Latest articles
December 22, 2024
December 22, 2024
December 22, 2024
مقدمة
مكّن الموقع الاستراتيجي للمملكة الأردنية الغسانية الطرق التجارية والصناعات أن تزدهر. فكونها تقع على أهم طرق التجارة في العالم القديم جعلها تستفيد أقصى استفادة من القوافل التجارية التي تقصد الشرق الأقصى والهند وتلك التي تريد أن تعبر لمصر أو للبحر الأبيض المتوسط.
رغم الحالة الحربية المتقلبة والمعارك التي تنشب باستمرار مع المناذرة أو الفرس الساسانيين، استطاعت المملكة الأردنية الغسانية أن تخلق جوا آمنا لتلك القوافل. في العالم القديم، لم تكن الحروب لتوقف سير الحياة التجارية والصناعية فكانت الحضارات القديمة تبرم عهودا خاصة لتضمن أمان قوافلها. وكان الأردنيون الغساسنة من اضطلع بالمهمة الصعبة: مهمة تأمين القوافل وضمان سلامة البضائع.
في هذا البحث سنستعرض أهم محاور الاقتصاد الغساني وكيف استغل الأردنيون الغساسنة بحكمة وذكاء موقعهم الاستراتيجي وأي الصناعات ازدهرت جراء هذا الموقع.
الطرق التجارية
يعدُّ طريق الحرير الواصل بين حضارات العالم القديم أشهر الطرق التجارية على مستوى العالم. وذلك كونه يصل الشرق الأقصى (الصين -مدينة تشانغ آن تحديدا- واليابان والهند ومناطق نفوذ الإمبراطورية الفارسية) بالمشرق (الأردن والعراق وسوريا ومصر والجزيرة العربية) وبالغرب (الإمبراطوريات اليونانية والرومانية -مدينة أنطاكية تحديدا).
تتفرع عن هذا الطريق طرق تجارية ثانوية حيوية تربط المدن والحواضر في بعضها البعض. ولكن التقسيم الأكثر شهرة والذي كان سائدا زمن الأردنيين الغساسنة هو تقسيم طريق الحرير لطريقين: طريق البحر وطريق البر.( شهيد: 2009)
يمتد طريق البحر من الصين إلى سريلانكا (كانت تعرف بسيلان قديما) وصولا إلى البحر الأحمر. أما طريق البر فكان يمتد من الصين عبر آسيا الوسطى ماراً ببلاد فارس وصولا إلى بلاد الرافدين ومن ثم الأردن.
كان للأردن في عهد المملكة الأردنية الغسانية نصيب وافر من التجارة. فالطريق البري يمر قطعا بالأراضي الأردنية عبر وادي السرحان (دومة الجندل) وصولا للمدن الغسانية المنتعشة تجاريا كالجابية في حوران الأردنية وبيت راس وجرش ومادبا وغيرها. أما طريق البحر فكان يصل للبحر الأحمر إلى ميناء أيلة (العقبة) وسنبحث فيما يلي، بتفصيل أكبر، الطرق التجارية الأردنية في عهد الأردنيين الغساسنة . (شهيد: 2009)
حُماة القوافل
شارك الأردنيون الغساسنة بشكل فاعل في حركة التجارة العالمية آنذاك، إذ سيّروا القوافل وروّجوا لبضاعتهم التي تباينت بين الخمر والمزروعات والثياب وغيرها. ولكن كُتب التاريخ تخص الأردنيين الغساسنة دوما بلقب حُماة القوافل.
كما أسلفنا بالحديث عن طريق الحرير الذي كان عامرا بالقوافل، يجب ألا ننسى أن الطريق كان صعبا من نواح عدة. من ناحية طبيعية جغرافية يمتد على عدد هائل من التضاريس. يجعل هذا الطقس أيضا غير مأمونا. أما الناحية الأخرى فكانت انتشار قُطّاع الطرق الذين ينهبون ويسلبون القوافل التجارية. وشكّل مرور القوافل التجارية بإمبراطوريات العالم القديم هاجسا آخر أمنيا وعسكريا، فرغم المعاهدات التي تضمن مرور القوافل؛ تظل الثغور والحدود متحفزة دوما ولهذا كان الأردنيون الغساسنة حُماة القوافل التجارية على طريق الحرير المار بالأراضي الأردنية. (شهيد: 2009)
وفي الأحلاف السياسية بين الفرس والمناذرة مقابل الغساسنة والبيزنطيين، كان الأردنيون الغساسنة ينفردون بحماية القوافل لما عرف عنهم من قوة وحكمة. فبعد النصر الكبير الذي أحرزه الغساسنة على المناذرة عام 554 ميلادي وبعد نقاشات كثير محتدمة بين الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية ومملكتي الغساسنة والمناذرة، صيغت معاهدة سلم عام 561 ميلادي نصت على أن للغساسنة الحق في عقاب كل من يتعدى على القوافل التجارية وأن عليهم حماية القوافل التجارية وإيصالها آمنة مقابل ضريبة يقتطعونها من التجار وكانت تلك مهمة يسيرة على الأردنيين الغساسنة لمعرفتهم بطبوغرافية المنطقة جيدا ولتفوقهم العسكري كذلك. (شهيد:2009)
الطريق العربي الغربي
نتيجة للصراعات المستمرة بين الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية وانخراط الأردنيين الغساسنة بالحروب مع المناذرة خصيصا في القرن الخامس الميلادي، ظهر طريق تجاري جديد يتفرع عن طريق الحرير، ويبدأ هذا الطريق الفرعي من اليمن شمالا ليمر بمدينة تبوك (التي كانت وقتها ضمن النفوذ الغساني) وصولا للمدن الأردنية المزدهرة كالبترا والربّة ومعان ومادبا وعمّان وإن كانت القوافل ستقصد البحر الأبيض المتوسط فعليها أيضا أن تمر من الميناء الغساني في غزة. (شهيد: 2009)
وهنا نرى أن كل طريق تجاري يتفرع يجب أن يمر بالمملكة الأردنية الغسانية آنذاك وهذا بلا شك من الأمور التي أثرَت الحواضر والمدن الأردنية على مر التاريخ.
كان الأردنيون الغساسنة مسؤولين عن تأمين هذا الطريق بأكمله، ولهذا امتد نفوذهم ووجودهم كحضارة وثقافة مسيحية إلى جنوب الجزيرة العربية فكانوا يستريحون في نجران التي اعتنق أهلها المسيحية وكانت على تواصل قوي مع الأردنيين الغساسنة. ورغم أهمية طريق الحرير الرئيسي إلا أن الطريق العربي الغربي كان ذي أهمية أكبر بالنسبة للأردنيين الغساسنة فقد جعلهم ينخرطون أكثر في التجارة بعيدة المدى سواء عبر البر في الجزيرة العربية أو عبر البحر عن طريق المرور بفلسطين التي كانت تحت ولاية الأمير الغساني أبو كرب، أخ الملك الغساني الحارث. وقد أدت هذه الخبرة الطويلة المتراكمة إلى خلق أساليب دفاعية متميزة.(شهيد: 2009)
طريق وادي السرحان الأردني
وادي السرحان الأردني – أو كما يعرف أيضا بوادي الأزرق – هو منخفض تضاريسي يمتد من حوض الأزرق شمال شرق الأردن إلى بادية الصفاوي جنوبا، وكانت تلك المنطقة ولا زالت من مضارب القبائل الأردنية في البادية الأردنية الشمالية عبر العصور.
اشتهر هذا الطريق بعدة مدن أردنية غسانية كدَومة الجندل والنبك والأزرق ودوما. وقد شهد هذا الوادي الأردني عدة مواجهات حربية كمعركة الملك الغساني الحارث مع قبائل تميم. اكتسب هذا الطريق أهميته من طبيعته الجغرافية فهو منخفض تتجمع فيه مياه الأمطار الآتية من الأزرق وفيه حوض مائي جوفي ضخم كما أن طبيعته الجيولوجية متميزة للغاية، فصخور وادي السرحان إحدى أهم مصادر الملح في المشرق بأكمله.(شهيد: 2009)
ساعدت تلك الخصائص على ازدهار التجارة في طريق وادي السرحان وكان الأردنيون الغساسنة يولون اهتماما بالغا لهذا الطريق.
الطريق البحري
امتلك الأردنيون الغساسنة طرقا تجارية برية كما أسلفنا ولم يغفلوا عن ضرورة إيجاد طريق بحري لتصل القوافل للعالم الغربي عبر البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. كانت المملكة الأردنية الغسانية بشقها الثاني الذي تولاه الأمير الغساني أبو كرب (أخ الملك الحارث) تمتلك ميناءين أولهما على مدينة صوغر Zoara إحدى المدن الأردنية المسيحية الخمس (بنتابوليس) 1 والميناء الثاني هو ميناء أيلة أو إيلات (الاسم القديم للعقبة). وبهذين الميناءين إضافة لميناء غزة وصل الأردنيون الغساسنة للأسواق المصرية والبيزنطية.
برع الأردنيون الغساسنة في إدارة الموانئ وتأمينها وقد قاد ذلك لازدهار التجارة في الجزء الجنوبي من المملكة الأردنية الغسانية. وكان البحر الأحمر ذي أهمية خاصة خصوصا بوجود جزيرة أيوتاب (جزيرة تيران حاليا) التي كانت محطة تجارية مهمة للسفن المحملة بالبضائع، ويذكر أن هذه الجزيرة خضعت لحكم الملك الأردني الغساني جبلة بن الحارث وأعيدت لها مكانتها التجارية بعد أن فقدتها عقب انتهاء حكم السلالة البطلمية 2 . (شهيد: 2009)
إذن، اكتسب ميناء أيله الأردني مكانة تجارية لا مثيل لها في عهد الأردنيين الغساسنة وصارة بوابة المشرق على حضارات العالم القديم وراء المحيط الهندي وأمسى نقطة التقاء حيوية تتجمع فيها القوافل والسفن كما هو حال ميناء العقبة الأردني اليوم.
المعارض التجارية والأسواق
إحدى أهم مميزات الحضارة الأردنية الغسانية انتشار الأسواق والمعارض التجارية. هيأت الطرق التجارية البديلة التي استحدثها الأردنيون الغساسنة لانتشار هذه الأسواق والمعارض على طول هذه الطرق. الرومان والبيزنطيون والفرس والعرب من الجزيرة ومن العراق كانوا يحيون هذه الأسواق التي تحوي مختلف الأصناف والمنتجات الآتية من إفريقيا ومن أوروبا ومن الشرق الأقصى.
شهدت الأردن في الحقبة الهلنستية قيام فكرة المدن ذات الحكم المستقل وقد عرفت بمدن الديكابوليس. نبعت فكرة الديكابوليس من طبيعة الأردنيين الذين لم يكونوا ليقبلوا لأي أحد بأن يسلبهم حريتهم واستقلالهم ويفرض عليهم ولاية ليست منهم.
فيلادلفيا وبيلا وأرابيلا وجدارا وكانثا ودايون وهيبوس وجراسا، مدن الديكابوليس الأردنية التي تتابع كمدن أردنية رائدة بأسماء حديثة: عمان، طبقة فحل، أم قيس، أم الجمال، إيدون، الحصن وجرش، مستكملة دورها التجاري والحضاري الذي بدء منذ قرون طويلة.
يمكننا إذن تصور الأمر كالتالي. ثمان مدن أردنية تعمل كمراكز تجارية تربط العالم القديم، الشرق والغرب، تتلاقى فيها الحضارات ويتبادل الناس معارفهم وتجارتهم ويحفظ أمن هذه المدن جنود المملكة الأردنية الغسانية البواسل.
وبعيدا عن مدن الديكابوليس، اشتهرت ثلاث أسواق محلية في سهول حوران الأردنية، الأول سوق دير أيوب (شيخ سعد) والثاني سوق أدريعات (درعا) والثالث سوق بوسطرا (بصرى). تتوقف القوافل التجارية الآتية من الجنوب والشمال والشرق في هذه الأسواق وكان الأردنيون الغساسنة يمارسون عدة أدوار فهم حُماة القوافل وجامعو الضرائب والتُّجار.
تحصيل الضرائب
مارس الأردنيون الغساسنة تحصيل الضرائب، وكانت الضريبة التي تقدر بعُشر البضائع أو ثُمنها تؤخذ بدل أجرة الحماية وتأمين الطريق. وتذكر المصادر التاريخية أنهم حصّلوا الضريبة من قوافل قبيلة جذام الأردنية، أما مؤرخو بيزنطة فيذكرون لفظة Commericiaruis والتي تعني جامع الضرائب. (شهيد: 2009)
الزراعة
رغم فقر المصادر المتعلقة بالزراعة إلا أننا نملك بعض الدلائل على ازدهارها كذلك. فيقال في التراث العربي القديم “جنان آل غسان”، والأغلب أن الواحات الزراعية والكروم انتشرت وكانت قنوات الري تنقل الماء من مصادر جوفية (كحوض الأزرق ووادي السرحان) ومصادر أخرى سطحية كنهر الأردن، بحيرة طبريا وسيل الزرقاء. كما تدلنا المحاصيل والحبوب التي ورد ذكرها في الأسواق على ازدهار الزراعة هذا عدا عن كون قسم جيد من أرض الأردن أرضا خصبة ومناسبة للزراعة.
الحرف والمهن الأخرى
انتشرت عدة مهن وحرف أخرى في بلاد الأردنيين الغساسنة وذلك دليل على الإنتاجية العالية والتنوع الذي تميز به المجتمع الأردني الغساني. من الصناعات التي ازدهرت “دباغة الجلود” والتي تتضمن صناعة الأحذية الجلدية والمصنوعات الجلدية المتعلقة بالأحصنة والحروب. كما انتشرت صنعة حياكة الثياب والغزل، وفي الواقع عرف الأردنيون الغساسنة الكثير من الأثواب التي كانت تُعدُّ فاخرة بالنسبة لعصرها. يعود ذلك لازدهار تجارة الحرير على الطرق التجارية الذي كان الأردنيون الغساسنة مسؤولين عن حمايتها وتأمينها.
ويمكننا أن نستنتج من وجود الموانئ البحرية الغسانية المنتعشة بالتجارة كميناء أيلة وميناء صوغر وميناء غزة بأنهم أتقنوا الملاحة. وكانت حرفة النجارة مشتهرة أيضا وذات طابع ديني فالسيد المسيح كان نجارا. (شيخو: 2011)
ولم يكن لآل غسان أن يتخلفوا عن التفوق في الصناعات الحربية، فقد ذاع سيط قرية في البلقاء تدعى المشارف وكان ينسب لها “السيف المشرفي” وهو من أجود وأفخر أنواع السيوف. وعُرف أيضا صانع سيوف غساني اسمه “سرجس” وسميت سيوفه بالسُرجيات وقال الشاعر العجاج فيها “وبالسُرجيات يخطفن القصر” وبحسب المرويات التاريخية والدينية أهدت بلقيس ملكة سبأ الملك سليمان سبعة سيوف وصل اثنان منها إلى الملك الغساني الحارث بن جبلة وكان لقب السيفين “المخدم والرَّسوب” ويعنيان السيف الحاد الضربة حتى اشتهرت السيوف الغسانية بسيوف “الرَّسوب”.
ذكر العالم الكندي في رسالته الشهيرة عن السيوف سيوف الغساسنة بأنها ذات شفرات حسنة متعددة القدود من عراض ودقاق وقصار. ويذكر سيوف “الشراة” نسبة لجبال الشراة جنوب الأردن وهي سيوف مصنوعة من حديد يسمى الزماهن بشكل رقيق وطويل. وأتى الكندي على ذكر السيوف “الديافية” نسبة إلى منطقة دياف جنوب البترا.
الخاتمة
طرق تجارية مزدهرة وموانئ تصل إلى أقاصي العالم، ومدن أردنية تصل حضارات العالم القديم ببعضها البعض؛ إلى هذا الرقي والتقدّم وصلت حضارة الأردنيون الغساسنة. فالسيف المشرفي البلقاوي والسيف الديافي كانوا خطوات على درب الاستقلال والحرية التي رسمتها سواعد الثوار والأبطال الأردنيين عبر التاريخ.
المصادر والمراجع
- Social History Vol2, Part 2 Dumbarton Oaks, Harvard University.
• شيخو اليسوعي، ل.( 2011) الآداب النصرانية قبل الإسلام،(ط2) دار المشرق: بيروت
[1] البنتابوليس (بنتا تعني خمس وبوليس هو تجمع لخمس مدن في العهد الإنجيلي. واحد من أهم هذه التجمعات كان في الأردن في خمس مدن ذكرت بالكتاب المقدس في سفر التكوين (سدوم/ عمورة/ أدمة/ صبوييم/ صوغر أو بالعا). انظر https://st-takla.org/Bibles/BibleSearch/showChapter.php?chapter=14&book=1 وانظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%B3_(%D8%AA%D9%88%D8%B6%D9%8A%D8%AD)
[2] البطالمة هم عائله من أصل مقدوني نزحت على مصر بعد وفاة الإسكندر الأكبر سنة 323 ق.م. للمزيد انظر: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A9