Latest articles
November 15, 2024
November 15, 2024
November 15, 2024
مقدّمة
وجدت المسوحات والحفريات الأثرية على امتداد جغرافيا الأردن، دلائل على منظومات ميثولوجية دينية، منذ عصور ما قبل التاريخ، تجلت هذه الدلائل، في طرق الدفن، وصناعة التماثيل، ووجود المباخر، وانتشار المذابح أو ما يشبهها، وقد مرت هذه المنظومات بتطورات هائلة مع التقدم الاجتماعي والسياسي الذي مر به أجدادنا الأردنيون الأوائل عبر مراحل التاريخ المختلفة.
كان للدين دور مهم في حياة أجدادنا الأردنيين المؤابيين، فالدين في تلك العصور كان يمثل محاولات الإجابة على أهم الأسئلة الفلسفية التي راودت البشر، كما كان الدين يغطي الجانب الروحي، وهو الوعاء الذي يحتوي جميع أنواع الفنون.
واعتمد الأردنيون المؤابيون كثيراً على آلهتهم في الحروب، حيث شنّوا الحروب باسمها، واستنصروها في حالات الضعف أو قبيل المعارك الهامة، إلا أن ذلك لم يكن يمنعهم من احترام الديانات والآلهة المختلفة التي تعبدها الشعوب المجاورة، كما توافرت قواسم مشتركة عديدة بين الديانة الأردنية المؤابية وديانات جيرانهم، وبالأخص ديانات أشقائهم في الممالك الأردنية المجاورة (مملكة أدوم الأردنية، مملكة عمون الأردنية).
ميثولوجيا الأردنيين الأوائل قبل نشأة الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون)
عادة ما كانت الشعوب القديمة، تستقي منظوماتها الدينية من البيئة المحيطة، وقد تطورت الأديان القديمة لتجيب على الأسئلة الوجودية التي كانت تؤرق الإنسان القديم، ولوضع التفسيرات حول ما لم يستطع العقل البشري تفسيره حين ذاك، كما ساهمت طبيعة الإنتاج في تشكيل الطقوس الدينية المُمَارسَة، حيث ارتبطت أغلب الطقوس والشعائر في مواسم الزراعة والحصاد.
ولم يختلف أجدادنا الأردنيون الأوائل في تلك الحقب عن مجمل الوجود البشري، وقد بدأ نشوء التصورات الدينية لدى الأردنيين الأوائل مع بداية الاستقرار الزراعي حوالي 9000 قبل الميلاد، وقد كانت هذه التصورات في تلك الفترة بسيطة، وارتبطت المظاهر الموجودة حول عادات الدفن بشكل رئيسي، ويعتقد أن البذرة الأولى للمعتقدات الدينية، كانت مرتبطة بتفسير ظواهر طبيعية، وخصوصا المطر الذي كان المصدر الرئيسي لري المزروعات حيث كانت الزراعة في طورها الأول البسيط، واستمر الأردنيون الأوائل في تطوير منظومتهم الدينية، جنباً إلى جنب مع تطورهم الانتاجي بشكل رئيس، حتى ارتقت تلك المنظومة بشكل كبير، مع العصور البرونزية وحقبة (الدولة المدينة)، حيث وجدت الحفريات الأثرية في تلك الحقبة معابدا داخل المدن الأردنية القديمة، وحيث أصبحت مجتمعات المدن الأردنية القديمة مجتمعات مقسمة طبقياً، بسبب حالة المدنية والانتاج الفائض، فإن رجال الدين كانوا يمثلون طبقة منفصلة، وتعتبر من الطبقات المتسيّدة، وتشير الدلائل أن رجال الدين مارسوا أيضا مهام إدارية داخل المدن.
الآلهة الأردنية المؤابية
أحد أهم مميزات الديانة الأردنية المؤابية هو عدم تعدد الآلهة وكثرتها مثل الشعوب المجاورة في تلك الحقبة الزمنية، حيث اكتفى أجدادنا الأردنيون المؤابيون بالإله كموش وزوجته الإلهة عشتر- كموش، وهو أمر غريب ويصعب تفسيره، وقد امتاز الإله كموش وزوجته عشتر- كموش بهالة من القدسية، حيث سمي الأشخاص والمدن تيمنا بهم، وأنشئت لهم معابد ضخمة، وقدّمت لهم الأضاحي والقرابين.
لا نستطيع أن نجزم أن الإله كموش وزوجته الإلهة الأم عُبدوا وحدهم بشكل مطلق داخل أراضي مؤاب، حيث أن آلهة محلية عُبدت بالتأكيد في مناطق مختلفة من المملكة الأردنية المؤابية، بالإضافة إلى التداخل السكاني من الشعوب المجاورة داخل مملكة مؤاب الأردنية، كما أن الحركة التجارية النشطة التي شهدتها مؤاب الأردنية، ساهمت بتلاقح ثقافي مع شعوب متعددة، تركت بعضا من معتقداتها وأساليبها في العبادة والفن والعمارة وصناعة الفخار، لدى الشعب الأردني المؤابي، إلاّ أن المؤسسة الدينية الرسمية، كانت تكرّس الإله كموش والإلهة الأم عشتر- كموش، ولم تُقَم المعابد لسواهما، الأمر الذي يعتبر مؤشراً على مؤسسة دينية موحدة، يرأسها الملك، معنية بتنظيم الأمور الدينية للشعب الأردني المؤابي.
الإله المؤابي كموش
عندما بدأ الشعب الأردني المؤابي بتأسيس دولته، والسيطرة على الحيز الجغرافي الذي سُمّي باسمه، كانت هناك آلهة متعدد تُعبد في المنطقة، ومن اهمها الإله بعل- فغور أحد آلهة الميديين، ولكن أجدادنا الأردنيون المؤابيون، سعوا منذ اللحظة الأولى إلى ترسيخ منظومتهم الثقافية والميثولوجية، دون محاولة مسح الثقافات الفرعية الموجودة على أرض مملكتهم، في هذا السياق بدأت عبادة كموش الإله المؤابي الأردني بالانتشار، وكان الإله كموش محط احترام المؤابيين، حيث أنه يمثّل إله الحرب، وإله الشمس، وإله القمر، وغيرها، كما يُعد الإله الأكبر، محتلاً بذلك مكانة العديد من الآلهة المجتمعة على حد سواء.
وقد طُرحت عدة فرضيات حول تسمية الإله كموش، حيث يذهب بعض الباحثين إلى القول بأن الإسم كموش مشتق من الكلمات ( أكو وماشو)، بمعنى إله القمر، في حين يذهب باحثين آخرين إلى القول بأن كموش تعني إله الشمس، أما الفرضية الأكثر قبولا هي أن معنى الإسم هو إله الحرب بسبب الدور الذي لعبه الإله كموش في الحروب التي خاضها الأردنيون المؤابيون.
ولقد كان الإله كموش بلا شك راعياً لجميع نواحي الحياة لدى الأردنيين المؤابيين، وقد سُمي الأشخاص والملوك باسمه، مثل: (كموشعونادبي، كموشيخي، كموش ملك، كموش صاديق وغيرهم).
الإلهة عشتر- كموش
وهي زوجة الإله كموش، والإلهة الأم، وإلهة الخصب والحمْل، وقد صورت في التماثيل على شكل إمرأة، تحمل بين يديها رمز الخصب بشكل متقاطع فوق صدرها، ولقد ورد ذكر عشتر- كموش في لوحة أثرية، مما يدل على أهميتها في المنظومة الدينية الأردنية المؤابية، فيما بُني لها معابد خاصة، وقُدّمت لها الأضاحي والقرابين، الأمر الذي يعتبر انعكاساً لمكانة المرأة الأردنية المؤابية في المجتمع بشكل عام.
المعابد الأردنية المؤابية
وجد الآثاريون العديد من المعابد الأردنية المؤابية، واللافت بالأمر أن هذه المعابد بنيت في العصر البرونزي المتأخر، مما يعطي انطباعاً بأن الحضارة الأردنية المؤابية بدأت بالتشكل قبل العصر الحديدي، على عكس ما تورده كلاسيكيات التأريخ القصصي.
وجدت معابد تعود للعصر البرونزي، مبنية من الحجارة الغشيمة، ويتوسطها مذبح، وأمامه ساحة كبيرة، وقد عُثِر في ذيبان على بقايا مبنى ضخم، يحتوي بداخله على قاعدة مبخرة، ويعتقد أن هذا هو المعبد الذي بناه الملك الأردني المؤابي ميشع وأورد ذكره في مسلته عقب انتصاره.
المؤسسة الدينية الأردنية المؤابية
طبيعة الكهنوت الديني في المملكة الأردنية المؤابية غير واضحة لنا تماما، ولا نستطيع الجزم إن كان هنالك مجموعة من رجال الدين يقومون بالإشراف على العبادات، إلا أنه بناءً على المقارنة مع الديانات القديمة وخصوصا المجاورة، يتأكد لنا أن ثمة مجموعة من رجال الدين تسهر على خدمة المعبد، واستلام القرابين والأضاحي، والإشراف على العبادات، كما أنه من الواضح أن للملك مكانة روحية خاصة في الديانة الأردنية المؤابية ، حيث ذكر أن الملك بولاق قام بتقديم الأضاحي للإله كموش، كما أن الملك الأردني المؤابي ميشع ذكر في مسلته (مسلة ميشع-ذيبان) أنه قام بتقديم الأضاحي للإله كموش، وبنى المعابد ونذرها لخدمته، بالإضافة إلى أن الملك كان هو المسؤول عن مخاطبة الإله كموش واستنصاره في وجه الأعداء، كما ذكر الملك المؤابي الأردني ميشع أنه كان يتلقى الأوامر مباشرة من الإله، ما يؤكد أن الملك يرأس المؤسسة الدينية الأردنية المؤابية.
أهم الطقوس الدينية المعروفة في المملكة الأردنية المؤابية
أولا : القرابين، من ضمن اللقيات الأثرية التي وجدت في مملك مؤاب الأردنية، دُماً فخارية صغيرة، لحيوانات مثل الكباش والعجول، الأمر الذي يؤكد رسوخ فكرة الأضاحي والقرابين التي تقدم للآلهة، ضمن طقوس معينة، ويعتقد الآثاريون أن هذه الأضاحي كانت تقدم إما للمذبح أو كهدايا للكهنة، وذكر في الروايات التاريخية، أن الملك المؤابي الأردني بالاق قد قام بتقديم الأضاحي للإله كموش قبيل اشتباكه مع العبرانيين في بداية دخولهم للمنطقة، كما ذكر الملك الأردني المؤابي ميشع تقديمه الأضاحي للإله كموش لكي ينصره، وقد اعتبر القتلى من أعدائه ضحايا للإله أيضا، وفي تصرف فريد من نوعه، قدم ميشع ابنه أضحية للإله كموش في سبيل الانتصار على أعدائه.
ثانيا : حرق البخور، يبدو أن حرق البخور كان أحد الطقوس الدينية المتبعة لدى أجدادنا الأردنيين المؤابيين، حيث وجد على المباخر وقواعد المباخر في أكثر من موقع أثري مؤابي.
ثالثا : غنائم الحرب، كانت غنائم الحرب تقدم للمذبح كقربان، وشُكرٍ للآلهة التي قامت بمساعدة أجدادنا الأردنيين المؤابيين على الانتصار.
رابعا : حالات الحزن واليأس، كان الأردني المؤابي يقدّم دُماً محززة الوجه للمعبد في حالة شعوره باليأس، وقد تكون عادة وشم الوجه في حالات الحزن ذات جذر مؤابي، كما أن بإمكان الشخص الذي يشعر بالحزن واليأس أن يقدم خصلة من شعر رأسه ولحيته للمعبد.
المراجع
- كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية) ، دار ورد ، عمان .
- A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين، د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان
- أبحاث إرث الأردن، ملامح الديانة الأردنية الأدومية