Latest articles
November 15, 2024
November 15, 2024
November 15, 2024
مقدمة
تشُحُ الشواهد الكتابية الأردنية في العصور القديمة، لكن الأثر الإنساني جلي لم تستطع آلاف السنين وما حملته من كوارث طبيعية، وظروف مناخية، من محوه، كما عجز التخريب العفوي أو المتعمد، عن مسح ذكرى أجدادنا الأردنيين الأوائل.
في عمان، مدينة الماء، التي عرفت الوجود السكاني دون انقطاع على مر التاريخ، حيث قرية عين غزال، أقدم تجمع سكاني زراعي مكتشف، كانت عاصمة المملكة الأردنية العمونية، التي كانت حاضرةً ومركزاً سياسياً وتجارياً مهماً، للمملكة الأردنية التي نشأت مع بدايات العصر الحديدي الثاني بالتزامن مع شقيقاتها الممالك الأردنية (مؤاب، أدوم).
موطن الأردنيين العمونيين
من نهر الزرقاء (يبوق)، حتى أطراف وادي الموجب (أرنون)، وفي الجهة الغربية من وسط الأردن، في البلقاء، قامت المملكة الأردنية العمونية.
وقد تنوعت الطبيعة الجغرافية في المملكة الأردنية العمونية، بين الجبال والسهول، حيث أقيمت المدن الرئيسية على قمم الجبال، فيما انتشرت التجمعات الزراعية حولها، في سفوح الجبال والسهول المحيطة بالمدن، وبينما تتسم المناطق الجبلية في منتصف المملكة، بمناخ البحر المتوسط، نجد المناخ الصحراوي غالباً على الحدود الشرقية للمملكة، في حين كلما اتجهنا غرباً باتجاه نهر الأردن مع المنحدرات، غلب المناخ الغوري.
ورد في الموروث الشعبي الأردني أن حدود البلقاء من نهر الزرقاء حتى ماعين “البلقا من زرقا شبيب لزرقا ماعين”، وبالعودة إلى الدراسات والمكتشفات الأثرية، نجد أن الجسم الأساسي للمملكة الأردنية العمونية يتشكل من البلقاء حسب وصفها التاريخي، باستثناءات لحظات الضعف التي استطاع العبرانيون فيها السيطرة على بعض المناطق الغربية من السلط، وبعض التداخلات الجغرافية الطبيعية مع شقيقتها المملكة الأردنية المؤابية، أو لحظات القوة التي التي توسعت فيها المملكة الأردنية العمونية، إلى الغرب من نهر الأردن، أو شمالاً على حساب الممالك الأمورية والآرامية، إلا أن المؤكد أن البلقاء كانت أساس المملكة الأردنية العمونية وقلبها العاصمة عمان (ربة عمون) واستمر هذا النطاق الجغرافي كما هو في العصور اللاحقة وصولاً إلى العصر الحديث.
عمان (ربة عمون) – العاصمة الأردنية العمونية
ربة عمون هي التسمية التاريخية لمدينة عمان، التي كانت عاصمة المملكة الأردنية العمونية، وقلبها النابض، أكثر مدنها تحصيناً، سواء تحصيناً طبيعيا، أم تحصيناً شيّده أجدادنا الأردنيون العمونيون، ومنها انطلقت هذه المملكة الأردنية، التي قدمت إرثاً حضارياً وعمرانياً، يكاد يكون الأكثر زخماً في المنطقة في ذلك التاريخ.
قامت ربة عمون أساساً على ما يسمى اليوم بجبل القلعة، في وسط مدينة عمان الحالية، حيث كان مركز المدينة وقلعتها، ذات الأسوار المنيعة التي عجز الغزاة عن اقتحامها مراراً، وداخل أسوار القلعة تنوعت المباني، من قصر الملك ومنازل كبار القادة والتجار، إلى السوق ومساكن صغار التجار العمال والحرس، كما بني المعبد المكرس للإله العموني ملكوم أيضاً داخل أسوار القلعة، كما انتشرت الأبراج العمونية الشهيرة، التي كانت تعد نقاط استخبارية متقدمة تحرس المدينة، في التلال المجاورة لربة عمون.
سُكِنت عمان منذ العصور السحيقة، كونها غزيرة المياه، وخصبة التربة، حيث شهدت أول تجمع سكاني زراعي على مر التاريخ –قرية عين غزال-، وتواتر الوجود السكاني فيها منذ العصرالباليوثي 200.000 قبل الميلاد، حتى يومنا هذا.
وتشير المكتشفات الأثرية إلى أن ربة عمون لم تكن مأهولة فقط في العصور البرونزية (ما قبل نشوء المملكة الأردنية العمونية)، بل أيضاً كانت تمارس نشاطاً تجارياً مهماً، مع اليونان وقبرص ومصر والعراق.
الطبيعة السكانية قبل نشوء المملكة الأردنية العمونية
تفاوتت طبيعة السكان في وسط الأردن القديم (المنطقة التي قامت عليها المملكة الأردنية العمونية، أو ما تسمى البلقاء بعد ذلك)، تبعاً للاختلاف التضاريسي والمناخي، حيث تجد القبائل البدوية التي تمارس الرعي والتنقل على الحدود الشرقية للمملكة، فيما مورست الزراعة بشكل منظم وكثيف في المناطق الجبلية والسهلية، وقبيل نشوء المملكة الأردنية العمونية، وفي عصر (المدن الدول) مارس سكان هذه المدن النشاط التجاري بكثافة، كما وجد آثار لبعض الصناعات التعدينية، الأمر الذي كان أحد أهم مقدمات نشوء المملكة الأردنية العمونية.
نشأة المملكة الأردنية العمونية
“ أنشأ الأردنيون الأوائل مع بداية العصر الحديدي الثاني أولى دولهم الوطنية أو ما يسمى (دولة الأمة ذات السيادة على أرضها)، حيث نشأت بالتزامن ثلاثة ممالك من نهر الزرقاء شمالا، حتى خليج العقبة جنوبا على الترتيب (عمون، مؤاب، أدوم) وكان نظام الحكم في هذه الممالك ملكي وراثي في الأبناء الذكور.
وهذا يدل على قيام حس وطني لدى أجدادنا في تلك الحقبة، الذي دفعهم لأن يوحدوا القبائل والمدن تحت قيادة زعيم واحد، تحول إلى ملك، وبنظام سياسي معقد في بنيته الداخلية، لإدارة شؤون هذا الشعب، وتقديم المصلحة الجمعية، على مصلحة القبيلة والمدينة، ونشأت أول تراتبية سياسية إدارية دقيقة في تلك المرحلة.“
تعرض أجدادنا الأردنيون الأوائل الذين سكنوا المنطقة الواقعة بين نهر الزرقاء (يبوق)، ووادي الموجب (أرنون)، لعمليات تطور طبيعية، وأخرى على شكل قفزات، ومع بدايات العصر البرونزي، بدأ النشاط الزراعي بالتطور، مع تطور الأدوات المستخدمة ودخول المعادن بديلاً عن الحجارة في عملية صناعة الأدوات الزراعية، هذا التطور الزراعي بدأ بالتراكم للوصول إلى حالة من الفائض الإنتاجي، الذي فرض على أجدادنا ابتكار الطرق الملائمة لتخزينه أو بيعه، الأمر الذي دفع باتجاه تشكل المدن التي كانت تستهلك الفائض الزراعي، وتقوم بممارسة النشاط التجاري، إلى جانب تطور الحرف، وبدأت منظومة المدن بالتطور والتعقد تدريجياً، وتطور النشاط التجاري، حيث أن المنطقة التي نشأت عليها المملكة الأردنية العمونية، يمر بها الطريق التجاري الرئيسي الذي يربط الجنوب بالشمال.
لقد بدأ الحس الوطني بالتنامي لدى أجدادنا الأردنيين العمونيين، جنباً إلى جنب مع الحاجة إلى إنشاء دولة قوية، تجمع المدن المستقلة، التي لا تستطيع وحدها الدفاع عن مصالحها، ومع بدايات العصر الحديدي الثاني كانت العصبة الأردنية العمونية، من قبائل وقرى ومدن، قد بدأت بالتكتل واستطاعوا إنشاء منظومة سياسية معقدة، يرأسها ملك أردني عموني، يستطيع بالإضافة إلى زعماء القبائل والقرى والمدن، من تنظيم الدولة وإنشاء جيش نظامي قادر على حماية حدود المملكة، والطرق التجارية المارة بها، من التهديدات الخارجية، حيث كانت المنطقة عرضةً لأطماع الغزاة من كل الاتجاهات.
وتشير المصادر التاريخية، إلى أنه في الوقت الذي بدأ العبرانيون به بالعبور من مصر باتجاه أرض كنعان، كانت المملكة الأردنية العمونية قائمة منذ زمن، حيث استطاعوا السيطرة على المنطقة، وطرد قوم يدعوا الرفائيين وقد كان أجدادنا الأردنيون العمونيون يدعونهم بالزمزميين، ومن الواضح أن تحالفاً متيناً كان قائماً بين الأردنيين العمونيين، والأردنيين المؤابيين بناءً على روابط الدم والتداخل الجغرافي في مواجهة جميع الغزاة المحتملين، والجدير بالذكر أن الملك الأردني المؤابي عجلون قاد تحالفاً مع الملك الأردني العموني في ذلك الوقت، وملك العماليق في مواجهة الخطر العبراني.
كما لعبت الديانة الأردنية العمونية دوراً مهماً في صهر المجتمعات داخل المنظومة الحديثة للدولة، حيث عُبِد الإله الأردني العموني ملكوم، وبنيت له المعابد والمذابح، على امتداد جغرافيا عمون الأردنية، لنجد أن المملكة الأردنية العمونية كانت وليدة التطور الإنتاجي بالإضافة لتوحد المصالح، التي توجت الوحدة الثقافية والترابط الإجتماعي للشعب الأردني العموني على شكل دولة وطنية ذات سيادة كاملة على أرضها.
الخاتمة
لقد حاولنا عبر هذا البحث إعادة صياغة الأبحاث والدراسات الآثارية المتوافرة، حول المملكة الأردنية العمونية، بطريقة تسهل على القارئ الغير مختص فهم الأرضية التي نشأت عليها هذه المملكة الأردنية العظيمة، عبر ربط الطبيعة الجغرافية والمناخية لموطن أجدادنا الأردنيين العمونيين، مع حالات التطور التي مر بها الأردنيون الأوائل في هذه المنطقة، وصولاً للحظة التي نشأت بها المملكة، ليكون هذا البحث بدايةً لسلسلة من الأبحاث التي تدرس المملكة الأردنية العمونية.
المراجع
- كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية والحديدية) ، دار ورد ، عمان .
- غوانمة، د. يوسف درويش (1979)، عمان حضارتها وتاريخها، دار اللواء للصحافة والنشر، عمان.
- أبحاث إرث الأردن،مدخل عام إلى عصر الممالك الأردنية القديمة
- العبادي، د. أحمد عويدي (2018)، التاريخ السياسي للممالك الأردنية القديمة، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان.