مقدمة

أرخت عمان جدائلها، ولربما إن أمعنا النظر لكان لنا أن نرى في كل جديلة تاريخا تليدا. وقع اختيار الأردنيين عبر التاريخ على عمان مرارا لتكون واحدة من أبرز حاضراتهم إذ كانت ولا زالت مركزا حيويا مهما ومدينة تعيد رسم التاريخ الأردني البهي. في هذا البحث، سنتعرف على العاصمة الأردنية من جديد، وسنسلط الضوء على حقبة ذهبية عاشتها، حينما كان اسمها “مدينة الحب الأخوي فيلادلفيا”

ما قبل فيلادلفيا: موجز تاريخي

يعود تاريخ الوجود البشري في عمان للعصور القديمة ولأكثر من عشرة آلاف عام حيث خطا الإنسان الأردني الأول أولى خطواته نحو تأسيس أول مجتمع زراعي في العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري في موقع عين غزال. ولم تقتصر المكتشفات الأثرية على موقع عين غزال إنما امتدت لاكتشاف مواقع أثرية للثقافة النطوفية[1] (10-8 آلاف ق.م) ومواقع أثرية أخرى للثقافة الغسولية[2] أو الغسولينية وموقع تليلات الغسول جنوب البحر الميت. وتظهر هذه المواقع ثراء وتطورا كبيرا في الأدوات التي ابتكرها الأردنيون الأوائل إضافة لتطور أولى الممارسات الدينية كدفن الموتى وتقديس الجماجم والحيوانات وغيرها.

المواقد الحجرية الدائرية في موقع الشبيقة حيث وجدت بقايا الخبز. المصدر: موقع مشروع الشبيقة الآثاري وهو أحد مواقع الثقافة النطوفية في الأردن

منذ بداية العصر الحديدي الثاني (1200-330 ق.م.)  ظهر اسم عمون والذي اشتق منه اسم المدينة الحالي عمان. استقر الأردنيون العمونيون (1250 ق.م) في المدينة واتخذوها عاصمة لهم تحت اسم “ربة عمون” أي “عاصمة العمونيين”. تنتشر آثار العمونيين في ربة عمون، فنرى آثار جبل القلعة المطلة على وسط المدينة ماثلة أمامنا لتشهد على عظمة ما بنوه، إضافة لجبل القلعة، تنتشر الأبراج التي استخدمت لغايات دفاعية كبرج رجم الملفوف وبرج خلدا. وأكدت المسوحات الأثرية أن المدينة في ذلك العصر شُيّدت على 245 دونما قسمت مناصفةً بين القسم السفلي والعلوي من المدينة. (غوانمة: 1979)

صورة لتماثيل عمونية، متحف الآثار الأردني/ جبل القلعة

 

اتسمت المملكة الأردنية العمونية باقتصاد جيد معتمد على الزراعة والتجارة، وذلك لوفرة مصادر المياه ووقوعها على طريق التجارة الواصل بين الحضارة المصرية وحضارة بلاد الرافدين. وبسبب ذلك، كانت المملكة العمونية مطمعا لكل الحضارات المجاورة بما فيها الحضارة اليونانية والمصرية لذلك كانت محاطة بالأسوار والأبراج الدفاعية (غوانمة: 1979).

فيلادلفيا: التسمية والمكانة

مع اجتياح الإسكندر الكبير للمنطقة عام 333 ق.م بدأت المملكة الأردنية العمونية بالاضمحلال ككيان سياسي، و خضعت المنطقة للحكم الإغريقي وعند موت الإسكندر الكبير، اختلف ورثته بطليموس وسلوقيوس على الأردن، واستطاع السلوقيون السيطرة على المنطقة لمدة من الزمن، إلا أن البطالمة سرعان ما استطاعوا السيطرة على الأردن من جديد وبدأت حقبة جديدة في تاريخ المدينة. (غوانمة: 1979)

 دخلت المدينة حقبة جديدة، كما أسلفنا، في عهد الحاكم بطليموس فيلادلفيوس الثاني ابن الملكة كليوبترا السابعة والإمبراطور بطليموس الأول. حيث اعتلى عرش مصر عام 285 ق.م. وكانت حقبته تمثل أبهى عصور التلاقح الحضاري بين حضارتي المشرق والغرب، في جو ثقافي حيوي قل مثيله.

عملة ذهبية وجدت في فيلادلفا منقوش عليها وجه بطليموس فيلادلفيوس

تولع بطليموس فيلادلفيوس بربة عمون فأمر بإعادة بنائها وسماها تيمنا باسمه حيث انه اشتق من اسمه اسم المدينة –فيلادلفيا- وتعني الحب الأخوي في اللغة اللاتينية وهي مكونة من شقين فيلا (Phila) وتعني المحبة وديلفيوس (delphios) وتعني الأخوة.

 عام 218 ق. م. استعاد السلوقيون السيطرة على المنطقة واستطاعوا احتلال فيلادلفيا، بعد مدة طويلة من الحصار كادوا أن ييأسوا من دخولها خلاله، إلا أن أحد سكان المدينة وقع في أسرهم واستطاعوا أن يحصلوا منه على المدخل السري الذي تتزود منه المدينة بالماء، واستطاعوا قطع المياه عن المدينة التي استسلمت لاحقاً. (غوانمة: 1979)

واستمر حكم السلوقيين لفيلادلفيا، إلى أن سيطر أجدادنا الأردنيين الأنباط على المنطقة من البتراء جنوباً حتى دمشق شمالاً، وقد وجدت العديد  من الآثار الأردنية النبطية في فيلادلفيا واشتملت على الفخار الأردني النبطي عالي الجودة وتماثيل الآلهة والقبور النبطية كالقبر المكتشف عام 1943 في سفح منطقة جبل عمان (العابدي: 2009)

نماذج متنوعة من الفخّار النبطي الملوّن عالي الجودة

  ظل اسم فيلادلفيا ملازما للمدينة حتى انتهاء الحقبة الهلنستية ودخولها الحقبة النبطية التي انتهت باضمحلال المملكة الأردنية النبطية على يد الإمبراطور الروماني تاراجان، الذي غيّر طريق التجارة مما أضعف الاقتصاد الأردني النبطي. وبكل الأحوال، كان طريق تراجان الجديد يمر بفيلادلفيا فلم يتأثر اقتصادها إنما ازدهر. (غوانمة: 1979)

حلف الديكابولس

انطلقت فكرة الديكابولس في الحقبة الهلنستية لغايات تنظيمية سياسية، ومن ثم اكتسبت أهمية عسكرية عام 64 ق.م.  عندما اتخذها الإمبراطور الروماني بومبي كحصون دفاعية في المشرق. تعني “ديكا” العشر أما بوليس  فتعني “المدن” ومجتمعة تعني مدن الحلف العشرة. ضمت المدن العشر في البداية (جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى))  وكما نرى ثمان أردنية، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) وبيت راس.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة وثباتا ثمان منها أردنية

ظلت فيلادلفيا تتمتع باستقلال ذاتي نسبي في الحقبة الرومانية هي ومدن الديكابولس الأردنية الأخرى. حتى جاء  القرن الثاني الميلادي وما تلاه، عمد الأردنيون الغساسنة  إلى تأسيس حكومة مركزية تكون انطلاقة مملكتهم وتكون أيضا ممثلة عن أطياف الشعب الأردني الرافض للولاية الرومانية. فأسبغوا على هذه المدن صبغة تجارية وزراعية، فأصبحت مراكز لا مثيل لها، وظلت المدن والحواضر التي بنيت على أنقاضها مزدهرة حتى يومنا هذا. وكان ذلك لفيلادلفيا الواقعة على سيف البادية الأردنية الشرقية. لهذا اعتبرت فيلادلفيا المرفأ البري الأهم لكل القوافل التجارية القادمة من اليمن والصين والهند وروما ومصر (غوانمة: 1979)

فيلادلفيا مدينة المياه ومعدن الحبوب

إطلالة أخرى على نهر عمان- المصدر: مكتبة الكونغرس

تميزت فيلادلفيا بموقعها الاستراتيجي، فهي تقع في قلب الخطوط التجارية في العالم القديم؛ وهذا ما جعلها من أكثر مدن الديكابولس ثراء وازدهارا، حيث شكلت مجلسا خاصا للمدينة وصكت فيها نقودها الخاصة (أبو حمدان: 2016) إلا أن ما جعلها أكثر تميزا هو وفرة المياه فيها، خصوصا في وادي عمان، الوادي الذي بنيت على التلال السبعة المحيطة به المدينة القديمة والحديثة.

صورة لنهر عمان – المصدر: مكتبة الكونغرس

وصفت فيلادلفيا في المصادر التاريخية بكونها مدينة المياه، حيث احتوت على مصادر مياه متجددة وطبيعية. كان أهمها نهر عمان الذي سمي في بدايات العصر الحديث بسيل عمان العمومي وهو يمر في منتصف المدينة وفي سفح جبل القلعة ليصب في نهر يبوق (نهر الزرقاء)، وينبع من أحد جبال عمان وسمي منبعه برأس العين. يذكر أن هذا الرافد كان مصدرا مهما لمياه الشرب إضافة للري، حيث زرعت الأراضي حوله، والتي كانت مزروعة بالقمح بالكامل، وانتشرت مطاحن القمح في المدينة منذ القدم لتضيف لها لقبا آخرا وهو “معدن الحبوب” دلالة على إنتاجها الوفير من الحبوب (غوانمة: 1979)

الزرقاء 1900 إطلالة على وادي الزرقاء ونهر الزرقاء – مجموعة إرث الأردن الصورية

أما في جبل القلعة، مركز فيلادلفيا وربة عمون سابقا فقد وجدت العديد من البرك لجمع مياه الأمطار إضافة لوجود ممر مائي ضخم يصل جبلة القلعة في الوادي. (غوانمة: 1979)

بناء وتخطيط المدينة

بنيت المدينة على غرار تخطيط مدن الديكابولس والتي يشابه تخطيطها معكسر الجيش. حيث يأخذ التخطيط أقرب نقطة إلى الهيكل (هيكل هرقل في جبل القلعة) ويصير مركز المدينة ومن ثم يرصف شارعان كبيران متقاطعان في زاوية قائمة وعلى جوانبهما صفين من الأعمدة، وخلف الأعمدة يقام شارع مسقوف للمارة وعند تقاطع الشارعين وعند كل بوابة هنالك قوس نصر. يسمى الشارع الرئيس (ديكيومانوس) ورصف بموازاة نهر عمان والشارع الثاني يسمى (كاردو) ويسير من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي وكان مركز تقاطعهما قرب سبيل الحوريات ويسمى هذا التخطيط “هيبودامي” (أبو حمدان: 2016)

المدرج الروماني 1927

 وحتى عام 1860 كان هنالك شارع يمتد من منطقة راس العين حتى منطقة جسر رغدان ويقاطعه شارع آخر يأتي من طريق السلط (بعرض 37 قدم)  ليلتقي الشارعان في ساحة الجامع وسط المدينة. وكان هذا الشارع مزدانا بصفين من الأعمدة وعلى جانبه طريق آخر مسقوف (بعرض 16 قدم). وعلى غرار باقي مدن الديكابولس، فالشوارع مرصوفة ببلاط صخري أملس. وهنا نرى أن تخطيط فيلادلفيا الأول استمر حتى العصر الحديث. (العابدي: 2009)

أما بالنسبة للخطوط التي تصل فيلادلفيا بغيرها من المدن فهي ثلاث طرق رئيسة الأول قادم من جراسا (جرش) عابرا سيل الزرقا والرصيفة ومن ثم يدور حول الجبل حتى يصل ماركا ومن ثم فيلادلفيا. الثاني طريق فيلادلفيا-القدس وقد أقيم في عهد الإمبراطور أنطونيوس بيوس في القرن الثاني ميلادي. والثالث هو طريق فيلادلفيا إلى الجنوب والذي سارت عليه سكة القطار العسكري العثماني ( سكة الحديد ) في عهد الاحتلال العثماني. (أبو حمدان: 2016)

وكانت فيلادلفيا محاطة بسور دفاعي قوي اندثرت معالمه بفعل الزمن. (غوانمة: 1979) ومن المتوقع أن المدينة توسعت عدة مرات لتغطي المساحة الواقعة ما بين نهر الزرقاء ونهر الأردن ويقطعهما نهر عمان. ويصعب الوصول لمعلومات أكثر دقة عن المدينة وتخطيطها وطبوغرافيتها بسبب وقوعها في الوادي بجانب نهر، الذي بلا شك، ساهم فيضانه بمحو وطمس آثار المدينة (غوانمة: 1979)

نقود الفيلادلفيين

لتمتع فيلادلفيا باستقلال ذاتي، كان لابد لها من صك نقودها الخاصة. في نقود ومسكوكات وجدت في عدة مواقع أثرية في المدينة، كانت عبارة “نقود للفيلادلفيين” منقوشة عليها باللغة اليونانية. وقد وجدت عدة نقود أخرى تحمل صورة أباطرة الرومان مثل طيطوس وأدريانوس وأوريليوس وفيروس وكوموذس وكركلا واليوغابل وأنسنازيوس. (العابدي: 2009)

عملة صكت في فيلادلفيا حصرا، “تدرا دراخما” أي عشرة دراهم”

 قد وجدت عملة “تدرا دراخما” أي عشرة دراهم في قصر العبد في عراق الأمير. ولهذه العملة أهمية كبيرة إذ أنها ضربت من الفضة وقد وضع عليها صورة بطليموس  فيلادلفيوس الشخصية مما يدل أنها العملة الرسمية في تلك الحقبة، أما جمالياً فقد تميزت هذه العملة من جهة بصورة بطليموس التي احتوت طابع البعد الثلاثي إذ يمكن ملاحظة تقاسيم الوجه النابزة على العملة، ومن الجهة الأخرى فقد ضُربَ النسر البطلمي التقليدي –نسر زيوس-  كبير آلهة الإغريق.

تتنوع النقوش على عمل فيلادلفيا، وغالبا ما كانت صورا للأباطرة أو رسوما للآلهة كالإله هرمس والإله مركور إله الفنون والتجارة. ونجد في بعضها صورة الآلهة مينرفا آلهة الحكمة والفنون، ونلحظ أيضا كثرة تواجد عنقود العنب على المسكوكات أو على الآثار بشكل عام، حيث كان عنقود العنب رمزا محببا في فيلادلفيا دلالة على الخير والخصب. (العابدي: 2009)

الدين في فيلادلفيا

رأس تايكي المعروض في متحف الأردن

مرت فيلادلفيا بمرحلتين أساسيتين يمكن تصنيف الدين فيهما: الأولى وثنية والثانية مسيحية. في الحقبة الهلنستية والرومانية شاعت عبادة الآلهة الرومانية واليونانية كالآلهة أثينا المنحوتة من الرخام وهي آلهة الحرب، كما حضرت آلهة الأولمب بشكل عام في التماثيل والنقوش والمسكوكات. أما في الحقبة الرومانية فكان إله فيلادلفيا الأهم هو هرقل أو (هيركليس) الذي أقيم له هيكل ضخم للغاية على جبل القلعة، كما عبدت الآلهة تايكي وهي آلهة الحظ والرعاية والسعادة وقد عثرت دائرة الآثار العامة في حفريات 1957 على تمثالها المنحوت في القرن الثاني ميلادي.[3] (غوانمة: 1979)

منظر عام لمعبد هرقل في جبل القلعة عام 1950
قبضة يد هرقل الرخامية الضخمة كما تظهر في أعالي جبل القلعة قرب هيكله

أما الحقبة الثانية فهي حقبة المسيحية وكانت شديدة الازدهار في فيلادلفيا، نظرا لكونها واحدة من مدن الديكابولس التي رعاها الأردنيون الغساسنة. اعتنق الأردنيون الغساسنة المسيحية على المذهب المونوفيزي وكانوا مؤمنين مخلصين، وقد جاهد حكامهم أمثال الحارث الأردني الغساني لإيقاف اضطهاد البيزنطيين للمسيحين في المشرق.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

وبوصفها مدينة ذات حكم ذاتي كان لها أبرشيتها الخاصة وقد حضر مجمع نيقية[4] وخلقدونية[5] عدد من أساقفة فيلادلفيا. (MacAdam: 1992) وازدادت أهمية أسقفية فيلادلفيا مع الزمن حتى تحولت إلى بطركية، فبعد موت بطريرك بيت المقدس انتقل مركز البطريركية إلى يافا ومن ثم إلى مدينة دورا إلا أن بطريركية فيلادلفيا كانت هي المسؤولة عن شؤون مسيحي بيت المقدس.  (غوانمة: 1979) كما كانت فيلادلفيا مركزا لأبرشية البترا، وتذكر بعض المصادر التاريخية أن مطران حسبان قد تسلم رسالة من بابا بطريركية أنطاكيا يعلمه فيها أنه عين أسقف فيلادلفيا نائبا عنه (العابدي: 2009)

قدمت فيلادلفيا العديد من شهداء الاضطهاد الديني الذي مارسته الإمبراطورية الرومانية على المسيحيين في القرون الميلادية الأولى ومنهم من خلد اسمه إلى الآن. وتذكر المصادر التاريخية قصة ستة شباب اجتمعوا للصلاة وقد وشى بهم أحد ما فأخذوا وعذبوا ونقلوا إلى سجن فيلادلفيا وتم إعدامهم هناك (MacAdam: 1992) إضافة لهؤلاء الشباب الستة كان هنالك شهداء وقديسون من فيلادلفيا وأهمهم إليان (إيليانور أو إيليانوس) العماني والقديسان زينوس وزينان.

القديس إليان العمّاني 

تصوير للقديس إليان العمّاني

من فيلادلفيا انطلقت تمجيدات القديس الأردني إيليان العمّاني الذي استشهد بعد رفضه تقديم القربان للإله خرونس في جرش. كان للقديس العمّاني دكان قرب كنيسة جرش يحيك فيها الثياب وعندما بدأ الإمبراطور ماكسيموس (245- 313) بجمع الناس لاضطهادهم وإجبارهم على تقديم القرابين كان القديس من ضمنهم ورفض ذلك فقيّدوه، وتذكر الروايات الدينية عدة معجزات على تحرر القديس من قيوده وعلى نطق الوثن أمامه. استشهد القديس في الثامن والعشرين من تشرين الثاني حافرا اسمه في سجل شهداء الأردن المبجّلين. (MacAdam: 1992)

 

القديسان زينون وزيناس

(القديسان زينون وزيناس، من رسم جداري في كنيسة الراعي الصالح في مركز سيدة السلام، عمان، الأردن)

في عهد الإمبراطور ميكسيمانوس الذي أمعن في الاضطهاد الديني وفي منطقة زيزياء جنوب فيلادلفيا، وقف زينون أمام ظلم الإمبراطور وإجباره للشعب على الوثنية. أما زيناس فهو خادم وتلميذ زينون وقد عذبا بطريقة وحشية ونالا “إكليل الشهادة والخلود” سويا. سطر القديسان مثالا في القوة والصمود يحتذي به الأردنيون حتى اليوم. (MacAdam: 1992)

الكنائس

نظرا للأهمية الدينية التي تمتعت بها فيلادلفيا كان لا بد أن تنتشر الكنائس فيها، رافق انتشار الكنائس انتشار فن الفسيفساء الذي استخدم لإضفاء لمسة جمالية على أرضية الكنيسة. اشتهرت كنيسة البازليكا وهي نمط معماري مستطيل الشكل.

نقش كنيسة نتل الغسانية وقد كتب باليونانية ويقرأ “أوه يا حارث يابن الحارث” والمقصود الملك الأردني الغساني الحارث ابن مارية

وجدت العديد من الكنائس الأثرية، ككنيسة مارجاورجيوس في اللويبدة، التي اكتشفت في ساحة بيت السيد عبد الله الحمود. كما اكتشفت ثلاثة كنائس من القرن الخامس على أطلال نهر عمان. كما اكتشف كنسية كرسي الأسقف التي لا تزال بقايا جدرانها وأعمدتها الرخامية موجودة ومبعثرة. (العابدي: 2009)

الآثار في فيلادلفيا

أدخل لفيلادلفيا عبر العصور أنماط معمارية جديدة هلنستية ورومانية، فبنيت فيها الحمامات والملاعب والمسارح والساحات العامة والهياكل الوثنية وكما ناقشنا في فصل تخطيط المدينة فقد أعيد تخطيطها وتوسعتها بشكل كبير.  تعد أغلب آثار فيلادلفيا مرافق اجتماعية وترفيهية تعنى بالاجتماعات الثقافية الكبيرة كالمسارح ودور الموسيقى والملاهي والحمامات إضافة إلى المدافن العائلية التي تدل جميعها على مقدار الرخاء الذي عاشه الأردنيون في المدينة. وفيما يلي استعراض لأهم وأبرز الآثار المكتشفة في فيلادلفيا.

جبل القلعة

عمان كما نراها من جبل القلعة 1944

تقع آثار جبل القلعة على واحد من جبال المدينة الشوامخ، يسمى الجبل جبل الطهطور والطهطور هو رجم الحجارة الذي عبده العمونيون. كان الجبل محاطا بسور دفاعي أسس في زمن بطليموس فيلادلفيوس (285-257 ق.م.) تظهر آثاره إلى اليوم،  تعاقبت الحضارات على جبل القلعة منذ العصور الحجرية، واتخذه العمونيون مركزا لعاصمتهم، كما كان مركز مدينة فيلادلفيا. فلذلك يحوي الجبل عدة آثار تتبع لعدة عصور، فوجدت تماثيل عمونية وأدوات تعود للعصر الحجري، كما وجدت المساكن البيزنطية وهيكل هرقل إله فيلادلفيا مكان إله العمونيين السابق ذكره، ونرى يد هرقل الرخامية الضخمة على قمة الجبل إضافة لبقايا الأعمدة الكورنثية والبوابة التي ظلت حتى عام 1911. (الغوانمة: 1979)

إطلالة على هيكل هرقل
نموذج ثلاثي الأبعاد لهيكل هرقل كما يعتقد أن يكون

وفي جبل القلعة العديد من الكهوف التي تعود للعصور الحجرية ولكن أعيد استخدامها كمدافن في العصر الروماني. كما تنتصب بعض الجدران التي تحوي محاريبا كانت توضع فيها تماثيل الآلهة. وفي جبل القلعة هيكل آخر لعبادة فينوس (الزهرة) آلهة الخصب والجنس والذي أمر ببنائه الإمبراطوران بيوس وأوريليوس ومن ثم تحول إلى كنيسة العذراء مريم وقد تهدم الهيكل بفعل زلزال عام 747 م.

الحمام (سبيل الحوريات)

سبيل الحوريات – عمان – 1879

يشكل بناء الحمام في فيلادلفيا مزيجا من الجمنازيوم (القاعة الرياضية) والحمام الساخن وأحواض السباحة والنوافير ذات الشكل الجمالي. وسبيل حوريات فيلادلفيا يتبع هذا النمط مما يجعله شديد التميز والجمال. وكما أسلفنا، فقد كانت فيلادلفيا مدينة المياه وتميزت بهذا الحمام الذي ارتاده الأردنيون في فيلادلفيا لغايات الترفيه والاستجمام. (العابدي: 2009)

المدرج والساحة

 يعد المدرج الروماني الذي يتوسط قلب عمان أحد أهم آثار المدينة، بني على شرف الإمبراطور أنطونيوس بيوس (138-161 م) وتشير إلى ذلك اللوحة المثبتة على المدخل المنقوشة باليونانية. يقع المدرج على السفح المقابل لجبل القلعة، وبني عن طريق اقتطاع الصخر على شكل نصف دائرة. المدرج مقسم لثلاثة أقسام، القسم الأول يحوي 15 صفا لعلية القوم ويحوي هذا الصف أيضا ثلاثة مداخل ومخارج للمشاهدين، والقسم الثاني يحوي 14 صف أما الثالث فيحوي 17 صفا وهو لعامة الشعب. وفي المدرج ممرات للمشاهدين وثلاثة بوابات تنفذ إلى ساحة الفورم وشارع الأعمدة. يتسع المدرج لعشرة آلاف متفرج ومهو مصمم بطريقة توزع الصوت. أطلق على المدرج عدة أسماء في العصور اللاحقة فبعض المؤرخين العرب أسموه مدرج سليمان والبعض الآخر أسموه مدرج فرعون. (الغوانمة: 1979)

إطلالة على المدرج الروماني عام 1880

أقيم في المدرج الاحتفالات الوثنية في البدء ومن ثم بدأ يأخذ المسرح غايات تثقيفية وترفيهية أخرى، كعرض المسرحيات والمبارزات والمصارعة وغيرها. أما أمام المدرج فكانت الفورم أو الساحة، بطول 180 قدما، تستخدم لغرض استقبال القوافل التجارية والاجتماعات العامة  (العابدي: 2009)

الملهى أو قاعة الموسيقى

شرق المدرج الكبير يوجد مدرج صغير (بقطر 38 متر ويتسع لستمائة شخص) مختلف قليلا في الشكل والحجم عن المدرج الكبير. يرجح أن هذا المبنى هو الملهى أو قاعة الموسيقى. كان المبنى مسقوفا ويتجه تجويفه نحو الغرب على عكس المدرجات الأخرى التي تتجه نحو الشمال.

الأوديون كما يظهر من جبل القلعة

قسم المدرج الصغير إلى درجتين، تحوي العلوية على سبعة صفوف والسفلية على اثني عشر صفا، إضافة لثلاثة ممرات طويلة. وله خمسة بوابات. بني هذا الملهى في القرن الثاني الميلادي وكان يستخدم للقراءات الشعرية والمسرحيات الدرامية الخاصة بالطبقة المثقفة في فيلادلفيا. (الغوانمة: 1979)

قبو السيل

شاهد العديد من المؤرخين أمثال كوندوز بقايا نهر عمان والقناطر الرومانية التي كانت تعتليه. عام 1881، تم توثيق آخر 100 متر من هذه القناطر، ويوصف هذا العمل بأنه إبداع هندسي لا مثيل له في فيلادلفيا، حيث كانت القناطر تغطي النهر من منبعه في راس العين إلى منطقة رغدان. (العابدي: 2009)

سيل عمان 1890 وما تبقى من القناطر الرومانية فوقها

المقابر والأضرحة العائلية

منظر عام لوسط مدينة عمان ويظهر في الصورة بقايا ضريح روماني قديم والمدرج الروماني وخلف المدرج الروماني جبل الجوفة وجبل التاج عام 1930

انتشرت المقابر والأضرحة العائلية كدلالة على الثراء والرفاه الذي عاشه الفيلادلفيون. وقد اكتشفت أربعة مدافن رئيسة في المدينة:

ضريح نويجيس: في الطريق إلى خربة طبربور وعين غزال، تقع خربة نويجيس أو “قصر النواقيس” الذي يعود إلى القرن الثاني أو الثالث ميلادي. وترتفع قبته المزينة منطلقة من الجدران الأربعة المزينة بشتى أنواع الزخارف النباتية والحيوانية. (العابدي: 2009)

ضريح النويجيس

القويسمة: تقع قرية القويسمة التي تعود إلى العصر البيزنطي جنوب العاصمة عمان. اكتشفت في هذه القرية لوحات فسيفسائية رائعة الجمال، كما يوجد فيها بناء يسمى “قصر السبع” وهو بناء مستطيل يرتفع جداره عشرين قدما بمساحة 33 متر يعود للقرن الثاني ميلادي. في القصر تابوت مزخرف لطفل. وقد كشفت تنقيبات دائرة الآثار عامل 1967 عن وجود درجات حجرية على جانبها مذبحان، ينتهي الدرج بفتحة باب قليلة الارتفاع لإدخال الميت. (العابدي: 2009)

مدفن الدوار السادس: عام 1982 بدأ العمل على تنقيبات مدفن الدوار السادس في عمان قرب المركز الأمريكي للدراسات، اكتشف في المدفن 11 تابوت حجري والبناء مربع بأبعاد 190 سم × 190 سم.[6]

مدفن الجوفة: اكتشف هذا المدفن أثناء عمليات حفر الصرف الصحي في الجوفة، ويتميز بجدارياته الملونة التي تصور معجزة المسيح في إحياء الموتى. المدفن عبارة عن حجرة صغيرة بأبعاد لا تتجاوز الثلاثة متر وجدرانه مغطاه بالجص. [7]

مدفن خربة عثمان: اكتشف هذا المدفن في منطقة خلدا أثناء عملية تجهيز لبناء منشأة سكنية عام 2002، الحجرة بأبعاد 60× 180 سم. كما اكتشفت حجرات أخرى لاحقا تحوي عدة توابيت وأسرجة للإنارة وفخار ونقوش متنوعة. [8]

خاتمة 

فيلادلفيا معدن الحبوب ومدينة المياه ومدينة الحب الأخوي، لا زالت إلى اليوم تحمل ألقابها ببهاء. تقيم عمان العاصمة الحديثة على ذات الأرض التي سخرها الأردنيون عبر التاريخ منذ العصور الحجرية إلى الحقب الكلاسيكية وحتى يومنا هذا.

المراجع العربية

  • الغوانمة، يوسف (1979) عمان حضارتها وتاريخها، دار اللواء: عمان
  • أبو حمدان، تيسير (2016) فيلادلفيا المدينة والفندق، دار أزمنة: عمان
  • العابدي، محمود (2009) عمان ماضيها وحاضرها، منشورات وزارة الثقافة الأردنية
  • بطليموس المخلص، أبحاث إرث الأردن المنشورة انظر http://jordanheritage.jo/ptolemy-the-saviour/
  • أبو شميس، أديب (2003 ) اكتشاف قبر بيزنطي مبكر في خلدا خربة عثمان، حوليات دائرة الآثار الأردنية
  • زيادين، فوزي (1982) حفريات جبل الجوفة- مدفن روماني مزين بالرسوم الملونة، حوليات دائرة الآثار الأردنية
  • الرشدان، وائل (1984) قبر روماني في منطقة الدوار السادس، حوليات دائرة الآثار الأردنية
  • تدرا دراخما- عمان مدينة الحب الأخوي، أبحاث إرث الأردن المنشورة، انظر http://jordanheritage.jo/ammanphelphdlios/
  • العاصمة الأردنية العمونية-ربة عمون، أبحاث إرث الأردن المنشورة، انظر http://jordanheritage.jo/ammonit-capital/
  • الفخار الأردني النبطي، أبحاث إرث الأردن المنشورة، انظر http://jordanheritage.jo/nab-pottery/
  • الأردنيون الغساسنة: الترف الحضاري والحرية والعقلية العلمية، أبحاث إرث الأردن المنشورة انظر http://jordanheritage.jo/social-life-of-the-ghassinids/
  • الأردنيون الغساسنة: مدخل عام، أبحاث إرث الأردن المنشورة http://jordanheritage.jo/ghassanid-an-introduction/
  • الدين عند الأردنين الغساسنة: المسيحية كثقافة وحضارة غسانية، أبحاث إرث الأردن المنشورة انظر http://jordanheritage.jo/christianity-and-the-ghassanids/
  • الدين عند الأردنيين الغساسنة: مدخل عام، أبحاث إرث الأردن المنشورة http://jordanheritage.jo/ghassanids-religion-introduction/

المراجع الأجنبية:

-MacAdam, H., Bowsher, J. and Hubner, U (1992) Studies on Roman and Islamic Amman, VI, The British institute in Amman for Archeology and History

[1] اسم لثقافة سادت في العصر الحجري امتازت بقرى ومساكن حجرية على شكل تكتلات تحوي 200 فرد تقريبا، للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9_%D9%86%D8%B7%D9%88%D9%81%D9%8A%D8%A9

[2] الحقبة الغسولينية أو الغسولية أو الغازولية هي مرحلة ثقافية وتاريخية تعود إلى أواسط  العصر النحاسي وأبرز مواقعها هو موقع تليلات الغسل الأثري في وادي الأردن جنوب البحر الميت، للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9_%D8%BA%D8%B3%D9%88%D9%84%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9

[3] انظر: حولية دائرة الآثار العامة، مجلد 4/5 لسنة 1960، ص23

[4] مجمع نيقية الأول أو المجمع المسكوني الأول هو أحد المجامع المسكونية السبعة وفقا للكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة وأحد المجامع المسكونية الأربعة، سُمي مجمع نيقية بهذا الاسم نسبة إلى مدينة نيقية التي عُقد فيها

[5] انعقد سنة 451م يُعتبر من أهمّ المجامع، إذ نجم عن هذا المجمع انشقاقٌ أدّى إلى ابتعاد الكنائس المشرقيّة عن الشراكة مع الكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة الذين يرون أن مجمع خلقيدونية هو المجمع المسكوني الرابع

[6] راجع حولية دائرة الآثار الأردنية 1984

[7] راجع حولية دائرة الآثار الأردنية 1982

[8] راجع حولية دائرة الآثار الأردنية 2003

مدن الديكابوليس الأردنية: فيلادلفيا مدينة الحب الأخوي

Scroll to top