Latest articles
December 23, 2024
December 23, 2024
December 23, 2024
مقدمة
بدأ الشعب الأردني النبطي بالانتشار والبناء والاعمار في البادية الاردنية في نفس الوقت الذي أصبح فيه بطليموس الأول سوتر حاكم مصر. في البداية تصادمت هذه الحضارات الناشئة مع بعضها البعض ، ولكن في غضون سنوات قليلة ، بدأوا في تشكيل تحالفات تجارية وتبادلات ثقافية. كان البطالمة بحاجة إلى الوصول إلى التجارة الشرقية، وكان الاردنيون الأنباط بحاجة إلى الوصول إلى الأسواق على البحر المتوسط للتمدد في إبداعهم التجاري الناشئ حينها . فأدى التعاون المتبادل بينهما إلى تحول كامل للسلطة في الشرق الأوسط. فأصبحت الإسكندرية أغنى مدينة تجارية في العالم المتوسطي، وأصبحت مملكة الأردنيين الأنباط صاحبة أغنى شعب و دولة في المنطقة. ما دام البطالمة ومن بعدهم من الرومان ابرموا الاتفاقات مع الأنباط بحريّة تجارة الدولتين التجارية في سلام، و سمح الأردنيون الأنباط للبطالمة بأن ينمّوا على حد سواء ثرواتهم من عائدات التجارة أيضاً .
و كانت المطامع في بلاد الأردنيين الأنباط تتشبث بأي فرصة لاستغلالها، إذ أن سطوة الأردنيين الأنباط على البر و البحر في التجارة والنقل التجاري كانت السبب الرئيسي في اندلاع نار المنافسة بينهم وبين اليونانيين البطالمة في مصر، أدت فيما بعد لعدة حملات و معارك و سجال اقتصادي بين الطرفين و محاولات لاجترار طرق التجارة عن مدينة أيلة في العقبة و تحويلها للسواحل الشرقية لمصر و شبه جزيرة سيناء .
إلا أن للثقافة منحىً آخر عن الاقتصاد و السياسة فالقارئ للمشهد الآردني النبطي و البطلمي اليوناني يمكن أن يلاحظ التاريخ والثقافة والتقدمات المماثلة في الحضارة النبطية. في الواقع ، انفتح الآردنيين الأنباط على ثقافة البطالمة أكثر من أي من الثقافات والحضارات الأخرى التي تعايشوا بجانبها .
كانت أولى التحركات التنافسية بين الأردنيين الأنباط و البطالمة في عهد بطليموس الثاني فيلادلفيوس Ptolemy II philadelphus في (284-246 ق.م) إذ حمل الصبغة الاقتصادية و حاول جر طرق التجارة إلى مصر، فأمر بفتح القناة القديمة و هي ذات القناة التي أمر بشقها الفرعون “نخاوبن بسماتك” عام 600 ق.م وتصل بين النيل والبحر الأحمر وكان قد أوقف العمل بها بعد أن مات 120,000 مصري خلال العمل على فتحها وأكملها الملك الفارسي “دارا” إلا أنه من المحتمل أنها قد طمرت جزئياً بعد أن أتاها البطالمة بعد 300 عام [1] ، و قام أيضاً بإنشاء عدة موانئ على البحر الأحمر .
كل هذه المحاولات لم تجدِ أي نفع أمام الأسطول التجاري والأنظمة التجارية الأردنية النبطية التي بدأت حينها ولم تكن قد وصلت إلا أوجّها بعد، كانت المحاولة الثانية في عام 280 ق.م ، إذ أُرسل أريستون Areston في مهمة استطلاعية عسكرية قامت بمسح كامل البحر الاحمر إلا أن الحملة لم تجرؤ على الاقتراب كثيرا من مدينة أيلة (العقبة) الاردنية خصوصا الميناء الاردني حينها إيلانا Aelana [2] و اكتفت بمراقبتها عن بعد و العودة تجاه الجنوب.
لم يكن هذا الاندفاع البطلمي الضعيف لمزاحمة الاردنيين الانباط في البحر الأحمر ضمن حدود كلا الدولتين التي تزعمها الأردنيين على مدى قرون وامتدت إلى أبعد من ذلك من المسطحات البحرية العالمية، بل تخلله اعتداءات بطلمية على السفن الاردنية النبطية، ما أدى إلى اشتباكات من كلا الطرفين سببت الأذى للبطالمة لما شهدوه من رد عنيف من قبل الاردنيين الانباط .
اتخذ بطليموس فيلادلفيوس هذه الاشتباكات ذريعة لمحاولة قتال الأنباط، إلا أنه لم ينجح في حملته الضخمة بالرغم من عامل المفاجأة، فلما لم ينجح في خليج العقبة، اتجه شمالاً لعله يحقق انتصاراً يحفظ ماء وجهه فيه واستطاع احتلال الساحل الشرقي من البحر الميت مما تسبب في تعطل حركة تجارة الاسفلت ( القار) الذي اعتيد استخراجه من هناك [3] ، و اتجه شرقاً باتجاه عمون .
حاول بطليموس فيلادلفيوس تثبيت حملته التي عبرت سيناء باتجاه البحر الميت عن طريق بناء مدينة على الساحل الغربي من خليج العقبة بالقرب من عصيون جابر وأسماها مدينة بيرنيسي نسبةً إلى أمه، وعين عليها من عرب سينا فرقة عسكرية كاملة، وحاول من خلال هذه المدينة الضغط على تجارة الأردنيين الأنباط إلا أن الانباط لم يتأثروا ذاك الشيء بل وتحول النزاع الأردني النبطي – البطلمي حينها إلى صراع على الحلفاء ، فالأردنيين الانباط كان لهم شبكة واسعة من الحلفاء وأهمهم أهل الجرها الذين مدوا طريق التجارة البحري مع البترا عبر الخليج العربي بعيداً عن التغول البطلمي في البحر الأحمر . [4]
و كان البطالمة قد تحالفوا مع المعنيين و اللحيانيين في شبه الجزيرة العربية لما كان بينهم وبين الجرهانيين من تنافس قديم، فقام البطالمة بإنشاء مستوطنة على أراضيهم جنوبي الحدود البحرية للمملكة الأردنية النبطية على الساحل الشرقي للبحر الأحمر سموها بـ أمبيلوني Ambelone بما كان أشبه بمحاولة للالتفاف على الموقع الجغرافي الاقتصادي الأردني النبطي بالغ الأهمية و صنع مناخ اقتصادي شبيه له بأقصى ما يمكنهم .
و مع هذا التعاون اللحياني المعيني – البطلمي ، برز تحالف آخر مع الأردنيين الانباط ألا وهم السبئيون [5] ، لم يقتصر التحدي السبئي الجرهي للبطالمة إلى التحالف مع منافسها الأقوى في المنطقة ألا وهي المملكة الأردنية النبطية ، بل تعدى إلى التحالف مع الشق الآخر من اليونان ألا وهم السلوقيون فكانوا سوق الجرهيين الرئيسي للبهارات . [6]
كان لتلك المحاولات الفاشلة لإحباط التجارة الأردنية النبطية الدافع لبطليموس فيلادلفيوس لإقامة علاقات سلمية معهم بالرغم من أن هذه العلاقات كانت هشة كونها بنيت على خوف وخشية يونانية بطلمية من الصراع مع الأردنيين الانباط ، كُسرت هذه العلاقات مع إندلاع الحرب بين السلوقيين والبطالمة فانحازوا إلى جانب الملك السلوقي حينها أنطيوخوس الثالث ضد بطليموس فيلو باتور الرابع للانتقام من هزيمة السلوقيين على يد البطالمة في معركة رفح في عام 218 ق.م [7] ، وقد أدت هذه المعركة إلى زعزعة الجبهة الداخلية للبطالمة إذ أنها كونت لدى المصريين نزعة تحررية ضد البطالمة، أدت إلى سحب البطالمة للمصريين من الفرق العسكرية بشكل كبير وهذا ما صب مرة أخرى في تعاظم النزعة القومية لدى المصريين ضد البطالمة ما جعل الجيش البطلمي متشققاً من الداخل . [8]
كانت ثورة المصريين ضد البطالمة في رفح و تبعاتها هي نقطة اللاعودة في انهيار الدولة البطلمية، استبدل هذا الانهيار و الجزر الحدودي إلى تنامي القوة الاقتصادية للأردنيين الانباط و امتداد للسلوقيين، ففقد البطالمة الأراضي الواقعة شمالي حدود المملكة الأردنية النبطية بعد معركة بانيون panion عام 200 ق.م [9] ،و انهار ميناء بيرنسي أمام ميناء ايلانا الأردني النبطي [10]، تبع هذا السقوط تنامي للقوة البارثية (الفارسية) التي اضعفت من نفوذ السلوقيين شمالاً فقامت البترا شامخة و برز الملك الأردني النبطي الأول المعروف الحارث الأول، و أصبح لميناء لوكي كامي (المدينة البيضاء) النبطي دوره المهم بعد الميناء الأردني الرئيسي .
التأثيرالمتبادل بين الحضارة الأردنية النبطية والحضارة البطلمية
في عام 85 قبل الميلاد ، سار الأنباط إلى مدينة دمشق لتصبح ضمن حدود مملكتهم الواسعة وأصبحوا بهذا الاتساع قوة عالمية. فقد كانوا منذ عهد بطليموس الأول في مصر يشحنون بضائعهم عبر ميناء الإسكندرية المصري. إلا أنهم مع امتدادهم البري على البحر المتوسط أصبحوا قوة اقتصادية أكبر، وتأثر الأنباط حينها بالطابع الاغريقي إلى حد ما . فكانت الإصلاحات الشاملة التي من شأنها تغيير مملكتهم إلى الأبد تستند في شيء منها إلى احتكاكهم الأكبر بهذه الحضارة .
فكان من أول أعمال الملك الأردني النبطي الحارث الثالث (86 – 62 قبل الميلاد)، سكه لعملة جديدة من العملات المعدنية ، لكن هذه المرة مع عرض اسمه باللغة اليونانية و بلقب يوناني، إضافة إلى ذلك ، فقد أخذت الطرازات المعمارية النبطية خلال هذا الوقت القليل من الطابع المعماري الهيلنستي، الذي استمد بشكل كبير من الطراز الهيلنستي الاسكندري تحديداً . و لم يقتصر ذلك فقط على المقابر في البترا، بل إن المشاريع المعمارية الضخمة التي قام بها الأردنيون الأنباط تعطي لمحة معمارية مهمة عن التشابه مع المشاريع المعمارية في الإسكندرية.
و نجد أوجهٌ من الشبه بين المقابر الاردنية النبطية وبين مقابر البطالمة في مصر . فقد تاُثر الأنباط بالممارسة المصرية المتمثلة في بناء مقابر مثيرة للإعجاب بزعمائهم .
لم يكن تأثر الأنباط بالبطالمة ومواطنيهم المصريين فقط في الممارسات الدينية والأمور الحياتية، بل قاموا بإعطاء أسماء مصرية و يونانية لأطفالهم ، وأصبح اللباس ذو النمط المصري واليوناني موجوداً في العاصمة الأردنية النبطية البترا وأنحاء البلاد .
وبالطبع لم يكن التأُثير ذو اتجاه واحد بين البطالمة والأردنيين الأنباط ، بل كان للأردنيين الانباط أهمية و تأثير أكبر أيضا على الحياة العامة في مصر، فقد شارك الأردنيين الأنباط في خلق وجمع المعرفة العلمية . وكانت مدخلاتهم في المكتبة الكبرى في الإسكندرية وكذلك المتحف مع تحقيقاته في الجغرافيا والرياضيات وعلم الفلك والعلوم الأخرى ذات أهمية كبيرة . ويذكر الأدب العربي (من تواريخ لاحقة) العديد من المساهمات النبطية في العلم والثقافة. أبو بكر أحمد بن علي بن قيس بن الوحيص النبطي مثلاً، الذي كان طبيبًا وعالمًا نباتيًا له اهتمامات في الزراعة وتربية الحيوانات بالإضافة إلى الخيمياء والسحر والسموم ، كتب حوالي 900 بعد الميلاد. لم يكن باحثًا يمثل عهده فقط، بل ربما كان أكبر المتحدثين بإسم أسلافه الأردنيين اللامعين، وقد نُسب إليه أكثر المعارف العلمية الأردنية النبطية المعروفة. يعرف أحد كتبه باسم الفلاحة النبطية (904 م) و السموم والتقات (900 م). وقد اقترح بعض المؤرخين أن أوائل البطالمة قد يكونوا ساعدوا التجار والبحارة الأنباط في سعيهم للحصول على المعرفة من الشواطئ البعيدة. ونقلها إلى العلماء الأردنيين الأنباط في الإسكندرية، ولاحقاً نرى بأن العديد من الكتب من مكتبة الإسكندرية قد ترجمت في وقت لاحق إلى اللغة العربية ، اللغة التي انبثقت عن الأردنيين الأنباط، و هذا مؤشر آخر للدور الذي لعبه الأردنيين الأنباط في تاريخ المنطقة . [11]
كما يتضح تاريخيا أن العديد من الأردنيين الأنباط تواجدوا وأثروا في الحياة العامة في الإسكندرية وغيرها من المدن المرية. و تركوا أدلة على وجودهم وحضارتهم ليس فقط في هذه المدينة، ولكن في العديد من المراكز الحضرية والتجارية حول البحر الأبيض المتوسط. و من التأثيرات الهلنستية والاسكندريية في الثقافة النبطية يمكننا أن نستنتج أنه لا توجد حضارة أخرى أثرت على الأردنيين الأنباط في العديد من الطرق وإلى العمق مثل الحضارة البطلمية في مصر.
المصادر و المراجع :
[1] النصرات ، محمد إسماعيل (2007) مملكة الأنباط تاريخ الأنباط السياسي ، مشروع بيت الأنباط للنشر و التوزيع ، عمان . ص52
[2] Rostovtzeff , The social and Economic History , vol .1 , p.387.
[3] الناصري ، سيد أحمد (1984) الصراع على البحر الاحمر في عصر البطالمة ، الرياض ، ص401-428.
[4] نفس المصدر السابق ، ص 410 .
[5] نفس المصدر السابق ، ص 414
[6] Tarn , Ptolemy II and Arabia , p.22
[7] عبدالوهاب ، دراسات في العصر الهيلنستي ، ص 144.
[8] نفس المصدر السابق
[9] نفس المصدر السابق ، ص 222.
[10] الناصري ، الصراع على البحر الأحمر ، ص 418
[11] The History of the Ptolemy’s and the Nabataean Empire , Nabataean History (website)