Latest articles
December 23, 2024
December 23, 2024
December 23, 2024
العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية في عهد الملك الأردني الحارث الأول
لعل أولى المؤشرات على وجود أي علاقات أردنية نبطية – يهودية، كانت في عهد أول ملك معروف للأردنيين الأنباط، الملك الأردني الحارث الأول الذي حكم منذ العام 159 ق.م وحتى العام 158 ق.م، أي لعام واحد، وإتسمت تلك الفترة بسلام أردني مع الممالك المحيطة في المنطقة، حيث لم يستقبل الملك الأردني الحارث الأول ياسون اليهودي الذي نازع منلاوس اليهودي على منصب الكهنوت الأعظم في المملكة اليهودية، وذُكِرت هذه القصة في العهد القديم، إذا جاء فيه : “فهرب ثانية إلى أرض بني عمون، وكان خاتمة أمره منقلباً سيئا لأن أريتاس (الحارث) زعيم العرب طرده فجعله يفر من مدينة إلى مدينة، والجميع ينبذونه .. حتى دحر إلى مصر” (في سفر المكابين الثاني 57 : 9)، مما يدل على أن المملكة الأردنية كانت تُقيم معاهدات مع دول الجوار وأنها ذات ثقل سياسي مؤثر بالإضافة لعدم وجود أي سبب يمنع من استقبال ياسون و تحويله إلى مصر إلا لإتفاق سياسي محض.
لم تقف العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية إلى ذلك الحد في عهده، بل امتدت إلى تحالف عسكري استغله الأردنيون لمواجهة خطر أكبر كان قد بلغ ذروته بعد عهدٍ طويلٍ، وفيه تحالف الأردنيون الأنباط مع المكابيين ضد السلوقيين وحملة ملكهم أنطيوخس الرابع ضد مصر.
ومن الأدلة على العلاقات الأردنية النبطية واليهودية في ذلك العهد ما ورد في سفر المكابيين الأول والثاني، حيث جاء في الثاني 5: 25-27 مثلاً : “أما يهوذا المكابي ويوناثان أخوه فعبرا الأردن وسارا مسيرة ثلاثة أيام في البرية فتلقوهما بسلام، وقصوا عليهما كل ما أصاب أخوتهما في أرض جلعاد …”، ويرى إحسان عباس أن هذا اللقاء تم بالقرب من إقليم حوران الأردني، و يذكر سفر المكابيين الأول في 9: 35 : “أن يوناثان أرسل يوحنا أخاه بجماعة تحت قيادته يسأل النباطيين أولياءه أن يعيروهم عدتهم الوافرة”، مما يدل على أن العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية كانت مسالمة وقائمة على التعاون في تلك الفترة، وأن الأردنيين الأنباط كانوا ذوي قوة لا يستهان بها، مما يجعل دولة أخرى تستعين بمعداتها.
العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية في عهد الملك الأردني الحارث الثاني
شهدت هذه الفترة تغيراً في وتيرة العلاقات، فنرى أن المملكة السلوقية ضعُفت بين أنطيوخوس الثامن غريبس وأنطيوخوس التاسع قزقنيس، وفي المملكة اليهودية صعد التيار الحشموني وحكم ألكسندر ينايوس ذو الطبيعة العدوانية، وتعاظمت القوة التجارية الأردنية النبطية في ذلك العهد، إذ في عهد الملك الأردني الحارث الثاني 120 ق.م – 96 ق.م، مارس ينايوس الضغط على الاقتصاد الاردني من خلال توسيع نفوذه نحو غزة لمنع القوافل التجارية الأردنية المحمّلة بالتوابل والعطور والقادمة من العاصمة الأردنية النبطية، بترا، بإتجاه أوروبا، من الوصول لسواحل البحر المتوسط، الأمر الذي حمل أهالي غزة لطلب النجدة من الملك الأردني النبطي الحارث الثاني، ورغم أنه من غير المعروف إن كان قد حصلت معركة على إثر ذلك بين الأردنيين الأنباط وألكسندر ينايوس، إلا أن التهديد اليهودي انتهى بعد ذلك لما تمتّعت به غزة من تحالفها مع الأردنيين الأنباط بصفتها إمتدادًا تجاريًا للبترا، حيث أقيمت المستوطنات الأردنية النبطية في النقب وخصوصًا في منطقة عبده وخلاصة ونتسانا وممفيس، كما أن الملك الأردني النبطي الحارث الثاني هو أول ملك أردني يضرب النقود البرونزية و أسس مركزاً لها في غزة.
وبما أن التهديد اليهودي الضئيل للأردنيين الأنباط بتوسّعهم نحو غزة لم يفلح، بقي التنامي الاقتصادي الجارف للأردنيين الأنباط مستمرًاً وآخذًا بالتوسع وزيادة النفوذ .
العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية في عهد الملك الأردني عبادة الأول
إزدادت حدة الصراع في عهد الملك الأردني عبادة الأول الذي حكم منذ عام 96 ق.م وحتى عام 85 ق.م، حيث تجرأت التهديدات اليهودية إلى احتلال مؤاب وجلعاد في شمالي المملكة الأردنية النبطية، تبع هذا الاحتلال القصير جداً، ردٌ عسكريٌ أردنيٌ، إذ توجهت الجيوش الأردنية النبطية نحو أم قيس لملاقاة قوات ينايوس وتم دحره هو وجيشه، ووقع في وادٍ عميق وهرب بصعوبة إلى القدس لينجو بحياته، ولم تنته هذه الحرب عند هذا الحد، بل تبعها غضبٌ شعبيٌ في المملكة اليهودية جرّاء الخسائر التي لحقت بجيشهم في معركته الخاسرة على الأرض الأردنية.
ولم يخف ينايوس على حكمه من شعبه فحسب، بل وخشي أيضًا من ملاحقة الجيوش الأردنية له ولجيشه حتى تخوم القدس، فحاول أن ينال رضا الملك الأردني عبادة الأول بتنازله عن أراضٍ للمملكة الأردنية النبطية.
العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية في عهد الملك الأردني رب إيل الأول
لم يحكم هذا الملك إلا لمدة عامٍ واحدٍ، إلا أنه برز بشكل قوي في معركة عظيمة دافع فيها عن الأردن والأردنيين ضد جيش أنطيوخوس الثاني عشر دينوسيوس عام 85 ق.م الذي شن حملته على المملكة اليهودية وهزمها ثم تابع سيره نحو بترا، ظنًا منه أنه قادر على كسر صمود الأردنيين الأنباط، فكان رد الملك الأردني النبطي بتشديد الدفاعات العسكرية الأردنية النبطية وتوجيه 10 آلاف من الجنود الأردنيين لمهاجمة الجيش اليوناني المعتدي، وعانى الجيش اليوناني من مرارة وشراسة دفاع الجيش الأردني عن أراضيه، وخلال محاولاته الهرب فقدَ قائده العسكري ومعظم جنوده، وواجه الجنود الناجين من السيف الأردني النبطي، الجوع والعطش فلقوا حتفهم.
العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية في عهد الملك الأردني الحارث الثالث
كانت للمعركة الأخيرة التي حقق فيها الملك الأردني رب إيل الثاني نصراً عظيماً، أثرها في تمكين الحارث الثالث الذي حكم ما بين عامي 84 ق.م و 62 ق.م، ويُعدُّ من أفضل وأقوى الملوك الأردنيين الأنباط إذ شهدت مملكته توسّعًا هائلاً، اقتصادياً و سياسياً. قام الحارث الثالث بالسيطرة على دمشق بعد وفاة الملك السلوقي أنطيوخوس الثاني عشر بطلب من أهلها، ووصل الحكم الأردني النبطي إلى صيدا شمالاً، وعيّن الحارث الثالث عليها استرتجا، وهي رتبة إدارية نبطية، وتعني النائب عن الملك. وفّر هذا التوسّع لسكّان مدينة دمشق الحماية الأردنية النبطية من الإيطوريين في لبنان. وكان اليهود ينظرون إلى اتساع الرقعة الجغرافية السياسية والنفوذ الاقتصادي للأردنيين الأنباط بعين الامتعاض، حيث كان ينايوس يرى أن الملك الأردني قد عاد بشكل أقوى ليسيطر على سواحل البحر الأبيض المتوسط من جديد، لكن الملك الأردني الحارث الثالث كان يعي تبعات توسّعه واحتمالية أن تقوم المملكة اليهودية بمشاكسته من جديد، فاستبق ذلك بتحرّك عسكريّ أدّى إلى دحر جيش المملكة اليهودية مجددًا بالقرب من قلعة الحديدة شرقي مدينة اللد وأجبرهم على توقيع الصّلح بشروط الأردنيين الأنباط، فتجرّعوا سمّ الانسحاب من مواقعهم على سواحل البحر الأبيض المتوسّط.
لكن هذا الصلح لم يدُم طويلاً، حيث حاول ينايوس أن يسترد ما خسره مرتين، مرّة في اللد ومرّة في أم قيس، وأيضًا من أجل استمرار شعوره بخطورة تعاظم نفوذ المملكة الأردنية النبطية، فحاول مجددًا احتلال الأردن من جهة الغرب ولم يستطع إلا أن يحتل بعض القرى، وتوفي على أسوار أحد الحصون الأردنية النبطية عام 76 ق.م، مسلماً العرش لإمرأته سالومة الكسندر التي حاولت قدر الإمكان إقامة علاقاتٍ طيبةٍ مع المملكة الأردنية النبطية.
لم يدم الوئام داخل المملكة اليهودية طويلاً حيث تنازع الشقيقان، هيركانوس الثاني وأرسطوبولوس الثاني، أبناء سالومة، على العرش، وتمكن أرسطوبولوس من هزيمة أخيه هيركانوس بالقرب من أريحا، فقام أعوان هيركانوس الثاني بطلب الحماية من الملك الأردني الحارث الثالث ، فمنح الملك الحارث هيركانوس حق اللجوء إلى بترا بمعونة من انتيباتر الأدومي .
لم يكن الملك الأردني النبطي عاجزاً عن استعادة بعض القرى المحتلة من قبل اليهود، بل انتظر الفرصة المناسبة لكي يستفيد من حالة الفوضى داخل المملكة المجاورة، فعند لجوء هيركانوس الثاني لبترا قدَّمَ وعدًا للملك الأردني النبطي الحارث الثالث بأن يعيد كافة الأراضي المحتلة إذا ما عاونه على هزيمة أخيه وتنصيبه ملكا على مملكة اليهود، أي أن هيركانوس وريث عرش المملكة اليهودية كان يرى ويؤمن بأن الجيش الأردني النبطي قادر على التأثير المباشر على رأس الحكم في المملكة اليهودية، وهذا ما حصل بالفعل، فقد سيّر الحارث الثالث جيشاً قوامه خمسين ألفاً من الجنود من خيالة ومشاة، واتجه به نحو القدس وتمكن من دحر أرسطوبولس الثاني وحصاره في المعبد في القدس وتسليم الحكم إلى هيركانوس .
إلا أن الأحداث التي كانت تعصف بدمشق حينها جعلت من القائد الروماني أميليوس سكاروس يتجه إلى القدس مما وضعه تحت ضغط أرسطوبولس الذي رشاه بمقدار 9 أطنان من الفضة كي يتوسط لدى روما لإقناع الجيش الأردني النبطي بكسر الحصار عن القدس، وكان بالفعل اذ إنسحب الملك الأردني نحو فيلادلفيا دفعًا لشرور وألاعيب أرسطوبولس.
جاءت بعد ذلك التدخلات الرومانية بإنشاء مدن الديكابوليس التي سحبت السيادة من يد الأردنيين الأنباط على شمالي الأردن، ونحب اليهود لما خسروه من مدنهم في قرار الملك الروماني بومبي، تبع هذا القرار قدوم ثلاث وفود في عام 63 ق.م إلى بومبي يمثلون كلا من هيركانوس وأرسطوبولس والشعب اليهودي الرافض لكليهما، قام بعدها ملك بومبي بتسيير حملة على المملكة اليهودية واعتقال أرسطوبولس الذي قاومه، وقُتِل في هذه الحملة ما لا يقل عن 12 ألف يهودي، وفي عام 62 ق.م تقريباً أصبحت المملكة اليهودية تابعة للرومان و فقدت استقلالها وحريتها مما زاد من قوة الموقف السياديّ للأردنيين الأنباط، ومالت النتيجة لصالحهم خصوصاً بعد الذي جرى في المدن الساحلية من فراغ سياسي بسبب ما آلت عليه حدود المملكة اليهودية بعد الحرب.
لم يتعارض اليهود مع الأردنيين الانباط بعد تلك الحملة في عهد الملك الأردني النبطي الحارث الثالث، وكان عهده من بعد هذا الأمر عهد رخاء وحضارة، فبُنيت أيلة وتعمّرت، ونُحتت الخزنة في تلك الفترة، واستمر النشاط الاقتصادي وبناء المدن والمستوطنات الأردنية النبطية في النقب.
العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية في عهد الملك الأردني مالك الأول
انقطعت العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية بسبب ما آلت إليه المملكة اليهودية من انهيار ناتج عن الاحتلال الرّوماني، ومضى عهد الملك الأردني النبطيّ عبادة الثاني بدون أي أحداث تُذكَر على صعيد العلاقات مع اليهود وصولاً إلى الملك الأردني النبطي مالك الأول، الذي حكم في الفترة بين 59 ق.م و 30 ق.م، والذي كان يتمتّع بحكمة ساعدته على توخي الحذر في جوٍّ سياسيٍ مضطربٍ عصف في المنطقة آنذاك .
لم تكن العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية مباشرة في عهده، ولكن عبر أنتيباتر الأدومي وزير الملك الأردني النبطي، والذي عيّنه القيصر الروماني يوليوس قيصر حاكمًا على الدولة اليهودية كمكافأةٍ منه للأردنيين الأنباط على وقوفهم معه ضد بومبي في حروبه، وتم تعيين هيركانوس كاهناً أكبر لليهود. أنتيباتر الأدومي كان قد تزوج بإمرأة أردنية نبطية وأنجب أربعة أولاد، منهم هيرود الذي حكم اليهود فيما بعد وقبلها حكم الجليل، وهذا ما نظنه القمة العظمى في العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية، حيث نرى حكماً أردنياً شبه مباشر لليهود داخل مملكتهم.
استمرّ الحال على ما هو عليه حتى مقتل أنتيباتر الأدومي مسموماً عام 43 ق.م عن طريق شخص يدعى ماليكوس، وقد كان ماليكوس معارِضاً وموظفاً كبيراً لدى هيركانوس الثاني اليهودي، وقام بعدها إبنه هيرود بالانتقام له والقضاء على حزب ماليكوس و التخلص منه بتحالفات رومانية، ولو أن حكمه لم يستمر طويلاً ولجأ بعدها إلى بترا.
لم يدُم التحالف الأردني النبطي مع وزيره الأسبق أنتيباتر طويلاً، حيث فقد هيرود التحالف مع الأردنيين الأنباط بسبب التهديدات والمناوشات مع البارثيين الفرس، الأمر الذي جعله يسافر إلى مصر من ثم إلى روما، ويعود بعد سنواتٍ إلى حكم المملكة اليهودية كغير يهودي وتابعٍ للرومان. ومن المرجّح أن يكون حصار الملك الأردني الحارث الثالث هو المسمار الاخير في نعش المملكة اليهودية التي أخذت بالأفول والضعف حتى غدت مقاطعة رومانية لا تتمتع بالاستقلالية، وبذلك تكون نهاية العلاقات الأردنية النبطية – اليهودية بانتهاء المملكة اليهودية، بالرغم من حالة العِداء التي اتسمت بها العلاقات الأردنية النبطية مع مقاطعة هيرود الرومانية فيما بعد.
المصادر و المراجع :
- النصرات ، محمد إسماعيل (2007) مملكة الأنباط التاريخ السياسي،مشروع بيت الأنباط للنشرو التوزيع،عمّان،الأردن.
- عبّاس،إحسان (1987) تاريخ دولة الأنباط،ط1،دار الشروق،عمّان،الأردن.
- Bowesock , G (1971) A Report on Arabia provincia .
- Negev , A . (1986) Nabatean archaeology Today , New York .
- Starcky , J . (1955) The Nabateans : A Historical Sketch
- Lowler , J . (1974) The Nabateans in Historical Perspective ,baker book house , Michigan .