الأردنيون الغساسنة: الملوك والنظام

مقدمة

حكم الأردنيون الغساسنة الأردن وما حولها لمدة تزيد عن الأربعة قرون وكان كل حاكم وأمير وملك منهم على قدر عالٍ من المسؤولية والحزم. يقول الملك الأردني الحارث الملقب بالأعرج موصيا ابنه:

   ” والنَّاسُ سرحُ رِباعٍ والمُلوكُ لهُمْ … ما بينَ راعٍ وحفَّاظٍ وسوَّاقِ

ولا يحُوطُ ولا يرعَى الأنامَ سوى … من في ذُرَى المجدِ عالٍ في العُلى راقِ

ماضِي العزيمةِ ذي حَزْمٍ وذي فِطنٍ … مُوفٍ لدى العقدِ من عهدٍ وميثاقِ”

وفي هذه الوصية تظهر لنا فلسفة الحكم عند الأردنيين الغساسنة، فالملك هو ” راعٍ وحفَّاظٍ وسوَّاقِ” يتولى رعاية شعبه ويكفل لهم أمنهم وأمانهم. في هذا البحث من سلسلة أبحاث الأردنيون الغساسنة سنستعرض سيرة مجمل الملوك والنظام السياسي والأمراء الأردنيين الغساسنة وإنجازات كل واحد منهم إضافة لألقابهم الفخرية والدينية.

خريطة لممالك العالم القديم وتظهر مملكة الأردنيين الغساسنة التي تمتد على أرض الأردن- سوريا وشمال السعودية- فلسطين

التسمية والنسب

ينسب الأردنيون الغساسنة إلى بئر ماء يدعى غسان كانوا قد نزلوا عندها فترة، إلا أنهم ينسبون لجدين آخرين (جفنة  وثعلبة). يعرف آل غسان بآل جفنة وجفنة بالعربية تعني الطبق الكبير، أي أنهم سموا كذلك نسبة لشدة كرمهم وجودهم وتعود تسميتهم  بآل جفنة إلى أحد أجدادهم  المسمى بالإسم نفسه. وقد ذُكروا كثيرا في شعر حسان بن ثابت بآل جفنة وأولاد جفنة  فيقول في رثاء الملك الأردني الغساني  ابن مارية المرجح بان يكون هو ذاته الحارث بن جبلة:

أولاد جفنة حول قبر أبيهم   قبر ابن مارية الكريم المفضلِ

أما التسمية الثانية (آل ثعلبة) فهي تعود لجد آخر. يعتقد الباحثون بأن ثعلبة وجفنة أخوان وأن نسلهما أولاد عمومة ولهذا لقبوا باللقبين على التوازي (نولدكه: 1933)

الألقاب الملكية

 تباينت الألقاب التي حصل عليها ملوك الغساسنة وكانت أغلبها تصبغ بصبغة دينية كنسية. بداية كان اللقب الأشهر هو الفيلارخ أو الفيلارك بمعنى الوالي أو رئيس القبيلة. والبطريق (بطريرك) والذي لقب به أعظم ملوك الأردنيين الغساسنة الحارث بن جبلة. فقد كان يمارس سلطتين أساسيتين، رئاسة المملكة ورئاسة أسقفيتها. (شهيد: 1995) وقد تناولت الوثائق السريانية والرومانية ألقاب أخرى اختص بها الحارث بن جبلة ” كالبطريق الأمجد والأشهر” وملك جميع العرب” و” الأكثر تقى وصلاح” و”محب المسيح الأكثر عبادة ” (نولدكه:1993)

صورة تخيلية للملك الحارث بجانب الامبراطور البيزنطي

 ويجدر الذكر بأن الملك الأردني الحارث بن جبلة هو الوحيد الذي حصل على لقب ملك من قبل الإمبراطور البيزنطي جوستنيان وقد سمي باقي الحكام الأردنيين الغساسنة ملوكا بمعنى أمراء، كما سيلي توضيحه في الفصل التالي.

الأمراء والملوك الغساسنة

أولا: الاختلاف التاريخي في سلسلة الحكم

مهّد الحصار الاقتصادي للمملكة الأردنية النبطية وسقوط العاصمة بترا في أيدي الرومان بعد محاولاتهم الكثيرة في القرن الأول والثاني إلى خلق جو من الفراغ السياسي. ودفع هذا الفراغ بالأردنيين الغساسنة  إلى إنشاء كيانهم السياسي المستقل وإرساء علاقات تحالف جيدة مع البيزنطيين والدفاع بشراسة عن حدودهم وأمانهم وحريتهم الدينية.

لقد كان حكم الأردنيين الغساسنة مرتكزا على فكرة الحكومة المركزية التي تتشعب منها حكومات صغيرة محلية. فمن حوران الأردنية ومن ثم البلقاء أدار الأردنيون الغساسنة مملكتهم وتحت حكمهم تم تعيين حكام محليين. فكان هناك حاكم لقبيلة كندة وآخر لفلسطين وآخر لنجران وغالبا ما كان هؤلاء الحكام يسمون (فيلارخ) وفي كتب التاريخ يسمون مجازا ملوك وفي السريانية تكتب كلمة أمير “ملكا” ولهذا ربما أطلق على باقي الملوك لقب ملك. ولم يقتصر هذا التقسيم على المدن الكبيرة إنما امتد للحواضر الصغيرة وقد قسمت ولايتها بين أفراد السلالة الأردنية الغسانية الحاكمة.

نقش كنيسة نتل الغسانية في قرية نتل قرب عمان ويقرأ “أوه يا حارث يابن الحارث”

أدّى هذا التقسيم إلى اختلاف كبير بين المؤرخين حول عدد الملوك وأماكن حكمهم ومدة حكمهم. سنتناول في بحثنا الاختلاف بين أهم مؤرخين لمملكة الأردنيين الغساسنة، المؤرخ حمزة الأصفهاني والمؤرخ الألماني نولدكه.

يختلف الباحثون كما أسلفنا في عدد الملوك الأردنيين الغساسنة فبعضهم يقول 32 ومنهم من يقول 10 أو 11 وآخرون يقولون 9 فقط. (العيسى: 2007) يقول المؤرخ الأصفهاني بأنهم 32 ملكا ولكن نولدكه المحقق والمؤرخ يعيب على رواية الأصفهاني لأخبار ملوك الأردنيين الغساسنة لأنها لا تتطابق مع الوقائع التاريخية كنَفيْ الملك الغساني المنذر وابنه النعمان وحروب المسلمين مع البيزنطيين والغساسنة كمعركتي اليرموك وتبوك، إضافة للسبب الذي أوردناه آنفا وهو طبيعة هيكلة الحكم عند الغساسنة القائمة على حاكم مركزي وحكام محليين يحملون لقب “ملك” مجازا فالملك الأردني الوحيد الذي حمل هذا اللقب من قِبل الإمبراطورية الرومانية هو الحارث بن جبلة.  ولهذا يورد نولدكه أن ملوك الأردنيين الغساسنة يبلغ عددهم 10 ملوك.

وبحسب تحقيق نولدكه المعتمد على المقارنة بين المصادر اليونانية والسريانية والرومانية، تم استخلاص العشر ملوك إضافة لسنين حكمهم كالتالي:

  • أبو شمر جبلة: حكم حوالي السنة 500 م تقريبا
  • الحارث بن جبلة: استمر حكمه من حوالي 529-569 م.
  • أبو كرب المنذر بن الحارث: حكم من سنة 569-582م.
  • النعمان بن المنذر: حكم من سنة 582- 583م.
  • الحارث الأصغر بن الحارث الأكبر. (مدة حكمه غير معلومة على وجه الدقة)
  • الحارث الأعرج بن الحارث الأصغر (مدة حكمه غير معلومة على وجه الدقة)
  • أبو حجر النعمان: حكم 583- 614 م.
  • عمرو (مدة حكمه غير معلومة على وجه الدقة)
  • حجر بن النعمان (مدة حكمه غير معلومة على وجه الدقة)
  •  جبلة بن الأيهم: حكم سنة 635م

وينبغي أن ننوه أن قائمة الملوك التي تبدأ من القرن السادس تُعنى بالفترة التي نضج فيها كيان الإمارة الأردنية الغسانية وانتقل إلى شكل ملكي أكثر تنظيما على يد أول من لُقّب بالملك أو ملك العرب، الملك الأردني الغساني الحارث بن جبلة عام 530. أما قبل ذلك، تؤرخ بدايات تأسيس حكومات محلية بقيادة الأردنيين الغساسنة إلى القرن الأول ميلادي.

ثانيا: الملوك

الحارث بن جبلة (529 -569م)

لُقّب الملك الأردني الحارث بن جبلة بالحارث بن أبي شمر وقد يكنى ابن مارية وهو من أشهر الملوك الأردنيين الغساسنة وأكثرهم ذكرا في النصوص والمصادر اليونانية والرومانية. تميز الملك الحارث بن جبلة بالذكاء والحنكة الكبيرين، لم يقدم تنازلا عن الحرية الدينية لشعبه، وأسس تحالفا مع البيزنطيين مبنيا على احترام الطرف الآخر لعقيدة المجتمع الأردني آنذاك (المونوفيزية).

منمنة (صورة تخيلية) تصور الملك الغساني الحارث وهو في خيمته

بلغت المملكة الأردنية الغسانية أوج اتساعها في عهد الملك الحارث بن جبلة حيث شملت البترا والبلقاء وصحراء الصفا (البادية الأردنية) وسهول حوران الأردنية.  وتكللت جهوده في النصر في معركتي عين أباغ ويوم حليمة ضد المناذرة والفرس. على إثر هذه الانتصارات منحه الإمبراطور البيزنطي جوستنيان لقب بطريق وهو لقب ديني/عسكري. كما منحه لقب “فيلارك” بمعنى رئيس ومن ثم منحه لقب “ملك” وغالبا ما يقترن اسمه بألقاب وصفات أخرى “كالحارث الأمجد والأشهر”.

يُحسب للملك الأردني الحارث بن جبلة دفاعه عن المذهب الديني (المونوفيزي) فرغم أنه يخالف المذهب الديني الرسمي للإمبراطورية البيزنطية إلا أنه استطاع تعيين أكثر من 89 أسقفا على امتداد المملكة الأردنية الغسانية، إضافة لعلاقته الجيدة مع الإمبراطورة البيزنطية ثيودورا، زوجة جوستنيان، التي كانت تدين بالمونوفيزية. وساهمت هذه العلاقة الوطيدة في خلق جو من التسامح الديني وإيقاف الاضطهاد الديني الذي كان سائدا من قبل. ولا تزال رسالته إلى القس يعقوب البرادعي شاهدة على العلاقة الوثيقة بينه وبين الأساقفة الذين عينهم.

فسيفساء للإمبراطور جوستنيان وزوجته ثيودورا

توفي الحارث سنة 569 وقد حكم قرابة أربعين سنة وتوقف ذكره في المصادر الكنسية وبدأ ذكر ابنه الملك المنذر بن الحارث.

المنذر بن الحارث (569-581)

كان  أبو كرب المنذر بن الحارث كوالده قائدا عسكريا محنكا إلا أن علاقاته مع البيزنطيين لم تكن دوما موفقة فقد كتب الإمبراطور جوستيان رسالة في عزله وانفصل حكمه ثلاثة سنوات وانقطعت العلاقات بينه وبين البيزنطيين.  ولكن البيزنطيين تراجعوا عن موقفهم عندما أدركوا استحاله الدفاع عن مصالحهم ضد الهجمات الفارسية والمناذرية دونه، وقد وجدوا أنفسهم مضطرين لاسترضاء المنذر الغساني بأي ثمن (نولدكه: 1933) . وبالفعل استطاع هزيمة المناذرة بعدما عقد البيزنطيين الصلح معه في الرصافة عند قبر القديس سرجيوس.

النقش اليوناني المكتشف في كنيسة موقع تل العميري قرب العاصمة عمان. ويقرأ النقش بأن الكنيسة رصفت بالفسيفساء في عهد المنذر ولشفاعة القديس جاورجيوس

وفي عام 580 وصل المنذر بن الحارث إلى القسطنطينية وكان رأسه مزينا بالتاج المُهدى إليه من الإمبراطور البيزنطي تيباريوس وهو أمر لم يحصل للملوك الأردنيين الغساسنة من قبله حيث كانوا جميعا يلبسون الإكليل فقط (شهيد: 1995)

ورغم العلاقات الحسنة التي أنشأها المنذر مع تيبريوس إلا أنها ضعفت عقب واقعة شهيرة. فعندما تقدمت القوات الغسانية والقوات البيزنطية لمحاربة الفرس وجدوا جسر نهر الفرات مقطوعا فاتهمه البيزنطيون بالخيانة والتآمر مع الفرس. طلب بعدها البيزنطيون الصلح فقعدوا معاهدة صلح عند قبر القديس سرجيوس في الرصافة في العراق. لم يدم هذا الحال كثيرا،  فقد حاول المنذر الغساني إعادة توطيد العلاقات مع البيزنطيين بشن حرب أخرى على المناذرة، فاتهمه البيزنطيون بتحدي الإمبراطورية والكنيسة.

وفي أثناء حضور المنذر الغساني لافتتاح كنيسة جديدة، اعتقله البيزنطيون ونقلوه إلى القسطنطينية ومن ثم نُفي إلى جزيرة صقلية هو وعائلته وكان قد حكم 13 سنة تقريبا.

 

النعمان بن المنذر

غضب أبناء المنذر، الملك الذي تم نفيه، وقادوا تحت حكم ابنه الأكبر النعمان حربا ضد الحامية البيزنطية في بصرى وغنموا منها غنائم عظيمة واضطروا الحامية لأن تتخلى عن ذخائرها الحربية وقد كانت ثاني أكبر حامية عسكرية بعد حامية دمشق (نولدكه: 1933) وليس من المعروف كم بقيت المملكة على هذا الحال إلا أنه يرجح أن الأمور بقيت هكذا لوقت طويل. في النهاية، خطط البيزنطيون لحيلة أوقعت النعمان، فقد طلبوا منه القدوم إلى العاصمة أنطاكية للصلح ومن ثم قبضوا عليه وحبسوه ونفوه إلى صقلية عند والده.

بعد سجن المنذر والنعمان دعت الحاجة للاجتماع تحت راية قائد أردني غساني جديد وكان الحارث الأصغر بن الحارث بن جبلة وأخ المنذر بن الحارث هو القائد الجديد. وعقبه عدة ملوك  آخرين ولكن حكمهم كان أكثر محلية ولم تتوافر المعلومات الكثيرة عن حقبتهم، سوى ما سجّله المؤرخ الألماني نولدكه عبر استخلاصه أسماء الملوك اللاحقين من الشعر العربي القديم وقد وجد عبر تحقيقه التاريخي ستة أسماء لملوك أردنيين غساسنة: الحارث الأصغر بن الحارث الأكبر، الحارث الأعرج بن الحارث الأصغر، أبو حجر النعمان: حكم 583- 614 م. ، عمرو، حجر بن النعمان، جبلة بن الأيهم،  حكم سنة 635م.

ومن المتفق عليه أن جبلة بن الأيهم هو آخر حاكم أردني غساني فِعْلي، اذ انتهى حُكمه بعد أن انفضت عنه القبائل الأردنية وهزمته بعد قتالها إلى جانب جيش خالد بن الوليد في معركة اليرموك عام 363 وقد رحل للقسطنطينية ومات هناك.

غادرت الأسرة الغسانية الحاكمة المشهد السياسي في الأردن كأسرة مالكة وانخرط أفرادها في المجتمع وفي الدولة الأموية من بعد ذلك، ويقول المؤرخون أن الفرع الحاكم من الغساسنة قد تفرقوا من بعد نفي المنذر فبعضهم انضم للفرس وبعضهم انتخب كحاكم محلي وبعضهم انسحب من المشهد السياسي والديني.

الخاتمة

إنَّ المُلوكَ رُعاةُ النَّاسِ حينَ لهُمْ … ما كانَ في الأرضِ من عِزٍّ وسُلطانِ

كُنْ خيرَ راع إذا استرعاكَ ربُّهمُ … إياهُمُ ولنا كُنْ خَيرَ ما ثانِ[1]

يلخص الملك والشاعر الأردني الحارث الأعرج، سادس ملوك الغساسنة، رؤية الحُكم لدى أسرة الأردنيين الغساسنة التي حكمت الأردن لمدة 4 قرون، وبالطبع لو انفضاض عقدها الاجتماعي مع القبائل الأردنية وفُقدانها للشرعية السياسية مع الوقت لاستطاعت أن تحكم البلاد لفترة أطول.

المراجع

  • العيسي، سالم (2007) تاريخ الغساسنة، ط1، دار النمير. دمشق: سورية
  • نولدكه (1933)، أمراء غسان من آل جفنة، المطبعة الكاثوليكية، بيروت: لبنان
  • Shahid, I. Byzantine and Arabs in the sixth century, Political and Military music (1995), VOL1, P1, Dumbarton Oaks, Harvard University.

[1] المصدر: الشعر في بلاط الغساسنة، الهزاع (1994) ص 153

Scroll to top