مقدمة

تعتبر العادات والتقاليد جزءاً من الإرث الإنساني للمجتمعات والحضارات وتستغرق مئات السنوات لتراكم هذه العادات، والتي تتأثر بالظروف المحيطة والتغيرات التي تطرأ على المنطقة سواء كانت هذه التغيرات والتحولات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، ومن خلال تحليل هذه العادات والتقاليد وفهمها ووضعها في سياقها الصحيح يمكن للباحث والمهتم الحصول على فهم أوسع لتركيبة وبنية المجتمع للتمكن من قراءة الأمور بصورة أوضح، وضمن سلسلتنا البحثية المتعلقة بالهوية الغذائية الأردنية رأينا أن المشهد لن يكتمل بدون استعراض طبيعة العلاقات الانسانية في المجتمع الأردني والتي يمكن تلمّسها من خلال المناسبات المجتمعية، أما الحديث عن العادات والتقاليد فهو نابع من ضرورة التمييز بين كل منهما وتفصيلهما وعدم الخلط بينهما رغم أن المصطلح غالباً ما يستعمل بشكل مركب للدلالة على أشياء بينها تفاوتات، وهنا نستعين بما أورده العلاّمة والمؤرخ الأردني العظيم روكس بن رائد العزيزي من توضيح وتبيان لهذا الخلط، فيقول علّامتنا:

“إن التقليد وفقاً لمعجم المحيط يعني إتباع إنسان غيره في ما يقول، أو ما يفعل، من غير نظر ولا تأمل في الدليل، اتباع إنسان غيره في ما يقول، أو ما يفعل، من غير نظر ولا تأمل في الدليل، كأن هذا المتبع جعل قول الغير، أو فعله، قلادة في عنقه، وربما عرّف التقليد بأنه اعتقاد جازم، غير ثابت، يزول بتشكيك المشكك، والتقاليد، غير العادات، لأن العادات هي ممارسات في مناسبات معينة، كعادات القوم في أفراحهم، وفي أحزانهم، وتلك العادات إذا حللناها وجدنا أنها نشأت لغرض يحقق منفعة، أو يدفع ضرراً,,

وفي هذا البحث نستعرض أهم العادات الأردنية في المناسبات والطقوس الاجتماعية التي كانت و/أو ما زالت تشكل جزءاً من أسلوب حياة الأردنيين، ونسلط الضوء بشكل خاص على العادات المتعلقة بالجانب الغذائي، بينما يتم تناول هذه المناسبات بالتفصيل من ناحية علوم اجتماعية في أبحاث أخرى.

  • المشاعر الإنسانية:

قبل الحديث عن المناسبات لا بد من التطرق للمشاعر الإنسانية والتي كانت العامل الأول خلف هذه المناسبات وينعكس نتيجة لذلك السلوك الإنساني الذي أصبح يشكل ما يعرف بالعادات المتعلقة بهذه المناسبات ووسيلة للتعبير عن هذه المشاعر، ويرجع مفهوم المشاعر الأساسية أو الأولية إلى كتاب الطقوس (The Book of Rite) على الأقل، وهو موسوعة صينية تعود الى القرن الأول، وقد حدد الكتاب سبعة مشاعر للإنسان وهي الفرح والغضب والحب والكره والإعجاب والخوف والحزن. وفي القرن العشرين حدد Paul Ekman ستة مشاعر أساسية وهي الغضب والاشمئزاز والحزن والاندهاش. وحدد Robert Plutchik ثمانية مشاعر وقسمها على أربع مجموعات زوجية متضادة وهي (الفرح والحزن – الغضب والخوف – الثقة والارتياب – الاندهاش والتوقع).

  • ويسود الاعتقاد بأن المشاعر الأساسية تطورت في الاستجابة لتحديات البيئة التي واجهت أسلافنا القدماء، وهذه مشاعر بدائية مترابطة مع كل شعور أساسي يقابله دائرة عصبية مميزة وخاصة، وهذه المشاعر الأساسية المترابطة (أو ما تسمى ببرامج التأثير) هي فطرية وشاملة وتلقائية ومحفز عالي لسلوك قيمة البقاء، ويمكن أن يقال عن المشاعر الأكثر تعقيداً مثل التواضع والحنين والتي على سبيل المثال لا تنسب إلى الرُضّع والحيوانات، أي أنه وبتطور هذه المشاعر يمكن الاستدلال على تطور وحضارة المجتمعات الإنسانية، وفي ما يلي من البحث سنستعرض أهم المناسبات والطقوس الاجتماعية الأردنية محاولين تأطيرها ضمن هذه المشاعر من خلال ربطها بسلوكيات معينة مثل الذبح وإعداد الطعام، حيث تعرفنا في بحث ميثولوجيا الضيافة الأردنية سابقاً بإيجاز على أنواع الذبائح وبعض الحالات التي يصبح الذبح فيها واجباً إنسانياً يمتدح فاعله ويذم تاركه، وسنحاول هنا أن نقوم بالاستدلال على السلوك الغذائي للأردنيين في مناسباتهم الاجتماعية من خلال إعادة النظر في مناسبات هذه الذبائح وتوزيعها على المناسبات باعتبارها وسيلة على أهميّة هذه المناسبة التي تجعل من الأردني يتنازل عن إحدى أهم مصادر الانتاج التي يمتلكها ويضحي بها في سبيل هذا الحدث ذو الأهمية والقيمة المضافة لحياته.
عمان 1935 فاردة – مسيرة – عرس الأمير طلال ونشاهد الأعلام الأردنية، فيما الحرس والكشافة ينظمون المسير في اجواء احتفالية
  • الفرح:

يعتبر التعبير عن الفرح والسعادة الشعور الإنساني الأسمى نتيجة لما يرتبط فيه من مشاعر ايجابية يحاول الانسان التعبير عنها ومشاركتها مع من يحب وينعكس ذلك على من حوله حيث سيحاول جاهداً جعلهم سعيدين مثله، مما يخلق مناخاً معدياً من الفرح، ولهذا فقد تنوعت مناسبات الفرح والسعادة في أسلوب الحياة الذي طوره الأردنيون عبر السنين، واختلفت معه طقوس هذا الفرح وآلية التعبير عنه وإشراك الناس في متعة تقاسمه، ولعله من أهم الطقوس المتعلقة بالفرح هو الزواج، وهي المؤسسة الأسريّة التي تضمن استمرار هذا الفرح وإعادة إنتاجه وتجسيده في الأبناء الذين يأخذون شكل هذا الفرح فيكبرون وينضجون ويتعلمون ويتخرّجون في سلسلة مستمرة من حلقات الفرح، وهنا نستعرض أهم هذه المناسبات ومكانتها في المطبخ الأردني والهوية الغذائية:

  1. الخطبة: إن مراسم الزواج في الأردن طويلة وليست بالشكل المتعارف عليه في كثير من الدول والثقافات، وتبدأ هذه المراسم بالطلبة وهي إحدى مراحل الخطوبة وتعني إرسال جاهة من أهل العريس لبيت والد العروسة، وتبدأ المفاوضات والقهوة عنوانها ومفتاحها، ولعل المهر هو النقطة المحورية في هذه المفاوضات وهو في الأصل لا يطلب إلا من غير الأقارب، والغرض منه أن العادة جرت أن يتم تزويج الفتاة لأبناء عمومتها، إلا أنه وفي حالة رغبة غريب من الزواج بها فيطلب منه المهر كوسيلة لرفضه أو تعجيزه، فيقوم هو بالمقابل بإثبات وبرهنة استحقاقه لهذه الفتاة من خلال التضحية الماديّة أو المعنوية، ولما كانت الظروف أقل استقراراً وفي حالة غياب الدولة – في عهد الاحتلال العثماني تحديداً- كان من الطبيعي أن يكون مهر الفتاة مبالغاً فيه في تكلفته أو في خطره على حياة العريس نفسه، كأن يطلب من العريس رأس فلان أو خيل فلان وهكذا، وقد يكون المهر المادي مالاً أو قمحاً أو عدداً من المواشي أو الإبل لما كان لها من قيمة في الثقافة الانتاجية، وكان من المتعارف عليه أن أهل العروس يجب أن يذبحوا للجاهة ويقوموا بإكرامهم والإيلام لهم لما بذلوه من جهد في هذه الوساطة سواء كان للزواج أو المصالحة بين طرفين.

 ثم الخطبة التي يرافقها ما يرافقها من مراسم القهوة والتحلية ويذبح في ليلة الخطبة “ذبيحة الصفاح”، ويتبع ذلك ما يسمى “النصّة” وهي فترة 7 أيام كان يتم نشر ملابس العروسين على الحبال طوال هذه الفترة، ثم تم الاكتفاء بعرض ملابس العروس وتجهيزها لصديقاتها وقريباتها قبل موعد الزفاف والذي كانت تبدأ الاحتفالات به قبل أيام تعرف بأيام “التعليلة” تقدم خلالها المشروبات الساخنة ليلاً والهيشي – التبغ – والحلويات وبعض الأطعمة أحياناً.

  1. الزفاف: وصولاً ليوم العرس والذي يكون القطار/الفاردة أحد أهم أركانه خصوصاً عندما تكون العروس من منطقة أخرى، فيخرج أهل العريس ومحبين بعد تناول الغداء في مضارب القبيلة، لتصل إلى مضارب أهل العروس والذين يكونون بدورهم قد ذبحوا لضيوفهم وقاموا بإكرامهم، ولا تنتهي الحكاية هنا، فالمتعارف عليه أنه وفي حال كانت المسافة بعيدة ومر القطار بجوار مضارب عشيرة ثالثة فمن الواجب على هذه القبيلة أن تقوم بالذبح وتحضير الطعام للقطار، ويسمى القطار في رحلة العودة ومعه العروس بـ “الفاردة” وتتضمن طقوس الاحتفال ما تتضمنه من رقصات وأهازيج شعبية، مثل السامر والدحيّة والمهاهاة والمحاشاة والترويد، ويسمى طعام يوم العرس “القرى” وهي عادة قديمة تعود لفترة الأردنيين الغساسنة وما سبقهم وتكون غالبا بالذبح وطهي المناسف وتقديمها للحاضرين سواء أثناء أيام التعليلة وبالأخص يوم الزفاف، ويلتزم الحاضرون والمشاركون بتقديم “النقوط” وهي مساهمة معنوية أو ماديّة، بتكاليف العرس التي تكون باهظة في الغالب نظراً لطول فترة الاحتفال، فيقدّم الناس النقود أو الذهب أو المواد الغذائية والإنتاجية مثل الماعز والقمح وغير ذلك، على أن يكون ذلك بمثابة نظام تكافل اجتماعي، بحيث يصبح هذا النقود ديناً على من يستلمه ويقوم بسداده في مناسبة مماثلة.
عمان 1935 نحر الجمال وسلخها لتحضير الولائم لضيوف حفل زفاف الأمير طلال بن عبدالله – الملك لاحقا – ونلاحظ بالخلفية مصابيح معلقة على أعمدة لإنارة الشوارع

وقبل دخول العريس بعروسه يذبح ما يعرف بـ “ذبيحة الحليّة” بنية أن تحل له العروس، وتتبع أيام ما بعد العرس العديد من المراسم الغذائية، فالإفطار الذهبي الذي يحصل عليه العروسين صبيحة يوم الزفاف يسمى الصبحة/الصباحية، ويقوم أهل العروس بأخذ الطعام والحلويات ويقومون بزيارة ابنتهم بعد أيام من زفافها فيما يعرف في بعض المناطق بـ “اللحقة” وبعد ذلك تقوم العروس ونساء عائلة العريس بزيارة أهلها وأخذ بعض الحلوى فيما يعرف محلياً بـ “الزورة/الزوارة” فيذبحون لها “ذبيحة الزوارة” وهو عادة ما يكون خروفا تقوم بأخذه معها فيقومون بذبحه وصنع الطعام لها ولعريسها وتعود في المساء لبيت زوجها محمّلة بالهدايا أيضاً، ويستمر استخدام الطعام لجلب المحبة ودفع البغض حتى في العلاقة بين الزوجين، فذبيحة الحلية / أو ما تعرف بذبيحة الرضاوة جزء من عملية المصالحة في حال أصاب العلاقة بين الزوجين أي نفور.

  1. الإنجاب: وطقوس هذه المناسبة كثيرة تبدأ أثناء الحمل والإنجاب، والعقيقة التي يتم ذبحها كطقس غساني أردني قديم ورثه المسلمون والمسيحيون حالياً وتتشابه أحياناً مع ذبيحة الختان “الطهور” عند المسلمين أو “التعميد” عند العائلات المسيحية، وتسمّى أحياناً ذبيحة “الولد”، وتسمى المرأة في حالة الولادة ”حورية“، وفي أول يوم من ولادتها تقوم إحدى قريباتها بإعداد ”قرص البيض“، حيث تعجن كمية من الطحين بالبيض والبصل المقلي بالسمن ويخبز على الصاج ويقدّم لها، كما أنها تأكل طول فترة نفاسها نبتة “الزقيطة” الخضراء التي يتم تجفيفها وتخزينها خصيصاً لهذه المناسبة فيتم قليها بالسمن مع البصل والبيض وتقدم للحورية، وتعمل ”اللزاقيات والزلابية“ كحلوى تقدم بهذه المناسبة، كما يتم تقديم مشروبات القرفة والحلبة والشاي والقهوة للسيدات اللواتي يقمن بزيارة الأم التي وضعت مولودها الجديد.
  2. التسنين: عندما تبدأ أسنان الطفل بالظهور تقوم والدته بسلق كمية من القمح وتضعها في وعاء وترش عليها السكر وتسمى” السنينة“، وتدعو عليها جاراتها وقريباتها، وتقدمها لهن فيأكلنها ويشربن معها القهوة، ولا يشارك الرجال بهذه المناسبة.
  • الحزن والمحن:

درجت العادة أن يخفي الأردني حزنه وأن يحاول أن لا يظهره إلاّ في أمر جلل، وحتى في أسوأ المواقف وأشدها ألماً وحزناً ستجد الأردني متلصماً في شماغه كوسيلة لمداراة هذا الحزن، فالأصل كان في فترة غياب الدولة والقانون أن الأردني يخفي حزنه ويصبر حتى يأخذ بثأره، لذلك فلا تعزية بطفل أو امرأة ولا يفتح لهما “مدالة” وهي من التداول وتعني بيت العزاء في قاموس المناسبات الأردنية، فالأصل في العادات الأردنيّة أن الحزن هو على المقاتل الذي قضى شهيداً في معركة الدفاع عن الوطن والعشيرة في مرحلة ما قبل الدين وقبل الدولة الحديثة، فيتداول القوم في طريقة الأخذ بالثأر، وجرت العادة أن تقوم النساء بالمعيد عند وفاة زعيم أو شخص ذو مكانة عالية، فيما يكون النواح على وفاة الأشخاص العاديين مهما اختلفت مكانتهم ورتبتهم في المجتمع، ويكون هذا بمثابة رثاء شعري تقف النساء صفين يذكرن مناقب الجماعة الذين قضوا في المعركة، أما الرجال فلا يبكون ومن تقاليد الأردنيين أنه إذا مات شيخ أو كبير قوم، فإنهم يرسلون النعي للقبائل الأخرى بمقلّدة من الخيل، وهي الخيل التي يقلدونها قطعة من نسيج البيت، ويعلن فارس الخيل أو الذلول موت الزعيم، وعندما يصل النعي إلى زعماء القبائل الآخرى، يتم دفق أباريق القهوة وتعفيرها بالرماد كإشارة على الحزن.

الشونة 1935 غور نمرين الأمير عبدالله الأول – الملك لاحقا – يعزي الشيخ ماجد العدوان بوفاة والده الشيخ سلطان رحمهم الله جميعا

وتترافق مراسم الدفن والعزاء بطقوس غذائية حيث جرت العادة أن يقوم أهل الميت بالذبح وإكرام الضيوف الذين جاءوا لتعزيتهم، والأولوية تكون للضيوف الغرباء ووجهاء القوم نظراً لكمية الناس التي تحضر، حيث أوضحنا سابقاً – أين أوضحت ؟ – كيف يتم التحول من حالة الضيافة إلى التعزيب في تراتبية تحافظ  على انسجام ووحدة المجتمع، ويسمى هذا الغداء “طعام المجبّرين” وهو لفظ يطلق على أهل الميّت كناية عن كسر جناحهم وما هم فيه من حزن، ويتم تقديم الغداء والقهوة السادة على الحضور القادمين للقيام بواجب العزاء طوال أيام العزاء والبعض يقوم بتقديم التمر معها، كما يقوم الناس في الأيام التالية بالذبح لأهل الميت والإيلام لهم كمحاولة لمواساتهم وتعتبر هذه الدعوة بمثابة دين اجتماعي آخر ويجب أن يتم سداده في وقت لاحق، ويمكن أن يلاحظ في هذا حجم التماسك الاجتماعي سواء في الفرح  أو في الحزن، ويقوم أهل الميّت بالذبح ثانية في الليلة التالية للدفن، ويسمي البعض هذه الذبيحة بـ “ذبيحة الثالث” أو “ذبيحة القبر” ومنهم من يسميها “فكّة الكفن”.

مادبا 1937 ضيوف في ضيافة الشيخ مثقال الفايز بني صخر يتناولون طعام الغداء –

 

  • التعاملات الحياتية:
  • السكن: جرت العادة أن يتم ذبح “ذبيحة البيت”وتسمى أحياناً “ذبيحة الواسط” وتذبح إذا أراد الرجل أن ينصب بيتاً جديداً وكان الأصل فيها نقل بيت الشعر وإعادة نصبه حتى لو على مسافة لا تتجاوز مائة متر، وهذا دفعاً للشر وجلباً للخير، ومن العادات أيضاً “ذبيحة الباطون” أو “ذبيحة العقد” وهي من العادات المرتبطة بالمساكن الحجرية حيث تتزامن هذه الذبيحة مع فترة العقد والصبّة أو القنطرة سابقاً، وكذلك ما يتعلق في “ذبيحة البيت الجديد” وغالباً ما يقوم الجيران بإعداد الطعام للساكنين الجدد فيما يعرف بـ “النزالة”، وكذلك يقوم أصحاب البيت الجديد بذبح “ذبيحة العتبة” والهدف منها هو طرد أرواح الجن.
  • الزراعة: تتزامن عملية الزراعة بكافة مراحلها بالكثير من الأهازيج والممارسات التي تعبر عن تجذر قيمة الإنتاج عند الأردنيين، ويترافق هذا مع العديد من الذبائح، منها “ذبيحة الحصيدة” والتي كانت قديماً تسمى فتاحة المنجل، وتذبح هذه الشاة عند البدء بحصاد القمح، ومنها يصنع العشاء للحصادين والرجادين والشدادين ويستعيض عنها فقراء الزرّاع بالفطيرة المكونة من السمن البلدي ولبن الجميد وخبز الفطير وكلما زاد مقدار السمن كانت في نظر الناس أجلّ، وكذلك الحال “ذبيحة الجورعة” التي تذبح مع نهاية الحصاد لإكرام وشكر أفراد الأسرة والعاملين والمحبين وكل من ساهم في إنجاز العمل ويتم إعلان “الجورعة” فيها وهي التنازل عن ما تبقى في الأرض لصالح المساكين والراغبين بالاستفادة مما تبقى من غلال ويتم ذلك من باب الزكاة والمسؤولية الاجتماعية من أصحاب الثروة تجاه جيرانهم وعمالهم ولتطييب نفوسهم، وكذلك الحال في “ّذبيحة البيدر” وتكون هذه بعد نقل الغلال وإيصالها إلى المخازن.
  • الثروة الحيوانية: للحيوان في الإرث الأردني مكانة وأهمية وحقوق لا تقل عما هي عليه في مؤسسات ومنظمات رعايته في الدول الغربية، فقد عرف الأردنيون ذلك وطبقوه منذ سنين طويلة، فإلى جانب حمايته والنظر له كمصدر للإنتاج وليس موضعاً للاستهلاك اليومي، فقد اهتموا بالتفاصيل المتعلقة بتربيته وحلبه وبيعه وشراءه، فنجد ذلك ماثلاً في حالة “ذبيحة الغنم”  في حال أصاب الغنم وباء وأراد صاحبه أن يفتديه فيقطع إذن المرباع ؟؟ وينتظر فإذا ذهب الوباء يذبح هذه الشاة التي تسمى القطيشة (بعد قطع أذنها) ويولم لأهله وجيرانه ويدعوهم لأكلها، وكذلك الحال في “ذبيحة الفرس” والتي يذبحها من يقوم بشراء خيل أصيلة، و”ذبيحة التوريد” التي يذبحها صاحب الخيل الأصيلة التي تم بيعها عندما يحضر له مالك الخيل الجديد المثاني (وهي المهرة الأولى والثانية من نسل الخيل التي باعها) وفي هذا مثال على رقي التعامل التجاري  بالحيوانات وخاصة الخيل لما لها من مكانة في نفس الأردني المحارب بالفطرة.
  • الحرب والسياسة:

كانت الحرب بما يرافقها من سلوكيات وأعمال سلب ونهب ضرباً من ضروب الشجاعة في وقت لم يكن فيه مكان للأمن والحصول على الحقوق إلا بالقوة في ظل الفتن والأوضاع السياسية والاقتصادية الصعبة التي فرضها الاحتلال الخارجي من عثماني وغيره، لذلك ظهر مفهوم “ذبيحة الكسب” كوسيلة للتعبير عن الفرح بإنجاز المهمة والعودة غانمين سالمين من المعركة، كما توجد ذبائح خاصة بالصلح والتراضي ما بعد التخاصم، وذبيحة أخرى عندما يقوم شخص بترك قبيلته والانضمام لقبيلة أخرى، فيما يشبه اللجوء السياسي حالياً.

  • التجارة:

كان للموقع الجغرافي المحوري بين أهم الامبراطوريات العالمية المتصارعة دوره في بناء شخصية الأردني ليكون قادراً على المناورة السياسية وبناء تحالفات تضمن الحفاظ على مصالحه ومنافعه، ومن ضمن هذه العلاقات تبرز التجارة كمهنة أساسية لكثير من القبائل الأردنية التي استفادت من وجود الأردن على أهم طرق النقل التجارية، الأمر الذي يفسر العثور على الدينار الحارثي النبطي في الصين وموانئ أوروبا، ومن هنا ترافقت التعاملات التجارية والصفقات التي كان يجريها الأردنيون بطقوس وبروتوكول يميزهم ويجعلهم يكسبون قلوب الشركاء المحتملين ويظهرون لهم حسن النية ولين الجانب، ومن هنا جاءت “ذبيحة الشراكة”.

الشونة 1934 غور نمرين الرحالة السيد والسيدة توني ومرافقيهم في ضيافة الشيخ ماجد العدوان
  • الضيافة:

وهي من المناسبات الأكثر تكراراً وأحد أهم عناوين هذه السلسلة البحثية، وقد تم تناولها في بحث منفصل، أوضحنا فيه كيف يكون واجب الضيافة مقدساً بالحد الذي تكون فيه الضيافة ضرباً من ضروب العبادة، وللضيافة أربع أنواع يذبح في معظمها للضيف ويتم الإيلام له في مهمة يتشاركها الرجل مع زوجته التي تنوب عنه في حال غيابه.

  • المناسبات الدينية:

المقامات والقرابين: كثير من الطقوس الحالية المتعلقة بالذبائح تعود لجذور ما قبل التدين عند الأردنيين القدماء ولفترة تسبق ظهور الديانات المسيحية والاسلامية، ومثال ذلك “العقيقة” و “القرى” وهي ذبائح وعادات تعود لفترة الأردنيين الغساسنة، وأبقى عليها الأردنيون بغض النظر عن الديانة التي اعتنقوها لاحقاً، كما تحظى المقامات والأشخاص ذوي الكرامات باهتمام ملموس في عقيدة الأردنيين، ومن أشهر هذه الذبائح: ذبيحة اسماط الخضر، وذبيحة شيحان، وذبيحة الخمسان والعشيات عند المسلمين والمسيحيين لمقام النبي موسى، وذبيحة سليمان بن داهود وذبيحة العجام وذبيحة دانيال وغيرها.

الشونة 1931 ضيوف المؤتمر الاسلامي في ضيافة الشيخ ماجد العدوان
  • رمضان: في رمضان تستخدم معظم الأكلات نفسها، ولكن يتم الإكثار من تناول الشوربات مثل العدس والفريكة، ويتم مشاركة الطعام بشكل أكبر فيما يسمى بعملية المقادحة، وهي عادة كانت بأن يجتمع الرجال عند الإفطار في بيت كبيرهم وأن يحضر كل منهم قدحاً فيه من طعام أهل بيته.
  • عيد الفطر: يبدأ هذا العيد بتناول طعام الإفطار لأول مرة بعد صلاة العيد، بعد صيام 30 يوماً وامتناعٍ عن الأكل في النهار، ويتم توزيع كعك العيد المصنوع من التمر إضافة لأقراص القسماط وهو الخبز المغطى بزيت الزيتون.
  • عيد الأضحى: ذبيحة ذات رمزية دينية تعود لقيام النبي ابراهيم عليه السلام بافتداء ابنه اسماعيل، ويختار الأردني الضحية من أفضل المواشي أو الجمال الخالية من كل عيب جسمي، وكان يتم تكحيلها قبل نحرها، ويتم الاعتناء بها جيداً في الأيام التي تسبق عيد الضحية وتوزع لحومها على الأهل والأقارب والفقراء، وغالباً ما يستعمل كبد وأحشاء الضحية في افطار أهل البيت فيما يعرف محلياً بـ “المعلاق”.
  • الحج: هناك طعام يعد للحجاج ما بعد عودتهم من الحج، حيث يقوم الجيران والأقارب والأًصدقاء بدعوتهم على الغداء وتعرف هذه العادة بـ “الدورية” وقد تستمر لمدة شهرين، وتكون الوليمة في العادة منسف برغل ومريس ولحم وشراك، ولا يوضع الرأس أمام الضيف الأساسي في المناسبة بل قطعة أكبر وهي الفخذ ويسمونها “الشذاة”.
  • الصوم المسيحي:

خلال أربعين يوماً من الصيام، تتشكل مائدة كاملة لا تحتوي على اللحم بكل أنواعه ولا الحليب ومشتقاته، ويعتقد أن هذا الصيام الفلاحي من شأنه الحفاظ على الثروة الحيوانية خلال فترة الربيع وحمايتها من الذبح، إضافة لترك الحليب لرضاعتها، يحدث ذلك في الوقت الذي تفيض فيه الطبيعة بالأعشاب والنباتات المناسبة للأكل، وتدعم أطباق الأعشاب بالحبوب، ومن الأكلات الأردنية النباتية المناسبة للصوم “صيامية” والتي يستخدمها الجميع في تلك الفترة في الواقع، حوسات البصل والزيت مع الخبيزة أو الفطر، أو الكما، أو العكوب، أو الحميصة، أو الهندبة، أو السلق، أو اللوف، وكذلك سلطة العلت مع البصل والزيت، وسلطة فريم البندورة والبصل مع السماق، والنباتات النيئة كاللشيلوه (حويرة الماء)، وقرون القصيقصة، وقرون البرّيد والخرفيش، ومقالي الباذنجان، والبطاطا والكوسا والفليفلة، والفول الأخضر بالسماق، قلاية البندورة بالزيت، ورقة الدوالي أو ورقة اللسينة الذي يلف بالأرز، أو البرغل الدفين مع الحمص وفريم البندورة والخضار، حوسة الفول الأخضر بالكزبرة والزيت، المجدرة، الأرز بالشعيرية، الأرز والفول الأخضر بالزيت، مرقة العدس المجروش، مدمس العدس الحب، طبيخ العدس والباذنجان بالزيت والثوم والبصل والبقدونس، وأقراص النعنع والزعتر الأخضر والحميضة والخبيزة، وقلية القمح وغيرها.

اربد 1939 الحصن صورة جميلة تجمع بعض الأهالي أمام الدير
  • عيد الميلاد:
    جرت العادة أن يتم عمل فطاير الكشك، بكميات تكفي لنحو يومين، مع إعداد أو شراء مختلف أصناف الحلويات وأقراص العيد التي تتكون من العجين الخامر المخلوط بالسمسم والقزحة وتصنع أرغفته على شكل قوالب جاهزة، وعند خبزه واخراجه من الطابون يتم دهنه بزيت الزيتون.
  • عيد الفصح:

كان الشخص القدير يقوم بذبح رأس من الغنم أو جدي ويتم إعداد طعام المنسف للعائلة، وقبل هذا العديد بثلاثة أيام فيما يعرف بخميس الصبيان جرت العادة أن يقوم خوري الكنيسة بعمل قدّاس يتضمن القراءة على قطع من الكعك غالباً ما تأخذ شكل الصليب ومن ثم توزع على الأطفال، أما قدّاس الأموات فيتكون من أرغفة خبز الكماج، ويطبع عليه آية من الإنجيل ترسل للخوري للقراءة عليها وتوزع يوم الأحد على المصلّين للترحم على الأموات.

  • الخاتمة:

ومن هنا نلاحظ ارتباط الغذاء الأردني بالعادات والتقاليد المتبعة خلال الفترات الزمنية التي يغطيها هذا البحث، سواء العادات المتعلقة بالمشاعر الانسانية والعلاقات الاجتماعية والطقوس الدينية، ونلاحظ بأن المجتمع الأردني قائم على التعاون والتماسك وتشارك التفاصيل، ويتأكد ذلك من خلال نوع المناسبات وطقوسها والتي تدلل على مجتمع يتقاسم فيه أفراده أدق تفاصيل الحياة بفرحها وحزنها.

  • المراجع:
  • حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان: الأردن
  • خريسات، محمد عبد القادر (2012) المسيحيون في قضاء السلط، عمان، الأردن
  • العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.
  • العزيزي، روكس (2012) معلمة للتراث الأردني، مطبعة السفير.

عادات الغذاء في الطقوس والمناسبات عند الأردنيين

  • تقديم ولمحة تاريخية

في اقتصاد انتاجي يعتمد على الزراعة والثروة الحيوانية في تشكيل الهوية الغذائية، برع الأردنيون عبر التاريخ في الزراعة مواجهين التحديات التي كانت السبب في تعطيل أي عملية زراعة وإنتاج سابقا، من كون معظم أراضي الممالك الأردنية القديمة كانت غير خصبة بما يكفي للزراعة، إلى جانب قلة الأيام الماطرة خلال العام والموسم الشتوي، فتشير الدراسات أنه ومع بداية نشأة المملكة النبطية كانت عملية الزراعة والفلاحة عاديّة وناتجها بالكاد يغطي الاحتياجات، لكن الأردنيين الأنباط عملوا على تطوير الزراعة وتقدمها استجابة للتزايد في عدد السكان، حتى أصبحت من أهم حرفهم والمصدر الرئيس للحصول على الطعام وتشكيل الهوية الغذائية.

 ولم يكتف الأردنيون الأنباط بالاستثمار والزراعة في أراضي أدوم ومؤاب الخصبة، بل زرعوا كل زاوية واستصلحوا الأراضي في حدود مملكتهم الأردنية التاريخية، حتى أصبحت “بترا” أكثر من مركز تجاري للقوافل بل تحولت إلى مركز لمنطقة زراعية تصدر الفائض عن حاجتها، بفضل قدرة الأردنيين الأنباط على التعامل مع الأراضي القاحلة وتحويلها إلى مستقرات دائمة صالحة للزراعة حتى أنهم توسعوا إلى وادي عربة وصولاً للنقب، متبعين العديد من الأساليب الزراعية التي تضمن استخدام نظام المصاطب التي تعمل على تصريف المياه وتوجيهها بشكل يعمل على إبطاء سيلان مياه الأمطار،  وبالتالي منع انجراف التربة، مما يتيح المجال لكروم العنب والنباتات المزروعة بامتصاص الرطوبة والاحتفاظ بها لأكثر وقت ممكن، وبالنتيجة تمكن الأردنيون الأنباط بين حوالي القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثاني الميلادي من انتاج القمح والشعير، بالإضافة لأنواع أخرى من الحبوب إلى جانب الزيتون والبلسم وكروم العنب.

ولما كان ناتج الموسم الزراعي وفيراً بالحد الذي يسمح بتخزينه حتى المواسم القادمة أو استخدامه طوال العام أو حتى إعادة تصديره وبيعه أو مقايضته بسلع أخرى مع القادمين لعاصمة التجارة العالمية في ذلك الوقت “بترا”، فقد برزت الحاجة لتطوير أساليب حفظ وتخزين هذا الناتج والحفاظ عليه بحالة جيدة سواء بإبقائه كما هو، أو بإعادة معالجته بشكل يسمح بتخزينه للاستفادة منه في وقت لاحق، وفي هذا تأكيد على ترسخ قيم الانتاجية من خلال الحرص على عدم الهدر والإسراف والتبذير، ونستعرض في هذا البحث أبرز طرق حفظ الناتج الزراعي والمواد الغذائية لدى الأردنيين في كل المناطق.

  • نملية-خزانة المونة، ماذا يتضمن صندوق الاحتياط الغذائي الأردني؟

ظلّت ثقافة تخزين المونة سائدة في المجتمع الأردني، حتى وان تراجعت مع وصول الكهرباء التي ساهمت بتوفير بدائل لتخزين الناتج الغذائي مثل الثلاجات والبرادات الخاصة بتجميد الطعام، إلى جانب تنوع طرق الإنتاج ووصول البيوت البلاستيكية والمعلبات التي تتيح فرصة الحصول على كثير من الأصناف الغذائية طوال العام، مما أدى لتراجع أهمية طرائق التخزين لكن معظمها ما يزال مستخدماً حتى الآن، فتجد أن الأسرة الجيدة تخزّن في خابية البيت أو ما يسمى النمليّة ما يكفي لتغطية احتياجات المنزل الغذائية لأوقات تصل حتى سنة أو نصف سنة، وتتنوع محتويات هذه المؤونة فتجد فيها الجميد والسمن واللبنة المحفوظة بالزيت والكشك والقمح للطحين ومشتقات القمح من جريشة وفريكة وبرغل، وعدس، وحمص، وخضروات مجففة، وبصل ناشف وبندورة مقطنة، وكوسا وباذنجان منقورة ومغسولة بالماء والملح ومجففة، ودوالي مجففة، ورمان، ومكدوس الباذنجان المحشو بالجوز والمحفوظ بالزيت، وكبيس الزيتون (الرصيع)، ومعاقيد المشمش والخوخ والتفاح والسفرجل، ومنتجات العنب – خبيصة وزبيب وعنبية ومدقوقة ودبساً وخلاً- وقُطين التين، والعسل البري والجوز واللوز والزعتر الناشف والسمسم المحمّص والنعنع والميرمية وغيرها، ومعظم هذه المنتجات تنتجها الأسرة الأردنية أو تشتريها من الأقارب والمنتجين المحليين مباشرة، كما أن هناك مواد مستوردة كالأرز والسكر والشاي والبن والتمر والفستق، خابية المونة المتعددة الأصناف هذه تنوّع خيارات المائدة حتى في الشتاء القاسي ولياليه الطويلة، أما في الربيع والصيف ومواسم الحصاد والإنتاج، تتزين المائدة الأردنية بالأطباق المعدّة من الحليب ومنتجاته الطازجة والخضروات والفواكه الطازجة والأعشاب الموسمية والنباتات البرية، وسنتعرف في هذا البحث على أبرز ملامح عملية الحفظ والتخزين التي ساعدت في تنوع واستمرار المطبخ الأردني على مدار الفصول.

نملية
  • الحفظ والتخزين كجزء من النظام المعماري الأردني

عند الحديث عن موضوع حفظ وتخزين الطعام لا بد من التطرق لطبيعة نظام البناء في البيوت الأردنيّة القديمة، وهو أمر له جذور تاريخية حيث كان الأردنيون القدماء المستقرين في عين غزال في مرحلة الانسان المزارع من أوائل من بنوا المنازل الحجرية والدائرية والمنازل من طبقتين بحدود الألف السابع قبل الميلاد، وخلال العصور تنوعت أشكال البناء والاستقرار تبعاً لظروف الحياة واضطرار الأردنيين للتحول من الاستقرار للترحل بفعل الأحداث والظروف السياسية كما في عهد الاحتلال العثماني مثلاً حين تحولت الكثير من العائلات والعشائر الأردنية من الاستقرار في بيوت طينية وحجرية نحو البداوة والترحال الدائم هرباً من بطش الاحتلال العثماني وملاحقته لهم نتيجة عجزهم عن دفع الضرائب.

خابية وكواير

ومن أهم النماذج على شكل البيوت الأردنية في تلك الفترة هي المُغر – المغارات – التي صنعها الأردنيون في عدد من المدن الأردنية [1]، ويقدر عمرها بحوالي 200 سنة، ويمكن بالنظر للتصميم الداخلي لهذه المغارات أن نلاحظ كيف تم تقسيم البناء، مع تخصيص أماكن للمواشي والدواب بعيدة عن غرف المعيشة والنوم، في حين يتم مراعاة وجود أماكن للتخزين، ويلاحظ استخدام الطين في الأثاث المنزلي من خلال الرفوف، والمطوى المخصص لترتيب المفارش والأغطية، وكذلك فتحات خزائن المطبخ المبنية من الطين وهي ذات تصميم فريد يتكون من 16-20 فتحة لحفظ الأطعمة وأدوات المطبخ، وفي الزوايا يوجد ما يشبه “الكورنر” الذي يعتبر جزء من الديكور المعاصر حالياً، والجزء الأهم هو ما يعرف بالكواير التي تتنوع أشكالها وأحجامها واستخداماتها تبعاً للمنطقة ونوع المخزون، وتواجد هذه الكواير في قسم الإقامة والمبيت الذي يوجد المطبخ في جزء منه، كما توجد أقسام خاصة من الكواير في قسم المواشي والدواب لتخزين الأعلاف والتبن، وسنتناول في الأجزاء القادمة من هذا البحث أشكال واستخدامات وتسميات هذه الفتحات والأماكن المخصصة للتخزين والحفظ .

السلط 1920 صورة لعائلة سلطية وتعتبر الصورة مرجعا لطبيعة الحياة اليومية لأجدادنا ونظام البناء الداخلي لبيوت السلط القديمة
  • حفظ وتخزين الحبوب

بعد مواسم الخير والحصاد والتي تتوج مراحل العملية الانتاجية الزراعية للحبوب والتي تم تناولها بالتفصيل في بحث سابق، يتم تخزين الفائض من الحبوب لاستخدامه طوال العام حيث أوضحنا في بحث سابق كيف تحتل الحبوب مكانة ذات أهميّة في المطبخ الأردني، ويتم تخزين هذا المخزون في ما يعرف بـ “الخوابي”، و “الكواير” ومفردها “خابية” و “كوارة” على الترتيب، وهي عبارة عن بناء داخل المنزل بارتفاع مترين وعرض حوالي مترين وأكثر، وبناء هذا الكواير في عدة مناطق أردنية مثل قرية “ضانا” يعتبر من مسؤولية المرأة الأردنية والتي تقوم ببنائها من الطين الذي يحتوي نسبة عالية من الصلصال والمتعارف عليه في. المنطقة باسم “طين السّمقة”، وتستوعب الكوارة الواحدة من خمسة الى ستة شوالات من الحجم الكبير ما يعادل حوالي 500-600 كغم، وفي الشمال كانت الكواير تبنى كجزء من سقف المنزل، حيث كانت البيوت الطينية تبنى على القناطر وبين كل قنطرتين زوج من الكواير، وللكوارة باب علوي يسمى “طرنافة” يصب منه القمح، وباب سفلي صغير تؤخذ منه الكمية اللازمة للاستهلاك اليومي، ويتم اغلاقه بقطعة قماشية تسمى “كبتة”، وفي البيوت الكبيرة متعددة القناطر كان يتم تقسيم الكواير بحيث تكون كل واحدة منها لصنف معيّن من الحبوب، وللوصول إلى الكوارة من أعلى تصعد المرأة على السلّم وتقوم بتنظيفها بواسطة مكانس من القش، وظهرت في فترات لاحقة كواير الخشب التي أصبحت أكثر شيوعاً.

ومع اختلاف الظروف الجغرافية والاجتماعية وحتى العوامل السياسية اختلفت وسائل وأدوات التخزين، ففي الشوبك مثلاُ كانت القلعة ملاذاً للأهالي وما يملكون في مشهد يوضح تماسك النسيج الاجتماعي الأردني خصوصاً في حالات الخطر والتهديد الخارجي والذي كان شائعاً خلال فترة الاحتلال العثماني من الجيش التركي والعصابات التابعة له أو التي يقوم بتحريضها على إثارة الفوضى، فلجأ الأهالي في الشوبك الى تقسيم القلعة لـ “عقود”، حيث تمنح كل عائلة عقد تخزن فيه الغلال المنقولة من البيادر بواسطة “العدول” المصنوعة من الصوف والشعر، ثم يتم تفريغ الحبوب في الكواير المصنوعة من الطين، وتغلق أبواب القلعة لحمايتها.

في حين لجأ الأهالي في وادي موسى لتخزين الحبوب في الخربة وهي القرية المبنية من الحجارة في المنطقة، واستخدموا لهذه الغاية نوعاً خاصاً بهم من الكواير البرميلية المبنية من الطين المخلوط مع التبن أو الأحواض المستطيلة او المربعة، وتتشارك المرأة مع الرجل مهمة بناء الكوارة التي تتسع لما يتراوح ما بين 40-80 صاعاً، وتغطى الكوارة باستخدام غطاء مصنوع من الطين والتبن أو قطعة من القماش أو شوال من الخيش، ويتم عادة ترك فتحة صغيرة في أسفل الكوارة لاستخدامها في اخراج الحبوب حسب الحاجة، وكانت معظم الأسر تمتلك بيتاً للتخزين أو تقوم باستئجار أماكن للتخزين إما مقابل كمية من القمح أو حتى بلا مقابل فيما يتعارف عليه محلياً بمفهوم “العونة”.

وفي أقصى الجنوب الأردني، يقوم الحويطات بتخزين الحبوب في حفرة يتم حفرها بعمق يتناسب مع كمية الحبوب المراد تخزينها، ومن ثم رشها بالماء بعد انتهاء الحفر لتصبح سطوحها الداخلية صلبة وملساء مستوية،، ثم توضع الحبوب بداخل ما يعرف بـ “المطامير” ومفردها “مطمارة” ومن ثم يتم إضافة طبقة من التبن ومن فوقها التراب ويتم الضغط على المطمارة حتى يستوي التراب مع ما حوله، ويترك البدو هذه المطامير بدون حراسة حيث لا داعي للقلق من هذه الناحية فسيكون من الصعب على أحد غيرهم تمييز موضعها، ومن الطرق الأخرى حفظ الغذاء في المغر التي كان يتم إغلاقها بالحجارة والطين مع قيام صاحب المخزون بوضع ختم خاص به على باب المغارة من خلال ترك أثر يده بالطين، ومن التقاليد المرعية عدم كسر ختم المغارة الطيني إلا من قبل صاحبها، وكانت الحبوب التي تزيد عن حاجة الأسر لدى بدو وادي رم، تخزّن في “الطيران” ومفردها طور وهي صخور طبيعية تسمى “مصن”.

وتختلف الكواير والأحواض في معان عن سواها حيث تتشكل الأحواض من جدران يصل ارتفاعها إلى نصف متر وبمساحة تصل إلى أربعة أمتار مربعة، في حين تأخذ الكواير الشكل الدائري وتبنى على عدة مراحل تستمر عدة أيام وتكون من مهمة المرأة، وعادة ما تكون بحجم برميلين، وتتسع لخمسة شوالات من القمح أي ما يعادل حوالي 500 كغم، وتغلق بغطاء طيني أو من القماش أو حتى بلوح معدني أو خشبي، وكانت هناك نساء معروفات متخصصات في بناء الكواير مقابل أجرة معينة وهو ما يؤكد مكانة المرأة ودورها المهم في الاقتصاد الانتاجي الاردني.

ومع التحولات التي عاصرتها المنطقة ما بعد التحول من مرحلة الثورة الزراعية إلى الثورة الصناعية تأثرت المدن الأردنية بهذا التحوّل وانعكس ذلك على أسلوب الحياة الذي أصبح أكثر تنوعاً، فمثلاً لم يعد هناك حاجة للقيام بإعداد الخبز إلا في حالات نادرة أو لأنواع خاصة من الخبز غير المتوفر في المخابز، ولا حاجة للتحطيب فالحطب متوفر في الأسواق، وكذلك الحال في الحبوب المتوفرة في المحال طوال العام، إلا أن الكثير من الأسر الأردنية بقيت تقوم بتخزين الحبوب في كميات تغطي احتياجاتها للفترة المقبلة، فكانوا يخزّنون الطحين في براميل خشبية سعة الواحد منها شوال ونصف، أما البرغل فكان يقسم إلى نوعين، الخشن لعمل المجدرة، ويخزن في خرايط قماشية بيضاء اللون مع إضافة الملح وتركه في مكان جاف، والبرغل الناعم يتم تخزينه في مرطبانات من الزجاج.

عملية اعداد وتخزين الجميد
  • حفظ مشتقات الحليب:

نأتي هنا الى مشتقات الحليب والتي تعتبر المكون الغذائي الثاني في المطبخ الأردني بالتشارك مع الحبوب، وتبدأ العملية منذ لحظة حلب الأغنام والتي تتم عادة من خلال شبق الغنم وهي مرحلة يتم فيها صف الغنم بصفين متقابلين بشكل مائل من خلال استخدام حبل مغزول من الصوف في عملية كانت تشبه ما يعرف بخطوط الإنتاج الحالية في المزارع والمصانع، ويتم الحلب في وعاء من النحاس غالباً، ويتم تفتير الحليب ووضع “روبة” اللبن للحصول على اللبن الرائب في عملية تأخذ نهار كامل في فترات الشتاء بينما تحتاج حوالي 3 ساعات في الصيف، وبعد ترويب اللبن يتم خضه في ظٌبية مصنوعة من الجلد، لفصل الزبدة عن اللبن المخضوض وتنتج بذلك الزبدة والشنينة، وتخزن الزبدة في “نصيّة” وهي وعاء مصنوع من التنك المعدني، أو يتم تخزينها في المزبد والذي يصنع من جلد الكبش ويتسع أحياناً لأربع تنكات –تبعاً لحجم الكبش-، ويحرص على عدم دخول الهواء للمزبد وإضافة الملح والورص (الكركم) إلى الزبدة لحفظها، أما السمنة فتصنع بتذويب الزبدة على النار وتركها لتصفى عن اللبن مرة أخرى، ويتم إضافة البرغل الخشن والورص والملح، وتُغلى مرة أخرى حتى الاستواء وتترك لترقد ثم توضع في أوعية زجاجية تعرف بالمرتبانات او القطرميزات.

 وتستمر عمليات المعالجة المتكررة للحصول على المزيد من المنتجات، فيتم صنع اللبن الجامد من خلال وضع الشنينة في أكياس قماشية مخصصة لهذه الغاية ، وتركها لعدة أيام حتى يقطع منه المصل، ويتم الحصول على اللبن الجامد (اللبن المكروت) الخالي من الدسم (بدون زبدة)، ويتم استخدام هذا اللبن في إعداد “اللبنة المدحبرة” والتي يتم تخزينها بإضافة الزيت والملح وتركها في أوعية زجاجية، أو من خلال “تنطيل” اللبن أي عمله على شكل أقراص دائرية تترك على طاولات خشبية وقطع من القماش تحت الشمس حتى يجف وينتج بذلك الجميد ويكون هذا في فترة الربيع، أما الكشك فعادة ما يصنع في فترة شهر حزيران ما بعد انتهاء عملية التعزيب والحصاد، فيتم خلط البرغل باللبن المنزوع الدسم (المكروت/المخيض) ويطبخ ويترك في وعاء، ثم يترك الخليط مغطى لمدة يومين ومن ثم يتم عرضه على الشمس لمدة يومين حتى يجف، في حين استعمل الأردنيون الجبنة المالحة كوسيلة للحصول على الجبن طوال العام من خلال استعمال المساة المأخوذة من معدة وليد النعجة بعد تمليحها وتجفيفها لمدة أسبوع تحت أشعة الشمس، ومن ثم توضع في قطعة من الصوف وتضاف هذه القطعة إلى الحليب الموضوع على النار ويتم مرس القطعة في الحليب حتى يفتر، ثم يغطى القدر حتى تدور الجبنة فيه عندها تسكب في قطعة من القماش وتوضع على طاولة ذات سطح مستوي مع إضافة ثقل فوقها حتى ينقطع المصل، ومن ثم يفتح الكيس ويتم تفريض الجبنة من خلال تقسيمها الى قطع متساوية ومتناسقة، ثم يتم تمليحها وتركها أسبوعاً ليتم بعد ذلك غليها وكبسها وتخزينها في أوعية معدنية خاصة بذلك تعرف بالـ “نصيّة”.

  • حفظ النباتات والخضار والفواكه:

لتخزين الخضار في فترات ما قبل ظهور التبريد والتجميد، لجأ الأردنيون لتجفيفها كوسيلة لحفظها لاستخدامها في غير موسمها، فعلى سبيل المثال كان يتم تجفيف البندورة بعد أن تسطح من الوسط ويتم تمليحها، وتخزن في أكياس قماشية بعد أن تجفف وتعلّق هذه الأكياس على جوانب البيت، وكذلك فيما يتعلق بالكوسا التي كانت تقطّع الى دوائر وتُملّح وتطبخ حوساً مع البندورة في الشتاء، ويتم تجفيف البامية ووضعها على شكل قلائد يتم تعليقها حتى تجف وتطبخ مع البندورة في الشتاء، كما يتم صناعة رب البندورة بتقطيع حباتها وعجنها وعصرها وتصفيتها من البذور والشوائب مع إضافة الملح وغليها على النار حتى تصبح معقوداً ثم تعبأ في مرتبانات وتخزن لتستخدم عند الحاجة، كما تتم صناعة المكابيس والمخللات من زيتون وخيار وفقوس وباذنجان وغيرها.

قلائد بامية مجففة على شكل “عقد” من إعداد احدى سيدات حوران الأردنية
نعنع يتم تعريضه للهواء بهدف تجفيفه وحفظه لاستعماله طوال العام
  • حفظ الفواكه بالتسكير (المربيات والتطالي):

وإلى جانب التجفيف الذي كان يعتمد على الملح، كان يتم الاستعانة بالتسكير وهي طريقة حفظ الغذاء بإضافة السكر والشيد، وهي وسيلة إنتاج المربيات والتطلي من عنب وتين ومشمش وغيرها من الفواكه والثمار التي تحفظ بعد غليها على النار لفترات محددة وفصل الثمار عن العناقيد و/أو هرسها وإضافة كميات من السكر وتركها حتى تتماسك وتشتد ويتم تخزينها في مرتبانا،  كما تتم صناعة المعاقيد بتركها تغلي مع اسكر حتى تتماسك وتشتد مثل معقود التين ودبس الخروب والرمان ، فتتم صناعة دبس الخروب من خلال تنشيف الثمر وطحنه على الحجر وغليه حتى يصبح دبساً، وكذلك الحال مع الرمان الذي يتم عصره وغليه حتى يشتد، أما الليمون فيتم تخزينه في التبن ويتم رشه بالماء حتى لا يجف ويفسد.

مربيات صناعة منزلية من سيدات أردنيات من 6 محافظات أردنية ، تجدونها متوفرة في دكانة مطعم ارث الأردن
  • حفظ اللحوم:

ورغم أن اللحوم لم تكن جزءًا من الغذاء اليومي لدى عموم الأردنيين وكانت تستخدم بشكل طازج لغاية المناسبات الهامّة التي تم توضيحها في بحث سابق، الا أنه جرت العادة على تخزين اللحوم لحين الحاجة إلى استخدامها، ومن طرق تخزين اللحوم “القشيم” حيث تفرك اللحوم مع الدهن ويضاف لها قليل من الملح ويتم غليها على النار ومن ثم يتم تخزينها في مرطبان، وكذلك طريقة “الزربة” أو “الدفينة” والتي تتلخص بطبخ اللحم الفائض حتى ينضج ويبرد ويحفظ في “سعن” وعند الحاجة يتم استخدام الكمية اللازمة لإعداد الأطباق، وفي بعض المناطق يتم طبخ الذبيحة كاملة بدهنها، ووضعها في جرة وحفظها للاستخدام اليومي، فيما يسمى بالـ “قاورما”، وكان البعض يسلق اللحم بالماء حتى ينضج ثم ينشر اللحم على ظهر بيت الشعر “الشقاق” حتى ينشف، ولا تؤمن هذه الطريقة دوام اللحم سوى بضع أيام وتعتبر هذه الطريقة قليلة الشيوع وتستخدم عندما تقع إحدى الماعز ويتم ذبحها قبل أن تنفق.

وكانت تتم الاستفادة من كل أجزاء الذبيحة تقريباً، فالنساء كن يدبغن الجلود من خلال إضافة الملح لها وتجفيفها بعد تنظيفها من الدهون التي علقت بها، ثم يضعن الصفة (الرماد) فيه ويتم قلبه بحيث يكون الصوف أو الشعر إلى الداخل ويترك يومين أو ثلاثة ثم يفتح بعد ذلك ويكون نزع الصوف أو الشعر عنه أسهل، ويكشط بقايا الشعر المتبقي بسكين حادة وهكذا حتى ينظف الجلد تماماً من الدهون والشعر ويغلى الجلد مع قشر اللزاب أو جذور السنديان، حسب الغاية من الاستخدام (خافة أو ظبية أو سعن أو شكوة) أما اذا كان لصناعة الجاعد فإنه يملح فقط وينظف في الغالب بدون دباغة.

 ورغم عدم توفر كميات كبيرة من الأسماك نتيجة محدودية المناطق البحرية في الأردن، الا أن الأردنيين في العقبة كان لهم كلمتهم وطريقتهم في حفظ الأسماك واللحوم وتخزينها سواء للاستخدام الذاتي أو حتى لنقلها وبيعها للمناطق الأخرى من خلال وضع السمك في براميل خشبية مطلية من الداخل بالإسمنت، مع إضافة كميّات كبيرة من الملح داخل البرميل والذي يغلق بإحكام، وبهذه الطريقة يمكن حفظ السمك لمدة تصل لحوالي العام.

المراجع:

  • حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان: الأردن
  • خريسات، محمد عبد القادر (2012) المسيحيون في قضاء السلط، عمان، الأردن
  • العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.
  • العزيزي، روكس (2012) معلمة للتراث الأردني، مطبعة السفير.

[1] كتاب المعزب رباح ، صورة ونموذج بناء مغارة أبو خضر في السلط ص 224

تخزين وحفظ الناتج الغذائي في الأردن

  • مقدمة:

يتميز المطبخ الأردني بتشكيلة واسعة من الخضار والفواكه المتوفرة طوال العام في هبة جغرافية تقدمها الطبيعة من خلال منطقة غور الأردن التي تعتبر سلّة الغذاء الأردنيّة والتي تنخفض عن مستوى سطح البحر مما يمنحها مناخ دافئ ورطب صيفاً ومعتدل شتاءً ما يعطي المزارع الأردني فرصة الحصول على دورة زراعية أطول ومواسم انتاجية متعددة خلال العام الواحد، بحيث يتنوع المحصول والناتج تبعاً لاختلاف الفصول والتوقيت من العام الزراعي، وقد كان الأردنيون القدماء من أقدم المجتمعات البشرية التي عرفت الزراعة من خلال الدلائل على حضارات نهر الزرقاء وعين غزال والتي تعتبر أول وأقدم مثال على المجتمعات الزراعية، وقد طور الأردنيون القدماء أساليب الزراعة وأحسنوا استغلال كل مساحة ممكنة من الأرض، تكيّف الفلاح الأردني مع مواقيت حركة الأرض والشمس وتتابع الفصول، وجعل مواسمه الزراعية تتناغم معها، ففي الشتاء تتم زراعة المحاصيل التي تحتمل البرد، وتكتفي بعدد أقل من ساعات إضاءة الشمس، وفي الصيف تزرع ما تسمى “نباتات النهار الطويل”، وفي الربيع تزرع ما ارتوى من المطر، وفي الصيف والخريف يقطف من الثمار ما أنضجته حرارة الجو، وما شبع من خصوبة الأرض، وحتى يومنا الحالي تصدّر الأردن لدول الجوار الكثير من الخضروات والمنتجات الزراعية، لا سيما خلال أشهر الشتاء البارد والتي تزيد من صعوبة انتاج الخضار في دول ذات طبيعة صحراوية مثل السعودية وبقية دول الخليج، أو في الدول الواقعة تحت تأثير المنخفضات الجوية مثل سوريا، فيتم عادة الاستعانة بالمحصول الزراعي الأردني صاحب السمعة الحسنة، ونتيجة لما تقدم فقد استفاد الأردنيون من هذه الوفرة الزراعية واستخدموها بشكل واضح في الهوية الغذائية، ونستعرض هنا أهم النباتات التي ساهمت في تنوع وثراء المطبخ الأردني.

  • الخضروات في الحقول والبساتين والكروم

إلى جانب الحبوب والمحاصيل الزراعية التي كان يتم استخدامها للأهداف التجارية والتداولات والمعاملات النقدية والتي أصبحت مهنة وسمة لكثير من المناطق الأردنية، الا أن هذه السمة تأخذ شكل أكثر عمومية عندما نلاحظ كيف لجأ الأردني نصف الفلاح ونصف البدوي إلى زراعة المحاصيل والخضروات في مختلف المناطق بهدف الاستهلاك المنزلي، سواء في الحواكير المنزلية، أو في شكارة حقلية ( قطعة صغيرة من الأرض يستغلها المرابعي لزراعة الخضروات داخل حقوق الحبوب) أو في أراضي الكروم، أو حتى في مساحات بعلية مخصصة للزراعة الصيفية، أما في البساتين المروية فزرعت الخضروات مثل الكوسا والبندورة والبصل والفاصولياء والزهرة والملفوف والباذنجان والبطاطا والقرع واليقطين والبقدونس والنعنع والكزبرة.

فناقش (السلط)
قرع بلدي مقلّى ومطبوخ بالطحينية مع اللحم المفروم والجوز ويضاف إليه دبس الرمان

أما البساتين المروية بماء الينابيع والقنوات المائية فخصصت لأشجار الرمان والخوخ والمشمش والسفرجل، وبين الأشجار زرعت الخضروات، بما فيها البندورة المروية، أما الخضروات البعلية والبطيخ والشمام والمقاثي فكانت تتم زراعتها في المناطق الجبلية الشفا غورية، فيما اشتهرت المناطق الشمالية الغربية وجبال السلط بكروم العنب والتين بنوعيهما الأخضر والأسود، وكذلك الحال فيما يتعلق بالزيتون، وتعتمد هذه الأشجار على مياه الأمطار، وفي الكروم كما هو الحال في حواكير المنازل، يحرص المزارع الأردني على زراعة النباتات والخضار بين الأشجار مستفيداً من الرطوبة التي توفرها، فتزرع البازيلاء والرشاد والفول والبصل والفجل والفليفلة والفلفل الحار وغيرها.

  • اكتمال الهوية باكتمال العناصر الغذائية

كما هو الحال مع الهوية الديموغرافية للسكان فقد تعرضت الهوية الغذائية الأردنية لكثير من العوامل الخارجية التي كان لها تأثيرات سلبية وايجابية على المطبخ الأردني، فرغم تحول بعض السكان إلى حياة التنقل هرباً من بطش وجباية الضرائب التي كانت تفرضها وكذلك الحال في حالة نهب المواشي التي كانت تتم على يد قطعان الجيوش العثمانية، الا أنه وبمجرد التخلص من تلك المرحلة عادت الهوية الغذائية الأردنية للتكامل مجدداً لتعيد توحيد نفسها ويمكن ملاحظة هذا بشكل واضح في الأطباق السلطية حيث تتوفر جميع الأطباق الأردنية التي تعتمد على الحبوب ومشتقات الحليب، لكن مع إضافة ما يتوفر من مواد وخضار لهذا المزيج، وهو ما يمكن ملاحظته من تحضير الكوسا المحشي، والباذنجان، والفليفلة، والفقوس، والفول الأخضر والعكوب بمريس الجميد .

محاشي بردقانية – مزيج من الخضار المحشوة مع اللبن والجميد وصلصلة البندورة

ومن الأطباق المعروفة والشائعة بين بلقاوية عمان ما يعرف بـ “الفويرة بالخضار” وهي مزيج يجمع الزهرة او الباذنجان أو البطاطا، مع البصل واللبن والسمن وخبز الشراك التي يتم حوسها وتذبيلها مع إضافة المريس والبهارات ويتم غليها حتى تفور ثم توضع الخضار فوق الشراك ويتم تشريبها باللبن، وكذلك الحال في الموقر حيث يحظى طبق الرشوف بالقرع بأهميّة لا تقل أهميّة عن الذبيحة، رغم كونه طبق نباتي بامتياز، وذلك بحكم ندرة القرع قبل عودة امتداد المجتمعات الزراعية نحو المناطق الوسطى والجنوبية التي انخفضت فيها المناطق الصالحة للزراعة مقارنة بفترات تاريخية سابقة نتيجة للعوامل الجغرافية والاقتصادية والسياسية والتغيرات الاجتماعية التي رافقتها.

  • النباتات الموسمية

تتيح مواسم الربيع للأردنيين فرصة تعويض ما فاتهم من عناصر غذائية خلال فترة الشتاء من خلال وفرة النباتات الموسمية التي يؤكل بعضها نيئاً وبعضها الآخر يستخدم في تحضير أطباق شهيّة لا سيما مع تزامن فصل الربيع مع موسم الصوم المسيحي وهي فترة تتشابه فيها الأطباق الأردنية النباتية على اختلاف الديانة، فتخرج السيدات إلى البريّة لجمع الكثير من هذه النباتات مثل “السوكران” وهو نبات له أوراق دقيقة، وكذلك الشومر الذي يتم استخدامه في صنع  خبيز “العجة” مع إضافة البيض والدقيق، وكذلك يتم جمع السمينة التي تستخدم لإعطاء السمن لونه المميز، ويجمع النسوة في موسم الربيع العلت والخبيزة، وتُقلّى الخبيزة مع الزيت البلدي والبصل وتؤكل بالخبز، وأما العلت فيتم تحضيره بتذبيله مع البصل والزيت ويؤكل أو تصنع منه الفطائر باستخدام أفران الطابور التي كانت متواجدة بكثرة في البيوت الريفية الأردنية، ويتم صنع الفطائر أيضاً من الحميض والنعنع البري والزعتر بنفس الطريقة وأحياناً مع إضافة الجبنة للزعتر لإضافة طعم رائع، كما يتم جمع الفطر ما بعد الأيام الماطرة، وذلك بتمليحه وشويه على الجمر مباشرة أو قليه مع الزيت والبصل كمصدر للبروتين النباتي.

خبيزة حوس، ، طبق موسمي متوفر خلال أشهر الربيع في مطعم إرث الأردن
  • النباتات البريّة

اهتم الأردنيون حتى في عصور ما قبل الزراعة بالنباتات البريّة واستطاعوا معرفة وانتقاء ما يصلح للأكل منها وتمييزه عن غيره واستخدامه في عمليات الخبز الذي تم العثور على أقدم بقايا له في العالم على الأرض الأردنيّة وتعود للفترة النطوفية، ومن هذه النباتات ما تم تطويرها وأصبحت تتم زراعتها في الحدائق والحواكير المنزليّة لتغطية الاحتياجات الغذائية للعائلة، أو حتى لغايات واستخدامات طبيّة ومثال ذلك الزعتر البري ومنه نوعان: الأول الزعتر البري العادي، والثاني الزعتر الفارسي، ويستخدم هذا الأخير بإضافته للشاي لإضفاء نكهة مميزة، أو يغلى ويتم تقديمه لمن يعاني من آلام المغص، أما الزعتر العادي فيتم تجفيفه ويدق وينقى من الأعواد والشوائب ويضاف إليه  السمسم والسماق الناعم، وأحياناً بعض الحمص المقلي (القضامة المحمّصة المطحونة) وكذلك بعض الجميد المطحون أو المكسرات حسب الرغبة، وكانت هذه المكونات تخلط جيداً وتحفظ في مطربان وتؤخذ منها كميات بسيطة حسب الحاجة، حيث تؤكل مع الخبز وزيت الزيتون كوجبة ثانوية، أما السماق فتقوم النسوة بغليه مع الماء للحصول على سائل حامضي خمري اللون كان يستخدم مع الطبخ كبديل للليمون في حال عدم توفره، وكذلك الحال مع  دبس الحصرم (العنب غير الناضج).

نبات الشومر الذي يستخدم لتحضير “العجة” في الشمال الأردني خلال فترات الربيع

كما وفرت البيئة المحيطة أنواعاً كثيرة من النباتات البريّة، ومنها الشومر الذي يؤكل أخضر، وقد يطبخ كالخبيزة، ويفضل أن يطبخ بالزبدة، والمرار الذي يؤكل أخضر نيئاً، أو يمكن ان يتم طبخه بالبصل، وكذلك القفرة التي غالباً ما تكون من الدهن، وهناك أيضاً نبات البسباس الذي يؤكل نيئاً أخضر، والخردلة التي تؤكل مع اللبن، والحويرنة التي تنبت في مجاري السيول ويستفاد منها في تحضير السلطات وتتميز هذه الأخيرة بمذاق حاد وحار، والقرة التي تعتبر من أنواع السرخسيات التي تنبت في مجاري السيول وتستعمل في السلط وهو ذات الحال مع العلت.

نبات الخبيزة الذي يعتبر من أهم مكونات المائدة الأردنية خلال فصل الربيع
نبات العلت، ويعرف باسماء اخرى مثل: السريس والشيكوريا والهندباء
برغل دفين ، برغل مع الحمص والخضار المدفونة ، طبق صيامي ونباتي بامتياز من مطعم ارث الأردن
  • أطباق نباتية – صيامية:

خلال أربعين يوماً من الصيام المسيحي، تتشكل مائدة كاملة لا تحتوي على اللحم بكل أنواعه ولا الحليب ومشتقاته، ويعتقد أن هذا الصيام الفلاحي من ِشأنه الحفاظ على الثروة الحيوانية خلال فترة الربيع وحمايتها من الذبح، إضافة لترك الحليب لرضاعتها، يحدث ذلك في الوقت الذي تفيض فيه الطبيعة بالأعشاب والنباتات المناسبة للأكل، وتدعم أطباق الأعشاب بالحبوب والقيطاني، ومن الأكلات الأردنية النباتية المناسبة للصوم “صيامية” والتي يستخدمها الجميع في تلك الفترة في الواقع، حوسات البصل والزيت مع الخبيزة أو الفطر، أو الكما، أو العكوب، أو الحميصة، أو الهندبة، أو السلق، أو اللوف، وكذلك سلطة العلت مع البصل والزيت، وسلطة فريم البندورة والبصل مع السماق، والنباتات النيئة كاللشيلوه (حويرة الماء)، وقرون القصيقصة، وقرون البرّيد والخرفيش، ومقالي الباذنجان، والبطاطا والكوسا والفليفلة، والفول الأخضر بالسماق، قلاية البندورة بالزيت، ورقة الدوالي أو ورقة اللسينة الذي يلف بالأرز، أو البرغل الدفين مع الحمص وفريم البندورة والخضار، حوسة الفول الأخضر بالكزبرة والزيت، المجدرة، الأرز بالشعيرية، الأرز والفول الأخضر بالزيت، مرقة العدس المجروش، مدمس العدس الحب، طبيخ العدس والباذنجان بالزيت والثوم والبصل والبقدونس، وأقراص النعنع والزعتر الأخضر والحميضة والخبيزة، وقلية القمح وغيرها.

  • المراجع:
  • حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان: الأردن
  • خريسات، محمد عبد القادر (2012) المسيحيون في قضاء السلط، عمان، الأردن
  • العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.
  • العزيزي، روكس (2012) معلمة للتراث الأردني، مطبعة السفير.

التنوع النباتي في المطبخ الأردني والأطباق النباتية والصيامية

  • مقدمة

يعتبر الأردن من المواطن الأصلية لكثير من الأشجار المثمرة حول العالم، وذلك بالاستناد على الدلائل والبقايا النباتية التي لا تزال قائمة حتى اليوم والتي تنتشر في مختلف البيئات الأردنية وتثمر بشكل جيد وتقاوم الظروف الطبيعية الصعبة، وتضم هذه الدلائل أنواع بريّة مختلفة من البطم الأطلسي (أصل ما يعرف بالفستق الحلبي) P. Atlantica واللوز البري Amygdalus sp.  (أصل اللوز والبرقوق والدراق المشمش)، والزعرور C. Azorolus، والأجاص البري (أصل للأجاص) Pyrus sp.

ويلاحظ قيام المزارع الأردني بزراعة مختلف أنواع وأصناف الأشجار المثمرة في بيئات الأردن المتباينة مناخياً وجغرافياً ما بين الغابات الرطبة وصولاً للمناطق الصحراوية الجافة، وفي أنواع مختلفة من الأتربة كالصخرية والكلسية والجافة وعلى ارتفاعات تمتد من دون مستوى سطح البحر في الأغوار الأردنية وتصل حتى 1350م عن سطح البحر، مما يوحي بأن المصادر الوراثية للأشجار اكتسبت مع الزمن مواصفات هامة تعتبر أساسا لأنواع الأشجار المثمرة وقاعدة صلبه تتركز فيها العوامل الوراثية بالانتخاب الطبيعي.

  • الزيتون

ومن بين جميع الأشجار الأصيلة في البيئة الأردنية يحظى الزيتون بأهمية ورمزية في الثقافة الإنتاجية الأردنية ومائدتها، حيث تعتبر المنطقة هي الموطن الأصلي لشجرة الزيتون حيث بدأت زراعتها قبل نحو 6000 سنة، وتعتبر الشجرة الأكثر أهمية في قطاع الأشجار المثمرة، وتطلق بعض التوصيفات التاريخية على أنواع أشجار الزيتون للتأكيد على قدمها، ومنها الزيتون الروماني – الرومي والذي يراد من تسميته بهذا الاسم نسبه للفترة الرومانية التي حصل الأردنيون خلالها على حلف للحكم المحلي يعتبر الأول من نوعه في العالم، وفي الواقع فقد تواصلت زراعة الزيتون في الأردن لفترات طويلة واستفاد الأردنيون القدماء من زيته وثماره في الاستخدامات الغذائية والاقتصادية المتعددة ويستدل على ذلك من خلال المواقع الأثرية التي تضم معاصر للزيتون، إضافة للسرج النبطية التي كان يستعمل زيت الزيتون في إنارتها.

وينظر للزيتون اليوم باعتبار كونه الأكثر أهمية في قطاع الأشجار المثمرة وذو أهمية كبيرة في الاقتصاد الوطني إذ بلغت المساحة المزروعة بالزيتون لعام 2006 حوالي 1.26 مليون دونم وتعادل هذه المساحة حوالي 72 % من المساحة المزروعة بالأشجار المثمرة وحوالي 36% من كامل المساحة المزروعة في الأردن، يقدر تعداد أشجار الزيتون في الأردن بنحو 20 مليون شجرة 77 % منها للزراعة البعلية، والباقي من خلال الري الدائم، كما يبلغ الإنتاج السنوي من ثمار الزيتون حوالي 243 ألف طن ومن الزيت حوالي 37 ألف طن.

اطلالة بانورامية على امتداد كروم وحقول الزيتون في بلدة حرثا وفي الافق جبل الشيخ وامتداد سهول حوران الأردنية
  • بلدة حرثا (قويلبة) . . . آلهة الزيتون

تعرف بلدة حرثا في محافظة اربد في الكتابات القديمة بنوعية زيتها الذي يعد مميزا على مستوى العالم، حتى أنه كان يطلق عليها اسم ”قنديل روما”، كما أنه كان يجمع فيها زيتون المناطق المجاورة كلها قبل أن يتم نقله إلى أماكن أخرى، كما أن جفت الزيت أيضا يجمع على شكل كتل أيام الرومان في حرثا، ثم ينقل إلى معسكر أم الرصاص من هناك. ولا تزال حتى اليوم مشهورة بزيتها بشمال الأردن.

وقد ذكرها أيضا الحازمي فقال (ناحية من كور الأردن، ويذكر ياقوت الحموي في كتابه ( معجم البلدان ) أن “آبل الزيت هي القويلبة / حرثا التي تقع بالأردن على مشارف طبريا”، ويذكر المؤرِّخ مصطفى مراد الدبَّـاغ أنها تقع في لواء إربد بالأردن وأُطلق عليها إسم (آبل الزيت) لجودة الزيت الذي تنتجه كروم أشجار الزيتون التي تـُغطي أراضيها، وتطلق بعض المراجع على المنطقة التي تقع فيها “آبل الزيت” في منطقة بني كنانة إسم منطقة العيون الشمالية، وقد كشفت الحفريات الأثرية في موقع قويلبة التي نفذتها البعثة الامريكية من معهد اللاهوت في سانت لويس بالتعاون مع دائرة الآثار العامة الأردنية على معصرة زيتون يمكن النزول إليها بواسطة درجات من الحجر الجيري.

أما الباحث المهدي عيد الرواضية، الذي يوضح في كتابه، عند حديثه عن موقع ”آبل الزيت”، مبينا أن منطقة آبل الزيت ”هي المعروفة الآن بقويلبة، الواقعة في محافظة اربد إلى الشرق من بلدة حرثا، وأقدم من ألمح إليها من الجغرافيين العرب هو ابن خرداذبة كإحدى كور الأردن، قال: كور الأردن: طبرية، كورة السامرة، كورة بيسان، كورة فحل، كورة جرش، كورة بيت رأس، كورة جدر، كورة آبل الزيت، كورة سوسية، كورة صفورية، كورة عكا، كورة قدس، كورة صور، وخراج الأردن، ثلاثمائة ألف وخمسون ألف دينار”.

شجرة زيتون رومي معمرة في وادي الريان – اربد )تصوير بركات ظاظا)
  • أنواع شجر الزيتون

خضعت عملية زراعة الزيتون في الأردن لكثير من التطوير عبر القرون الماضية من خلال تحسينه واصطفاء حباته وأنواعه بعبقرية المزارع وعقليته التجريبية، مما تسبب بتنوع الأصناف والتي لا يتسع المجال لدراستها بشكل مفصل ولكن نستوضح أدناه أهم هذه الأصناف وصفاتها:

  • الزيتون النبالي: من الأصناف المعروفة والمنتشرة في الأردن، ثماره بيضاويّة الشكل، تميل للاستطالة، وتكون منبسطة في أحد جوانبها، ومدبّبة من الجهة الأخرى، ويصل وزن الحبة إلى أربعة غرامات، يعتبر هذا النوع الأكثر ملائمة لطبيعة الأرض الأردنية ويمتاز بجودة زيته وغزارة انتاجه حيث تتراوح نسبة الزيت في الحبة الواحدة من 20-38%.
  • الزيتون الرصيعي / النبالي المحسَّن: ثمار هذا النوع كرويّة مستديرة، ووزن الحبة حوالي أربعة غرامات ونصف، ونسبة الزيت فيه منخفضة جداً، لا تتجاوز ست عشرة بالمئة، ويصلح للمائدة أكثر من العصر.
  • الزيتون البلدي الرومي: تستخدم هذه التسمية لوصف الأشجار القديمة المعمّرة في الأردن، والتي يمتد قطر جذعها الى نحو مترين، ويمتاز بأنه من أجود أنواع أشجار الزيتون على الإطلاق، وتصلح ثماره للتخليل والعصر، حيث إنّ نسبة الزيت في ثماره مرتفعة.
  • الزيتون الكلاماتا: يعود في الأصل لليونان، ثماره صغيرة، بحيث يصل وزن الثمرة ما بين غرام واحد وغرام ونصف، وتكون الحبة منتفخة من وسطها، وهو من أفضل وأجود أنواع الزيتون المستخدم لإنتاج زيت الزيتون.
  • الجروسيدي: وهو من أنواع الزيتون التي تعود في أصلها إلى إسبانيا، وثمارها متوسّطة الحجم، أو كبيرة نوعاً ما، وقد يصل وزن الحبة إلى سبعة غرامات، وهي من الأنواع التي تصلح بشكلٍ رئيسي للكبيس، أما نسبة الزيت فيه فمنخفضة، تصل إلى ثماني عشرة بالمئة فقط، وهي من الأصناف التي تصلح للزراعة البعليّة، في المناطق الجبليّة.
  • الزيتون البري: وينتشر هذا النوع من أشجار الزيتون في الجبال والبراري، وتتميّز هذه الأشجار بصغر حجمها، وكثرة تفرّعاتها، وأغصانها شوكية، وصغر حجم ثمارها، وانخفاض نسبة الزيت فيها، وأحياناً قد يشوب طعم زيتها بعض المرار.
  • الزيتون الباروني: ويعود أصل هذا النوع من أشجار الزيتون إلى تونس، وشكل الثمار يشبه الكمثرى المقلوبة، ووزن الحبة يصل إلى سبعة غرامات، ويتميّز لون ثمار هذا النوع بالأحمر النبيذيّ، وهو من الأنواع الصالحة للكبيس، ونسبة إنتاج الزيت في ثماره ثماني عشرة بالمئة.
جانب من أجواء موسم قطف الزيتون
  • قطف الزيتون:

تعتبر مرحلة تلقيط أو فرط الزيتون، من المراحل التي تدل على قيمة العمل داخل العائلة الأردنية فيتشارك الجميع هذه المسؤولية بغض النظر عن الجنس والعمر، فهو واجب عائلي على كل شخص قادر على العمل، أما التوقيت فيبدأ منذ مطلع تشرين الثاني، وبعد ما يعرف شعبياً بـ “الشتوة الأولى” التي يسميها الفلاحون “شتوة الزيتون” لأنها تغسل أشجار الزيتون وحباته وتهيئها للقطف فتكون خالية من الغبار والتراب المتراكم على الشجرة، ويستيقظ الجميع في الصباح الباكر متوجهين الى حقولهم محاولين الاستفادة من أكبر عدد من ساعات النهار : يفرشون الأرض بالمفارش “المدارج” يجمعون الثمار في أكياس مخصصة لهذه الغاية تسمى “شوالات”، يتم نقلها الى البيت في آخر اليوم ومن ثم للمعصرة في آخر أيام الموسم.

أقدم معصرة زيتون في الأردن في بيت ايدس – اربد (تصوير محمد شطناوي)
  • معاصر زيت الزيتون وأنواعه

إلى جانب المعرفة بأنواع أشجار الزيتون بغية الوصول الى أفضل عائد مما يتم زراعته وعنايته طوال العام، أبدع الأردنيون منذ القدم في تطوير أدواتهم الزراعية باستخدام الموارد المتاحة منذ العصر الحجري، فكانت أول وأقدم معصرة للزيتون في المنطقة وهي معصرة بيت ايدس، والتي تقع جوار معصرة عنب وكهف السيد المسيح الذي لجأ للأردن ثلاث مرات، وهي منحوتة صخرية زيتية تستخدم تقنية تقوم على مبدأ القوة والتناسب في عملها حيث كانت تدار بواسطة الدواب وأصبحت تدار بالكهرباء مع الحفاظ على نفس تقنية العصر البارد والتجفيف والسلق، ويستمر هذا النمط من المعاصر في الأردن والمنطقة حتى الآن وتحظى بإقبال المزارعين ويحظى زيتها بإعجاب المستهلكين، رغم الثورة الصناعية وانتشار المصانع الآليّة والحديثة.

وتعتبر عملية العصر أمرًا ذا أهمية عظيمة نظرًا لما له من تأثير مباشر على جودة الزيت وكميته أيضًا؛ إذ يمكن أن تتأثر جودة الزيت بحصول أخطاء قد تكون في عملية العصر، أو الفصل بين الأنواع المتعددة للزيتون المراد عصره، وقد تتعلق بممارسات روتينية في المعصرة لها ارتباط بدرجة حرارة جَرْش الزيتون، أو كمية الرطوبة في العجينة، أو نظافة الأدوات، وسرعة الطحن، أو درجة نعومة العجينة. ونبرز هنا أهم أنواع زيت الزيتون المتعارف عليها حالياً:

  1. زيت الزيتون البكر الصافي:

يعتبر من أفضل وأنقى أنواع زيت الزيتون، حيث يتم استخراجه باستخدام الضغط البارد فقط. حيث يحتوي على 1% فقط حموضة. وهو أول زيت يستخلص من حبّات الزيتون. وهو زيت زيتون طازج وصافي وله نكهة ورائحة واضحتين.

ويستخدم زيت الزيتون البكر الممتاز في السلطة وعلى الجبن، كما يمكن وضعه على أطباق السمك أو اللحوم. وهو أفضل أنواع زيت الزيتون استخداماً للبشرة وللشعر.

  1. زيت الزيتون البكر:

زيت الزيتون البكر يمتاز بطعم جيد ومستوى حموضة منخفضة لا يزيد عن 3.3%، وهو أقل سعراً من زيت الزيتون البكر الصافي ولكنه يقترب منه في الجودة.

ويستخدم زيت الزيتون البكر في جميع الأغراض غير الطهي مثل رشه على السلطة أو الجبن أو أطباق اللحوم. ويستخرج زيت الزيتون البكر أيضاً من العصرة الأولى للزيتون. وله مذاق أقل من زيت الزيتون البكر الصافي.

  1. زيت الزيتون المكرر:

زيت الزيتون المكرر هو عبارة عن زيت زيتون بكر لكن نسبة حموضته تكون عالية ويتم تكريره بطرق كيميائية مما يؤدي لانخفاض العناصر الغذائية التي يتكون منها زيت الزيتون الأصلي، ومن أنواعه زيت العصارة المكرر وزيت العصارة الخام وزيت عصارة الزيتون.

استراحة محارب لحبات الزيتون بعد قطفها وقبل رحلتها للمعصرة ، حتى في أيام التعب ومواسم الحصاد والقطف كان هناك دائماً مساحة يعبر فيها الأردني عن الحب، سواء بالترانيم والأغاني ، أو بالأغصان والحبات
  1. زيت الزيتون النقي:

زيت الزيتون النقي عبارة عن خليط من زيت الزيتون البكر وزيت الزيتون المكرر. وهو منخفض في الحموضة فتصل نسبة الحموضة فيه حوالي 0.3%. ويعتبر زيت الزيتون النقي أفضل أنواع زيت الزيتون للطهي ومقاومة الحرارة. ولكنه لا يناسب استخدام السلطات، وهو أقل سعراً من أنواع زيت الزيتون البكر.

  1. زيت الزيتون الخفيف:

زيت الزيتون الخفيف يتم تحضيره بتكرير الزيت وتعرضه للحرارة وهو أخف نكهة ورائحة وطعما من أنواع الزيوت السابقة ويضاف إليه نسبة قليلة جدا من زيت الزيتون البكر، ويحتوي على نسبة عالية من السعرات الحرارية بعكس ما يعتقده بعض المستهلكين، وهو من أنواع زيوت الزيتون منخفضة الثمن.

  1. زيت تفل الزيتون:

زيت تفل الزيتون أقل أنواع زيت الزيتون ثمنا، ويستخلص من بواقي الزيتون بعد أن يتم عصره ويوضع تحت مكابس وأجهزة طرد مركزي، ويضاف إليه مذيبات عضوية مثل الهكسان ويضاف إليه نسبة قليلة من زيت الزيتون البكر.

  1. زيت زيتون المعاصر الحجرية (السلق):

زيت زيتون الخريج يستخلص من حبات الزيتون التي يتم غليها لمدة نصف ساعة ومن ثم نشرها وتعريضها للشمس لمدة ست أيام ومن ثم يتم عصره، يحتوي على نسبة حموضة من 3.3 – 5%، وقل إنتاجه كثيرًا لصعوبة استخلاصه وتكلفته العالية.

  1. زيت الطفاح:

زيت الطفاح يستخلص من حبات الزيتون التي تتساقط قبل موسمها ويدق بواسطة حجر أو مدقة، ويوضع في وعاء حديدي كبير ويغلى مع التحريك المستمر وبعدها يقفز الزيت إلى أعلى من الوعاء ويتم رفعه بكفي اليدين.

مكمورة ربداوية بزيت الزيتون
  • منتجات الزيتون في الغذاء الأردني

إلى جانب الحقول والمراعي حيث الحليب والحبوب ومشتقاتها، تقف الكروم الأردنية والبساتين ومساكب الخضروات شامخة مانحة المطبخ الأردني المزيد من التنوّع والتكامل في الغذاء، وبدون المساس بالتركيبة الغذائية الأساسية القائمة على المزج بين الحبوب ومشتقاتها والحليب ومشتقاته كما أوضحنا سابقاً في أبحاث سابقة من هذه السلسلة.

ويعتبر الزيتون عنصراً غذائياً مهماً في كثير من الأطباق الأردنية سواءً لكونه عنصراً غذائياً قائماً بحد ذاته، أو كبديل عن السمن والدهن الحيواني في عمليات الطهي، ويعمل وجوده إلى جانب الخضار على تعزيز المائدة الأردنية بأصناف عديدة من “الحوسات” وكذلك في توليف الخضروات مع مريس الجميد.

ومن أهم الأطباق الأردنية التي تستخدم زيت الزيتون:

  • المكمورة: طبقات من العجين المختمر المحشوة بالبصل والدجاج المذبل بزيت الزيتون مع السماق والحبة السوداء ومزيج من الأعشاب والنكهات المتنوعة، تشتهر في جميع مناطق محافظة اربد ولها أشكال متنوعة منها المطابق، والخبز بالبصل “خبز ابصل”.
  • المحاشي البردقانية: طبق غني بالمكونات من مدينة السلط، حيث يلعب زيت الزيتون دوراً مهماً في مزج مكونات الخضار من كوسا وباذنجان وفلفل حلو وبندورة مع مريس الجميد.
  • الرصيع / الرصيص: تحفظ حبات زيتون المائدة مع الملح والفلفل والليمون لمدة 45 يوماً لتنتج حبات الرصيع التي تعتبر جزءاً من المائدة الأردنية، تقدم في وجبات الإفطار والوجبات الخفيفة وفي بعض الوجبات كنوع من المقبلات.
  • البرغل الدفين: من الأكلات النباتية المستخدمة خلال فترة الصوم المسيحي وتولّف بين الحبوب والخضار، ويقدم زيت الزيتون بديلاً مناسباً للسمنة البلدية، لهواة الأطباق النباتية.

طبق البرغل الدفين ، من الأطباق التي يتم تحضيرها باستخدام زيت الزيتون
  • استخدامات أخرى لمنتجات الزيتون:

تعتبر مادة الجفت بأنها المخلفات المتبقية والناتجة عن عملية عصر ثمار الزيتون، وتتكون بشكل أساسي من البذور المطحونة، وبقايا اللب وقشرة الثمار والألياف، ويبلغ حجم الإنتاج السنوي من هذه المادة حوالي 85 ألف طن، وقد كانت المعاصر الأردنية رائدة في هذا المجال من خلال تحويل العبء البيئي الناتج عن عملية العصر إلى عائد اقتصادي مفيد ومصدر للطاقة في ظل الارتفاع الحاد في أسعار المحروقات وفاتورة الطاقة خلال السنوات الماضية، ومن أبرز استخدامات هذه المادّة:

  • مصدر للطاقة: يعتبر بديلاً بسعر منطقي للوقود ويستخدم في تشغيل وسائل التدفئة في العديد من البيوت الأردنية، وهي عملية تساهم في الحفاظ على الثروة النباتية من خلال الحد من قطع الأشجار الحرجية واستخدامها حطباً للتدفئة.
  • مصدر للسماد الطبيعي: يضاف لعناصر أخرى بحيث يستعمل كوسط للزراعة في المشاتل ويضاف إلى المحاصيل المختلفة لتحسين خواص التربة، حتى أن رماد الجفت الناتج عن الاحتراق في المواقد يمكن استخدامه كسماد عضوي، كما يمكن استخدامه كمادة توضع على أحواض الأشجار المثمرة لحفظ رطوبة التربة ومنع نمو الأعشاب.
  • مصدر للأعلاف: تحتوي مادة الجفت على 10% من البروتينات، 3-4% دهون، 32-47% ألياف، ورغم انخفاض استساغة طعمها من الحيوانات إلا أنه يمكن استخدامها في صناعة المكعبات العلفية بعد خلطه بمواد أكثر استساغة.
  • صناعات أخرى، مثل صناعة المبيدات الحيوية لمكافحة الأعشاب، الفطريات، الحشرات والبكتيريا التي تهاجم الأشجار والمزروعات، وكذلك فيما يتعلق بصناعة الصابون، والفحم والكربون النشط.

الخاتمة

ومن هنا نلاحظ ثراء المطبخ الأردني وتنوع مكونات هويته الغذائية، وكيف تطورت زراعة الزيتون في الأردن تاريخياً لتصل الى ما هي عليه الآن من ثبات، سواء من خلال انتشار زراعته واستخدام زيته وتنوع أصنافه وطرق عصره ومعالجته واستخدام كامل مخرجات العملية في الغذاء والتدفئة والحصول على الانارة والطاقة والسماد، وسيكون هناك قريباً بحث كامل عن مسيرة الزيتون في التاريخ الأردني يتناول كيفية انتشاره وتطور استخدامه خلال فترات العصور القديمة.

المراجع:

  • حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان:الأردن
  • بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة، مؤسسة أهلنا للعمل الإجتماعي والثقافي.عمان: الأردن
  • اصدارات مديرية بحوث الزيتون، موقع وزارة الزراعة الأردنية http://www.ncare.gov.jo
  • شديفات، صالح & البدور، هدى. (2009) جفت الزيتون، المركز الوطني للبحث والارشاد الزراعي.
  • حبوب، الزين & أبو زريق، علي. (غ.م) أصناف الزيتون المناسب للأردن، المركز الوطني للبحوث الزراعية ونقل التكنولوجيا، وزارة الزراعة الأردنية.

 

الزيتون ومنتجاته في الاقتصاد والغذاء الأردني

مقدمة

يعتبر الغناء الدرزي من الأنماط الموسيقيّة المميزة في الإرث الموسيقي الأردني، إذ أنه يتمتّع بخصوصيّة في القوالب البنائيّة والألحان والمفردات الشعريّة الذي لبعضه شخصيته المستقلّة تجعل منه لونًا غنائيًا خاصًّا غير موجود في مواقع أخرى من الأردن، بينما تشترك أخرى مع غيرها من قوالب الإرث الموسيقي الأردني في التسمية والسمات الفنيّة والجذور التاريخيّة. وبني معروف، أو الدروز، هم من سكّان المناطق الشماليّة في الأردن، إذ انتشرت مضاربهم بجوار العديد من العشائر والقبائل البدوية الأردنية، وتداخلت مناطق نفوذهم مع العديد من القرى والمدن في الشّمال وحتى الوسط، وكان لهم إسهامات شتّى في الممارسات الغنائيّة الشعبيّة ساهمت، دون شك، في نشر وتطوير العديد من الألحان والقصائد التي يزخر بها إرثنا الموسيقي الذي تبلور خلال مئات السنوات من النشاط الحضاري القائم على الانفتاح والتفاعل بين مكوّنات المجتمع الأردني. نستعرض في هذا البحث ألوان الغناء الدرزي في الأردن، أو ما يُعرف بالقوالب الغنائيّة: الفن، الهوليّة، العتابا. ويُضاف إليها: الهجيني، الحداء، الشروقي، السحجة (السّامر)؛ التي سبق وأفردنا لها أبحاثًا خاصّة يمكنكم الإطلاع عليها.

الأزرق 1900 أردنيون من بني معروف ( الدروز) بلباسهم التقليدي الجميل يرتدونه بارتياح ما يدل على مجتمع أردني تتأصل به قيم الانفتاح والتنوع

الفن

يُعد اللون الغنائي المُسمّى “الفن” من أكثر القوالب الغنائية الدرزية شهرةً وانتشارًا بين القبائل الدرزية، وربما هو الأقرب إلى وجدانهم نظرًا لخصوصيّته التي يختص بها الدروز عن غيرهم من خلاله، وهو أيضًا من أكثر الألوان الغنائية سهولةً للاستيعاب والتوظيف شعرًا ولحنًا. ويعتقد أن تسميته جاءت من كثرة ما تفنّن الشعراء الدروز ببناء قصائد الفن شكلاً ومضمونًا، ولبراعتهم في التنويع على أساليب الفن الشعريّة والغنائيّة، حيث حمّلوه الكثير من المفردات والموضوعات والقوافي والألحان، سافرت جميعها بالشخصيّة الدرزيّة وفلسفتها الخاصة نحو الحياة والحب إلى آفاق إنسانيّة راقية. ويسمّي البعض الفن بالـ “الفن الدرّازي”، ولهذه التسمية تأويلان؛ أولهما أنه لون غنائي خاص بالدروز، أما الثاني فهو تشبيه نظم القصائد الفنية بعملية الدرز أو التطريز، وكلا التأويلين يعبّران عن امتلاك القبائل الدرزية لهذا اللون الغنائي واعتزازهم به وجدانيًا وثقافيًا.

وفيما يرى البعض أن الفن يشمل كافة الألوان الغنائية التي يغنيها الدروز، مشتملة على الهجيني والحداء والجوفية والشروقي وقصيدة الفن نفسها، إلا أن الأخيرة تتميّز بشكلها البنائي الخاص الذي يجعلها تختلف عن غيرها من الألوان الغنائية وإن كانت جميعها “فنون”.

تتشكّل قصائد الفنون من عدد غير محدد من المقاطع، تكاد تتشابه جميعها في البناء والنمط الشعريّ، وغالبًا ما يكون المقطع الأول ذا أهميّة بالغة لأنه مفتاح القصيدة وبابها، ولذلك فهو يختلف في تركيبته الشعرية عن باقي المقاطع، إذ تشترك الشطرات الأولى والثانية والرابعة فيه بنفس القافية التي تكون الأساسيّة للقصيدة كلها، وتنفرد الثالثة بقافية مختلفة لكسر الملل والرتابة ولترسيخ القافية الأساسية الواردة في بقيّة الشطرات. وعلى الرغم من وحـدة الموضوع والمضمون لكامل القصيدة، إلا أنه وفي بعض الأحيان تكون المقاطع الشعرية المكوّنة من بيتين في قصيدة الفن بمثابة وحدة فنيّة ذات مسار فرعيّ من الموضوع الرئيسيّ. من الأمثلة على الفنون قصيدة “زاد هم القلب زاد” التي يُلاحظ فيها ما تقدّم بيانُه فيما يتصّل بالبناء الشعريّ :

زاد هم القلب زاد .. عوّفني لذيذ الزّاد

سبب علّتي يا ناس .. غرٍّ نطحني ورّاد

غرٍّ نطحني بعيني .. طوله رمح لرديني

بسوى من هون للصيني .. وأيضاً قرايا بغداد

بسوى من الذهب مليون .. خدّه يا قمر كانون

ع فراقه سُحِت مجنون .. ذبحني حُمُر لخداد

ومن الأمثلة على قصائد الفن التي تظهر فيها التقنية الشعريّة عالية المستوى من خلال تكرار نهاية البيت السابق في مطلع البيت اللاحق، ما جاء في قصيدة “هلّي يا دموعي” :

هلّي يا دموعي هلّي .. تنبكي ع ولفٍ لي

على شوقٍ لاقيته .. مبارح من بعد الحَلِّه

على شوقٍ لاقيته .. يسوى كل اهل بيته

لولا الحيا حبّيته .. وهو على البير يملّي

ع البير يملّي جودُه .. يا مرحوم ابو جدودُه

ويلي من حُمر خدودُه .. رمّان على امّه مدَلّي

رمّان مدلّي اغصانه .. لسّا ما حل أوانه

لحرُث على فدّانُه .. واجعل هالعمر يولّي

الهوليّة

وهي رقصة غنائية شعبيّة يؤديها الرجال والنساء معًا في المجتمع الدرزي، يقف فيها المشاركون على شكل حلقة تتشابك فيها أيديهم على الأكتاف وتتحرّك دائريًا إلى اليمين على إيقاع غناء شعبيّ خاص بهذه الرقصة، وتدور الحلقة بعكس عقارب الساعة بنظام خطوتين لليمين وخطوة إلى اليسار، وبداخل الحلقة ينفرد راقصٌ وراقصةٌ بأداء منفرد، الأمر الذي يُشبه من حيث توزيع الأدوار إلى حدٍّ قريب رقصة السامر البدوية التي يقف فيها المشاركون صفًا واحدًا فيما تستعرض أمامهم الحاشي رقصتها الخاصة. والهوليّة، كالسّامر، تؤدّى في نهاية سهرة طويلة، ويشترك في أدائها الأقارب.

أما تسمية هذه الرقصة بالهولية فيعود للتهويل، والتهويل لغةً يعني المبالغة، واصطلاحًا في القاموس الشعبيّ وبخاصة عند الدروز فهو يعني النقوش والزينة والحلي التي تُظهرها المرأة للمبالغة في جمالها. وتُسمّى الهولية بهذا الاسم تشبيهًا لزينة المرأة الجميلة، فالأغاني الهوليّة مزخرفة بالكثير من المفردات والأبيات الشعريّة الجميلة التي ترافق الرقصة الرشيقة ذات الإيقاع النشط. وتشبه الهولية الزينة في عشوائيتها الجماليّة، فهي غير محكومة بنظامٍ غنائيّ محدد، لا سيّما وأن معظم الهوليّات متوارثة عبر الأجيال ولا يُعرَف قائلها، مما يسمح بالكثير من الإضافات والزخارف في الكلمة والنغمة، ويعطي مساحة للتنويعات الشعريّة الجديدة بحسب ما تقتضي طبيعة الحال والمزاج، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى ثراء كبير في مخزون الهوليّات الجماليّ، وفيما يلي نموذج لإحدى الهوليّات :

بظلّك يا شيخة لافرش وانام .. بظلّك يا شيخة يا هويدلو

بهوى المليحة ليش ولّعتوني .. بهوى المليحة يا هويدلو

بظلّ التفاحة لافرش وانام .. بظل التفاحة يا هويدلو

ما يشوف الراحة هاوي المزيونة .. ما يشوف الراحة يا هويدلو

العتابا

اشتُقّ اسم العتابا من العتب، والعتب كما يُقال “ع قدّ المحبّة”، فهو من الألوان الغنائية التي تنحاز أشعارها إلى الحديث عن الحب بكافّة أبعاده وزواياه، فمن الحنين إلى اللوم مرورًا بالوجد ووصولاً للغزل؛ تتنوّع وتتراكم أبيات العتابا التي تناقلتها الأجيال عبر مئات السنين. والعتابا غناء موّالي فرديّ غير جماعي، وغير موزون بإيقاع، أي غناء حرّ أقرب إلى الارتجال، ما يعطي للمغني مساحة أكبر للتعبير عن حالته المزاجيّة وعن انعكاس مضمون الأبيات الشعريّة التي يغنّيها على حالته الوجدانية.

يُعد العتابا ذروة من ذرى الاتقان الشعريّ واستعراض القدرة البشرية على التلاعب باللغة واظهار مكنوناتها الجماليّة، فتأليف أبياته يتطلّب براعة ودقّة لفظية كبيرة، ومخزون غنيّ من المفردات الشعبيّة الصالحة للتوظيف في قالب العتابا بحسب شروطه البنائية، حيث يتكوّن كل موّال عتابا من بيتين (أربع شطرات)، تنتهي بالضرورة الشطرات الأولى الثلاث بنفس الكلمة، في كلّ مرّة يجب أن يكون لنفس الكلمة معنى مختلف، فيما يجب أن تنتهي الشطرة الأخرى بكلمة تكون القافية فيها (آب) ككلمة (البواب، الجواب، الأحباب…إلخ). وبالرغم من صعوبة وتعقيد الشروط البنائيّة إلا أن الأمثلة كثيرة على العتابا، ومنها :

لوماهن ما انشهر الاحدب ولا انسال .. لوماهن ما انسلب ميزان جسم ولا انسال

لوماهن ما انهرق دم ولا انسال .. لوماهن ما انتصب ميزان الحساب

انسال الأولى : تعني انسلال السيف (الاحدب)، وانسال الثانية تعني : أن يصاب الجسم بمرض السّل، وانسال الثالثة تعني : أن يسيل الدم.

المضمون الشعري

تتسم الأشعار الغنائية الدرزية، كغيرها من أنماط الغناء في الأردن، بتنوّع المضامين واحتمالها لمختلف الموضوعات التي تعبّر عن الوظائف الاجتماعيّة والدوافع النفسية والحالة المزاجيّة العامّة لمختلف أفراد المجتمع، فمنها ما يعكس تنوّع المجتمع برمزيّات بسيطة كالحديث عن اختلاف لون البشرة، مثل :

بين السّمر والبيض مشروعيّة .. والكل منهن دوم يشكن ليِّه

إحنا يا البيض إحنا الحجر ألماس .. تاج الذهب مرفوع فوق الراس

والسّمر حديد للمحماس .. ولّا خلق صاجات للعزبيّة

ولم يكن مضمون الأغنية الدرزية ببعيدٍ عن النضال ضد المستعمر جنبًا إلى جنب مع بقية الأردنيين، فقد عبّرت عن قيم البطولة والحرية، خصوصًا وأن هذه القيم هي من أكثر ما تهتم به الأعراف الدرزية تاريخيًا، وتشير المصادر إلى أن العديد من الشعراء الذين صاغوا وكتبوا هذه الأغاني كانوا من بين المقاتلين في قوّات الثورة، وعند العودة لدراستها ومقارنتها بالأحداث التاريخية يجد الباحث أنها ساهمت بتوثيق التاريخ العسكري والسياسي للأحداث الجارية في حينه. ومن أمثلة الأغاني التي تضمنت الحديث عن النضال الدرزي ضد المحتل العثماني :

نمشي على الباغي بجد .. ما نختشي من حرابها

حنا على سن الرّمح .. تركيا لا ما نهابها

وبلادنا حصن منيع .. عيّت على طلابها

تفديها بغالي النجيع .. وتهوشِ عند بوابها

كما اشتملت الكثير من الأغاني الكثير من الحكم والمثل الإنسانيّة التي تمثّل فلسفة الإنسان الدرزي، ومن أمثلة ذلك :

إن جاد حظك باع لك واشترى لك .. ويحفظك من بالشان وتصير من ناس

وإن غاب حظك يكرهنّك رجالك .. ويعيب عرسك يا فتى الجود للساس

السمات الفنيّة

الشّعر : تتميّز الأشعار الغنائية الدرزية بإسهابها وسرديتها الطويلة للتفاصيل، فهي لا تقف عند بيتين أو ثلاثة، وانما تتابع الأبيات فيها لتكوّن قصيدة طويلة قادرة على حمل قصّة سرديّة أو صور وصفيّة أو حوارات غزليّة.

تحمل الأشعار الدرزية أنظمة قوافي متعددة، فمنها ما يعتمد على قافيتين ثابتتين للصدر والعجز طول القصيدة، ومنها ما يعتمد على قافية محددة تتكرر في نهاية كل بيتين من القصيدة، ومنها ما يكون أكثر تحرّرًا على سبيل التجديد والابتكار، ما يؤشر على رشاقة وصِبا الثقافة الشعريّة عند الدروز، واتساعها للتجارب الشعريّة الجديدة.

تمتاز الحالة الشعريّة الدرزية، كغيرها من الحالات في الإرث الموسيقي الأردني، بأرضيتها الحاضنة لنمطيّة اللغة “اللهجة” المحكيّة، بكل تغيّراتها وتطوّراتها المُحتملة التي تترافق مع تغيّر أنماط العيش ودخول مفردات جديدة أو تغيّر بعض الأنظمة اللغوية فيها. وتتسع القصيدة الغنائية الدرزية الواحـدة لمفردات قد تميل للبداوة أو المدنيّة في نفس الآن.

اللحن : لا يمكن النظر إلى الخصائص اللحنيّة للغناء الدرزي بمعزلٍ عن الأخذ بعين الاعتبار الخصائص والسمات الشعريّة والبنيوية اللفظية والعروضيّة للقصائد الغنائية الدرزيّة، وعليه؛ فإن المتتبِّع والممعن في تحليل الألحان الغنائية الدرزية يجدها تحت ظلال القافية والمعنى بشكلٍ واضح، وهو ما يرسّخ فكرة الإبداع المتعدد الجوانب والمعتمد على العناصر الجمالية الأساسيّة الثلاثة : الكلمة، اللحن، الأداء.

تّتسم الألحان الدرزية عمومًا برشاقة بنيتها اللحنيّة وبساطتها باعتبارها غناءً شعبيًا، وبالرغم من بساطتها في الغالب، إلا أنها تحتوي في بعض الأحيان على قفزات لحنيّة بعيدة تعطيها الطابع الموسيقيّ الأكثر تعقيدًا دونًا عن النمطية الرتيبة للألحان الشعبيّة الشهيرة في مناطق أخرى، وتجعلها جذّابة للاستماع والأداء على حدٍّ سواء.

أما بالنسبة للمقامات الموسيقيّة المستخدمة في الأغاني الدرزية، فبحسب الدراسات والأبحاث السابقة، فإن مقام البياتي يحتل المرتبة الأولى في الألحان الغنائية، وهي سمة شائعة في الغناء الأردني عمومًا، يليه مقام السيكا فمقام الراست، بينما يأتي مقام الصبا والهزام في الآخر.

الإيقاع : تترافق معظم الأغاني الدرزية، ما عدا المواويل والعتابا، بالمرافقة الإيقاعيّة، سواء كانت باستخدام الآلات الإيقاعيّة أو من خلال الممارسات الإيقاعيّة غير الموسيقيّة كأصوات الدبكة والرقصات المختلفة، ومن الإيقاعات المستخدمة في الأغاني الدرزية : الأيوب، اللف، المقسوم، الفالس، الهجع.

الأداء : تتنوّع طرق الأداء الغنائي عند الدروز، ما يخلق تصنيفًا واضحًا للأغاني استنادًا لطريقة الغناء، فمنها ما تغنيه مرأة منفردة أو رجل منفرد، ومنها ما تغنيه مجموعة من النساء أو مجموعة من الرجال، ومنها ما تشترك فيه مجموعتان من الرجال والنساء في حوارٍ غنائيٍّ، والذي قد يكون أيضًا على شكل حوارٍ بين دور منفرد ومجموعة من الردّيدة كذلك النمط الأدائي الموجود في غناء السّامر. وتؤدى الأدوار الأدائية في الغناء بصورة تلقائيّة في المناسبات الاجتماعيّة.

ومن الملفت للنظر التنوّع الثري في الطرق الأدائية للغناء الدرزي، الرجالية والنسائية، الفردية منها والجماعية، التي تسمح بالأداء مع المرافقة العزفية أو بدونها في بعض الأحيان. أما فيما يتصل بالمرافقة العزفية فإن الآلات الموسيقية المنتشرة في المجتمع الدرزي هي الربابة والشبّابة وآلة العود.

ولقد برز على الساحة في العصر الحديث العديد من المؤدين الشعبيّين الذين انتزعوا مكانتهم وشهرتهم في الوسط الفنّي الشعبيّ، تميّزوا بأدائهم الرصين وحفاظهم على الإرث الموسيقي الدرزي، وتناولت الدراسات والأبحاث أعمالهم وأداءهم بالتحليل وساعد ذلك في فهمٍ أعمق للموسيقى الدرزية.

المراجع :

  • الغوانمة، محمد، الغناء الدرزي في الأردن (1)، 2017، مجلّة الفنون الشعبيّة، العدد 21، وزارة الثقافة الأردنيّة، عمّان، الأردن.
  • الغوانمة، محمد، الغناء الدرزي في الأردن (2)، 2017، مجلّة الفنون الشعبيّة، العدد 23، وزارة الثقافة الأردنيّة، عمّان، الأردن.

قوالب الغناء الدرزي

مقدمة

إن حضارة الأردن اليوم ما هي إلا ملخص مسيرة الإنسان الأردني عبر التاريخ في حضاراته وثقافاته المتعددة. لقد أدى هذا التراكم الحضاري لثراء غير مسبوق على الصعيد اللغوي والاجتماعي. في هذا البحث سنسلط الضوء على واحد من أهم المشاريع التي تبحث في اللهجات الأردنية، ولهجة عمان العاصمة بشكل خاص. قامت البروفيسورة الأردنية إنعام الور من جامعة اسكس البريطانية بتتبع لهجة عمان وكيفية تشكلها.

تمهيد علمي

تهتم اللغويات الاجتماعية بدراسة نتاج تلاقح وتمازج اللهجات وقد وثقت حالات عديدة على هذا التمازج والتلاقح في مجتمعات مختلفة تعرضت لظروف اجتماعية وسياسية كالهجرة.  تدرس الورقة العلمية التي قامت بإعدادها الدكتورة الور، لهجة عمان من هذا المنطلق. فهي تركز على نتاج تمازج وتلاقح اللهجتين الفلسطينية والأردنية.

الدكتورة إنعام الور المحاضرة في جامعة إسكس

في مثل هذه الدراسات يتوقع الباحثون عددا من الأنماط في  المتغيرات اللغوية Linguistic variants فقد  يطغى متغير في لهجة على متغير آخر في اللهجة الأخرى. وقد تندمج بعض الصفات مشكلة صفات جديدة لا توجد في كلتا اللهجتين. وقد وجدت هذه الحالات في مشروع لهجة عمان الذي أجرته البروفيسورة الور.

في الأبحاث المهتمة بالتغيرات الحاصلة على لهجة ما نتيجة تفاعلها مع لهجة أخرى، نجد أن الباحثين يتعاملون مع لهجة أصلية في المنطقة التي يدرسونها. نتيجة لعدد سكان مستقر ولهجة أصلية يمكنهم قياس التغيرات عليها. ولكن هذا لم يكن ممكنا في مشروع لهجة عمان نتيجة لكون عمان لم تمتلك لهجة أصلية وسكانا ثابتين لمدة جيدة من الزمن فسكان عمان وحتى أولئك الذين ولدوا فيها ينسبون أنفسهم لمدن غيرها فيقولون “أصلي ربداوي” أ يمن إربد، أو “سلطي” من السلط أو “نابلسي” من نابلس. ولكن لا يوجد أي مكون سكاني ينسب نفسه لعمان فيقول “أصلي عمَاني” يعود هذا لفترات الهجران الطويلة التي تعرضت لها عمان عبر التاريخ فبعد أن كانت عاصمة للحضارة الأردنية العمونية ومدينة حظيت بالعناية البطلمية ومدينة ديكابولس شهيرة تم هجرانها بالتدريج عقب دخول المسلمين إلى الأردن وحتى الاحتلال العثماني.

في  الفصل التالي من قراءتنا في بحث البروفيسورة الور سنطالع جغرافية اللهجات في الأردن إضافة لتوزيع السكان.

جغرافية اللهجات في الأردن

مر على الأردن عدة كيانات سياسية كالمملكة العمونية والمؤابية والنبطية والغسانية ولكن الأردن ككيان جغرافي وثقافي كان يتعدى الحدود السياسية التي تم رسمها عام 1921. عرفت الأردن بتسميات كثيرة “جند الأردن” “شرق الأردن/ نهر الأردن” ولكن خلال الاحتلال العثماني وبممارسة سياسيات الإهمال عرفت الأردن ب”مشارف الشام” وألحقت بولاية دمشق. ومن الجدير بالذكر أن الحركة التجارية آنذاك كانت أكثر بين الغرب والشرق لا بين الشمال والجنوب بدلالة العلاقة القوية بين مدينتي السلط ونابلس ومدينتي الخليل والكرك.

في حدود الأردن اليوم، تقسم اللهجات المستخدمة لمجموعتين رئيستين: لهجات شرق وجنوب المملكة وهي لهجة عربية بمتحدثين أقل عددا. والمجموعة الثاني هي اللهجة الشمالية والوسطية وتسمى لهجة مشرقية.

يمكننا تقسيم اللهجة المشرقية في الأردن لقسمين اللهجة الحورانية في شمال المملكة وتمثلها أفضل تمثيل لهجة أهل عجلون. واللهجة البلقاوية في وسط وغرب المملكة وتمثلها لهجة أهل السلط. ويتبقى لدينا لهجة الكرك وهي مشتقة من اللهجة العربية ويعتبرها العالم بالفا Palva لهجة انتقالية بين الشمال والجنوب.

بيوت الشركس في عمان في ختام القرن التاسع عشر

مع العوامل السياسية والاجتماعية ازداد عدد سكان الأردن بشكل عام وعمان بشكل خاص بشكل كبير. عام 1906 كانت عمان مستقرا لخمسة آلاف شركسي فحسب وعام 1930 انتقل الكثير من الأردنيين -خاصة من السلط- إلى عمان وقدر عدد المنتقلين ب5000 فرد. وبسبب الحروب العربية الإسرائيلية تنامى عدد السكان بسبب اللجوء. قرابة 1.5 مليون فلسطيني لجأوا إلى الأردن بين حربي 1948 و 1967. وعام 1990 عقب حرب الخليج، عاد 350 ألف فلسطيني من الكويت إلى الأردن. عام 2003، صار عدد سكان عمان 1.6 مليون متضاعفا 15 مرة عما كان عليه ومشكلا ثلث سكان المملكة.

العوامل الاجتماعية والسياسية وتأثيرها

عرف تاريخيا أن اللهجات السائدة في المنطقة هي لهجة أهل “المدينة” والمدينة هي بقعة جغرافية بمجتمع ثابت ذي أساس تجاري وصناعي. في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت السلط تمثل هذه المدينة. حيث كانت السلط أكبر المدن الأردنية حتى ثلاثينات القرن المنصرم وكانت لهجتها تعتبر “مدنية” بالرغم من العناصر “البدوية” الأصيلة فيها. مع قيام الدولة الحديثة، واعتبار عمان عاصمة الدولة الأردنية، تراجعت مكانة السلط ولكن لهجتها ظلت تؤكد على أنها “أردنية أصيلة” خصوصا مع غياب وجود مكون سكاني ثابت في عمان.

عمان 1922 سيدة تقوم بتحضير اللبن “خض السعن” في وادي السير

مع تنامي روح الهوية الأردنية، بدأت اللهجة السلطية باعتبارها اللهجة التي تمثل “الأصالة الأردنية” بالظهور أكثر وأكثر. وقد ساعد موقع السلط القريب من عمان (25 كلم) على ترسيخ هذه الفكرة. على صعيد آخر، كانت النخبة في عمان آتية من مدن كبيروت ودمشق وحيفا ونابلس والقدس وكلها مدن عرف عنها التقدم الحضاري، وكان لها بالطبع لهجتها الخاصة المتمايزة عن اللهجة الأردنية. ومن الجانب الأردني، كان هنالك عائلات عريقة قدمت السلط وسكنت عمان. إذن، في عمان العاصمة، وجد مكونان سكانيان ولهجتان رئيستان. الفلسطينيون والسوريون من مدن مختلفة، والأردنيون من السلط. وكان لعمان أن تخلق لهجة تمزج بين هذين العنصرين.

سلط 1900 اطلالة خلابة على عراقة مدينة السلط الأردنية وتفوق سكانها على الظروف الجائرة

في المرحلة الأولى تأثر الأردنيون (القادمون من السلط) بلهجة أهل المدن الفلسطينية والسورية ويعود السبب إلى أمرين الأول هو تقلد السوريين والفلسطينيين للوظائف العامة والأعمال بشكل كبير والثاني هو ارتباط هذه الفئة بمدن ذات بعد حضاري. وقد درس العالم بالفا Palva  لهجة تلك المرحلة وأكد على تأثر اللهجة الأردنية بعناصر من اللهجة السورية والفلسطينية المدنية. عقب الحروب العربية الإسرائيلية لجأ إلى الأردن كما أسلفنا أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين الذي كانوا ينتمون لقرى فلسطين ويمتلكون لهجة تختلف عن سكان المدن. على عكس الفلسطينيين الذين عاشوا في عمان مبكرا، لم يكن لهذه الفئة الكبيرة من اللاجئين أي تأثير على تشكيل لهجة عمان الحديثة.

هنا، يكون من الجيد توضيح الفرق بين المجتمعين الأردني والفلسطيني. يسود في المجمع الفلسطيني التفريق بين سكان المدن “المدنيين” وسكان القرى “الفلاحيين”  وهنالك فرق كبير وواضح بين اللهجتين الفلسطينية المدنية والفلسطينية والفلاحية. أما المجتمع الأردني قبلي. انتقل نظام التقسيم المتبع في المجتمع الفلسطيني إلى عمان بالرغم من أن سكان المدن وسكان القرى صاروا مواطنين في نفس المدينة إلا أن الانقسام لا زال موجودا بين مجتمع المدينة الفلسطيني ومجتمع القرية.

تشكلت الحكومات الأردنية الأولى من السوريين والفلسطينيين و أثار هذا الرأي الأردني العام. وقد طالب الأردنيون وقتها “بأردنة الجهاز الإداري” واعتبر المحللون السياسيون هذه المطالب أول تعبير سياسي حديث للهوية الأردنية. في ستينات وسبعينات القرن الماضي، دخلت الدولة الأردنية في حقبة التطور والتمدن، وشملت الإصلاحات القطاعات الاجتماعية والسياسية وقد أثرت بذلك على الأدوار التي ضلع الفلسطينيون والأردنيون على القيام بها في مجتمع عمان الحديث.

عقب حرب أيلول عام1970، عاودت مطالبات الأردنيين بالأردنة إلى الظهور تحت شعار “إن كانت منظمة التحرير الفلسطينية تمثل الفلسطينيين فإن الأردن يجب أن يمثل الأردنيين” وهكذا بدأ الأردنيون بتقلد مناصب الدولة ووظائف الخدمات الحكومية ومع الوقت صار شكل الهوية الأردنية أكثر تحديدا من أي وقت مضى. لم يكن هذا الأمر ينطبق على العائلات الفلسطينية التي سكنت الأردن ما قبل التأسيس، وعلى العكس فقد كانت العلاقة بين هذه العائلات وبين العائلة الحاكمة قوية وتقلد أبناؤها مناصب عليا في ستينات وسبعينات القرن الماضي.

ولكن ما علاقة كل هذه العوامل بلهجة عمان؟  ساعد تنامي روح الهوية الأردنية على تمثل اللهجة الأردنية (التي تمثلها هنا اللهجة السلطية) باعتبارها اللهجة الأصيلة التي تمثل الأردنيين. فحتى الرجال الفلسطينيين الذين تقلدوا المناصب كانوا يستخدمون هذه اللهجة.

أما المرأة الأردنية فقد كانت مقصاة تماما من المشهد الإصلاحي والتجديدي في الستينات والسبعينات. فلم تكن تتقلد المناصب التي قد تستدعي استخدام اللهجة الأردنية ولهذا فقد بقيت بعيدة عنها. اقتصر عمل المرأة على التعليم والطب والخدمات العامة وهي ذات القطاعات التي كان الفلسطينيون والسوريون يعملون بها بكثرة. جذبت المرأة أكثر إلى اللهجة المدنية للسوريين والفلسطينيين.

في اللغويات الاجتماعية، لابد من استعراض العوامل الاجتماعية والسياسية التي تخلق اللهجة وتعيد تشكيلها كما أسلفنا. تاليا سنناقش مشروع لهجة عمان الذي قامت به البروفيسورة إنعام الور.

مشروع لهجة عمان

يدرس المشروع لهجة “العمانيين” عبر استخدام طرق البحث المعتمدة في اللغويات الاجتماعية كالمقابلات. يتم بعدها تفريغ المقابلات وتحليلها باستخدام أحدث التقنيات. قابلت البروفيسورة إنعام الور  المشتركين في الدراسة من أربع عائلات اثنتان منهما سلطية والأخيرتان نابلسية وجميعهم يعيشون في عمان.

سجلت البروفيسورة 25 ساعة مع المشتركين في الدراسة كعينة، كان أكبر المشتركين عمرا يبلغ 78 سنة وأصغرهم 12 سنة. مثلت العينة ثلاثة أجيال (الأجداد، والآباء، والأحفاد) وتقسم العينة إلى 8 أجداد مشتركين،و8 أبناء، و14 من الأحفاد (6 ذكور و8 إناث) لم تكتفي البروفيسورة بهذه العينات فحسب إنما أخذت المزيد من خارج عمان، من السلط ومن نابلس لتحصل على كمية بيانات جيدة تكفي لعقد المقارنات.

من الجدير بالذكر بأن العائلات السلطية والنابلسية الأصل يسكنون عمان الغربية. وتعزو الباحثة اختيار هذه العينة، كون عمان الشرقية تتميز بعلاقات أسرية أقوى ويسود فيها نمط العائلات الممتدة، أما العائلات في غرب عمان فالأبناء والأحفاد فيها لا يقضون في الكثير من الوقت مع ذويهم ولهذا سيكون الجيل الثالث (الأحفاد) أكثر اختلاطا بأقرانهم.

عقب تحليل البيانات خلصت الدراسة لوجود عملية أطلق عليها العالم ترودغيل Trudgill  الrudimentary levelling  وهي عملية تقليل الفوارق بين لهجتين عبر تمازجهما، فإما تسود صفة على أخرى أو تنتج صفات أخرى.

في الجيل الأول (الأجداد) من العائلة السلطية الأصل وجدت ظاهرة rudimentary levelling   على صفات صوتية محددة ولكن كان من السهل معرفة مسقط رأس المتحدث من لهجته. في هذا الجيل بدأ اختفاء الصوت /تش/ وهو صوت /ك/ بعد أصوات العلة مثل /كيف= تشيف/. أما بالنسبة للعائلة النابلسية الأصل فقد بدأ الإمالة في بعض أحرف العلة بالاختفاء /سيعة=ساعة/، /امبيرح=امبارح/ وقد ظل هذا التغير ثابتا حتى الجيل الثالث.

من التغيرات الأخرى التي رصدتها الباحثة على الجيل الأول (الأجداد) كانت على النساء السلطيات واللاتي بدأن باستبدال صوت /ث/ بصوت /ت/، وصوت /ذ/ بصوت /د/ واستبدال صوت /ج/ بالهمزة. أما الرجال ذوي الأصل النابلسي فقد استخدموا صوت /ج[1]/ بدلا من الهمزة. وكما أسلفنا، فإن تغير في لهجة السيدات السلطيات نابع من العزلة عن المناصب ومن التأثر بلهجة الفلسطينيات والسوريات القادمات من مراكز الحضارة العربية آنذاك. أما الرجال النابلسيين فقد كان التغير نابعا من تمثلهم للهجة التي تمثل الهوية الأردنية التي تتقلد المناصب والوظائف العامة.

صورة لنهر عمان – المصدر: مكتبة الكونغرس

توصف لهجة الجيل الثاني (جيل الأبناء) ببعض العشوائية والخلط غير المنتظم بين اللهجتين الفلسطينية النابلسية والأردنية السلطية. حيث استخدم أفراد هذا الجيل الضمائر بشكل مختلط مثل الضمير (احنا) في اللهجة الأردنية و (نحنا) في الفلسطينية  والمقاطع المضافة إلى نهاية الكلمات مثل (كلامكو) و(كلامكن)

في الجيل الثالث والذي أسمته البروفيسورة (جيل العمانيين) تقلصت العشوائية والفروقات التي لوحظت في الجيل السابق بشكل كبير. وبدأت لهجة أكثر نظيما وتحديدا بالتشكل. وهنا نستطيع القول بأن لهجة عمان قد تشكلت وصار بإمكاننا الحكم على لهجة الفرد إن كانت عمانية أم لا.

إن المثير في حالة الجيل الثالث بأن صوتان رئيسان يميزان اللهجتين الفلسطينية والأردنية بقيا على حالها ولكن أعيد تشكيل لقواعد التي تحكم استخدامهما وهما الجيم غير المعطشة /ج/ والهمزة. تسمى هذه العملية social reallocation  وقد لوحظت بكثرة عند الأحفاد العمانيين. إن أهم القواعد التي بات يحتكم إليها استخدام هذين الصوتين هو جنس المتحدث وجنس المتلقي. وقد لخصت البروفيسورة إنعام الور حالات استخدام هذين الصوتين كما يلي:

المتحدثات الإناث: تستخدم الإناث الهمزة دائما، بغض النظر عن اللهجة الأصلية سواء كانت أردنية أو فلسطينية.

المتحدثون الذكور: عند المتحدثين الذكور طيف أوسع من الاستخدامات المرتبطة بهذي الصوتين.

  • يستخدم الذكور الفلسطينيون الهمزة عند الحديث مع بعضهم.
  • يستخدم الذكور الأردنيون صوت /ج غير المعطشة/ عند الحديث مع بعضهم.
  • يستخدم الذكور الأردنيون والفلسطينيون الهمزة عند الحديث مع الإناث.
  • في مجموعة مختلطة (فلسطينيون وأردنيون) يستخدم الجميع صوت /ج غير المعطشة/

من السهل ربط هذه الحالات بالسياق الاجتماعي، فكما أسلفنا ارتبطت الجيم غير المعطشة بالبداوة والقسوة، إضافة لارتباطها بالهوية الأردنية التي تتقلد المناصب -سياسيا-.

تغيرات أخرى رصدتها الدراسة تتعلق بلفظ أحرف العلة نهايات الكلمات المؤنثة خصوصا. في اللهجة الأردنية ينطق حرف العلة الأخير مفتوحا مثل (حلوَة) أو (مقلوبَة) أما في اللهجة الفلسطينية فيمال للكسر ليصبح (حلوِة) و (مقلوبِة) وقد استخدم الجيل الثالث مزيجا من طريقتي اللفظ هاتين.

أما التغير الأخير فقد كان على المخاطب فالعمانيون اليوم يقولون (بيوتكم -سألناكم) سواء للذكور أو للإناث ولم يكن الحال هكذا، في اللهجة الأردنية تخاطب النساء بإضافة (كِن) فيقال (بيوتكِن) ويخاطب الرجال بإضافة (كو) فيقال (بيوتكو). أما في اللهجة الفلسطينية تضاف (كَن أو كَن) للإناث والذكور على حد سواء. إن استخدام (كم) لمخاطبة كلا الجنسين علامة فارقة نتجت عن طريق تلاقح اللهجتين.

خاتمة

 مشروع لهجة عمان الذي قادته البروفيسورة الأردنية إنعام الور لدراسة التغير الحاصل في لهجة عمان. وتلخيصا لهذا المشروع يمكننا أن نقول بأن لهجة عمان نضجت على ثلاث مراحل. المرحلة الأولى: الجيل الأول/ الأجداد الذين وصلوا لعمان بالغين وتحدثوا باللهجة التي اكتسبوها أطفالا.  الجيل الثاني/ الأبناء وقد ولدوا في عمان ولم يتعرضوا فقط للهجة ذويهم إنما كان أمامهم طيف أوسع من اللهجات الأخرى التي تأثروا بها وقد وصفت لهجتهم بأنها غير ثابتة أو مستقرة الصفات. والجيل الثالث/ الأحفاد وقد ولدوا في عمان وهنا كانت لهجة عمان قد نضجت وتطورت وخلقت لنفسها صفات جديدة ومستقرة.

____________

 إنعام الور.. أستاذ مشارك في قسم اللغات واللغويات في جامعة اسكس، المملكة المتحدة وعملت سابقا في جامعة كمبردج وكلية بيركبك، جامعة لندن، وجامعة فيلادلفيا الأردنية. الور باحثة متخصصة في علم اللغة الاجتماعي. تركز أبحاثها على التباين والتغير اللغوي في اللهجات الأردنية، التقليدية منها والحديثة ترأس حاليا ، بالتعاون مع بروفيسور عباس بن مأمون، تحرير سلسلة كتب متخصصة في مجال اللغويات العربية، تُنشر كتب هذه السلسلة تباعاً من قبل دار بنجامِن للنشر كما ولها العديد من الكتب والأبحاث والمقالات المنشورة. دكتورة إنعام الور هي أيضاً مؤسِسة “رواق العربية” في المملكة المتحدة، وتقوم على إدارة برنامجي دراسات عليا في مجال علم اللغة الاجتماعي في جامعة اسكس.

المراجع:

للاطلاع على الدراسة كاملة: https://www.academia.edu/6670274/The_formation_of_the_dialect_of_Amman_from_chaos_to_order

The formation of the dialect of Amman. In C. Miller, E. Al-Wer, D. Caubet, J. Watson (eds) Arabic in the City. 2007, 55-76. RoutledgeCurzon., 2007

للمزيد من أبحاث ومقابلات الدكتورة إنعام الور:

مقابلة الدكتورة إنعام الور على قناة رؤيا: إرث اللهجات الأردنية http://jordanheritage.jo/1506-2/

رابط محاضرة الدكتورة إنعام الور بالتعاون مع إرث الأردن: إرث اللهجات الأردني http://jordanheritage.jo/1554-2/

مقال قضايا لغوية: الضاد والظاد للبروفيسورة إنعام الور  http://jordanheritage.jo/linguisticheritage1/

 

[1] الجيم غير المعطشة، تقابل صوت ال g  بالإنجليزية كما  في كلمة لعبة game ويختلف رسمها بين ج وغ ك ولكننا اعتمدنا كتابتها  ج.

مشروع لهجة عمان: بأي لهجة يتحدث سكان العاصمة اليوم؟

مقدمة

يعتبر العرس الأردني فرصة اجتماعية يتم استغلالها بأقصى ما يمكن لاستعراض وإعادة انتاج وتوريث العديد من العادات والتقاليد، وترسيخ الكثير من القيم المجتمعية التي توارثتها الأجيال على مر السنوات الطويلة، من الشخوص وأدوارهم التي يقومون بها خلال أيام العرس، مرورًا بالطقوس والإجراءات وكيفية تنفيذها، وصولاً إلى مظاهر الفرح التي يعبّر عنها الأردنيون بالكثير من الألوان الغنائية والرقصات المتنوّعة والمختلفة، ولا يوجد قالب غنائي معين للعرس الأردني، فقد جرت العادة أن تُغنّى مختلف الألوان الغنائية في الأعراس، كلٌّ بحسب منطقته.

ويمتاز العرس الأردني بتسلسل مراحله وامتدادها على أكثر من يوم واحد، لتصل مراسم العرس في بعض الاحيان إلى “سبعة أيام بلياليها”، ولكل يومٍ تحضيرات خاصّة، ومراسم خاصّة، ولكل من هذه التحضيرات والمراسم أغانٍ معيّنة، نستعرضها في هذا البحث بحسب موقعها من مراحل العرس.

تراويد وأغاني الحنا والفاردة

تنتشر طقوس الحنا في مختلف مناطق الأردن، وتمتاز بعض المناطق بطقوس الحنا للعريس أيضًا وليس فقط للعروس، وليلة الحنا هي الليلة التي تسبق الزفاف، وظلت هذه الليلة متواجدة في العرس الأردني حتى هذه الأيام وإن أخذت أسماء أخرى مثل “سهرة الوداع، سهرة الشباب”، فعلى الرغم من قلة استخدام الحنا في هذه الليلة حديثًا، إلا أنها احتفظت بطابعها الوداعي، بصفتها الليلة الاخيرة التي يقضي فيها العرسان آخر أوقات العزوبية في بيت العائلة.

لم تكن تجري مراسم تحناية العروس في بيت أهلها، بل في بيت أحد الأعمام أو الأخوال، وذلك تمهيدًا أو محاكاةً لخروجها من بيتها إلى بيت الزوجيّة. وتسمّى النساء المشاركات في ليلة الحنّا : الحنّايات، ولهن تراويد مشهورة يقلنها في أثناء سيرهن إلى البيت الذي ستجري فيه مراسم الحنا :

واحنا مشينا ليلتين وليلة .. واحنا خذينا من كبار العيلة

يارب يسلم من تريده عيني .. علي ومحمد يسلموا الاثنين

وأيضًا الترويدة الشهيرة التي تقال في هذه المناسبة وأيضًا في الفاردة :

يا بيي فلان وسّع الميدان .. والعز لك والفرح للصبيان

يا بيي فلان وكثّر الترحيبي .. واحنا البنات ما بينا الغريبة

وافرم اللحم واذبح الشاتين .. وفلان هدّى ع النسب الزّين

شاة النذل تمشي على رجليها .. شاة أبو فلان مقصّعات ايديها

يا بيي فلان يا ذهب ع صدري .. ذابح خروفه والنذل ما يدري

ويوجد لهذه الترويدة نسخة أخرى وهي الأكثر شهرة :

فرّش الديوان يا بيي فلان وفرّش الديوان

والفرحة للصبيان والعز لك والفرحة للصبيان

قهوتك عسلية يا بيي فلان قهوتك عسلية

دقة الصبحية رطلين الشامي دقة الصبحية

من طليت أشوفه بيتك يا فلان ومن طليت أشوف

والشباب تحوفه عمدانه صنوبر والشباب تحوف

نازلين الدرب هلك يا فلانة نازلين الدرب

يشلعون القلب اهل الصهاوي يشلعون القلب

صفلنا الكراسي يا بيي فلان صفلنا الكراسي

رافعات الراسي جنك الصبايا رافعات الراسي

وتقال التراويد السابقة في الفاردة أيضًا وليس فقط في مشوار الحنايات إلى ليلة الحنا، ويُطلق على مَن تغني هذه الأغاني “روّادة”، وتُسمّى أيضًا بالـ “فرّادة” وهو الفعل الذي تقوم به في المسير إلى بيت العروس لحنّاها أو لزفافها المُسمّى “فاردة” أو “تفورد”، وتغنيها النساء من طرف أهل العريس لأهل العروس الذين يستقبلون الفرّادات بالزغاريد والبارود، وتوزيع صرر الحناء على الجارات والقريبات والصديقات ممن حضرن اللحظة، وتتم دعوة كل من تصلها صرّة الحنّا للعشاء بالغناء :

فرّقوا حنّاها تحت الدوالي فرّقوا حنّاها

وابعدوا مشحاها يا بي فلانة وابعدوا مشحاها

وبعد العشاء يأتي دور الحنا، على وقع التراويد وأشهرها :

لمّي يا لمّي وحوشيلي مخدّاتي

طلعت من البيت وما ودعت خيّاتي

لمّي يا لمّي وحوشيلي قراميلي

طلعت من البيت وما ودّعت أنا جيلي

وهي من التراويد الحزينة التي تحمل العروس على البكاء واستحضار مشاعر الشوق المحتملة لأهلها خصوصًا بعد استشعارها لحقيقة لحظة مفارقة بيت أهلها الذي كبرت وترعرعت به. ومن تراويد ليلة الحنا أيضًا ما قد تروّد به إحدى النساء من أهل العروس معاتبة :

يا الاهل يا الاهل لا يبري لكم ذمة

وش هو الـ عماكو عن ابن الخال والعمّة

يا الاهل يا الاهل لا يبري لكم خاطر

وش هو الـ عماكو عن ابن العم هالشاطر

وهناك ما تروّده النساء بما يملأ القلب حسرة وألمًا، إذا ما شعرت الروادة أن العروس مقبلةٌ على عريس لا تريده :

يا حسرتي يا رويدة بختنا قصّر

والنذل ما نوخذ وع السبع نتحسّر

والبارحة يا رويدتي كنت أنا وانتي

والفلفك بحضني وانتحب وابكي

والبارحة يا رويدتي كنا بالحارة

واسمع حنينك مع العصفورة طيارة

ومن التراويد التي تعاتب بها العروس أهلها وأباها وتتمنى بقاءها في بيته حتى وان كانت سعيدة بزواجها :

ياريت ابوي يحلف عليّ الليلة

وانا العزيزة انام بين العيلة

ياريت ابوي يحلف عليّ أباتي

وانا العزيزة انام بين خيّاتي

قولوا لأبوي الله يخلي أخوتي

استعجل عليّ وطلّعني من عزوتي

وتغني بعض العرائس تراويد تعني استعجالها للخروج من بيت اهلها، وشوقها للحظة لقاء عريسها، ومن مثل هذا :

يا حنا ما اريدك تعقد على أديّا

غير تا ييجي فلان ويعطف عليّا

يا حنّا ما ريدك تعقد على راسي

غير تا ييجي فلان واعرف خلاصي

وفيما يلي نماذج مختلفة جُمعت من مناطق عديدة للتراويد التي تقال للعروس أو على لسان العروس، سواء في الفاردات أو في ليلة الحنا :

واتحملونا يا الاهل هالليلة

وبعد سويعة وبخاطرك يا ميمة

واتحملونا يا الاهل ثلاث ساعات

وبعدها بخاطركن يا خيّات

يا ليلة الحنا متى تنقضي

وارمي ثويباتي ع دار اهلي

يا ليلة الحنا متى تكملي

واشلح ثويب امي وابوي واخوتي

يا هلي ظللوني عند القايلة

وان عطيتوني لشويقي ماني سايلة

يا منقشة بالحنا والحنا ع دياتك

والليلة باتي عنا وبكرا عند حماتك

يا منقشة بالحنا والحنا ع قميصك

والليلة باتي عنا وبكرا عند عريسك

لا تطلعي ع الدرج ترى الدرج عالي

لا تنزلي للعزب ترى العزب غالي

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة السكر

لا تأمني للعزب ترى العزب يسكر

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة القهوة

لا تأمني للعزب ترى العزب يهوى

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة الحليب

لا تأمني للعزب ترى العزب غريب

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة المشمش

لا تأمني للعزب ترى العزب يكمش

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة التفاح

لا تأمني للعزب ترى العزب بوّاح

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة الحنّا

لا تأمنّي للعزب ترى العزب يهنا

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة الراحة

لا تزعلي ع العزب ترى العزب راحة

زفاف العروس

في اليوم التالي لليلة الحنّا، تقوم النسوة بتجهيز العروس وتجميلها بالملابس والحِلي والمجوهرات، بعد غسل شعرها وتمشيطه وتجديله، جدلتين على الأغلب، وفي هذه الأثناء تكون الفاردة التي يسير بها أهل العريس متجهين لمقر إقامة العروس، تسير على وقع غناء الحدا، وعند وصولها يستأذن كبير الجاهة أو الفاردة من والد العروس، وعند إجابته الطلب تنطلق حناجر النساء من أهل العروس بالزغاريد والأغاني التي تعلن بداية لحظة زفاف العروس لعريسها، ومن هذه الأغاني ما يوجد فيها مفردات تدل على استخدامها حتى نهايات القرن العشرين :

قومي اركبي ع المهر يا شجيرة الحنّا .. عريسك مثل القمر بالبيت يتسنّى

قومي اركبي ع الفرس يا شمس الملاحي .. أهلك عليكي حرس بسيوف ورماحي

قومي اركبي يا “فلانة” تمامك عادي .. شعرك رطايب رابي ع شط هالوادي

قومي اركبي يا “فلانة” والتكسي ع باب الدار .. بيك أبو فلان وبرطيله زنّار

**

رحّبي بظيوف أبوكي يا عروس يا أم الاسوارة

يا هلا بظيوف أبوي لو كانوا ملات الحارة

رحّبي بظيوف أبوكي يا عروس يا ام الحلق

يا هلا بظيوف أبوي لو كانوا ملات البلد

وتشارك النسوة من أهل العريس بالغناء وبالذات المهاهاة، مطلقات المدائح الوصفية على شرف أهل العروس :

يخلف على “بو فلان” يخلف عليه خلفتين .. طلبناه النسب واعطانا بناته الثنتين

قومي اطلعي قومي اطلعي من دارك .. واحنا حطينا هدوم أبوكي وخالِك

قومي اطلعي قومي اطلعي ولا يهمّك .. واحنا حطينا هدوم خوالك وعمّك

وعند خروج العروس يُقال :

مشّوها ع مهلها .. عزيزة ع أهلها

وعلى مهلها مشّوها .. عزيزة على أبوها

مشّوها براحتها .. عزيزة ع أخوتها

ولمواساة والدها الذي يكون متأثّرًا في الغالب لخروج ابنته من بيته، كما هو معروف عن الآباء الأردنيين شدّة تعلّقهم ببناتهم، فإن النساء تغني له الأغنية التالية وهي من مشتقات لحن “وسّع الميدان” :

لا تنام غضبان يا بيّ فلان لا تنام غضبان

فزعتك صبيان والحمدلله فزعتك صبيان

يا ولد نخيتك واعلى بظهرها يا ولد نخيت

يا كريم ببيتك والشيخة لك يا كريم ببيت

وقد تغني النساء في الفاردة على لسان العروس في حال كانت غريبة ولم تتزوج من نفس القرية أو العشيرة :

قولوا لبوي الله يخلّي ولاده .. استعجل عليّ وطلّعني من بلاده

قولوا لبوي الله يخلي اخوتي .. استعجل عليّ وطلّعني من عزوتي

ومن جملة ما تغنيه النساء عمومًا في الفاردة التي ركبت بها العروس :

واحنا مشينا ليلتين بيوم .. واحنا خذينا من كبار القوم

علّية أبو فلان بالثريا دومي .. فراشة قطايف والبسط مرقوم

يا بيي فلان شنشل الدبّوس .. خش المحاكم واطلِع المحبوس

وأيضًا :

ومن وادي لوادي واحنا مشينا من وادي لوادي

بنات الاجواد واحنا خذينا بنات الاجواد

من حارة لحارة واحنا مشينا من حارة لحارة

بنات الأمارة واحنا خذينا بنات الأمارة

من صيرة لصيرة واحنا مشينا من صيرة لصيرة

والبنت الأصيلة احنا خذينا البنت الأصيلة

ومن الصبح للعصر احنا مشينا من الصبح للعصر

طيّبات الأصل احنا خذينا طيّبات الأصل

وأيضًا :

حنا نوينا واتكلنا على الله .. يارب تسلم من قصد باب الله

يا خظر الأخظر وافتح البوّابة .. “فلان” دخيل ع النبي وصحابه

وعند وصول العروس لبيت العريس تقول النساء :

خش الفرح دارنا يا مين يهنينا .. واللي فرح لينا يجي ويهنينا

واللي فرح لينا يجي لنص الدار .. إلا إنت يا صويحبي ما جيت ولا مشوار

واللي فرح لينا يجي لنص البيت .. إلا إنت يا صويحبي ما جيت ولا هنّيت

حمام العريس وزفّته

كان الأردنيون في السابق يأخذون العريس إلى أحد عيون الماء أو الغدران التي في الجوار، للقيام بطقوس حمام العريس وإلباسه الملابس الجديدة الخاصة بالزفاف والعودة به إلى مقر الفرح حيث تكون مجموعة من النساء تنتظر موكب حمام العريس وتستقبله بالأهازيج والأغاني التي منها :

يا نويعمة الريّانة يا نويعمة الريّانة “فلان” عريس وميمته فرحانة

قولولها لام العريس قولولها ترى العريس بالحمام عريان

وديتله ميتين بدلة مخيطة يلبس ويلبِّس من حدا عريان

قولولها لأم العريس قولولها ترى العريس بالحمام حفيان

وديتله ثمان كنادر مبنّدة يلبس ويلبِّس من حدا حفيان

وأيضًا:

بالورق يا ناشد لف الحلاوة بالورق يا ناشد

للعدا جاهد واحنا انتصرنا للعدا جاهد

بالورق يا توفي لف الحلاوة بالورق يا توفي

والعدو يشوفي واحنا انتصرنا والعدو يشوفي

بالورق يا ملبّس لف الحلاوة بالورق يا ملبّس

والعدو يتيبّس واحنا انتصرنا والعدو يتيبّس

أما الأغاني التي يغنيها الشباب للعريس فمنها :

طلع الزين من الحمام الله واسم الله عليه

مبارك حمام العريس بهالساعة الرحمانية

ان شاء الله تسلم وتدوم وانت ميّة عينيّا

وانت الملك يا عريس واحنا عندك رعيّة

طلع طلع هالعريس حلو وملبّس تلبيس

زغرتي يا ام العريس جبنالك ذهب بالكيس

جبنا الورد غمار غمار ونثرناه بقاع الدار

يا ما شاء الله على طوله طوله يا مطرق ريحان

يا ما شاء الله على عيونه عيونه يا وسع الفنجان

يا ما شاء الله على سنونه سنونه يا حب الرّمان

يا ما شاء الله على جبينه جبينه يا كهرب عمّان

شطبنا اسم العريس من دفتر العزوبية

ومن أغاني النساء في هذه اللحظات :

يا راشق حنّا على عروق الشجر .. والحمدلله توّه قليبي انجبر

بالله اطلعوا “فلان” وبارونه .. يا كحل عينه من بغداد يشرونه

وفي هذه الأثناء يكون العريس قد خرج من الحمام وفي طريقه إلى إحدى الأماكن المتعارف عليها في البلدة كالمقامات المباركة أو إحدى الأشجار الشهيرة أو في ساحة معيّنة، وتتبرّع إحدى قريباته برش الملح وحبات الملبّس والتوفي وأحياناً النقود المعدنية، خوفًا عليه من عيون الحاسدين، وتسير وراءه مجموعة من النساء تعلو حناجرهن بالأغاني التي من أشهرها :

وين أزفّك وين “فلان” يا عريس .. قاعد بالحمام تلبس بالقميص

وين أزفّك وين “فلان” يا مدلّل .. قاعد بالحمام والشّعر مبلّل

وين أزفك وين يابو عيون السّود .. ع الخظر الاخظر والنبي داوود

ويغني الرجال في زفة العريس من ألوان الحداء الأردني :

حنا رجال الحرايب ضرب الموازر يلبق لنا

يا طير يلّي بالسما بلّغ سلامي لاهلنا

واحنا ان نوينا ع الحرب بالسيف ناخذ ثارنا

دارٍ دعتنا للفرح واجب علينا نزورها

ومن أغاني زفّة العريس الشهيرة التي يغنيها الرجال :

تلولحي يا دالية يا ام غصون العالية .. تلولحي عرضين وطول تلولحي ما اقدر أطول

تلولحي ع دارنا وعلى دار جارنا .. يا ام ثويبٍ طرّزتيه وحطيتي البلاوي فيه

يا ام ثويبٍ زم بزم زمّيني وانا بنزم .. هون واربط باب الحوش بيضا والفستان كلوش

شامم ريحة حندقوق وشلعت قلبي هاللي فوق .. شامم ريحة زنزلخت واخذت عقلي هاللي تحت

وتغني النساء للعريس أيضًا :

غنن لفلان يا بنات خالاته .. زفن فلان وخيّطن بدلاته

غنن لفلان يا قرابة أمه .. زفّن فلان والورد ع كمّه

وأيضًا :

طلوا النشامى من ورا التلّين .. كلهم نشامى مبرشمين الخيلِ

يا فرحتي وان كان فلان معهم .. وان كان فلان قايد الصفّين

طلّي يا فلانة من العلالي وزغردي .. وقولي هظول اخواني واهلي وعزوتي

أغاني الصمدة

عند وصول موكب الزفاف إلى موقع الاحتفال، الذي تقول الأسطورة أنه كلما توقف الموكب مرات متكررة يكون ذلك فال خير يتعلق بعدد مرّات الإنجاب، وتجلس العروس على المصمد (اللوج لاحقًا) الذي يكون مرتفعًا ليراها الجميع ولا يتسع إلا للعروسين. وتختلف أغاني الصمدة عن بقية أغاني العرس حيث يرافقها الإيقاعات على الطبلة “الدربكّة” والدفوف وغيرها من أدوات الايقاع، ذلك لسهولة استخدامها في مكان مغلق، بعكس أغاني الزفة والحنا التي يكون فيها الجهد مركّز على شؤون أخرى، ومن أغاني الصمدة :

جينا نهني ونغني عشان أمه .. ورشينا العطر الغالي على كمّه

جينا نغني ونهنّي عشان أخته .. ورشينا العطر الغالي على تخته

“فلان” حقه علينا علينا .. “فلان” ما هو غريب منّا وفينا

“فلان” حقّه عليكِ يا ام سوارة .. “فلان” ما هو غريب ابن الأمارة

**

ع عرق الدالية ترعى بغنمها ع عرق الدالية ع العالي يلا

حلوة وغالية عروسك “يا فلان” حلوة وغالية قولوا ما شاء الله

ع عرق التفاحة ترعى بغنمها ع عرق التفاحة ع العالي يلا

حلوة وفلاحة عروسك “يا فلان” حلوة وفلاحة قولوا ما شاء الله

ع عرق البندورة ترعى بغنمها ع عرق البندورة ع العالي يلا

حلوة وغندورة عروسك “يا فلان” حلوة وغندورة قولوا ما شاء الله

**

مية اسم الله يا عروس مية اسم الله

عريسك قمر وسلافك ما شاء الله

مية اسم الله يا عروس يا ام سوارة

عريسك قمر وسلافك أمارة

مية اسم الله يا عروس يا ام الخاتم

عريسك جدع وسلافك أوادم

**

غنن له يا بنات عمّه .. يا “فلان” ترى زال همّه

غنن له يا بنات الناس .. يا “فلان” ترى رافع الناس

غنن له يا بنات أخته .. يا “فلان” ترى اليوم بخته

**

بالورد والحنا رشوا العرايس بالورد والحنا .. توخذ وتتهنا يا شب “فلان” توخذ وتتهنّا

بالورد والهيلِ رشوا العرايس بالورد والهيلِ .. من كبار العيلة واحنا خذينا من كبار العيلة

بالورد والزعتر رشوا العرايس بالورد والزعتر .. يطلب يتأمر قولوا “لفلان” يطلب ويتأمّر

بالورد والريحة رشوا العرايس بالورد والريحة .. وأخذ المليحة يا شب “فلان” وأخذ المليحة

أغاني يوم الِقِرى

الِقِرى هو اسم الطعام الذي يقدّمه العريس للمعازيم الذين يحضرون الفرح، وهو بطبيعة الحال طبق المنسف الأصيل الذي يقدّمه الأردنيون في مختلف مناسباتهم، وتعكس مكوّناته الكثير من القيم الغذائية والاجتماعية. وتكون وجائب الضيافة عملاً جماعيًا يسمّيه الأردنيون بالـ “عونة” أو “الفزعة”، إذ يهب الجميع لمساعدة أهل المناسبة بتأدية واجب الضيافة للضيوف، وهي من الأدوار المقدّسة التي لا يرغب أي أردني بتأديتها على غير صفة الكمال والدقّة والمبالغة في بعض الأحيان. وتعكس بعض أغاني يوم الِقِرى قيم العونة والفزعة الجماعية :

يا مين يعاونّا ويا مين يعينّا

ع جر المناسف يا مين يعينّا

يا مين يردّ الحمل لا صار مايل

وفلان يردّ الحمل لا صار مايل

**

ذبحنا الذبايح ع المرج الاخضر .. واللي مكذّبنا يجي اليوم يحضر

**

يا علا واطلع المنسف مليان .. يا علا رز ولحم خرفان

والمنسف يدرج يدرج على الطار .. منسف أبو فلان صدّر الخطّار

والمنسف يدرج يدرج على هونه .. منسف ابو فلان خيّر يذكرونه

وفيما يلي مجموعة مختارة من أغاني العرس الأردني، قام الفنان الأردني عمر العبدللات بإعادة أدائها حديثًا للحفاظ عليها وإفساح المجال لحضورها اليوم بعد انتقال الأعراس إلى الصالات الحديثة :

المراجع

  • الزعبي، أحمد شريف، الأغاني الشعبيّة الأردنيّة، 2015، وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، الأردن.
  • النصيرات، نضال محمود، الأغاني الشعبيّة الأردنية في العرس الأردني، دراسة، 2016، مجلّة الفنون الشعبيّة، عدد 21، وزارة الثقافة الأردنيّة، عمّان، الأردن.
  • الزعبي، أحمد شريف، أغاني الزفّة الشعبيّة الأردنية، دراسة، 2016، مجلّة الفنون الشعبيّة، عدد 21، وزارة الثقافة الأردنيّة، عمّان، الأردن.

أغاني العرس الأردني

مقدمة

تعتبرُ الجوفية من الألوان الغنائية التي لاقت انتشارًا في مختلف مناطق الأردن، من شماله لجنوبه، وهي من الألحان النشطة وذات الطابع الذكوريّ، ويرافقُ أداءها رقصة خاصّة تُعرَفُ بنفس الاسم دون مرافقة الآلات الموسيقيّة الشعبيّة، وبالرغم من الإشارة إلى الجوفيّة أحيانًا على أنّها من ألوان الغناء البدويّ، إلا أن واقع انتشارها يؤكد انتشارها أيضا في مجتمعات ريفيّة ومدنيّة.

التسمية

تشير المراجع والأبحاث إلى أن تسمية الجوفيّة ترتبط بمنطقة الجوف الواقعة الى الجنوب من الأردن، وهي من المناطق التي كانت تعتبر سكنًا شتويًا – أراضي التشريق – للكثير من القبائل الأردنيّة لفترات طويلة، ومن الجوف إلى كافة مناطق الأردن مرورًا بالأقاليم الوسطى وصولاً للمناطق الشماليّة، انتشرت الجوفيّة لاسيّما في القرن العشرين حيث ساهمت قوات الثورة العربية الكبرى والتي كانت خطوط سيرها تنطلق من الجنوب نحو الشمال، بنقل الكثير من الجوفيّات ونشرها بين الناس، خصوصًا وأن الجوفيّة من الألوان الغنائية الاكثر حماسيّة والأقرب لأجواء الحروب والمعارك.

الرقصة

تؤدّى الجوفيّة مع رقصتها الخاصة والتي صفتها أن تتقابل مجموعتان من الرجال تفصل بينهما مسافة معقولة تسمح لكل مجموعة أن يخرج منها رجلٌ حاملٌ للسيف أو العصا يمارسان الاستعراض الحربيّ في التقاء وانفصال متكرر بين الراقصين، وتبدأ المجموعتان بالغناء وترديد أبيات الشعر الغنائيّة الخاصة بالجوفيّة والسير بخطىً متزنة ضمن حلقة دائريّة يستمر فيها الدوران حتى نهاية الأغنية. وتتميّز رقصة الجوفية بالحركات الأدائية التي إذا ما أمعنّا في تحليلها نجدها تجمع بين الرقص الريفي “الدبكات” والرقص البدوي “السحجة” في آنٍ معًا وتشكّل مزيجًا بينهما بصورة لا تدع مجال للشك أن ذلك ساهم أكثر بانتشارها في مختلف المجتمعات.

ويجدر التسؤل هنا؛ أيهما نشأ قبل الآخر؟ الغناء أم الرقص؟ وهو ما يقود المتأمّل بتسمية هذا الفن إلى استنتاج ضمنيّ مفاده أن الرقصة هي التي نشأت في الأساس وأعطيت اسم “الجوفيّة”، والتصق بأدائها مجموعة من الألحان التي تناسبت مع إيقاع الرقصة، ولو كان الاسم مرتبط بالغناء أكثر من الرقصة لكان اسمه “جوفيّ”، كالهجيني والشروقي.

السمات الفنية والأدائيّة

لحنيًا : تتنوّع وتتعدّد ألحان الجوفيّات المنتشرة في الأردن والجوار، ولكنها جميعًا تتميّز بالقوّة والسياقات اللحنيّة التي تعبّر عن حالةٍ احتفاليّة طاغية، وهذا ما يجعلها في وقتنا الحاضر الرقصة الأكثر شهرةً بين طلبة الجامعات الأردنيّة في حالات الاحتفال التي تعقب التخرّج والفوز في الانتخابات الطلابية. وتؤدّى الألحان بالتكرار والترديد ما يجعلها أقرب إلى الهتاف الملحّن.

إيقاعيًا : بالرغم من عدم استخدام أي آلات موسيقية أثناء أدائها، إلا أن الجوفيات تعتبرُ من الأغاني الموزونة إيقاعيًا بعكس بعض ألحان الهجيني وجرّات الربابة التي تكون غير موزونة وأقرب إلى الموّال، ويكون الإيقاع الذي يرافقها صادر عن ضربات أقدام الراقصين، وهذا مثال واضح على الممارسات الإيقاعيّة التي سبق وأن قدمناها في بحثٍ سابق – بحث الممارسات الإيقاعيّة في الأردن – ، والتي تُستخدمُ فيها أساليب غير موسيقيّة لإصدار أصوات إيقاعيّة توضّح الوزن الموسيقي للغناء وتضبطه.

شعريًا : ككل الألوان الغنائيّة الأردنيّة، تتنوّع المواضيع والأشعار والأوزان الشعريّة تبعًا للمناسبة، وقد أبدى الإنسان الأردني عبر التاريخ سلوكًا فطريًا قلّ نظيره؛ وهو تطويع الأوزان الشعريّة والألحان بحسب المناسبة والوقت المعاصر، وهذا ما انعكس على الجوفيات تنوّعًا في المواضيع التي تتناولها أشعارها الغنائيّة. ومن خلال تحليل نماذج مختلفة من الجوفيات الشهيرة نجد في مفرداتها تنوّعاً يعكس انتشارها في مختلف المجتمعات البدوية والريفية والمدنية في الأردن، مع الأخذ بعين الاعتبار التداخل الكبير بين الأنماط الاجتماعيّة الثلاثة في الأردن. فتارة نجد تشبيهات مأخوذة من بساتين الرمّان والمشمش والتفّاح، وتارة نجد مفردات غزليّة تُبرز جماليّات اللباس البدوي.

نماذج

من الجوفيات الغزليّة التي انتشرت واشتهرت في الأردن، جاءت على شكل حوارٍ بين عاشقين، فتقول الفتاة :

يا نجم يلي بالسما واسمك سهيل .. بالله وان شفت الولف دلّه عليّا

قلّه المفتاح بطاقة البيت .. وان ما لقى المفتاح ينده عليّا

فيجيب الشاب :

ظلّيت أنادي وأطرق الباب بالسيف .. عيّوا يا باب هلك لا يفتحولي

وتسألني من هو اللي بالباب قلت ضيف .. ضيف يريد القرب لو تسمحولي

فتجيبه الفتاة :

يا من يقول لهلي عندنا ضيف .. ضيف يدوّر كحيلات العين

والله لافتح للواقف ورا الباب .. والله ولافتحو لو هلي قطّعوني

وبعد هذا الحوار يقوم الشاب بوصفها لصديقه قائلاً المقاطع الغنائية التالية الشهيرة :

وعيونها يا خوي وتقول تفّاح .. تفاحة على أمها مستوية

وعيونها يا خوي وتقول فنجان .. فنجان من القهاوي ممتليّة

ونهودها يا خوي وتقول رمّان .. رمّانة على أمها مستويّة

وقرونها يا خوي وتقول حنشان .. بأرض الفلا كن هاشن عليّا

كحل الغوا يا طير مسحون بالهاون .. مازون بالميزان ربع الوقيّة

ومن الجوفيات ذات الطابع الحواري ما جاء فيها نصيحة المجتمع للفتاة العزباء :

يا طايحة تغسّلي في اقصيبة الغليون .. لا تأمنّي للعزب ترى العزب مجنون

يا طايحة تغسّلي في اقصيبة المشمش .. لا تأمّني للعزب ترى العزب يكمش

فيعاتب الشاب الفتاة قبل أن تلقي بالها للنصيحة قائلاً :

والله لعاتبك ما انا عليك جاحد .. قلبي وقلبك سوا مفتاحهن واحد

يامن لقى محرمة بالسوق مرمية .. شريتها بأربعة وبرطيلها ميّة

فتصرفه الفتاة قائلة :

يا قويعدٍ ع الرّجم هيلك ينادونك .. قلبي يحبّك واهلي ما يريدونك

وش جيّب العبد يرقد بمنام سيده .. يستاهل الذبح وفوق الذبح قطع ايده

يا قويعدٍ ع الرجم تحتك نهر يجري .. انت سبب علّتي والناس ما تدري

ومن الجوفيات الغزلية ما جاء على لسان العسكريّ الأردني مخاطبًا صديقه ويبث له شكواه من الحب :

راكبٍ اللي كنّها رف القطاة .. شالت العدّات والعدّة قويّة

يابو فلان يا زبون الملزماة .. من يقولن للخوي خلّي خويّه؟

قاعدن بالدار لشوف البنات .. ما ركبت مدرّعة بأول سريّة

وان كان خِلّي صدّني يا كثر البنات .. مير عذر القلب والعلّة خفيّة

ومن الجوفيات التي يُعتقد انها قيلت في أواسط القرن الماضي، يتغزّل بها الشاعر في محبوبته التي من مدينة الفدين (المفرق لاحقًا) :

عيني ظبية ربّعت بأرض الفدين .. قادت الغزلان والرّيم تلتها

لي عشير ساكنٍ بأرض الفدين .. يا هنوه من هو ع الخيل طلبها

لي وصفة بعشيري شامتين .. ترفع العصبة والقذلة طرّفتها

ومن الجوفيات ما هو في مدح نسب وأصل الفتاة :

والشق اللي انبنى رنّت فناجيلو .. شيخٍ بلا عزوته قلّت مراجيلو

يا بنت شيخ العرب يا ام العبا الزرقا .. وأبوكِ شيخ العرب حاكم على البلقا

يا بنت شيخ العرب يا واردة الميّة .. وأبوكِ شيخ العرب حاكم على ميّة

ومن الجوفيات الحديثة التي يُلاحظ في مفرداتها تغيّر الوزن الشعري ودخول مفردات وتسميات لأزياء حديثة مثل “المكسي”، وفيها ما هو من الطرافة والفكاهة المعهودة عندما تتحدث الزوجة عن حماتها :

بالمكسي البنّي خشّي حارتنا بالمكسي البنّي

رايحة تجنّني أمك يا محمد رايحة تجنّني

بالمكسي الزيتي خشّي حارتنا بالمكسي الزيتي

خرّبتلي بيتي أمك يا محمد خرّبتلي بيتي

وهذا الوزن الشعري هو امتداد لجوفيّة قديمة تقول كلماتها :

ع الحجر برّا هيه يلّي قاعد ع الحجر برّا

والعيشة مرّة من بعد فراقك والعيشة مرّة

مشبوك بدبّوس طيرٍ بالسّما مشبوك بدبّوس

مبروك العروس يا بيّي “فلان” مبروك العروس

المراجع :

  • حجاب، نمر حسن، الأغنية الشعبيّة في عمّان، 2003، موسوعة عمّان التراثيّة (5)، منشورات أمانة عمّان الكبرى، عمّان، الأردن.
  • الزّعبي، أحمد شريف، الأغاني الشعبيّة الأردنيّة، 2015، وزارة الثقافة، عمّان، الأردن.

الجوفيّة

Scroll to top