Latest articles
November 15, 2024
November 15, 2024
November 15, 2024
تمهيد
كانت الحضارة الأردنية النبطية وما زالت علامة مضيئة في مسيرة الحضارة الإنسانية إذ قدمت أنموذجاً سباقًا بين الحضارات في العالم القديم يُحتذى به في شتى المجالات الحضارية في الميثولوجيا الدينية والثقافية وفنون العمارة، مكانة المرأة في المجتمع، والمنحوتات، واستنباط الماء، ونظم النقل التجارية، وإنشاء الموانئ البحرية، ولعل أبرز هذه المجالات اهتمام الأردنيين الأنباط وعنايتهم بتطوير النظم الاجتماعية لما له من انعكاس مباشر على تطوّر وتقدم باقي النظم المفصلية في المملكة النبطية الأردنية، وهذا ما يظهر بشكل جلي في مقدار الرفاه الإجتماعي الذي عاشه الأردنيون الأنباط ، ولذلك يسعى هذا البحث لقراءة أبرز ملامح الحياة الاجتماعية في المملكة النبطية الأردنية.
الملامح الاجتماعية للحضارة الأردنية النبطية
حسب ما ذكرت المصادر بأن المجتمع النبطي الأردني قد كان يتألف من مجموعة من القبائل، كما يُعتقد لدى بعض الباحثين بأن لفظ “الأنباط” يعطي مدلولا واسعا على عدد من العشائر والقبائل المتركزة في منطقة اقليمية واحدة اندمجت لتشكل شعباَ واحداَ، كما نجد تفسير آخر ذا منطق ديموغرافي على قيام المملكة الأردنية النبطية بحسب ذكر المؤرخ هاموند بأن كلمة “نبطو” تدل على إتحاد بين عدد من القبائل الأردنية المنطوية فيما بينها والذي بدوره شكل إتحاداَ قِبلياَ، فقد كان هذا الاتحاد القبلي نواة إزدهار المملكة النبطية الأردنية وبقائها، والذي بدوره خلق أخلاقيات التسامح والتعاون المشترك فيما بينها فضلاَ عن الانفتاح الحضاري بينهم وبين مختلف الشعوب المجاورة لهم .
الأنظمة الاجتماعية السياسية السائدة في المجتمع الأردني النبطي
النظام القِبلي
نظراِ لقيام المملكة الأردنية النبطية على أساس عشائري متحد مع بعضه، فقد كانت غالبا ما تستند إلى نظام المشيخة، إذ كانت الأحلاف العشائرية أساس قيام هذه الدولة قبل إرتقائها إلى الدولة الملكية، وكان شيخ المشايخ المسؤول عن استخدام القوة وتوجيهها وإختيار الأشخاص المخولين من بعده لأداء الوظائف العسكرية والتجارية، بالإضافة إلى مسؤوليته في حماية القوافل التجارية المارة ضمن حدود المملكة الناشئة وإصدار الأوامر وعقد الاتفاقيات والمعاهدات وإبرامها.
ويُستنتج من ذلك أن النظام القبلي تكوّن من شيخ القبيلة الذي يُعتبر رأس السلطة ومركزها، وبالرغم من أنه كان قادراً على إتخاذ القرارات بمفرده إلا أنه كان يأخذ برأي مجلس الشورى المُكون من وجهاء القبيلة وزعاماتها .
انتقال الأردنيين الأنباط إلى النظام الملكي
بعد قيام التحالفات بين القبائل الأردنية النبطية وزيادة وتيرة التقدم الإقتصادي والثقافي الاجتماعي في الدولة النبطية الناشئة، دعت الحاجة أيضا إلى تطوير البنى والنظم السياسية داخل الدولة النبطية الأردنية، رافق ذلك توفر العوامل التي ساعدت على المضي قُدما بهذا النهج جنبا إلى جنب مع التطورات الديمغرافية والموقع الجيوسياسي الإستراتيجي الذي فرض نفسه على الخارطة السياسية باعتبار الدولة النبطية حديثة العهد تحولت لمنفذ بارز ومسيطر على الطرق التجارية بنوعيها البري والبحري .
بداً ظهور الأردنيين الأنباط على مسرح التاريخ السياسي في القرن الرابع قبل الميلاد، إثر إرسال أحد خلفاء الإسكندر المقدوني لحملتين لغزو الدولة النبطية، وبعد فشل الحملتين في كسر عزيمة الأردنيين الأنباط والسيطرة على أراضي الدولة، فرض فشل الغزو ضرورة اللجوء للخيارات الدبلوماسية في التعامل مع الأردنيين الأنباط حيث أرسل خلفاء الاسكندر المقدوني الهدايا والقرابين لضمان طيب العلاقة بينهم وبين الأردنيين الأنباط.
ومن النظام السياسي القريب من الشعب الذي ولد عن النظام العشائري القديم، عاد الأردنيون الأنباط لنفس النظام العشائري مجددا بعد دخول البترا تحت الحكم الروماني في عام 106 ميلادية ووفاة الملك النبطي الأردني رب إيل الثاني ، ولم يتغير الكثير على حياة الأردنيين الأنباط خصوصاً في النقب والجزء الجنوبي من بلاد الأنباط ، اذ لم يكن النظام السياسي الملكي وليد اللحظة، بل تحويراً واشتقاقا عن نظام كان وما زال موجوداً حينها فعاد الأردنيون الأنباط لنفس التنظيم السياسي القائم على المشيخة النبطية المشابهة لنظام الملكية الشعبية النبطية مما مكّن الأنباط من التكيف مع السيطرة الرومانية عبر نظامهم الإداري والسياسي المستقل.
حُكمت المملكة الأردنية النبطية من قبل 12 ملك نبطي أردني ومن المحتمل أن يكونوا أكثر من هذا العدد بحسب ما أفادت به بعض الدراسات نظرا لوجود بعض الفجوات التاريخية في السلم الزمني لهذا الترتيب، ولم يتم التوصل إلى الملوك الذين حكموا الأنباط في تلك الفترة.
وكان الترتيب الأكثر شيوعا للملوك الأردنيين الأنباط يبدأ بالملك الحارث الأول الذي لم تكن بداية فترة تقلده للحكم معلومة وانتهت فترة حكمه في 169 ق.م، وصولا إلى رب إيل الثاني .
- الحارث الأول (169 ق.م -؟)
- الملك زيد أيل (146 ق.م -؟)
- الحارث الثاني (110 ق.م -95 ق.م )
- عبادة الأول (95 ق.م -88ق.م )
- رب ئيل الأول (88 ق.م -78 ق.م )
- الحارث الثالث (78ق.م-62 ق.م)
- عبادة الثاني (62 ق.م – 60 ق.م )
- مالك الأول (60 ق.م – 30 ق.م)
- عبادة الثالث (30 ق.م -9 ق.م )
- الحارث الرابع (9 ق.م – 40 م)
- مالك الثاني (40 م – 71 م)
- رب إيل الثاني ( 71 م – 106 م)
الطبقات الإجتماعية لدى الأردنيين الأنباط
كان لإنتقال الأردنيين الأنباط من الحياة شبه البدوية إلى الحياة المستقرة دوراً في استحداث عدة طبقات في المجتمع النبطي الأردني ، بالإضافة إلى وجودهم في مركز أهم الطرق التجارية البرية والبحرية في العالم القديم، والذي بدوره أدى إلى انفتاحهم على الحضارات المجاورة لهم من خلال القوافل التجارية المارة والذي خلق أنواعا جديدة من الطبقات الإجتماعية، إذ تباينت الطبقات الإجتماعية في الدولة الاردنية النبطية والذي بدوره كان أمراً لا بد منه في ظل اعتبارها دولة تجارية مؤثرة .
1. الطبقة الأرستقراطية
سميت أيضاً بفئة الأشراف فقد كانت الطبقة الأرستقراطية تمتلك رأس المال التجاري بالإضافة إلى تحكمها في أمور الشعب، وتتكون هذا الطبقة من أصحاب المعابد “رجال الدين” وشيوخ القبائل والموظفين الكبار ونواب المملكة في المحطات التجارية، حيث اقتصرت هذه الطبقة على الحكام والكهنة والمشايخ فقد كانوا يمتلكون الإمتيازات الاقتصادية والسياسية إضافة لامتلاكم حصة كبيرة من الأراضي الواقعة ضمن الدولة الأردنية النبطية.
كانت الطبقة الارستقراطية هي الطبقة المشرفة على طرق المواصلات، بالإضافة إلى تحكمها في الأسعار واحتكارها لبعض السلع التجارية، ومسؤوليتها في إقراض الأموال كالذي فعلته السيدة رومي النجرانية حيث أنها أقرضت الدولة الاردنية النبطية مبلغاً من المال وتنازلت عن أرباحه .
في ضوء ذلك يمكننا تصور الإمكانية الاقتصادية والمالية لهذه الطبقة التي بلغ ثراها مسامع اليونان والرومان، حيث كانت هذه الفئة باقتصارها على قلة من الأشخاص ترسم سياسة الدولة تِبعاً لمصالحها الاقتصادية مما أدى إلى إخضاع الطبقات الأخرى لتنفيذ أوامرها .
2. طبقة المواطنون الأحرار
كانت هذه الطبقة تُشكل الشريحة الأكبر من المجتمع الأردني النبطي، فتكونت من الجند المسلحين لحفظ نظام الدولة وأمن القلاع وحراسة القوافل، والفلاحين، وزارعي الأراضي، والصناع، والتجار ذوي الدخل المتوسط، وبحسب ما ذُكر في المصادر أن الطبقة الأرستقراطية كانت تقوم بمنح طبقة المواطنين الأحرار بعض الإقطاعات الزراعية في سبيل إستغلالها وزراعتها لتسد بذلك حاجاتهم ، كما كانت هذه الفئة تخضع لفرض الضرائب.
3. طبقة الأجانب
يًستنتج من وجود هذه الفئة ضمن ترتيب الطبقات الإجتماعية في الدولة الأردنية النبطية أنها كانت ذات أثر اقتصادي مهم، فقد كانت طبقة غير ثابتة العدد في المجتمع الأردني النبطي، فيما ذكر بعض المستشرقين أن أكثرهم من الجاليات الإغريقية والرومانية، تتبع زيادتهم ونقصانهم إلى أعداد القوافل التجارية الآتية والذاهبة من وإلى العاصمة الأردنية النبطية ( البترا ) والتي اعتُبرت مركزا أساسيا للتجارالأجانب والأوربيين ومدينة تجارية تتوسط مناطق الإنتاج والتصدير للسلع الأكثر طلبا في ذلك الوقت.
4. طبقة العبيد
كانت هذه الفئة من فاقدي الحقوق الاقتصادية والسياسية، فقد كان العبيد تابعون للأرض غير أحرار بنفسهم، ويوكل لهم بعض المهام الحرفية ، وفي بعض الأوقات كانوا يُحررون من العبودية بسبب مهمة خاصة أو بطولة مهمة أو حتى بسبب كلمة حق تفوه بها العبد، أما بالنسبة للأردنيين الأنباط فقد عزفوا عموما عن امتلاك العبيد لسببين الأول هو الحفاظ على نقاء مجتمعهم والثاني للضرورات الأمنية كان أهمها التخوف من معرفتهم لمواضع المياه السرية في البترا والأراضي النبطية الصحراوية ومن الأسباب الأخرى التي تعود إلى الجانب الإجتماعي وأُسس الفكر النبطي؛ أن الأردنيين الأنباط كانوا يميلون لخدمة أنفسهم حتى أن تلك العادة اشتهرت عند ملوك الأنباط حيث كان يُحتم على كافة أعضاء الأسرة القيام بالواجبات الحياتية اليومية حتى أنه كان يوكل للأطفال رعي المواشي والأنعام .
مكانة المرأة الاردنية النبطية في الحياة الإجتماعية
كشفت العديد من النقوش عن الملامح الإجتماعية في المملكة الأردنية النبطية عن مكانة المرأة الأردنية النبطية في المجتمع النبطي، فقد احتوت هذه النقوش على دورها كملكة وكعاملة، وكآلهة أيضا إضافة إلى إشارات حول حقوق المرأة الأردنية النبطية في الميراث فضلاً عن وجود عدة نقوش توضح مكانة المرأة في الحياة السياسية، ما منحها مكانة راقية في مجتمعها يندر وجود مثيل لها في الحضارات القديمة، والذي دل بدوره أيضا على مستوى التطور الذي وصلت إليه هذه الحضارة العريقة، فقد مُنحت المرأة النبطية موقعاً مميزاً وبارزاً في المجتمع، ومن الواضح أن النساء النبطيات قد امتلكن استقلالية قانونية وحرية التملك كاملة غير منتقصة شاملة الممتلكات المادية والثروات والأراضي، وهذا ما أكدته العديد من النقوش النبطية حيث أن كثير من النساء الأردنيات النبطيات نقشن أسماءهن على الصخور أو كلفن شخصاً ليكتب لهن.
وفيما يخُص الملكيات الفردية فقد حازت المرأة على خصوصيتها ضمن المدافن، ويظهر ذلك واضحا عبر القبور الخاصة بالنساء في البترا وبعضاً من النقوش التي وُجدت في أم القطين حيث عُثر على عدة نقوش لنساء تؤرخ في النصف الأول من القرن الأول الميلادي، اذ حرصت المرأة الأردنية النبطية على تسجيل اسمها على شواهد القبور كالنقش الذي وُجد في “ذات رأس” بجنوب الأردن ” بما تم تفسيره بـ: (ﻟﺣﯾﺎة ﺑﻧت ﻋﻣرة ﺑن أﻧﺟﺳدﻣس ﺑن ﻋﻣرة )، كما تم العثور على بعض من المسكوكات النقدية التي تظهر فيها صور المرأة كأخت أو زوجة الملك ، إضافة إلى دورها السياسي المؤثر فعلى سبيل المثال كانت والدة (رب إيل الثاني) الملكة شقيلة ” شقيلات ” الوصية على عرش إبنها إلى أن يبلغ السن القانونية للولاية والحكم بعد موت والده وذلك حتى وفاتها عام 75 ميلادية، وقد سُكت العملة التي تظهر فيها صورتها إلى جانب صورة إبنها، وقد ذكرت عدد من النساء في النقوش على أنهن شقيقات للملك وفي نقش وادي موسى ذُكرت فيه أسماء أفراد الأسرة الملكية من النساء وهن شقيلات وجميلة وهاجر .
كما أشارت النقوش إلى حضور مميز للمرأة الأردنية النبطية في الميثولوجيا الدينية النبطية، فنجد عدداً من الآلهة المؤنثة واللاتي حملن صفات أنثوية، مثل اللات والعزى ومناة وعترغتيس، كما أشارت عدة نقوش إلى دور المرأة الأردنية النبطية الطقوس الدينية وممارستها في المعابد خصوصاً فيما يتعلق بالخصب أو من خلال مشاركتها في الولائم الجماعية كمغنية أو مرتلة، أو عازفة موسيقى، كما أنها لعبت دور الكاهنة في المعبد.
وفي النصوص الجنائزية التي عُثر عليها في عدة مناطق نبطية، نجد من خلالها أن المرأة قد تساوت مع الرجل في أغلب حقوقها، فقد امتلكت حق عمل مدافن خاصة لها وحق التصرف المُطلق بالمدفن وكذلك حقها في وراثة المدفن مع الذكور، كما نجد عددا من النصوص التي أعلنت فيها ملكية المدافن كانت تمتلكها إناث فقط وقد ورد في أربعة نصوص نسبة البنت إلى أمها .
أما بالنسبة للتجارة فقد عُثر على عقود بيع في وادي حفير في منطقة البحر الميت لأمرأة تُدعى “ابيعدن بنت افتح” وقد باعت مزارع نخيل كانت تملكها في المنطقة حيث وجد اسمها في عدد من عقود البيع التي كانت هي أحد الأطراف فيه، إذ قامت بتوثيق جميع العقود والملكيات باسمها ومن ثم التوقيع على العقود بخط يدها مما يدل على حرية المرأة الاردنية النبطية بالبيع والشراء والتملك وأهليتها الواضحة فيما يتعلق بأمور التجارة ودورها المهم والفاعل والرائد في النظم الاجتماعية النبطية الأردنية .
وثيقة تجارية نبطية لبيع مزارع لمرأة
المراجع
- أبو حمام ، عزام ، الأنباط “تاريخ وحضارة” ، الطبعة الأولى ، دار أسامة للنشر والتوزيع ، 2009 ، (عمان – الأردن).
- الحموري ، خالد ، مملكة العرب الأنباط : دراسة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية ،الطبعة الأولى ، البتراء:بيت الأنباط ، 2002 ، (عمان – الأردن).
- المصري ، إياد ، عبد العزيز ، مهدي ، المدلولات الإجتماعية في النقوش النبطية ، معهد الملكة رانيا للسياحة والتراث ، الجامعة الهاشمية ، (الزرقاء ، الاردن).
- النصرات ، محمد إسماعيل (2007) . مملكة الأنباط التاريخ السياسي ، عمان ، ص254-261.
- عباس ، إحسان ، تاريخ دولة الأنباط ،الطبعة الأولى ، 1987 ، (بيروت – لبنان).
- عبدالعزيز ، مهدي ، القدرة ، حسين ، ﺍﻟﺘﺸﺭﻴﻊ ﺍﻟﻨﺒﻁﻲ: ﺃَﻋﺭﺍﻑ ﻤﺘﺩﺍﻭﻟﺔ ﺃﻡ ﻗﻭﺍﻨﻴﻥ متداولة ؟ ، المجلة الأردنية للتاريخ والآثار ، ﺍﻟﻤﺠﻠد 3 ، العدد 2 ، 2009 م (عمان – الأردن).