتباه وجود عدة مرافق أخرى كغرف مبنية وأفران خبز وفخارات  ومراود للكحل وغيرها تعود للقرن الثامن أي العهد الأموي، ودون تغيير في هوية الكنيسة أي أنها لم تحول لمسجد بل ظلت كنيسة محتفظة بأهميتها ومركزيتها في شمال الأردن.

الأرضية المبلطة في الكنيسة، المصدر حوليات دائرة الآثار 2009
فرن للخبز أحد مرافق الكنيسة. المصدر: حوليات دائرة الآثار 2009

المدرج (الأوديون)

يقع الأوديون في مجرى وادي الجرم في بيلا، وهو مدرج صغير نسبيا وملحق به ساحة مستطيلة تحولت فيما بعد لكنيسة. بجانب المدرج توجد بقايا حمام (سبيل حوريات). عانى المدرج من عدة عوامل ساهمت في تهدمه، حيث يعتقد العلماء بأنه استخدم كمسكن مع إضافة بعض الغرف الجانبية أواخر القرن السادس ميلادي، ومن ثم تم تحويله إلى مكب نفايات. كانت التنقيبات صعبة للغاية بسبب تدفق الينابيع الكثيف من كل جانب وبسبب سرقة أحجار المدرج واستخدامها في بناء مبان أخرى.

إطلالة على المدرج من أعلى وادي الجرم. المصدر حوليات دائرة الآثار 2009
بقايا المدرج من زاوية أخرى. المصدر: حوليات دائرة الآثار الأردنية 2009
مخطط المدرج الأوديون، وتظهر الغرف المضافة إلى اليسار. المصدر: حوليات دائرة الآثار 2009

المدافن

اكتشف مدفنين أثريين في التلة المقابلة للموقع الأثري، وتشتهر هذه التل بكونها “تلة المدافن الأثرية” أثناء عملية توسيع الطريق تكشف مدفنان أثريان. المدافن صغيرة تتراوح أبعادها بين 2.5×2.5 متر تحوي عدة توابيت. في المدفن الأول ثلاثة توابيت يحوي كل منها على هيكل عظمي واحد وبعض الأساور البرونزية والنحاسية والأجراس وكذلك المدفن الثاني الذي فاق الأول بالمقتنيات حيث اكتشف عدد كبير من السرج الفخارية المميزة. يرجح العلماء بأن هذه المدافن تعود للقرنين الثاني والثالث ميلادي، وهي دلالة على الرخاء والرفاه الاقتصادي.

مخطط المدفن الأول وغالبا ما تتشابه المدافن التي تعود لتلك الحقبة في تخطيطها. المصدر: حوليات دائرة الآثار 2009
من السرج الفخارية التي وجدت في المدافن، المصدر: حوليات دائرة الآثار 2009

الخاتمة

في عهد الأردنيين الغساسنة ازدهرت مدن الديكابولس الأردنية وانتعش اقتصادها وحظيت بتنظيم اجتماعي وديني وسياسي قل مثيله، ولم تكن بيلا بعيدة عن هذا الازدهار بل مثالا له لا زلنا نتلمس آثاره حتى يومنا هذا.

المراجع العربية:

  • د. إسماعيل ملحم، النتائج الأولية للتنقيبات الأثرية في طبقة فحل 2007-2008، حوليات دائرة الآثار الأردنية 2009
  • د. حكمت الطعاني، التنقيب عن مدفنين أثريين في طبقة فحل 1995،حوليات دائرة الآثار الأردنية 1995
  • طبقة فحل من أهم وأكبر المواقع الأثرية في المنطقة، مقال منشور على صحيفة الدستور

المراجع الأجنبية:

[1] امتد حكم الحضارة المصرية إلى الأردن، عبر الحروب التي شنتها ضد الهلنستيين، وكانت الأراضي الأردنية تارة تقع تحت سيطرة الهلنستيين وتارة أخرى تحت سيطرة السلالة الحاكمة في مصر ومنها البطلمية التي كانت تعين محافظين على المدن التي تقع تحت ولايتها.

[2] (حوالي ٢٦٤ – حوالي ٣٤٠) ، الأسقف ومؤرخ الكنيسة ؛ المعروفة باسم أوزيبيوس قيصرية. إن تاريخه الكنسي هو المصدر الرئيسي لتاريخ المسيحية (خاصة في الكنيسة الشرقية) من عصر الرسل حتى عام 324.

مدن الديكابولس الأردنية : بيلا المدينة التي جلبت تجارة العالم لها

المقدمة

يلمع اسم جرش عندما نذكر التاريخ الأردني العريق لكونها تحتضن مدينة أثرية كاملة يمكن للمرء أن يتجول فيها ويرى أسواقها ومدرجاتها وحماماتها، ولكن الآثار والحجارة لا تخبر قصة مدينة جراسا الأردنية، هذه القصة التي تسلب الألباب، وتجعل المرء يتوق لذلك الوقت التي كانت جراسا مدينة الحضارة الأولى في المشرق.

الموقع والطبوغرافية

تقع جراسا (جرش)  شمال المملكة الأردنية وتبعد عن فيلادلفيا (عمان)  45 كلم وهي على ارتفاع  650 م عن سطح البحر. وهي جغرافيا تقع بين سهول حوران الأردنية وبين جبال البلقاء وتحيط بها غابات عجلون الكثيفة غربا وشمالا. أما المدينة الأثرية جراسا فهي تقع في واد بين جبال جلعاد الأردنية على هضبة منخفضة. (عقيلي: 1973) يشق الوادي محافظة جرش من الشمال إلى الجنوب ويقسمها إلى قسمين شرقي وغربي وتقع أغلب المدينة الأثرية غرب هذا الجدول.

 مصادر المياه في المدينة على سيل جرش  الذي كان يسمى “نهر الذهب” وعيون الماء الطبيعية كعين البركتين (2 كلم شمال جراسا) وعين القيروان التي يشرب منها أهالي المدينة،(عقيلي: 1973)  إلا أن الأردنيين عبر العصور قاموا بتطوير نظم مائية وآبار وقنوات تساعدهم على تخطي حالات الجفاف.

تمتد في جراسا غابات كثيفة وبساتين وكروم للعنب والزيتون وصفها الرحالة والمستشرقون في كتبهم. وقد ساعدت هذه العوامل الطبيعية على ازدهار مدينة جرش عبر العصور.

اكتشاف جراسا

 بدأ توثيق آثار جرش من بدايات القرن التاسع عشر 1806 حين قام الرحالة الألماني سيتزن بزيارة الأردن واستكشاف المدن الأثرية التي غلفها النسيان لقرون. تبعه الرحالة والمستكشف السويسري “بيركهارت” عام 1812 ومن ثم المستكشف الإنجليزي بكنجهام عام 1825. أما أشهر المستكشفين فكان  الألماني شوماخر الذي تردد على جرش مرات عدة مسجلا آثارها وتعد ملاحظاته وبحوثه مؤسسة البحث الآثاري في مدينة جراسا. وكان للباحث والمستكشف بوختشين فضل كبير في تسجيل وتحليل النقوش والكتابات  الأثرية أيضا. (عقيلي: 1973)

قامت فيما بعد دائرة الآثار بعدة حملات للتنقيب والصيانة والترميم حتى انكشف تاريخ جراسا الثري.

المستكشف الألماني غوتليب شوماخر

التسميات والألقاب

سميت جرش بعدة أسماء وألقاب عبر التاريخ. وقد ذكرها ياقوت الحموي في مصنفه “معجم البلدان” : ( كانت جرش في الماضي عظيمة وحصينة ولكنها اليوم مهدمة تماما.. وهي تعرف اليوم بحمى جرش أو قلعة جرش) وهنالك عدة افتراضات لأصل اسم جرش فبعضهم يعيدها للجرجاشيين وهم قبائل حيثية[1]. ويقول بعض الباحثين بأن الكلمة ذات أصل آرامي يمكن أن تعني “الطحن” وأنها في الآرامية “جرشون”. بينما يفترض باحثون آخرون بعودتها إلى أصل كنعاني بمعنى “الغرس والغراس”  وأما الرأي الأشهر فهو أن أصل جرش كلمة يونانية (جراسا)  جرى تعريبها وقد أطلق السلوقيون اسم جراسا على المدينة عندما انضمت لولايتهم عام 200 ق.م. (شهاب: 1989)

دعيت جرش بعدة ألقاب أهمها “أنطاكية على نهر الذهب” أنطاكية نسبة إلى الإمبراطور أنطونيوس ونهر الذهب المقصود هو سيل جرش. (شهاب: 1989)

مطل على نهر الذهب في جرش

جراسا عبر التاريخ

إن جرش مدينة لا يمكن اختزال تاريخها، فعندما ظن الباحثون بأنهم اكتشفوا كل ما يمكن اكتشافه عن المدينة ظهرت أمامهم المزيد من المكتشفات التي أرجعت تاريخ المدينة 7500 سنة قبل الميلاد.

اكتشف الباحثون عدة قرى زراعية مثل قرية تل أبو الصوان وهي من القرى الزراعية الكبيرة في المنطقة وتعود ل 7500 ق.م. كما اكتشفت كهوف تعود للعصر البرونزي 2500 سنة ق.م. شمال شرق المدينة؛ وبقايا خربة تعود لأواخر العصر الحجري القديم وأوائل العصر الحجري الحديث 4000 سنة ق.م. واكتشفت قرية أخرى تقع شمال وادي جرش وتعود للعصر الحديدي 1000 سنة ق.م.

كانت جرش مطمعا للحضارات القديمة فاحتلها الآشوريون عام 745 ق.م. في عهد الملك تجلات بلاسر ومن ثم خضعت للحكم المصري في عهد بسامتيك الثاني عام 590 ق.م ولكن البابليين سرعان ما شنوا حربا على السلالة المصرية وسيطروا على جرش بقيادة نبوخذ نصر عام 586 ق.م.

وبعد انهيار المملكة البابلية على يد الملك الفارسي قورش عام 539 ق.م. انضوت جرش تحت لواء إربد في الحكم الفارسي الذي لم ينتهِ إلا باجتياح الإمبراطور الاسكندر المقدوني عام 333 ق.م. للمشرق وإنهاء الوجود الفارسي فيه. ومن هنا بدأت حكاية جراسا كمدينة لامعة في الحقبة الكلاسيكية (الهلنستية والرومانية والبيزنطية).

عثر على نقش يعود لعهد الإمبراطور كومودوس تؤكد وجود استيطان مقدوني لكبار القادة والجنود في التلة الشرقية للساحة البيضاوية في المدينة الأثرية. بعد وفاة الإسكندر المقدوني قسمت البلاد التي كانت تحت ولايته بين السلوقيين والبطالمة.[2] وكانت جراسا وفيلادلفيا إحدى أهم المدن التي اهتم البطالمة بها خصوصا في عهد بطليموس فيلادلفيوس (285-246 ق.م) الذي منح فيلادلفيا اسمه الدال على الحب الأخوي وجعل من جراسا مدينة  مهمة.

عملة ذهبية وجدت في فيلادلفا منقوش عليها وجه بطليموس فيلادلفيوس

ولكن حكم البطالمة لم يدم كثيرا فعام 200 ق.م. قام السلوقيون بأخذها من يد البطالمة وأطلقوا عليها لقب جراسا، حتى عام 86 ق.م قام الكسندر جننيوس الملك الحشموني اليهودي بعدما انتصر على الجلعاديين والمؤابيين بمهاجمة القبائل الأردنية التي تسكن البادية الشمالية الشرقية وكان شيخها يدعى “عباد” انهزم الملك أمامه في المعركة التي دارت رحاها على ضفاف نهر اليرموك ولكنه عاد وحشد جيشا كبيرا واحتل جراسا وأمر بتدميرها كما فعل مع بيلا (طبقة فحل) لعدم خضوع أهلها للزي الرسمي اليهودي أو الدين اليهودي. (شهاب: 1989) وقبل أن يموت ألكسندر كان قد بنى قلعة ماخيروس (مكاور) التي بجوار مادبا ليمنع امتداد النفوذ الأردني النبطي من أن يصل شمال الأردن. وكان غزو المملكة الحشمونية اليهودية دمارا على الأردنيين في مدن الديكابولس فكما أسلفنا دمرت المدن وفقدت استقلالها (شهاب: 1989)

صورة للملك الحشموني ألكسندر جننيوس الذي دمر أبيلا وجراسا عام 80 قبل الميلاد لعدم خضوعها له.

جراسا كجوهرة الديكابولس

ابتكرت الحضارة الهلنستية فكرة المدن – الدول الحرة، حيث يكون لكل مدينة استقلالها وحكمها الذاتي وارتباطها التجاري مع غيرها من المدن. في عام 46 ق.م. قام الإمبراطور الروماني بومبي بإعادة تدشين هذا الحلف والتي كانت ثمان منها أردنية ثابتة. وكان الغرض الرئيسي من الحلف هو غرض عسكري دفاعي. وقد جاء ذكر هذه المدن في كتاب “التاريخ الطبيعي” الذي أنجزه المؤرخ الروماني بيليني عام 77 ميلادي.

تعني “ديكا” العشر أما بوليس  فتعني “المدن” ومجتمعة تعني مجتمعة “مدن الحلف العشرة”. ضمت المدن العشر في البداية (جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى))  وكما نرى ثمان منها أردنية ثابتة، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) وبيت راس وقد طالت قائمة المدن العشرة لتصل إلى ثماني عشرة مدينة كانت أغلبها على أرض الأردن.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية

كانت جراسا إحدى أهم مدن الديكابولس الرئيسة وقد تعرضت لحملات الغزو مرارا، ولكونها في قلب خريطة مدن الديكابولس فقد ازدهرت التجارة فيها وشهدت تطورا كبيرا على مستوى العلم والدين وهذا ما سنناقشه في الفصلين التاليين من هذا البحث.

الريادة في العلم والهندسة

بدأ تأسيس جراسا كمدينة ديكابولس في القرن الأول ما قبل الميلاد وتابعت ازدهارها في العلم والمعمار والدين لتصل فيه إلى مراتب رفيعة في القرنين الثاني والثالث الميلادي. ومن أهم أعلام مدينة جراسا في تلك الفترة العالم والرياضياتي “نيكوماخوس الجيراسي Nicomachus of Gerasa) Νικόμαχος)” الذي ولد في جراسا في منتصف القرن الثاني الميلادي.

يذكر الدكتور يوسف رشيد زريقات مدير مركز دراسات العهد القديم في بحثه في تاريخ جرش القديم عن نيكوماخوس الجيراسي:

“كانت كتبه مؤثرة بشكل واسع في علماء الرياضيات اللاحقين أمثال إيمابلوخوس [3]Iamblichus والعالميين اسكليبيوس Asclepius وفيليبينوس [4]Philoponus ويعد الخطيب والأديب والفنان لوسيان [5]Lucian أحد المعجبين به الذين استخدموا اسمه كأحد شخصياتهم في خطاباته الشهيرة في روما وأشاروا إليه بوضوح كأحد مشاهير الرياضيات في عصره بقوله: “إنك تحسب الأرقام مثلما يحسب نيكوماخوس” [6]

كان نيكوماخوس الجيراسي سباقا لكثير من العلماء اليونان والرومان أمثال نيمنيوس Numenius [7]وإدوراس Eudorus[8] وهما من علماء نظرية فيثاغورس الذين لم يكتبوا مصنفات علمية مكتملة؛ كتب نيكوماخوس الجراسي أربعة مصنفات علمية ظل منهما اثنان موجودان حتى اليوم.

كتابه الأول “مقدمة في علم الرياضيات” وقد شرح فيه النظرية الفيثاغورية وأهميتها في عالم الرياضيات والعلوم. ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية لوسيوس أبوليوس [9]Lucius Apuleius

وفقدت ترجمته فقام العالم أنسيوس Ancius بإعادة ترجمته في القرن الخامس ميلادي وتم اعتماده كمنهج تدريسي حتى عصر النهضة الأوروبية أي لأكثر من ألف عام. احتوى الكتاب على بعد فلسفي مهم، فقد عد نيكوماخوس الجيراسي علم الرياضيات الفاصل بين البعد الروحي والبعد العقلاني للعالم. احتوى الكتاب على أسس نظرية الأرقام الأولية وأبكر جداول الضرب المكتوبة بالعربية. وكان كتابه هذا أحد أهم الكتب التي جرت ترجمتها إلى العربية مرات عديدة في العصور الإسلامية الوسيطة.

لنيكوماخوس الجراسي كتاب آخر بعنوان “كتيب الأصوات” وشرح فيه نظرية الأصوات عند فيثاغورس ونظريات الموسيقى عند أرسطو. وقد اعتمد على صدفة مع عدد من المطارق الحديدية في دراسته وتأليفه لهذا الكتاب.

وله كتاب آخر تحت عنوان “مقدمة في الرياضيات” ويدور حول الخصائص الروحية للأرقام ولم يتبق منه للأسف سوى بضعة رسائل. وهناك كتاب “حياة فيثاغورس” الذي لم يصلنا سوى ذكره من الكتب الأخرى التي اعتمدته كمرجع عن حياة فيثاغورس.

الدين في جراسا

إن تتبع الدين ومظاهر الدين أحد أهم الوسائل التي تقيس حضارة وثقافة أي شعب. ويشكل الدين ركيزة أساسية في المجتمع الأردني في جراسا في عهد الديكابولس، فقد كانت مركزا دينيا في المرحلتين الأساسيتين اللاتي مرت فيهما: الوثنية والمسيحية.

مرحلة الوثنية

تمتد المرحلة الوثنية من عصور ما قبل التاريخ وصولا إلى القرن الأول الميلادي.  حيث يقول (ك. كوندر) بأن عبادة الحجارة والرجوم الصخرية كانت العبادة الأكثر شيوعا في جراسا في عصور ما قبل التاريخ والعصور الحجرية الأولى. وقد اعتمد كوندر على وجود الكثير من الرجوم الحجرية في جراسا وفي سوف وكفر خل وغيرها من القرى المجاورة (شهاب: 1989)

أما في العصور الكلاسيكية، كانت الوثنية في جراسا خليطا من الآلهة اليونانية (آلهة الأولمب) والآلهة الرومانية بسبب تعاقب الحضارتين عليها. فشاعت عبادة جوبيتر إله السماء وميركوري إله التجارة والسفر ونبتون إله البحر وفينوس آلهة الحب والجمال وباخوس إله الخمر وهم من الآلهة الرومانية وعبدت أرتميس الآلهة اليونانية الأهم على الإطلاق فهي ابنة زيوس كبير آلهة الأولمب وراعية الأطفال وسيدة الصيد والبرية وقد بني لها في جراسا معبد فريد من نوعه.

في الفترة المتأخرة من حكم الإمبراطورية شاعت عبادة الأباطرة الرومان فبني هيكل هرقل في جبل القلعة في فيلادلفيا (عمان). ورغم ظهور المملكة اليهودية الحشمونية واليهودية المكابية في المشرق إلا أن مدن الديكابولس الأردنية لم تَمِل إلى اليهودية، وكانت مدنهم تميل دوما للطابع الهلنستي والروماني في الدين ومختلف مظاهر الحضارة. وتذكر  المصادر التاريخية محاولات الملك الحشموني اليهودي الكسندر  السيطرة بالقوة على مدن الديكابولس الأردنية وفرض الهوية اليهودية بالزي والدين ولكن محاولاته لم تنجح فعمل على تدمير المدن في الفترة الممتدة بين 80-84 ق.م. حتى جاء الإمبراطور بومبي عام 64 ق.م وأعاد إحياء وإعمار مدن الديكابولس مخلصا إياها من اضطهاد الحشمونيين.

مرحلة المسيحية

مع بزوغ المسيحية من المشرق، بدأت مدن الديكابولس الأردنية باعتناقها منذ القرن الأول الميلادي تدريجيا حتى أصبحت مدنا مسيحية بشكل كامل. ويذكر الكتاب المقدس المدن العشرة عدة مرات ففي إنجيل متى 4:25 (تبعته جموع كثيرة من الجليل والعشر مدن وأورشاليم واليهودية وعبر الأردن[10]) وفي الكتاب المقدس قصص كثيرة عن جولات المسيح ومعجزاته في مدن الديكابولس كمعجزة إدخال الأرواح الشريرة في أجساد الخنازير ومعجزة شفاء المجنون وغيرها.

ترافق انتشار المسيحية مع صعود نجم الأردنيين الغساسنة الذين شكلوا حكومة مركزية تجمع مدن الديكابولس الأردنية الحرة تحت ظل حكومة مركزية تتكفل بحفظ طرق التجارة والتنقل وتحمي الأردنيين المسيحيين من اضطهاد الإمبراطورية الرومانية وقد اعتنق الغساسنة المسيحية بإخلاص وكانوا من أشد المدافعين عنها فيما تلا من القرون.

مع انتشار المسيحية واعتناق المزيد لها، بدأت الإمبراطورية الرومانية بتطبيق سياسة الاضطهاد الديني على كل معتنقي الديانة الجديدة. وقد قدمت الأردن آلاف الشهداء الذين حاربوا من أجل حرية العقيدة وما زال ذكرهم خالدا حتى الآن مثل  القديس جراسيموس الأردني والقديسان زينون وزيناس والقديس إليان العماني والقديسان قزمان ودميان الذين بنيت لهما كنيسة كبيرة في جرش. وقد وجد ما يدعم صمود الأردنيين المسيحيين في جراسا مثل وجود عدد من الرسوم على الفخار كرسم السمك الذي يعد رمزا وضعه المسيحيون الأوائل ليعني “المسيح ابن الله” وقد وجد في مدفن في جراسا  سراج فخاري يحمل هذا الرمز ويعد سراجا متفردا لم يكتشف الباحثون مثله حتى الآن. (شهاب: 1989)

القديس جراسيموس الأردني
(القديسان زينون وزيناس، من رسم جداري في كنيسة الراعي الصالح في مركز سيدة السلام، عمان، الأردن)

واستمر الحال على ما هو عليه حتى عام منتصف القرن الرابع ميلادي حيث أمر الإمبراطور قسطنطين باعتماد الدين المسيحي دينا رسميا للإمبراطورية البيزنطية. [11]كان للأردنيين الغساسنة دور كبير في حفظ أمان  مدن الديكابولس الأردنية عبر استغلال العلاقات السياسية التي ربطتهم مع الأباطرة الرومان أمثال الإمبراطور جوستنيان والإمبراطورة ثيودورا في القرن الخامس الميلادي الذي شهد أقصى حالات الرخاء والأمان في جراسا وسائر مدن الديكابولس الأردنية.

الإمبراطور الروماني جستنيان الذي أعجب بقوة المرأة الغسانية فسمى ابنة أخيه أرابيا

ازدهرت في عهد الأردنيين الغساسنة عمارة الكنائس والأديرة وتم تحويل العديد من المعابد الوثنية في المدينة إلى كنائس فمعبد باخوس- ديونيسيوس  إله الخمر  تحول في القرن الرابع الميلادي  ليكون أول كاتدرائية في المدينة ومن أقدم الكنائس في الأردن. وقد بنيت العديد من الكنائس فيما بعد، ويمكننا من النصوص التاريخية معرفة أن مطران جراسا أكسرسيوس والمطران بلاكوس  قد مثلا الأردنيين المسيحيين في جراسا في المجامع الدينية المسكونية[12] التي عقدت في القرن الرابع والخامس الميلادي.

 وسنناقش في الجزء الثاني من بحث جراسا العمران والكنائس الكثيرة التي بنيت تكريما لذكرى القديسين والكهنة والشهداء.

الخاتمة

تعرضت جراسا للعديد من حملات الغزو فعام 300 ميلاي غزاها الساسانيون ولكن الإمبراطور ديوكليسيان حرك جيشا وحررها وأعاد إعمارها. وعام 614 ميلادي، غزاها الفرس ودمروها ولكن أعيد إعمارها، كما تعرضت لزلزال في منتصف القرن الثامن. ورغم ذلك أثبتت جراسا جوهرة الديكابوليس الأردنية حبها وتمسكها بالحياة فهي لا زالت إلى اليوم ماثلة أمامنا بحضارتها العريقة.

المراجع

  • شهاب، أسامة (1989) جرش تاريخها وحضاراتها. دار البشير للنشر: عمان، الأردن
  • العقيلي، رشيد (1973) المسارح في مدينة جرش الأثرية، منشورات دائرة الثقافة والفنون الأردنية: عمان، الأردن
  • جراسا والديكابولس، موسوعة التراث غير المادي، موقع وزارة الثقافة الأردنية
  • الجغرافيا التاريخية لمدينة جرش، ، موسوعة التراث غير المادي، موقع وزارة الثقافة الأردنية
  • موسوعة جرش المعرفية، إصدارات بلدية جرش
  • الموقع الجغرافي لمدينة جرش موسوعة التراث غير المادي، موقع وزارة الثقافة الأردنية
  • جرش في عصور ما قبل التاريخ، موسوعة التراث غير المادي، موقع وزارة الثقافة الأردنية
  • في القافلة المنسية، تاريخ وأعلام الأردن، نيكوماخوس الجراسي، صحيفة البنك الاستثماري
  • نيكماخوس الجراسي عالم الرياضات والفيلسوف الجرشي الذي أشغل العالم القديم بعلمه وفلسفته، (2015) مقال منشور على موقع زاد الأردن

[1] الحيثيون شعوب هندو أوروبية سكنت المشرق 3000 عام قبل الميلاد في نفس فترة الحضارة السومرية. للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D9%8A%D8%AB%D9%8A%D9%88%D9%86

[2] البطالمة هم عائله من أصل مقدونى نزحت على مصر بعد وفاة الإسكندر الأكبر سنة 323 ق. م ، حيث تولى أحد قادة جيش الإسكندر الأكبر وهو “بطليموس” حكم مصر للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A9

[3] فيلسوف وعالم من مواليد قنسرين في سوريا ولد في منتصف القرن الثالث للمزيد انظر https://en.wikipedia.org/wiki/Iamblichus

[4] من علماء القرن السادس الميلادي للمزيد انظر https://en.wikipedia.org/wiki/Asclepius_of_Tralles

[5] كاتب وفنان اشتهر بالخطابة وهو من مواليد القرن الثاني الميلادي. للمزيد انظر https://en.wikipedia.org/wiki/Lucian

[6] نشر هذا النص في موسوعة جرش المعرفية – وزارة الثقافة. في صحيفة عمون الإلكترونية https://www.ammonnews.net/article/435824 وفي صحيفة زاد الأردن http://www.jordanzad.com/index.php?page=article&id=221469

[7] فيلسوف إغريقي عاش في سوريا في القرن الثاني الميلادي. للمزيد انظر https://en.wikipedia.org/wiki/Numenius_of_Apamea

[8] عالم يوناني عاش في الإسكندرية ودرس نظرية فيثاغورس وكان مهتما بفلسفة أفلاطون https://en.wikipedia.org/wiki/Eudorus_of_Alexandria

[9] كاتب وشاعر ومترجم وفيلسوف أفلاطوني ولد في منتصف القرن الثاني للمزيد انظر https://en.wikipedia.org/wiki/Apuleius

[10] يشار دوما في الكتاب المقدس لأرض الأردن بـ (عبر الأردن) أي ما وراء نهر الأردن

[11] يعد عام 324 ميلادي عاما فارقا حيث تم نقل عاصمة الإمبراطورية الرومانية من نيقوميديا إلى بيزنطة (القسطنطينية) وتم اعتماد المسيحية كدين رسمي للإمبراطورية، وبهذا تكون الإمبراطورية الرومانية قد انتقلت من المرحلة الرومانية إلى البيزنطية أو ما يسمى الإمبراطورية الرومانية الشرقية. للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B2%D9%86%D8%B7%D9%8A%D8%A9

[12] هي  سبع مجامع دينية مسيحية هدفت لإقرار العقيدة المسيحية وأدت لانفصال الكنيسة السريانية والأرثوذكسية المشرقية عن الكاثوليكية البيزنطية.  للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%83%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A8%D8%B9%D8%A9

مدن الديكابولس الأردنية : جراسا جوهرة الديكابولس الأردنية- الجزء الأول

مقدمة

أبيلا (حرثا)، المدينة التي أضاء زيتها قناديل روما، إحدى مدن الديكابولس الأردنية الثمانية وواحدة من أهم المراكز التجارية والزراعية في العالم القديم. في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابولس سنسلط الضوء على مدينة أبيلا في الحقبة الكلاسيكية ونناقش جوانب تطورها وازدهارها في زمن الأردنيين الغساسنة الذي اعتنوا أيما اعتناء بمدن الديكابولس الأردنية.

الموقع والطبوغرافيا

تقع أبيلا شمال الأردن على الحدود الأردنية السورية، وتتبع إداريا لبلدية الكفارات، لواء بني كنانة. تبعد  18 كيلو عن مدينة إربد. يحد المدينة من الشمال نهر اليرموك (5 كلم) وهو أحد أهم مصادر المياه بالنسبة لها. ترتفع أبيلا 440 متر عن سطح البحر. تتألف المدينة من ثلاثة مناطق وهي أم العمد وتل أبيلا، ووادي أبيلا (القويلبة). (Khries: 2010) فهي متنوعة التضاريس ما بين السهل المنبسط والتل الخفيف والوادي، مما أكسبها مزيدا من الأفضلية في الزراعة والحصاد المائي.

إطلالة على وادي أبيلا وتل أبيلا حيث تنتشر أشجار الزيتون المعمرة

التسمية

أبيلا هو الاسم الروماني لمدينة حرثا وقد جرى استخدامه بالعربية على حاله دون تغيير. أما الاسم أبيلا فهو تحوير للاسم العبري (تل أبيل /هابيل) والذي يعني التدفق الدائم أو مجرى المياه أو القناة المائية وهذا يوافق الطبيعة الطبوغرافية لأبيلا التي تمتلك مصدر مياهها الطبيعي والمتجدد: عين القويلبة؛ والتي يأتي اسمها من الكلمة العربية “القليب” وتعني البئر و”قويلب” تصغير البئر.  ولهذا يرجح  المستكشف جلوك أن تكون مدينة أبيلا هي موطن نبوءة النبي إيليا المذكور في العهد القديم وذلك لأنها تطابق المواصفات المذكورة في العهد. وربما يمنحنا هذا تصورا عن المكانة التي حظيت بها هذه المدينة في العصور السالفة. [1]

أما الاسم الحالي (حرثا) فهناك نظريتان الأولى أنه عربي من الجذر (حرث) ويعني قلب التربة لتجهيزها للزراعة وهو يناسب طبيعة المدينة وما اشتهرت به من إنتاج زراعي وفير.[2] وترجح نظرية أخرى أنه اسم سرياني يعني “ديار الحارث” والحارث هو أشهر ملوك الأردنيين الغساسنة.

أبيلا عبر التاريخ

كانت المدينة مأهولة بالسكان منذ العصر الحجري القديم (2 مليون سنة-12 ألف سنة ق.م) بتعداد سكان بسيط حتى العصر النحاسي (3300- 4250 ق.م.) بعدها بدأ التعداد السكاني بالزيادة في العصور البرونزية والحديدية ولكنه عاد للانخفاض. أما لاحقا فتشير المصادر التاريخية والنقوش أن عدد سكان أبيلا كان كبيرا جدا في العصور البيزنطية وهذا يوافق مكانة المدينة التجارية والصناعية في العهد الغساني. (Khries: 2010) ظلت أبيلا مأهولة وبكثافة عالية حتى في العصور الإسلامية، خصوصا الأموية والعباسية ولكنها هجرت تماما في العصر الفاطمي والأيوبي والمملوكي، وجاء الاحتلال العثماني فظلت مهجورة أيضا نتيجة لسياسات الاحتلال الغاشمة، في فترات لاحقة صار أغلب سكانها من البدو الأردنيين، أما في الوقت الحاضر فهي قرية صغيرة.

كان أول من اكتشف مدينة أبيلا الأثرية هو المكتشف الألماني سيتزن وهو مكتشف مدينة جراسا (جرش) أيضا. في الخامس والعشرين من شباط عام 1806 وصل سيتزن إلى تل أبيل (تل أبيلا) وكانت المدينة في حالة دمار كبيرة.  تعاقبت حملات الاستكشاف والتنقيب عن الآثار في أبيلا، فعام 1879 زار المدينة المستشكف ميرل وكتب عنها في كتابه “شرق الأردن”، وعام 1888 زارها المستكشف شوماخر ووثقها في مقالاته العلمية. في القرن العشرين بدأت دائرة الآثار تنقيباتها عام 1959، ومن ثم بدأت حملات التنقيبات من الجامعات العالمية كجامعة  لويس الأمريكية. ظلت الحملات التنقيبية تتوالى حتى عام 2004 وأسفر عنها اكتشاف المدينة الأثرية بأكملها. (Khries: 2010)

حلف الديكابولس

انطلقت فكرة الديكابولس في الحقبة الهلنستية لغايات تنظيمية سياسية، ومن ثم اكتسبت أهمية عسكرية عام 64 ق.م.  عندما اتخذها الإمبراطور الروماني بومبي كحصن دفاعية في المشرق. تعني “ديكا” العشر أما بوليس  فتعني “المدن” ومجتمعة تعني مدن الحلف العشرة. ضمت المدن العشر في البداية (جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى))  وكما نرى ثمان منها أردنية ثابتة، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) وبيت راس.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية

في زمن الأردنيين الغساسنة، تدعمت فكرة المدن العشرة ذات الاستقلال والحكم الذاتي بينما كان الغساسنة يشكلون حكومة مركزية بين تلك المدن. لاقت هذه المدن اهتماما بالغا من قبل الأردنيين الغساسنة، فأصبحت مراكز تجارية على طول خطوط القوافل في الطرق التجارية القديمة وتلك الطرق التي استحدثوها هم بذكائهم وحنكتهم.

الزراعة في أبيلا

 أجريت الكثير من الاختبارات على تربة أبيلا، ولم تظهر النتائج تغيرا في المناخ. أما العينات النباتية فقد اشتملت بشكل أساسي على الزيتون والقمح والدخن والعنب والعدس والكزبرة (Mare: 1984).

 علميا، تصنف تربة حوض اليرموك بأنها من نوع “تيرا روسّا Terra Rossa” وتتصف بالكتلة الكبيرة والقدرة الاستيعابية العالية للماء مما يسمح لها بأن تكون شديدة الخصوبة حتى في فترات جفاف الصيف. غالبا ما تكون تربة تيرا روسا خصبة بالرغم من فقر المصادر المعدنية ويصنفها الباحث (fisher: 1971) والباحث (Bender: 1974) بأنها التربة الأكثر ملائمة لزراعة الزيتون والمحاصيل. وهي كما لاحظ الباحثون، التربة الأكثر تواجدا في أراضي مدن الديكابولس. أما النوع الثاني من التربة فهي تربة “رندزينا Rendzina” وهي تربة جافة خفيفة أقرب للون الأصفر ولها قدرة استيعابية عالية للماء وخصوبة ممتازة وغالبا ما يفضلها المزارعون الأردنيون لكونها هشة وخفيفة للحراثة. (Orni and Efrat:1973)

وتوافرت مصادر الماء بشكل طبيعي ومتجدد وكان أهمها عين القويلبة التي تقع على بعد حوالي كيلومتر واحد إلى الجنوب من الموقع الأثري للمدينة. ويتدفق تيارها إلى الشمال ثم يتحول إلى الشمال الغربي قليلاً، ويصب في نهر اليرموك وفي النهاية إلى نهر الأردن. [3] إضافة لاستخدام الوادي كسد طبيعي لأغراض الحصاد المائي.

خريطة تقسم المواقع الأثرية في أبيلا ويظهر فيها التل والوادي (khries: 2010)

ساهمت كل هذه العوامل الطبيعية إضافة لذكاء وحنكة الأردنيين الغساسنة في التجارة إلى جعل مدن الديكابولس عامة ومدينة أبيلا خاصة مركزا تجاريا وزراعيا مهما في المنطقة لدرجة أنها سميت “قنديل روما”. بحسب المصادر التاريخية، كانت أبيلا مركزا لصناعة زيت الزيتون وتجارته، فلم تكن فقط تشتهر بجودة زيتها إلا أنها كانت مركزا تبعث إليه المدن إنتاجها من الزيت ليتم تصديره إلى روما. [4]

ظلت أبيلا تشتهر بكونها من يضيء زيتها روما حتى وقتنا الحاضر حيث تساهم بشكل كبير في مجمل إنتاجية لواء بني كنانة في إربد والذي بلغ 19 ألف طن في عام 2015. وقد أوردها عدد من المؤرخين في كتبهم فيقول المؤرخ العربي ابن خرداذبة: ( من كور الأردن طبرية… كورة آبل الزيت)

وذكرها أيضا الحازمي فقال (ناحية من كور الأردن ، ويذكر ياقوت الحموي في كتابه ( معجم البلدان) أن “آبل الزيت هي القويلبة / حرثا التي تقع بالأردن على مشارف طبريا”، ويذكر المؤرِّخ مصطفى مراد الدبَّـاغ أنها تقع في لواء إربد بالأردن واطلق عليها اسم (آبل الزيت) لجودة الزيت الذي تنتجه كروم أشجار الزيتون التي تـُغطي أراضيها. [5]

آثار أبيلا

بنيت أبيلا على غرار مدن الديكابولس الأردنية الأخرى أمثال فيلادلفيا (عمان) وجراسا (جرش) فهي تتكون من شارعين رئيسيين (كاردو وديكيمانوس) ومدرجات وساحة عامة وأضرحة وكنائس.  إضافة لثلاث قنوات للماء تغذي المدينة ويسمى هذا الطراز المعمار “هيبودامي”. أما المسح الذي أجراه الباحثون على النظام الهيدروليكي والجوفي فقد كان صادما حيث أن النظام المائي للمدينة بالغ في التعقيد والسعة. [6] وللأسف فقد دمر زلزال 749 م. الكثير من معالم المدينة ومبانيها.

مخطط عام لأبيلا يظهر فيها الشارعان الرئيسان (Khries: 2010)

الكنائس

أزالت التنقيبات اللثام عن أكثر من كنيسة أربعة منها تندرج تحت نمط البازيليكا المعماري وهو طراز معماري خاص بكنائس تلك الحقبة يتميز ببناء مستطيل.

كنيسة أم العمد: اكتشفت كنيسة أم العمد في منطقة أم العمد في أبيلا وقد بنيت في القرن السادس ميلادي، وهي كنيسة على طراز البازليكا بأبعاد 20×34 متر، وفيها ثلاثة ممرات، وهي محاطة بالأعمدة الكورنثية (المبنية على الطراز الروماني) تشبه كنيسة أم العمد كنيستي القيامة والمهد في فلسطين. حيث تتكون من صالة وسطى بعرض 10 متر ويفصل صفان في كل منهما 12 صف، أما الهيكل فهو من ثلاثة محاريب نصف دائرية متجاورة. وللكنيسة ثلاثة أبواب وشرفة  تشير بعض الدلائل أن الكنيسة كانت من طابقين. وفي الكنيسة أرضية فسيفسائية بديعة ذات أشكال هندسية ويرجح أن الجدار الشرقي كان مزدانا بالفسيفساء أيضا. (قاقيش: 2007)

كنيسة التلة: وهي كنيسة مستطيلة تتكون من صالة وسطى وجناحين ولها ثلاثة محاريب، بنيت الكنيسة  من الحجرين الكلسي والبازلتي. وقد كان البناء مسقوفا بدلالة آلاف قطع القرميد التي وجدت على الأرض. وقد عثر على بقايا بناء قديم قد يكون معبدا رومانيا. رصفت الأرضية بحجارة بازلتية سوداء وكلسية بيضاء قصت بشكل هندسي، يرجح بناء الكنيسة في القرن السادس ميلادي (قاقيش: 2007)

عينة من فسيفساء أبيلا المكتشف بالكنائس (Khries:2010)

كنيسة المجمع المدني: الكنيسة مستطيلة بأبعاد 30.50×17.20 متر ولها جناحان شمالي وجنوبي ويقسمها من الداخل صفان من الأعمدة. الكنيسة كبيرة وبها عدة مرفقات كثلاثة محاريب ومدخل مهيب وأدراج وغرف وحمام ومدافن أضيفت في القرنين السادس والسابع الميلادي. وما يميزها وجود كرسي الأسقف بارتفاع 1.40 متر، كما وجدت فيها منحوتات عديدة وزخارف كالصليب وزهرة التوليب والأكباش وصولا إلى فسيفساء زجاجية وعدد وافر من المسكوكات والفخاريات. (قاقيش: 2007)

الكنيسة الغربية:  قياسات البناء 32.40×19.80 متر والكنيسة مستطيلة فيها جناحين شمالي وجنوبي، عثر فيها على قرميد دلالة على كونها مسقوفة كما عثرت التنقيبات على فسيفساء زجاجية تصور الحيوانات والنباتات وجدران مكسوة بطبقتين من الجص ويرجح بناؤها في القرن الخامس أو السادس ميلادي. (قاقيش: 2007)

الكنيسة الشرقية: تتراوح أبعاد بناء الكنيسة 15.60×14.90 متر وفيها صالة وسطى وجناحين كالكنائس السابقة. ولها باحة واسعة وبركة سداسية الشكل. الحجارة التي بنيت منها الكنيسة متقنة الصنع ومشذبة بشكل جيد، كما أن الجدران متقنة ومغطاة بالجص. الأرضيات مكسوة بالرخام. كما عثر على كرسي للأسقف يعلو عدة درجات. كما عثر على بقايا لمنبر الأسقف إضافة لفسيفساء زجاجية، يرجح أن الكنيسة قد بنيت نهايات القرن الخامس الميلادي. (قاقيش: 2007)

كنيسة الوادي وتظهر الأعمدة الكورنثية (Khries: 2010)

كنيسة (المنطقة DD): تقع الكنيسة في الوادي على الجهة الجنوبية من تل أبيلا، وهي مستطيلة بثلاثة محاريب وتشبه في تخطيطها الكنائس السابقة، من المرجح أن حجارتها استخدمت في بناء كنيسة أخرى وأفضل ما وجد فيها هو المصابيح الزجاجية التي كانت تعلق لإضاءة الكنيسة. (قاقيش: 2007)

سبيل الحوريات

اكتشفت بقايا سبيل حوريات في أبيلا، وسبيل الحوريات هو مزيج بين الجمنازيوم (القاعة الرياضية) والحمام الساخن ويستخدم لأغراض الترفيه والاستجمام وهو مبنى متواجد في تخطيط أغلب مدن الديكابولس الأردنية. لسبيل الحوريات في أبيلا حوض مائي أسفله يستخدم للتخزين وهو متصل بقناة مائية يعتقد العلماء بأنها متصلة بقناة أخرى رئيسة. (Khries: 2010)

إحدى القنوات المائية التي تتصل بسبيل الحوريات (Khries: 2010)

المدافن

بسبب تعاقب الحضارات على أبيلا، وجدت العديد من المدافن التي تعود لحقب مختلفة، ولكن أهمها تلك التي تعود للحقب الكلاسيكية خصوصا الرومانية والبيزنطية. اكتشفت أكثر من 25 مقبرة تعود لتلك الفترة، وكلها تتبع ذات الطراز “الفريكسو” أو التصوير الجصي الذي يستخدم فيها الجص لتشكيل زخارف ورسوم. تتباين الزخارف والرسوم بين التصويرات البشرية والحيوانية والنباتية والأشكال الهندسية. (Khries: 2010)

الخاتمة

استعرضنا في هذا البحث أبيلا، مدينة الديكابولس المميزة التي تشتهر إلى الآن بزيتها عالي الجودة. كان للمدينة تاريخ طويل من الاستيطان البشري منذ العصور الحجرية وحتى يومنا هذا. تخبرنا آثار مدينة أبيلا أنها كانت مدينة عظيمة الشأن رغم الزلزال الذي دمر معالمها ورغم الهجران التي عانت منها لقرون.

المراجع العربية

المراجع الأجنبية

  • Luke. B. (2008), soils and land in the Decapolis region-
  • Shahid, I. (2009) Social History Vol2, Part 2 Dumbarton Oaks, Harvard University. –
  • Jhon Brown University, Abila Archeological Project –
  • Khries, N. (2010) Geoenviromnetal Evaluation in Abila Archeological site (Um Al Amad basilica) master Thiess in Applied and environmental geology, Aristotle University.

[1] المصدر السابق نفسه.

[2] انظر  معجم المعاني https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%AD%D8%B1%D8%AB%D8%A7/

[3] المصدر: مشروع تنقيبات جامعة جون براون الأثرية في أبيلا، للمزيد انظر Jhon Brown University, Abila Archeological Project

[4] للمزيد راجع بحث قنديل روما على موقع إرث الأردن http://jordanheritage.jo/1725-2/

[5] المصدر السابق نفسه.

[6] المصدر السابق نفسه.

مدن الديكابولس الأردنية : أبيلا المدينة التي أضاء زيتها قناديل روما

مقدمة: نسب وإحصائيات

في الأردن أينما وليت وجهك ستجد شجرة الزيتون أمامك بكل بهائها. تحمل هذه الشجرة جذورا تاريخية ضاربة في القدم وتعد شاهدة على العصور المتعاقبة على أرض الأردن الخصبة فهي من الأشجار القليلة التي تعلم الإنسان زراعتها قبل حتى أن يخترع الكتابة. في هذه البقعة المقدسة، تطرح الزيتونة ثمارها، فتكون زيتا وقوتا ومصدرا لعطاء لا ينضب أبدا.

بين أغصان الزيتون الأردني

اهتم الأردن بالانضمام إلى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تعنى بالزيتون زيت الزيتون بوصفه بلدا يتميز بوفرة شجر الزيتون ومنتجاته المختلفة. كان آخر الاجتماعات الدولية التي عقدت في الأردن هو اجتماع جمعية (JOPEA) جمعية مصدري منتجات الزيتون الأردنيين الواحد والخمسين والذي عقد في إبريل الماضي. ويقدر حجم الاستثمار الأردني في الزيتون بأكثر من مئة مليون دينار حتى 2010 وذلك لأن أرض الأردن حاضنة لأقدم ممارسات الزراعة وخاصة زراعة الزيتون التي تعود في الأردن لأكثر من عشرة آلاف سنة. حرصت المؤسسات العلمية والمعاهد الآثارية في العالم وخصوصا الأكاديميين الفرنسيين بالتعاون مع أكاديمي الأردن عام 2008 على تأكيد هذه الفرضيات بمزيد من الأدلة كان آخرها اكتشاف أن وادي رم جنوب الأردن كان مزروعا بأكمله بأشجار الزيتون عام 5400 قبل الميلاد. [1]

ووفقا لدائرة الإحصاءات العامة فإن الزيتون ينتشر في منطقتين رئيسيتين في غرب الأردن وشمال شرق المملكة بواقع 12 مليون شجرة تغطي 24% من مجمل مساحة أراضي الأردن الصالحة للزراعة و 74% من مجمل الأراضي المزروعة بالأشجار المثمرة. حظيت زراعة شجرة الزيتون باهتمام الدولة الأردنية بدلالة ازدياد المساحات المزروعة حتى وصلت 640 دونما حتى نهاية عام 2016 وبواقع 151 ألف طن من إنتاج زيت الزيتون في آخر خمس سنوات. ويبين الرسم البياني أدناه متوسط إنتاج زيت زيتون والذي بلغ 23 ألف طن حتى عام 2017 بينما يوضح الرسم البياني الثاني متوسط  إنتاج زيتون المائدة الذي بلغ 27 ألف طن.

الرسم البياني الأول لإنتاج الزيتون وتصديره
الرسم البياني الثاني يوضح القفزة في الإنتاج

منذ عام 2000 ميلادي حقق الأردن اكتفاء ذاتيا من إنتاج زيت الزيتون وزيتون المائدة، حيث وصل إنتاج محصول الزيتون إلى 37 ألف طن يستهلك أغلبه وطنيا بواقع 2.5 كلغ للفرد سنويا، أما بقية الإنتاج فيصدره المنتجون إلى عدة دول حول العالم مثل الباكستان وقطر والكويت والإمارات، والسعودية وكازاخستان.

رسم بياني يوضح أهم الدول التي يصدر لها الأردن الزيتون

تعتبر الأردن بلدا متميزا في إنتاج زيت الزيتون البكر عالي الجودة، ومعظم أشجار الزيتون التي تزرع في أرض الأردن معدة للغرضين (إنتاج زيت الزيتون وزيتون المائدة) ويعود ذلك إلى أن زراعة الزيتون ومنتجاته إحدى الصناعات الأساسية في تاريخ الأردن لأكثر من عشر آلاف سنة  التي تتميز بلذة طعم زيتون المائدة. كمتوسط، يبلغ إنتاج الأردن من زيتون المائدة 27 ألف طن وفي عام 2010 بلغ الإنتاج ذروته ووصل 54 ألف طن. ونلحظ من الرسم البياني تنامي الإنتاج من 8 آلاف طن عام 1991 إلى 20 ألف طن عام 2016 ليبلغ استهلاك الفرد 3 كلغ من الزيتون سنويا.

ويترافق تنامي الإنتاج بتنامي حركة التصدير. ففي عام 2016 زادت نسبة التصدير 43% عن السنة السابقة. يمتلك الأردن 134 معصرة للزيتون توظف أحدث تقنيات العصر بالرغم من أن الزيتون لا يزال يجمع باليد عن الأشجار. يحرص مزارعو الأردن على إبقاء استخدام الكيماويات في الحد الأدنى وهناك توجه جدي وكبير نحو الزراعة العضوية.

ونلحظ في الأردن تعاونا رائعا بين المؤسسات الحكومية وغير الحكومية كوزارة الزراعة و جمعية مصدري منتجات الزيتون الأردنيين وجمعية أصحاب معاصر الزيتون وجميعهم يهدفون لتعزيز قطاع زراعة الزيتون ومنتجاته.

حرصا منا في إرث الأردن على توثيق إرثنا الغني سنقدم في هذا البحث عرضا لتاريخية شجرة الزيتون، توزعا وانتشارا، إضافة لمحور مهم وهو التسمية أشهر أنواع الزيتون زراعة في الأردن: الزيتون الرومي. الزيتون الذي زرع بأيد أردنية وتابع انتشاره في عهد المملكة الغسانية الأردنية

محافظات الأردن بحسب إنتاج الزيتون

تاريخية شجرة الزيتون

يسميها المزارعون الأردنيون “غرسة” إن كان عمرها لا يتجاوز الثلاث سنوات، و”شقيحة” إن كانت تبلغ من ثلاثة سنوات إلى عشر وبعد تمسكها في الأرض عشرة أعوام تستحق بعدها اسم “الشجرة”. (القطامين:2011)  واسمها العلمي Olea europaea وتنتمي لعائلة Oleaceae.

Eukaryotes – Nucleated Cells
Kingdom: Green Plants
Subkingdom: Tracheobionata – vascular plants
Superdivision: Spermatophyta – seed plants
Division: Magnoliophyta – flowering plants
Class: Magnoliopsida – Dicotyledons
SubClass: Asteridae
Order: Scrophulariales or Lamiales
Family: Oleaceae – ash, privet, lilac and olives
Genus: Olea
Species: Europa

أما زراعة الزيتون فتعود بشكل عام لستة آلاف عام على أقل تقدير إلا أن تواجده في الأردن قد سبق ذلك بكثير. حيث تشير الدراسات التي أجريت على المواقع النطوفية في الأردن وفلسطين إلى وجود الزيتون قبل عشرة آلاف عام تقريبا. بينما يؤرخ موقع تليلات الغسول في العصر النحاسي في الأردن إلى أقدم عملية توطين وزراعة لأشجار الزيتون بغرض الاستفادة منها بشكل أكبر. (Dautricourt: 2010) (Efe: 2011)

أما اليوم فهنالك حوالي أربعين نوعا من شجر الزيتون، وبحسب إحصائيات 1991 عام يقدر عدد أشجار الزيتون حول العالم ب805 مليون شجرة 98% منها في حوض المتوسط. (لاديسا وكلابريسي وبيرينو: 2010)

التوزع والانتشار

كما أسلفنا فإن الزيتون من أكثر المحاصيل انتشارا وزراعة على مدار التاريخ من العصر الحجري حتى الآن. في ورقة بحثية منشورة، يستعرض الباحثون لاديسا وكلابريسي وبيرينو من معهد باري للدراسات الزراعية أصل شجرة الزيتون وطريقة توزعها عبر التاريخ.

يرجح الباحثون بأن شجرة الزيتون كانت قد انتشرت في مناطق متعددة وبشكل منفصل وأن الشجرة الحالية التي نعصر ثمارها ما هي إلا نتاج التربية الطويلة والتهجين من ستة آلاف سنة حتى الآن. حيث كان المزارعون يكثرون شجر الزيتون الذي يحوي على زيت أكثر وأشواك أقل، فالزيتون البري (الشجرة الأصل) كانت بنسبة زيت أقل بكثير وبأشواك حادة وكانت غالبا تستعمل لأغراض الأكل والطقوس لعدم مناسبتها للعصر واستخراج الزيت.

من 3000-2000 قبل الميلاد بدأت شجرة الزيتون بالانتشار من المشرق إلى أوروبا. وكانت مزروعة بكثافة في الأردن وفلسطين وسوريا وصولا إلى قبرص. وبحلول القرن الألف قبل الميلاد حدثت “هجرة” أخرى انتقلت فيها شجرة الزيتون إلى تونس وما تلاها من البلدان.

الإمبراطورية الرومانية في أقصى اتساعها

وقد وثق المؤرخون الرومان القدماء أول مرة دخلت فيها شجرة الزيتون إلى الإمبراطورية في القرن الرابع قبل الميلاد. وقد انتشرت ببطء إلى الغرب بفعل حركة التجارة على الموانئ ومن ضمنها الموانئ الأردنية النبطية والغسانية. وخلال فترة الولاية الرومانية على الأراضي الأردنية، تعززت زراعة الزيتون وانتشرت بشكل كبير وكانت أهم أهداف هذه الولاية تسهيل طرق التجارة وتأمينها- تلك المهمة التي أسندت بشكل رئيس على مدار أربعة قرون (من القرن الثاني إلى السادس تقريبا) للأردنيين الغساسنة.

في القرنين الثاني والثالث ميلادي بلغت زراعة الزيتون أوجها خصوصا في الأردن وسوريا وفلسطين بينما تراجعت في أوروبا وظلت في تراجع حتى القرون الوسطى.

الزيتون والأهمية الدينية

طعام الآلهة وعلية القوم و”الغذاء الروحي” للإنسان، الشجرة الخالدة التي تعيش ألف عام وأكثر وتظل تثمر وتثمر وتهب الإنسان زيتا وطعاما ونورا. من نقوش العصر الحجري وصولا إلى المقابر الفرعونية التي اعتبرت الآلهة أيزيس )والتي تقابلها الآلهة العزى( هي من منّت على البشر بنعمة شجرة الزيتون وعلمتهم كيفية زراعتها ولهذا كان الزيتون ملهما للكثير من الميثولوجيا والطقوس الدينية.

لما أدرك الإنسان عظمة هذه الشجرة، أشركها في سلسلة من الأساطير امتدت حتى الأديان الإبراهيمية الثلاثة.

رمزية شجرة الزيتون

انطلاقا من إحساس الإنسان بأهمية هذه الشجرة، منحها مقاما عاليا وجعلها رمزا يعتبر من أقدم الرمزيات في تاريخ الإنسان الحديث. فعندما بدأ الإنسان الأول في عين غزال طقوسه الدينية البدائية وعندما باشر البشر لأول مرة دفن موتاهم من إحساسهم العميق بوجود عالم ما ورائي خُلق الرمز وانبثقت الأسطورة.

شجرة الزيتون ثابتة وجذورها تضرب عميقا في الأرض وهذا ما كان يحتاجه الإنسان في بدايات تمسكه بالأرض وتأسيس مجتمعه الزراعي البدائي. كما رأي الإنسان عمر هذه الشجرة الطويل، فأسبغ عليها صفة الخلود، ورأي أيضا كيف تستخدم ثمارها في الطعام وإشعال القناديل وكيف يستخدم خشبها للتدفئة وكيف تستخدم بقايا ثمارها كجفت للتدفئة، وأن تكون شجرة واحدة صاحبة كل هذه الأفضال فهذا يرفعها لمرتبة قدسية ويجعلها شجرة سماوية وأهم هبات السماء للإنسان.

 في عصور لاحقة اتخذت الحضارة اليونانية التي امتدت إلى أرض الأردن وتفاعلت طقوسها مع طقوس الإنسان الأردني من الزيتون رمزا. تقول الأسطورة بأنه عقب معركة ترومبيل التي اقتحم الفرس على إثرها أثينا وأحرقوها كانت شجرة الزيتون هي الناجية الوحيدة من الدمار وأنبتت أغصان خضراء نضرة تواسيهم في حسرهم على مدينتهم المدمرة، ولاحقا استخدمت أغصانها لتكليل رؤوس المنتصرين في الحرب كما كانت أول شعلة لأول ألعاب أولمبية. وكما أسلفنا، ظلت شجرة الزيتون حاضرة في الأديان الإبراهيمية.

الزيتون في المسيحية والإسلام

كانت البداية من الطوفان العظيم، عندما فار التنور وطافت سفينة نوح حاملة المؤمنين وأزواج الحيوانات، أطلق  سيدنا النبي نوح عليه السلام حمامة ليعرف إن انتهى الطوفان، وعادت له الحمامة تحمل غصن زيتون كبشرى. وقد ذكرت في سفر التكوين:” فَأَتَتْ إِلَيْهِ الْحَمَامَةُ عِنْدَ الْمَسَاءِ، وَإِذَا وَرَقَةُ زَيْتُونٍ خَضْرَاءُ فِي فَمِهَا. فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْمِيَاهَ قَدْ قَلَّتْ عَنِ الأَرْضِ «عادت الحمامة إلى نوح  ببشري السلام والأمل والرجاء ممثلة في ورقه زيتون خضراء، أتت بها من الأرض التي انقشعت عنها مياه الطوفان، إشارة بأن الحياة قد بدأت تعود مرة أخري علي الأرض .. وبهذا تكون شجرة الزيتون هي أول شجرة تنبت بعد الطوفان .. “

في الإسلام، تعتبر شجرة الزيتون شجرة مباركة أقسم الله بها في القرآن الكريم ((والتين والزيتون))  وضرب بها مثلا للنور الإلهي الذي يضيء دون أن تمسسه نار. كما بارك الأنبياء ومن ضمنهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيدنا إبراهيم عليه السلام زيت الزيتون وجعلوه “دهنا” مباركا شفاء من الأمراض وفيما بعد اتخذ الادهان بالزيت رمزيات أخرى لدى النساء خصوصا، فإن اختلط بالعطر كان دلالة فرح وبهجة وإن لم يختلط كان دلالة حزن.

صورة دينية يظهر فيها غصن الزيتون

أما في المسيحية فقد صلب سيدنا المسيح على خشب الزيتون، وتعتبر شجرة مباركة. يذكر الدكتور إسحق عجبان أن للزيتون أهمية كبيرة في التاريخ الديني المسيحي. ” ورد “الزيتون” في الكتاب المقدس 62 مرة”  وفي قصة أخرى في سفر القضاة: “وترمز شجرة الزيتون أيضاً للحكمة لأنه ورد في مثل قديم في سفر القضاة (9: 8 – 15) أن الأشجار عندما أرادت أن تنتخب ملكا عليها اختارت شجرة الزيتون، ولكنها رفضت قائلة: لن أترك زيتي الذي باركه الرب من أجل أن أحكم الأشجار.. “

المسيح على جبل الزيتون

 

ويمكننا أن نرى إلى اليوم أهمية الزيتون الدينية في نفوس الأردنيين مسلمين أو مسيحيين، فهي شجرة تحظى بمكانة مرموقة وترمز فوق كل شيء إلى الارتباط العميق بالأرض، وبالتالي بالتمسك بمبدئي الحياة والعطاء.

الزيتون الرومي: زيته سيال ولقاطه بهدي البال

تتعد أنواع الزيتون التي تزرع في الأردن ونذكر منها الركبي والبثلي والزراعي والرومي. أما محور الفصل بين تلك الأنواع فهو نسبة الزيت في الثمرة. فكلما ارتفعت نسبة الزيت كانت الشجرة ذا قيمة أعلى، أما الشجر ذي النسبة الأقل فكان يستخدم لأغراض أخرى كالأكل والطقوس والخشب وأغلب الأشجار المزروعة في الأردن هي من الأنواع التي تناسب الغرضين. وقد مدح مزارعو الأردن الزيتون الرومي كثير الزيت سهل القطاف وثبت ذلك في أمثالهم الشعبية.

قارورة زيت تعود للحقبة الكلاسيكية

تذكر المصادر المعتمدة على المسح الميداني[2] الزيتون الرومي بكونه زيتونا أثريا يمتاز بغزارة الزيت وكبر حجم الشجرة وعرض اتساع قطرها الذي قد يصل للمترين أحيانا حيث يتم حساب عمر الشجرة عن طريق الحلقات الموجود في الساق. يتجاوز عمر الزيتون الرومي المتواجد في مزارع الطفيلة الألف عام، حيث تمثل كل حلقة في الساق 10-15 سنة وبعض الأشجار تحوي سيقانها على أكثر من 100 حلقة!  ومن شدة قدم هذه الأشجار نجد أن طبقات اللحاء قد تراكمت فوق بعضها البعض ومن بينها فراغات تسمى “طابون الشجرة” أما تجمع الأغصان على بعضها فيسمى “بيت الشجرة” (القطامين:2011)

زيتون عنجرة في عجلون

بدأت زراعة الزيتون إذن من المشرق لكنها ما لبثت أن انتقلت إلى اليونان ومن ثم أوروبا، فالأرجح أن الزيتون الرومي ما هو إلا نتاج الزراعة الانتقائية التي مارسها مزارعو المشرق في الأردن وفلسطين في تكثير الزيتون ذو الجودة العالية.

وكما ناقشنا في الفصل السابق من البحث عن توزع وانتشار الزيتون، فمن غير المعلوم سبب اكتساب الزيتون الرومي لاسمه، وقد يرجح هذا لمحاولات الإمبراطورية الرومانية فرض ثقافتها. تشابه حالة الزيتون الرومي آثار الأردن في الحقبة الرومانية، فالمدرجات وسبل الحوريات والكنائس وشوارع الأعمدة الممتدة على طول خط مدن الديكابوليس بنيت بأياد أردنية من قبل المراكز المدنية المحلية التي كانت تتصل فيما بعضها بعلاقات اقتصادية وثقافية.

عملات رومانية يظهر فيها غصن الزيتون

 وتعمد الإمبراطوريات العظمى لفرض التعامل بعملتها ولغتها، بينما تصك مدن التحالف عملاتها المحلية وتبني مبانيها على طراز روماني مع الإبقاء على خصائص  ثقافية محلية أصيلة. وليس غريبا بأن الزيتون بوصفه أهم المحاصيل الزراعية، وأهم الروافد الاقتصادية في المشرق لا بل العالم ، أن تركز الإمبراطورية الرومانية على تأكيد شرعيتها فيه  كأن يجعل الإمبراطور الروماني هدريان غصن الزيتون شعارا للإمبرطورية. رغم أن قناديل روما كانت عبر القرون تضاء بزيت مستخلص من زيتون مد الديكابولس الأردنية كمدينة حرثا التي كانت تلقب بقنديل روما.

آثار قويلبة في حرثا شمال الأردن

المملكة الغسانية: موجز

كان عصر الإمبراطوريات يقتضي بوجود دول كبرى قارية (ممتدة على أكثر من قارة) كالإمبراطورية الرومانية والفارسية. أما الحال في الأردن فقد كانت علاقة السكان بالإمبراطورية الرومانية علاقة تصادمية تكللت بالكثير من الثورات والحروب كحرب الملكة الأردنية ماوية التي شكلت تحالفا من القبائل البدوية في الصحراء الأردنية الشرقية. وفي الفصل التالي من هذا البحث سنقدم موجزا للمملكة الأردنية الغسانية التي ظهرت في بواكير القرن الثاني من مركزها الأول في البلقاء.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

تعد المملكة الغسانية الأردنية ثالث الكيانات السياسية التي شهدها المجتمع الأردني منذ القرون ما قبل الميلادية. دعت الحاجة الماسة لتنظيم وتوحيد قوة العشائر الأردنية البدوية إضافة للنبطية الأردنية وغيرهم من المكونات السكانية إلى انتخاب حكومة مركزية تكون حلقة وصل بينها وبين الإمبراطورية الرومانية التي حاولت مرارا فرض ولايتها بالقوة. ومن هنا كانت بداية المملكة الغسانية التي أسسها الأردنيون الغساسنة في القرن الثاني تقريبا. استمرت هذه المملكة بحكم الأردن وفلسطين وسوريا وصولا أجزاء واسعة من صحراء الجزيرة العربية، متخذة من نظام دول التحالف والمراكز الاقتصادية (الديكابولس) وسيلة تنظيمية مثلى تلبي احتياجات طبيعة المجتمع الأردني.

استعرضنا في سلسلة قدمتها إرث الأردن لأول مرة للمحتوى الإلكتروني عن الأردنيين الغساسنة تاريخ هذه المملكة، ملوكها وعلاقاتها الخارجية، إضافة للاقتصاد والدين والثقافة والعمارة ومختلف نواحي الحياة الاجتماعية الأخرى. تركت المملكة الأردنية الغسانية بصمتها في التاريخ الأردني على وجه الخصوص وتاريخ المشرق، أما على التراب الأردني الخصب، فلا زال يحتفى بالغراس المباركة التي زرعت بأياد أردنية وتمت رعايتها بالحكمة الغسانية التي تؤمن بالأرض الأردنية.

مدن الديكابوليس: نظرة عامة

تعود  فكرة حلف الديكابوليس للعهد اليوناني وتبنتها الإمبراطورية الرومانية للحفاظ على أمن حدودها من الإمبراطورية الفارسية وضمان سلامة قوافلها على الخط التجاري، في ذات الوقت يضمن الرومان ألا يشتبكوا مع القبائل الأردنية التي – بعد عدة حروب فاشلة معها- أدركوا أنها لن تنضوي تحت مظلتهم بالصورة التي يرغبون بها.

ضم حلف الديكابوليس عشرة مدن من تأسيسه عام 64 ق. م. ثمان مدن منها مدن أردنية:

  • فيلادلفيا (عمان)
  • بيلا (طبقة فحل)
  • أرابيلا (إربد)
  • جراسا (جرش)
  • كانثا (أم الجمال)
  • جدارا (أم قيس)
  • دايون ( إيدون)
  • هيبوس (الحصن)
  • دمشق
  • سكيشوبوليس (بيسان)
خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة

انضم لهذا الحلف عدة مدن أخرى منها مدن أردنية  كابيتولياس وهي مدينة بيت راس. ، مدينة جادورا وهي السلط ومدينة أبيلا وهي القويلبة ( حرتا في إربد ) والتي لقبت بقنديل روما لأن زيتها كان يضيء قناديل روما آنذاك، إضافة لمدينتي درعا وبصرى.

تذكر المصادر التاريخية بأن المنحدرات والتلال كانت تنظف لغايات الزراعة، وتكثفت زراعة الزيتون والعنب إضافة لأساليب جمع المياه والري، حيث اعتمد المزارعون الأردنيون على تجمع مياه المطر في الأودية وحصرها على شكل سدود صغيرة، أما المنحدرات فقد تم تدعمها بسلاسل حجرية لا زلنا نراها حتى اليوم. وبسبب الطلب الكبير على صناعات الخشب والزيتون وغيرها كانت الغابات والأحراش تقص وتزرع الأشجار المثمرة (وأهمها الزيتون) وقد كان ذلك يتطلب كميات وافرة من المياه إضافة للأيدي العاملة التي كانت تتراجع بفعل الطاعون والزلازل ولهذا تراجعت زراعة الزيتون قليلا في أواخر العصر البيزنطي لتعود للازدهار بشكل لافت في عهد المماليك الذين عرفوا مقدار خصوبة هذه الأرض فاعتنوا فيها أشد الاعتناء واستوردوا المزيد من الأنواع النباتية وكثروها وكان أهمها قصب السكر. ورغم ما واجهته حركة الزراعة في الأردن في عهد المماليك في القرن الخام عشر من تحد وتراجع إلا أن مدن الديكابولس الأردنية استمرت بالازدهار الزراعي بسبب نظم جمع المياه والأساليب الزراعية التي كان الأردنيون قد طوروها. (Luke: 2008)

كانت وفرة المياه في مدن الديكابولس الأردنية حافزا رئيسا في الزراعة. فمثلا شكلت “عين القويلبة” في مدينة أبيلا (حرثا) الأردنية مركزا زراعيا، لنجد بأن المزارع تلتف حول مصدر الماء الوفير في المدينة. كذلك الأمر في فيلادلفيا مدينة المياه وباقي المدن الأردنية التي يبلغ عدد عيون الماء فيها بالمئات والآبار الأثرية  التي لا زالت بعضها تستخدم حتى يومنا هذا  فجرش على سبيل المثال، هي مدينة مكتفية ذاتيا من المياه وقد وجدت دراسة أجرتها جامعة أستراليا الغربية بأن جراسا بأكملها مدنية تعتمد بشكل كلي على الينابيع ذاتية التغذية (Boyer: 2015)

ولا ننس الإشارة إلى وجود نهر اليرموك وروافده ونهر الأردن وروافده وبحيرة طبريا وبعض البحيرات الصغيرة  كبحيرات العرائس في إربد. (Luke: 2011)

 لم يقتصر الأمر على عيون الماء الطبيعية والآبار الجوفية إنما امتد إلى حفر قناة بطول قناة مائية بطول 170 كلم تصل مدن حلف الديكابولس ببعضها البعض لتتفوق قناة جدارا على ثاني أطول قناة مائية تحت الأرض بتسعة أضعاف الطول!

أحد الباحثين في نفق جدارا المائي

 هذا المشروع العظيم الذي قاده أكاديميون أردنيون  من كلية الآثار والأنثروبولوجيا في جامعة اليرموك حاصلين على دعم من صندوق السفراء الأمريكيين للحفاظ على التراث الثقافي رمموا فيها 140 كلم من القناة.   وأسفر هذا الاكتشاف حتى يومنا هذا عن 8 أبواب لهذه القناة في أم قيس وحدها. لقد أعاد هذا الاكتشاف العظيم فهمنا لطبيعة حلف مدن الديكابولس وأضاف لطبيعته السياسية طبيعة أخرى زراعية وبالتالي اقتصادية واجتماعية. (Luke: 2011) ولا بد بأن الأردنيين الغساسنة استفادوا من هذه القناة في الري والزراعة وتعزيز هذين القطاعين اللذان يرفدان أهم مصادر دخل الأردنيين الغساسنة: التجارة وحماية القوافل.

نفق جدارا المائي من الخارج
نفق جدارا المائي من الداخل

اكتشفت مجموعة انفاق مائية تقع في وسط جدارا على عمق عشرات الأمتار من مستوى الشارع الرئيس الذي كان يطلق عليه شارع الديكامونس الذي يقطع المدينة من الشرق إلى الغرب. ويلحظ بأن مدن الديكابولس تتشابه في التخطيط العام من حيث وجود شارع رئيس (كشارع الكاردو في جراسا مثلا) تحاذيه دكاكين ومحلات تجارية وكنائس وسبيل الحوريات. وتتشابك هذه الأنفاق لترفد المدينة بالمياه ولترفد المزارع المحاذية لوسط المدينة بمياه الري أيضا، ومن المثير أيضا عمق هذه الأنفاق فهي أنفاق يستطيع المرء المشي فيها، إضافة على احتوائها على محابس حجرية تتحكم بتوزيع وضخ المياه.

خاتمة

“إذا البيت فيه زيت صقفت وغنيت” و “البيت عمود البيت” يقول الأردنيون في أمثالهم الشعبية. هذه الشجرة التي تشبه روح الأردني في ارتباطها بالأرض والحياة. استعرضنا في فصول هذا البحث تاريخ شجرة الزيتون وتزعها وانتشارها إضافة لأحدث إحصائياتها في الأردن، كما ناقشنا تسمية أهم صنف من أصناف الزيتون في الأردن وهو الزيتون الرومي الذي كثرت زراعته في عهد المملكة الغسانية الأردنية ومدن الديكابوليس، سنتابع في سلسلة أبحاث الزيتون الأردني عبر التاريخ الحديث بشكل تفصيلي عن صناعة الزيتون ومعاصره وطرق عصره التقليدية.

 المراجع:

  • A 6.000- year harvest in Jordan, Dautriccourt (2010), everything about olive.
  • Gaetano Ladisa, Generosa Calabrese, Enrico Vito Perrino(2010) THE ORIGIN AND DISTRIBUTION OF OLIVE TREE AND OLIVE CROP, Mediterranean Agronomic Institute of Bari
  • the history of olive oil in imperial rome, a published article on www.sabor-artesano.com
  • B.Luke  (2008),soils and land in the Decapolis region
  • Luke, B. (2011) The dismiss of the Decapolis, Brandenburg university of technology
  • الموسوعة البريطانية https://www.britannica.com/plant/olive-plant
  • Abila of the Decapolis Excavations, June 30, 1991, Institut Francais du Proche-Orient
  • Boyer. D. Evidence of spring-fed irrigation in the hinterland of the Decapolis city of Gerasa (Jordan), University of Western Australia
  • Oliooficina website – World olive oil exhibition/Olive growing in Jordan
  • نتائج المسح الميداني المبني على المجتمع المحلي، محافظة الكرك،2013-2016، وزارة الثقافة الأردنية
  • القطامين،فيصل (2011) أشجار الزيتون الرومي: جذور ضاربة في التاريخ وقنديل لا ينطفئ، مقالة منشورة، صحيفة الغد
  • شجرة الزيتون حكاية الذهب السائل ورمز السلام في الدين والأدب- موقع ساسة بوست
  • د. إسحق إبراهيم غصبان، أغصان الزيتون في الفن القبطي، موقع بوابة الحضارات.
  • الأردنيون الغساسنة: مدخل عام، أبحاث إرث الأردن المنشورة
  • معالم أثرية جديدة في أم قيس- موقع خبرني الإعلامي
  • حرثا (قنديل روما)، أبحاث إرث الأردن المنشورة

[1] تقرير ICOMOS لمشروع منطقة وادي رم المحمية. رقم 1377

[2] نتائج المسح الميداني القائم على المجتمع المحلي: مشروع وطني أطلقته وزارة الثقافة يهدف لحصر التراث الثقافي غير المادي

عن الذهب السائل: الزيتون في عهد المملكة الغسانية الأردنية

مقدمة

هل فكرت يوما كيف تتكلم؟ لا أعني كيف يدخل الهواء لرئتيك وبين دخوله وخروجه وبمساعدة فمك وشفتيك تنطق الأصوات التي تكون كلمات وبلحظات ولا وعي تكون جملا تعبر فيها عن حاجاتك ورغباتك ومشاعرك، إنها اللغة! المعجزة التي نقلت البشر إلى مرحلتهم الأكثر تقدما وتحضرا. واللهجة هي اللغة الأم التي يتلقنها الفرد من أمه وهي تهدهده قبل النوم، تلك التي تنطق بها دون جهد يذكر.
قد نظن بأن اللهجة هي أمر لا تحكمه الطبيعة، ولا يخضع لقواعد كقواعد النحو والصرف في اللغة العربية الفصحى؛ ولكن الأبحاث العلمية في اللغويات (علم يبحث في اللغة عند استخدامها) تثبت لنا عكس ذلك. هذه المعجزة التي يمتلكها الجميع دون استثناء تمتلك قواعدها الخاصة. ترصد لنا أبحاث اللغويات أيضا التغيرات التي تلمّ باللهجة.
كان الأردن وما زال ثروة لغوية صب الباحثون اهتمامهم عليها، منذ عشرات العقود والأبحاث المتخصصة تدرس الصفات اللغوية للهجة الأردنية، تربطها بالعوامل المجتمعية، تقارن مراحلها وتطورها وتجيب على أسئلتنا الملحة عن إرثنا اللغوي الغني.
استكمالا لرسالة إرث الأردن، سنقدم قراءة في واحد من أهم البحوث التي تناولت تطور اللهجة الأردنية الحديثة في القرن العشرين. تقدم الباحثة الأردنية إنعام الور المحاضرة في جامعة إسكس البريطانية بالتعاون مع الباحث هيرن برونو استقصاء مثيرا للاهتمام عن “دورة حياة صوت (ق) في الأردن”
ينطق (ج – جيم غير معطشة ) حينا و (أ) حينا آخر وبما قد سمعنا هذا الصوت وهو ينطق (ق) أو (ك). تتعدد طرق نطق هذا الصوت بحسب المنطقة وهذا ما يجعله مميزا جدا كعلامة فارقة لتمييز اللهجات المناطقية. يعد هذا الصوت من أكثر الأصوات دراسة في اللهجات العربية وقد أولاه الباحثون اهتماما خاصا ولكن دراسته في الأردن خاصة لا زالت تعاني من فجوات، فكيف احتلت ال(أ) مكان ال(ج) في اللهجة الأردنية؟ هذا التغير الملحوظ جدا يعزا لعوامل اجتماعية عدة سنناقشها في هذا البحث.
في الفصول القادمة سنستعرض أهم محاور دراسة الور وبرونو بالتركيز على صوت (ق) في لهجة عمان الحديثة ولهجات الأدن الشعبية.

صوت (ق) وحالاته

كما أسلفنا يتميز هذا الصوت بتقلبه وتعدد حالات فتارة يلفظ كهمزة وتارة أخرى يلفظ (ج) أو (ك). ويستخدم هذا الصوت كمميز صارخ وواضح بين اللهجات المشرقية. فاللبنانية والسورية تلفظانه همزة بينما يلفظ (ج) جنوب سورية والأردن وجنوب فلسطين. أما الضفة الغربية فيلفظه الفلسطينيون همزة أو كافا بحسب السكنى (ريفية أو مدنية). في حالات أخرى يستعير المتكلمون ألفاظا تحمل صوتا (ق) مختلفا عن الصوت الأصلي في لهجتهم لدواع عدة. في تلك الحالات لا يكون الصوت متغيرا، حيث يلتزم المتحدثون بنطق الصوت كما هو في لهجتهم وهذا ما لا ينطبق في الحالة التي شهدتها اللهجة الأردنية في القرن العشرين.
لو أصغينا جيدا لوجدنا أن صوت (ق) أمر مختلف بالنسبة للهجة الأردنية فهو ينطق (ج) مثل (gلاية، gلتلك، gميص) وينطق همزة مثل (ألاية وألتلك، أميص) والجدير بالذكر بأن نطق (ق) كالكاف كان موجودا أيضا بحسب دراسة الباحث عبد الجواد للهجة الأردنية عام 1981، فكان القادمون من الضفة الغربية ينطقونها ولكنها سرعان ما تراجعت واختفت على حساب اللفظين الشائعين اليوم (الهمزة و ج).

سلط 1900 اطلالة خلابة على عراقة مدينة السلط الأردنية وتفوق سكانها على الظروف الجائرة

عبر احتكاك الأردنيين مع اللاجئين والنازحين من الضفة الغربية ممن ينطقون صوت ال (ق) همزة دخل هذا اللفظ إلى اللهجة الأردنية في عمان تحديدا بوصفه متغيرا جديدا. وبحسب الدراسات فإن انتشار صوت الهمزة كان أفقيا وعاموديا حيث تبناه العديد من الأردنيين وتشير الدراسات التي أجررتها الور عام 2002 على اللهجة الأردنية بأن التحول التام من الجيم غير المعطشة إلى الهمزة قد اكتمل تماما عند الشابات الأردنيات اللاتي تربين في بيئة ناطقة بال (ج) حيث يستعملن الهمزة بشكل مستمر. إذن، كيف نتج هذا الوضع اللغوي؟ ما هي أسبابه وما هي محدداته؟

صوت (ق) في اللهجات الأردنية الشعبية

لقد صنفت السجلات اللغوية (أطلس بيرغستراسر 1915) الأردنيين كناطقين ل (ج – جيم غير معطشة) وقد دعمت هذه السجلات أبحاث أخرى أجريت عام 1987 على السلط وعجلون والكرك وبعض المشاركين في هذه الدراسة كانوا من مواليد عام 1897! ولهذا يمكننا بكل ثقة أن نؤكد حقيقة أن اللهجة الأردنية هي لهجة تنطق صوت (ق) (ج) حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي مع عدد قليل ( ثلاثة نساء من أصل 40) نطقن صوت (ق) كهمزة في السلط وهذا التغير في حديث النساء يؤكد فكرة أن التغير في لفظ صوت (ق) في اللهجة الأردنية قد دشنته النساء.

الأمر المثير الآخر هو أن بدايات هذا التغير كان بعيدا عن عمان، في السلط وفي عجلون. أما الجنوب (الكرك) فلم تكن الهمزة خيارا مطروحا. إن هذه الفكرة تتوافق وتاريخ مدينة عمان، ففي ثلاثينات القرن الماضي لم يكن تعداد سكان مدينة عمان يتجاوز العشر آلاف نسمة بينما سكان السلط كانوا قد بلغوا ثلاثة أضعاف هذا الرقم. وكانت التركيبة السكانية لمدينة عمان تتكون الشراكسة الذين يبلغون نصف التعداد ( وكانوا يتحدثون بلغتهم الأصلية الأديغية) والباقي خليط من الأردنيين القادمين من السلط والمدن الأردنية الأخرى ومن نابلس ومن سورية.

عمان 1922 سيدة تقوم بتحضير اللبن “خض السعن” في وادي السير

تضاعف عدد سكان مدينة عمان في الأربعينات عقب النكبة عام 1948 وعاود التضاعف عقب النكسة عام 1967. ومنذ تلك الفترة حتى اندلاع حرب الخليج في بداية التسعينات كانت المدينة تعيش جوا من الاستقرار السكاني. استقبلت عمان لاجئين جدد من الكويت والعراق.
في دراسة أجرتها الباحثة إنعام الور عام 1997 على تطور لهجة السلط، أخذت عينات من الشباب السلطي في العشرينات من عمرهم، بواقع أربعة أفراد من الإناث وأربعة من الذكور. لم يتغير لفظ (ق) عند الذكور وأظهروا استمرارية في نطق هذا الصوت كما هو في اللهجة المحلية الأردنية. أما الإناث الأربع فقد أظهرن تغيرا في نطق هذا الصوت إلى الهمزة وهذا ما يدل على انتشار هذا النطق في عموم المجتمع.
أما آخر بحث في هذا الخصوص فكان الذي بدأه الباحث برونو عام 2005 على لهجة كبار السلط والفحيص (الأقرب إلى عمان) وقد هدفت الدراسة لوضع وصف للهجة المحلية الأصلية للمدينة. ولم تجد الدراسة أي تغير في لفظ صوت (ق) حيث نطقها الجميع في 15 ساعة من التسجيل (ج) كما هي في اللهجة المحلية. وهذا يثبت بأن ظاهرة التغير هي حديثة نسبيا ناتجة عن تفاعل فئات المجتمع الأردني بغيرهم.

مجتمع مدينة عمان واللهجة

على عكس السلط، فإن مجتمع عمان مختلف عن المجتمع المتماسك في السلط والذي أبقى على لهجته متوارثة إلى حد ما. عمان أو ربة عمون عاصمة العمونيين أو فيلادلفيا المدينة الرومانية، هجرت لفترة كبيرة بين القرنين السابع إلى العشرين تقريبا. وعندما أعلنت المدينة كعاصمة لإمارة شرق الأردن كان يسكنها الشراكسة القادمون من القوقاز عام 1876 والذين ظلوا يتحدثون لغتهم الأديغية إلى عقود لاحقة. ولم تؤثر لغتهم الأديغية أو إرثهم الثقافي على تكوين اللهجة الحديثة في عمان.
من المهم معرفة المكونات السكانية وخلفياتهم الثقافية، إن هذا يشبه معرفه الأنهار الصغيرة والجداول التي تصب في النهر الأم. يمكننا إذن تقسيم سكان مدينة عمان الحديثة بحسب المنطقة إلى مجموعتين: الأردنيون القادمون من القرى والبلدات الأردنية الصغيرة والذين يتحدثون اللهجة الأردنية. والمجموعة الثانية هم القادمون من فلسطين. وتقسم المجموعة الثانية إلى مجموعتين. الأولى هي الذين سكنوا الأردن في أوائل القرن العشرين وربما قبله والثانية هم اللاجئون والنازحون القادمون عقب الحروب العربية الإسرائيلية. تظهر اللهجة الفلسطينية فرقا كبيرا بين اللهجة البدوية واللهجة الريفية (الفلاحية) واللهجة المدنية ونستطيع إيجاد الثلاث لهجات في عمان اليوم.

بيوت الشركس ف عمان في القرن التاسع عشر

بغياب مجتمع ثابت في عمان، لم يكن للمدينة لهجة أم وحتى الثمانينات اتصفت لهجة عمان بافتقارها للهجة متسقة. عام 1998 أجرت الباحثة الور بحثا على ثلاثة عشر خصيصة لغوية وأظهرت النتائج بأن اللهجة بدأت أكثر تركيزا. خلق التلاقح بين اللهجة الأردنية واللهجة المدنية الفلسطينية.

البحث في لهجة عمان

لدراسة اللهجة المتشكلة حديثا في عمان أجرت الباحثة إنعام الور بحثا تضمن الأجيال الثلاثة في عمان من أربعة عائلات، اثنتان منهما تعود أصولهما إلى السلط والأخيرتان من نابلس. حيث تشكل المدينتين 97% من أصول سكان مدينة عمان. وسنستعرض فيما يلي بشكل أكثر تفصيلا هذا البحث وعينة الدراسة.
الجيل الأول:
تكونت العينة في الجيل الأول من ثمانية متحدثين. هذا الجيل كان قد وصل لمدينة عمان كبالغين وأظهرت نتائج تحليل حديثهم لالتزامهم بلهجتهم الأم كما أظهروا ميلا للrudimentary levelling وهي ظاهرة تعني استيعاب ودمج وخلط لهجات معينة.
الجيل الثاني:
تكونت عينة الجيل الثاني من ثمانية متحدثين. وهذا الجيل إما ولد في المدينة أو وصل إليها طفلا صغيرا. وأظهرت نتائج التحليل لهجة مختلطة غير ممنهجة واختلافات كثيرة نتيجة خليط المدخلات من اللهجتين الأردنية والفلسطينية المدنية.

الجيل الثالث:
تكونت هذه العينة من أربعة عشر متحدثا، لقد تقلص الاختلاط الذي وجد في حديث الجيل الثاني. وكانت لهجتهم منظمة في نسق لغوي متسق.

صوت (ق) في عمان

كما أوضحنا آنفا فإن الصوتين الرئيسيين والمتغيرين في لهجة عمان هما الهمزة وال (ج)، تتميز الهمزة بكونها مشتركة وشائعة في كثير من المناطق المشرقية فهي منطوقة في لبنان وسوريا وفلسطين ومقارنة مع ال (ج) في أقل شيوعا وتعد محلية أكثر.
لقد حافظ الجيل الأول في الدراسة التي استعرضناها على اللهجة الأم. فلم يتأثر لفظه لصوت القاف إلى حد ما ولكن ترافق حفاظه على وجود بعض المفردات التي تخالف اللهجة الأصلية. فقد نطق الرجال الفلسطينيون (الذين تنطق لهجتهم الأم بالهمزة) ال (ج ) فقالوا (جالو ولاجينا gallo / lagena ) والاختلاف الآخر وجد لدى النساء الأردنيات اللواتي لفظن بعض الكلمات بالهمزة ( بتسوءي- ئيمي)
أكد تحليل الجيل الثاني على ما كان في الجيل الأول. فقد استمر الجيل بالنطق كما في اللهجة الأصلية على أن الرجال الفلسطينيين والنساء الأردنيات تابعوا تغيير لهجتهم. صار الرجال الفلسطينيون ينطقون أكثر بال (ج) والنساء الأردنيات ينطقن أكثر بالهمزة.
أما الجيل الثالث فقد ظهرت عوامل أخرى على السطح وهي التأثير الاثني والمخاطب. ولخصت الدراسة هذه التأثيرات والعوامل فيما يلي:

• تتحدث الإناث جميعهن بغض النظر عن خلفياتهن بالهمزة، وهذا دلالة على استمرار التغير والتلاقح الحاصل بين اللهجتين في أجيال سابقة.

• أما الذكور فقد أظهروا أنماطا أكثر تعقيدا. فعندما يتحدث الذكر إلى أشخاص من نفس مجموعته الأثنية فإنه سيلتزم بلهجة مجموعته الإثنية. أما عند الحديث مع الإناث فرادى أو مجموعات فإنهم جميعا يستخدمون الهمزة. أما عند الحديث مع مجموعة (كلها ذكور) من خلفيات مختلفة فإنهم جميعا يتحدثون بال (ج)
ومن خلال هذا التحليل نستنتج بأن هنالك عوامل أخرى نظمت هذا التلاقح بين اللهجتين وهي اللهجة الأم للمتحدث، الجنس والسياق.

تحليل النتائج

اعتمادا على النتائج التي خلصت إليها الدراسات العديدة وآخرها دراسة الباحثة إنعام الور والباحث هيرن برونو، تطرح عدة أسئلة نفسها. ما الذي أدى بالنساء إلى اعتماد الهمزة؟ وما الذي دفع بالذكور إلى اعتماد لفظ (ج) عبر الأجيال المتعددة؟
لقد ولدت نساء الجيل الثاني اللاتي أظهرن ميلا كبيرا إلى لفظ الهمزة بين 1938-1948 وكانت الأردن وقتها تعيش تأخرا نسبيا مقارنة بالدول العربية المجاورة. فلم تكن المعاهد والجامعات للاستكمال الدراسات العليا قد بنيت على عكس دمشق وبيروت والقاهرة وحيفا وكلها أماكن ناطقة بالهمزة. وقد شهدت هذه الفترة حركة ابتعاث الأردنيين والأردنيات لاستكمال الدراسات العليا في تلك الدول. من ناحية لغوية-اجتماعية ارتبطت الهمزة بالتمدن والتحضر والتقدم العلمي. فمن المفترض أن يجذب هذا الأسلوب في الحديث الرجال والنساء على حد سواء فلماذا نر النساء وحدهن من يمارسن هذا التغير من اللهجة الأم الناطقة بال (ج) إلى اللهجة الناطقة بالهمزة؟ يفسر الباحثان هذا بوضع المرأة في المجتمع في تلك الفترة، حيث كانت مشاركة المرأة الاقتصادية والسياسية معدومة كما كانت المرأة تعتبر في الوضع الأضعف مقارنة بالرجل. ومن هنا دعتها الحاجة إلى تمثل رموز القوة واللغة أهمها.
وتفسيرا لما سبق نقتبس من البحث العلمي المنشور للباحثين: “محرومة من القوة ومن المشاركة في الحياة العامة، اضطرت النساء في عمان لتمثل رموز القوة والتأثير عن طريق تبني طريقة حديث معينة. وعبر ارتباط الهمزة بالمدن الأكثر تحضرا ارتبطت أيضا بوصف متحدثيها مجموعة أكثر قوة وتأثيرا” وعند نطق النساء بازدياد للهمزة ارتبطت بالنعومة والأنوثة، بينما ارتبطت ال (ج) بالرجولة والقوة.

خاتمة

لهجة عمان المعقدة والغنية لا زالت تستقطب الكثير من الدارسين والباحثين بسبب حالتها الفريدة. إن اللهجة إرث لغوي قيم ولا يبدو سؤال كيف تتكلم سهلا الآن.

المصدر:

Al wer, E. Herin, B (2011) The lifecyrcle of Qaf in Jordan,language et societe n 138 -Dec

دورة حياة صوت ال (ق) في الأردن: قراءة في دراسة علمية

نقلت دراسات وتنقيبات أجريت في بلدية بيت راس الموقع الأثري إلى مستوى أكثر أهمية وتفرد مما يمكن توقعه. حيث كشفت هذه التنقيبات على نقوش يونانية وآرامية وقطع الفريسكو (جبصيات) في الموقع الأثري في بيت راس.

منظر عام لبيت راس

وقد أكد علماء الآثار أن مدفن بيت راس سليم تقريبا ويؤرخ للفترة الرومانية تحديدا من القرن الأول إلى الثالث ميلادي.

تشاركت دائرة الآثار الأردنية (DoA) ومشروع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية للتراث الثقافي المستدام من خلال إشراك المجتمعات المحلية (SCHEP) في مشروع مدفن بيت راس الذي أسفر عن اكتشافات عظيمة وخطط جديدة طرحت في حفل أقيم في موقع المدفن.

اكتشف المدفن عبر الصدفة المحضة عام 2011، وقد أكّد حينها مدير دائرة الآثار الأردنية أن جدران المدفن مغطاة بالرسومات واللوحات الملونة والنقوش ذات قيمة تاريخية مهمة للغاية حيث قال أن المكتشفات مثيرة ومهمة للغاية. وأن المدفن فريد من نوعه في المنطقة خصوصا بحجمه وعدد قطع الفريسكو التي تغطي الجدران. وقد أشارأيضا إلى أن المدفن يمتد على أكثر من 60 متر مربع وقد حظي بتوثيق مكثف وعمليات ترميم ومحافظة ودراسة علمية من قبل عدد كبير من العلماء الأردنيين والإيطاليين والفرنسيين والأمريكيين.

كما أكّد أن مشروع ضريح بيت راس يعبّر عن شراكة استراتيجية فريدة بين دائرة الآثار الأردنية  ومشروع الوكالة الأمريكية والمؤسسات الدولية مع أكثر من عشرين مختص في الترميم والمحافظة على الآثار والإرث الثقافي خصوصا فيما يتعلق باللوحات والنقوش.

المدفن الذي اكتشف صدفة أثناء العمل على شبكة الصرف الصحي في بلدية بيت راس

والمدفن عبارة عن مقبرة رومانية لأحد الوجهاء الرومان حيث أشارت النقوش بأن الميت كان مقدرا من قبل المجتمع ويتمتع بمكانة مجتمعية عالية.

كما أكدت معالي وزير السياحة والآثار الأردنية في حينه  على أهمية هذا الموقع وهذه المكتشفات “سيعزز هذا الضريح المكتشف صورة الأردن كما سيعزز التجربة السياحية في إربد”

بينما صرح منسق المشروع السيد جهاد هارون بأن اكتشاف الموقع يلقي الضوء على فترة مهمة من التاريخ الأردني خلال العصر الروماني خصوصا لاحتوائه على 52 نقش يوناني وآرامي والكثير من قطع الفريسكو بتفاصيل دقيقة واضحة لم تذكر سابقا في السجلات التاريخية.

 لوحات فريسكو مليئة بالتفاصيل وجدت سليمة في المدفن

يشرك مشروع الوكالة الأمريكية المجتمع المحلي كخطوة نحو مزيد من التقدم، بتدريب 25 شخص من دائرة الآثار الأردني في إربد والخريجين الجامعيين في مجال المحافظة على المواقع الأثرية وفقا للبيان الذي أصدرته الوكالة.

كما شارك في المشروع فريق من الخبراء من المعهد العالي للحفظ والترميم في روما، والمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، والمعهد الوطني الإيطالي لحماية البيئة والبحوث.

بينما قالت باربرا بورتر ، مديرة المركز الأمريكي للبحوث الشرقية، أنه عندما يتم اكتشاف مثل هذه الآثار الرومانية الهامة عن طريق الصدفة، قد يكون الحفاظ عليها صعباً، مشيرًة إلى أن الفريق والمجتمع المحلي استطاعوا التغلب على العديد من الصعوبات وحماية الموقع من خلال دعم المجتمع المحلي وتعاونه مع الشركاء في المشروع.

وأضافت بورتر في بيان “هذا هو سبب سعادتنا بتنفيذ مثل هذه المشاريع وخلق فرص عمل للمجتمع” ، مشيرة إلى أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في الشرق الأوسط (USAID SCHEP) مخصصة للتنمية الاقتصادية والمجتمعية من خلال الحفاظ على التراث الثقافي والتعليم في المجتمعات المحرومة في جميع أنحاء الأردن.

المصدر: خبر منشور على الموقع الالكتروني لصحيفة جوردان تايمز الأردنية

http://www.jordantimes.com/news/local/findings-irbids-bait-ras-tomb-are-unique-region

اكتشافات جديدة فريدة من نوعها بالمنطقة في بيت راس

تغني النساء البدويات التهويدات لأطفالهن  ليناموا وقد يحكين أيضا بعض القصص. وهنا، سنسرد بعض القصص التي حكتها جدة المؤلفة غزوة العون  لها وهي طفلة ترجمتها إرث الأردن عن كتابها الصادر باللغة الإنجليزية “جمال جدتي البدوية”.

نصيحة أبوية من أب لابنه

نائما في خيمته، يعطي الأب الذي يعرف أن أجله قد اقترب ابنه ثابت ثلاثة نصائح: “لا تخبر سرك لامرأة، لا تكن جارا لشيخ القبيلة ولا تزوج أختيك لرجل غني”

وخلال سنة، توفي والد ثابت. لم يصغ الابن لنصيحة والده. زوّج واحدة من أخواته لرجل غني والأخرى من رجل فقير. وبعدها انتقل ليعيش بجانب الشيخ.

لاحظ ثابت أن الشيخ يمتلك نعامة. لم يكن مقتنعا بنصيحة والده بألا يجاور الشيخ، لذا سرق الطير وأعطاه لأمه لأنها كانت فقيرة ولا تملك طعاما. أخبر والدته بقوة دهن النعام على الشفاء من الأمراض وأكد عليها بأن لا تخبر أي أحد. لقد وثق بها بألا تفشي السر.

اكتشف الشيخ بأن نعامته قد سرقت، فقصد عرافة لتخبره من سرق النعامة. كانت العرافة ذكية للغاية فأخبرت الشيخ بأن ابنها مريض جدا ويحتاج دهن النعامة كي يشفى. سألت العرافة الجوار إن كان هنالك من يملك دهن النعامة وعرفت أن والدة ثابت تمتلك بعضا منه. وهكذا عرف الجميع بأن ثابت هو من سرق النعامة وأعطاها لوالدته.

رجل بدوي وجمله

حبس الشيخ والدة ثابت وقال أنها مدينة بعشرة جمال جزاء النعامة المسروقة. صاح الشيخ في ثابت وأخبره بأنه سيقتل أمه إن لم يسترد النعامة، حزن ثابت كثيرا وعندها أدرك مغزى نصيحة والده وأن تلك النصيحة كانت صادقة.

استطاع ثابت التفكير في خطة لإنقاذ أمه. أخذ واحدا من جماله وحلق وبره وصب عليه زيتا ليبدو مريضا وبهذا قد يشفق عليه أصدقاؤه والعائلة. ذهب ليزور شقيقته التي تزوجت رجلا غنيا. أما  الرجل الغني فقد صرخ في ثابت بعدما رأى جمله المريض وقال بأن عليه الذهاب وإبعاد جمله المريض كي لا يعدي باقي جماله السليمة. عاد ثابت إلى الخيمة دون جمله وأخبر الرجل الغني بما حصل وسأله المساعدة. فلم يعطه الرجل سوى ماعز نحيلة. جر ثابت  الماعز النحيلة والجمل “المريض” وقصد خيمة أخته الأخرى التي تزوجت رجلا فقيرا. في تلك الأثناء أبقى ثابت جمله بعيدا عن جمال قبيلة الرجل الفقير. وعندها سأل الرجل الفقير ثابت لم يبقي جمله بعيدا، طالبا منه أن يقرب الجمل. وعلى الرغم من فقره، كان الرجل كريما للغاية ولم يخف من أن يعدي الجمل “المريض” باقي الجمال. أخبر ثابت الرجل بقصته كلها. قال الرجل بأنه فقير ولكن قبيلته غنية، وستساعده على الحصول على عشرة جمال.

صورة تخيلية لبيوت شعر بدوية أردنية

وأخيرا عاد ثابت للشيخ ومعه عشرة جمال وماعز نحيلة. تفاجأ الشيخ وشعر بالإحراج، لذا أخذ العشرة جمال وأطلق سراح والدة ثابت. وضع ثابت حملين من القمح على رقبة الماعز النحيلة وأعادها لصهره الغني كرد للجميل. ومن ثم أعاد كل الجمال للرجل الفقير وعشيرته وقرر أن يقنع أخته بأن تطلق زوجها الغني. رحل ثابت مع أخته وأمه إلى مكان جديد، ليحظوا ببداية جديدة، كان سعيدا  لأنه عرف بأن نصائح والده الثلاثة كانت صحيحة.

الفتى المعجزة

كان البدو قديما، كباقي المسلمين، يشاركون الحج إلى مكة المكرمة. يسافرون في جماعات على ظهور الجمال في رحلة قد تستغرق ستة أشهر.

وفي سنة من السنين، قرر زوجان قد تزوجا حديثا الذهاب معا. كانت المرأة حاملا ولكنها لم تخبر زوجها أو أهلها بذلك خوفا من أن يمنعوها من الذهاب في تلك الرحلة الطويلة.

كانت المجموعة كريمة وقد عملوا معا بتعاون. وفي أحد الأيام، بدأت المرأة تشعر بآلام المخاض. نادت زوجها وأخبرته بأنها ستلد. تفاجأ كثيرا لأنه لم يعرف أصلا أنها كانت حاملا. ولمشاركتها في الحج، كانت ترتدي ثوبا أبيضا. أخذها زوجها بعيدا عن الآخرين وأنجبت طفلها أخيرا. ولكن ولادتها كانت متعسرة وأليمة لهذا فارقت الحياة. بكى الأب لأنه لم يعرف كيف سيطعم ابنه الرضيع. فوضع ابنه ف القبر الذي حفره لزوجته ظانا بأن الطفل سيموت لا محالة في هذه الرحلة الطويلة دون والدته. عندما عاد للجماعة سألوه عن زوجته. فكذب الرجل عليهم كي لا يفسد الرحلة عليهم.

أكملت الجماعة مراسم الحج وبدأت تتجهز للعودة. وعندما مروا من قريبا من المكان الذي دفن فيه زوجته، لاحظ الرجل دخانا يصعد من المنطقة وفهم أن تلك إشارة أن القبر قريب. لم يشك أي أحد بأن الزوجة كانت قد توفيت.

 وبينما كان الجميع يتناول العشاء، تسلل سرا إلى القبر. قصد القبر مع شيء من تخوف وفضول، ورأى جسد زوجته مغطى بشكل جزئي في القبر. والمعجزة كانت أن ابنه كان مسجى بجانب الزوجة الميتة، كان على قيد الحياة يرضع من  والدته. أخذ الأب طفله وعاد إلى الجماعة. وسألوه عن هذا الطفل الحديث الذي كان متسخا. نظفت واحدة من نساء المجموعة الطفل وأخبرهم هو قصة زوجته وكيف أنه دفنها ووضع الطفل بجانبها ولكنه بقي على قيد الحياة.

ألبس الأب طفله قلادة كي تحميه من الشرور. وكبر الطفل وعاش هو ووالده حياة سعيدة.

قصة الثوب

في الماضي كانت بنات العائلات البدوية الغنية يمنحن كثيرا من الأشياء عندما يتزوجن، كن يحصلن على العبيد الذين غالبا ما يكونون أفارقة. وفي يوم من الأيام تزوجت شابة رجلا من قبيلة أخرى. بعث معها والدها حارسا وجارية ليرافقاها في رحلتها. قادت رحلتها من على الهودج، وأمام الجمل كانت الجارية تقوده. أخذت الرحلة عدة أيام لتصل إلى قبيلة خطيبها. كانت الجارية تغير جدا من العروس الجديدة. وأثناء الرحلة أقنعت الجارية الحارس بأن يذهب، وقالت له بأنها تستطيع حماية نفسها والعروس. أعطت الحارس بعض النقود ووثق بها فغادر.

كانت والدة العروس قد أعطتها عقدا بقوى سحرية تمكنهما من التواصل سوية، تمتلك الأم عقدا آخر لتستطيع العروس محادثة أمها إن طرأت مشكلة أثناء الرحلة.

في يوم من الأيام ذهبت العروس والجارية إلى نهر كي تغتسلا. أسقطت العروس عقدها السحري في النهر عن غير قصد، ولم تستطع استعادته، فأكملت رحلتها. علمت الجارية أن العروس قد أضاعت العقد السحري لذا بدأت بمشاجرتها وإيذائها. استطاعت الجارية أن تبدل الأماكن مع العروس فأخذت محلها.

وفي إحدى الرحلات، قابلوا حطابا فطلبت منه أن يصنع للعروس المسكينة ثوبا من الخشب، العروس المسكينة التي كانت جارية الآن تقود الجمل. أجبرت الجارية العروس على ارتداء الثوب الخشبي. ظلوا يمشون حتى قابلوا تلا من التراب الأبيض. فاستعملته الجارية كي تبدو بيضاء.

سيدات أردنيات بدويات يجمعن الحبوب ويعملن

عندما وصلتا إلى قبيلة العريس  تزوج العريس الجارية على أنها عروسه. وكانت الجارية قد هددت العروس (كي لا تخبر الناس بالحقيقة) كان العريس غنيا لدرجة أنه لم يحتج لجارية أخرى، فعملت عنده العروس الحقيقية كراعية.

بعد فترة، بدأ الجمل الكبير والمفضل لدى الزوج بخسارة الوزن والمرض. غضب الزوج وأراد أن يعرف ماذا حصل لجمله العزيز ولام الراعية (العروس الحقيقة) على ما حصل.

بدأ الزوج يتجسس على الراعية. ورآها تتحدث إلى الجمل. وبعدها خلعت ثوبها الخشبي ولاحظ أنها ترتدي تسعة خواتم في يديها. خلعت الراعية الخواتم التسعة ووضعتهم على شجرة. كان الرجل مدهوشا من جمالها. واكتشف بأن الجمل قد خسر وزنه لأن الراعية أخبرته قصة حزينة وهو حساس للغاية فخسر وزنه حزنا. وخلسة سرق الرجل واحد من الخواتم التسعة. ونادى الراعية. وبعدها قتل الجارية الشريرة ومن ثم تزوج الراعية- العروس الحقيقة.

المصدر:

Aloun, G., Hood, K., The Bedouin beauty of my grandmother (2017) the Hashemite fund for development of Jordan Badia and Ministry of culture

قصص بدوية قبل النوم

Scroll to top