Latest articles
December 22, 2024
December 22, 2024
December 22, 2024
مقدمة
إن الاقتصاد هو العصب الرئيسي التي تنشأ عليه أصغر التجمعات البشرية، وصولاً لأضخم الحضارات، وتعتبر دراسة النشاط الاقتصادي أحد أهم المداخل لفهم طبيعة المجتمعات القديمة، ولا يمكن لأي حضارة الاستمرار دون اقتصاد قوي يستطيع سد احتياجاتها.
وقد شهد الأردن القديم في بدايات العصر الحديدي الثاني ازدهاراً ملحوظا، إذ تدلُّ المكتشفات الأثرية على وجود وفرة في الإنتاج الغذائي الذي بدا واضحا من مواقع تخزين الحبوب والنبيذ والزيوت، الأمر الدال على حالة من الإنتاج الزراعي الضخم الذي مارسه الأردنيون الأوائل في الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون) مما يعني تطوراً اقتصاديا مذهلاً على كل الصُّعد من صناعة وتجارة، قاده أجدادنا الأردنيون الأوائل لينعموا بحياة مرفهة في عصور اتسمت بالفقر وعدم القدرة على استثمار الموارد.
لم يكن أجدادنا الأردنيون المؤابيون، يمارسون نشاطاً اقتصاديا مختلفاً كثيرا عن أشقائهم الأردنيين الأدوميين أو الأردنيين العمونيين، رغم أن النشاط الزراعي في مؤاب وعمون كان أكثر تنظيماً واتساعاً بسبب انتشار الأراضي الخصبة ووفرة المياه.
الرعي
نشأت أولى أشكال التجمع الإنساني معتمدة على فكرة الصيد والجمع والالتقاط، على شكل تجمعات بسيطة جدا ومحدودة العدد، هذه النواة للتجمع أسست لينتقل الانسان إلى مرحلة أخرى شكلت نقلة نوعية في التاريخ البشري، حيث بدأ الإنسان بعملية استئناس الحيوانات ورعيها، وأخذت هذه التجمعات البشرية بالتضخم، وتحولت إلى نظام قبلي، حيث تستوطن كل قبيلة مساحة معينة من الأرض، وتمارس فيها عملية الرعي، وقد انتشر هذا النمط من الإنتاج الاقتصادي في البوادي على حواف الصحراء، ولم يختلف أجدادنا الأردنيون الأوائل عن باقي شعوب العالم في هذه المرحلة من التطور.
وعلى الرغم من التطور الحضاري الذي أنجزه أجدادنا الأردنيون المؤابيون، والمنجز السياسي الضخم الذي قاموا به من تأسيس دولة وطنية، لها أعرافها السياسية وحدودها وقوانينها الناظمة، التي أدت إلى التطور والازدهار الاقتصادي الذي ذكرناه مسبقاً، إلا أن الرعي كنمط إنتاج استمر طوال عمر المملكة الأردنية المؤابية، على أطرافها الشرقية، وقد مارست القبائل الأردنية المؤابية التي استمرت في حالة الرعي دوراً أساسيا في حماية المناطق الشرقية للمملكة الأردنية المؤابية، من هجمات القبائل البدوية من صحراء جزيرة العرب، كما كان شباب هذه القبائل الناشئين في ظروف أكثر قسوة من ظروف المدينة أو القرية الأردنية المؤابية، العمود الفقري للجيوش الأردنية المؤابية التي خاضت حروبا عنيفة مع جيرانها الطامعين بها، كما فعل أحفادهم رجال العشائر الأردنية عندما كانوا العمود الفقري للجيوش التي حررت الإقليم من نير الاحتلال العثماني في مطلع القرن العشرين.
وكان لنمط الانتاج الرعوي أهمية اقتصادية أيضاً، حيث كان منتجات الثروة الحيوانية المرعية (المختلفة عن الحيوانات الداجنة التي تربى في الريف داخل الحظائر)، ذات جودة عالية، سواء الحليب ومشتقاته أو اللحوم، كما كان الصوف والجلود جزءاً هاماً من البضائع التي صدرها أجدادنا الأردنيون المؤابيون للخارج.
الزراعة
تعتبر الزراعة أول نشاط اقتصادي منظم، أدى إلى إنتاج فائض عن الحاجة، مما ساهم في تنوع السلع والتبادل التجاري، بحيث دفعت عملية الزراعة عجلة التطور الصناعي، لحل المشكلات التي يواجهها المزارعون.
يؤكد نقش الملك الأردني المؤابي ميشع على الاهتمام البالغ الذي منحه أجدادنا الأردنيون المؤابيون للزراعة، لتحقيق حالة من الأمن الغذائي في ظل واقع صارع به أجدادنا الأردنيون الأوائل صراعاً مريراً لإثبات وجودهم وحماية منتجهم الحضاري في إقليم كان على الدوام بؤرة للصراعات والحروب.
انتشرت الزراعة المنظمة في المملكة الأردنية المؤابية، في المناطق الغورية شرقاً، وفي الوديان والمناطق الجبلية غربا، حيث خاض أجدادنا الأردنيون المؤابيون، جدلاً بنّاءاً مع طبيعة جغرافية صعبة جداً، حيث واجهوا وعورة الأراضي التي تغلبوا عليها عبر بناء المصاطب، وتطويع الجبال وحواف الأودية، وجروا المياه بطرق مبتكرة من الينابيع والأودية، وتغلبوا على شح المياه صيفاً عبر حفر برك وأحواض مائية ضخمة كانت كفيلة، بري محاصيلهم الزراعية طيلة فصل الصيف الجاف.
وتنوّعت المحاصيل الزراعية التي أنتجها أجدادنا الأردنيون المؤابيون، من الحبوب إلى الخضروات والفواكه، ودلّت المكتشفات الأثرية على وفرة واضحة بهذه المحاصيل التي كانت تخزن بطرق مبتكرة، مثل تخزبن النبيذ والزيت بالجرار الفخارية، وحفظ الحبوب مثل القمح في حفر معزولة داخل الأرض، لمواجهة سنوات القحط، كما كان الإنتاج الزراعي الغذائي جزءاً مهما من عملية التجارة والخدمات المقدمة على الطرق التجارية.
ثورة الملك الأردني المؤابي ميشع الزراعية
إن من أبرز ما قام به الملك الأردني المؤابي ميشع، هو الثورة الزراعية الضخمة التي قادها بنفسه، حيث بدا اهتمامه واضحا في الإنتاج الزراعي وسُبل تحسينه وتضخيمه، بعد أن قام أعداء المملكة الأردنية المؤابية بتدمير هذا القطاع الإنتاجي المهم حبر الحروب التي خاضوها ضد المملكة، حيث كان أهم ما قام به الملك ميشع، حفر البرك والآبار الضخمة، وممّا يدلل على اهتمامه منقطع النظير بعملية الزراعة طلبه من أهل قرحي أن يحفر كل بيت من بيوتها بئرا ” لأن المدينة كانت خالية من أي بشر. فقد قلت يومها للشعب: (ليحفر كل رجل منكم بئرا بداخل بيته).”
الصناعة
الصناعة هي قمة التطور البشري، حيث تقاس قوة الشعوب وعظمتها بناء على تطورها الصناعي، وفي حين كان الأردنيون الأوائل سباقون إلى الصناعة منذ عصور ما قبل التاريخ، في قرية عين غزال وغيرها، فقد استمر هذا التطور الصناعي بالتراكم وصولاً إلى عصر الدولة الأمة (الممالك الأردنية الثلاث)، حيث نمت الصناعات بأشكالها المختلفة، لتلبية الحاجات الداخلية، بالإضافة لدعم العملية التجارية بالتصدير لبضائع أردنية المنشأ.
أولا : الصناعات الغذائية
تعدُّ الصناعات الغذائية من أبسط الصناعات، وهي صناعة تحويلية، إلا أن ممارسة هذه الصناعة على نطاق واسع في المملكة الأردنية المؤابية يؤشر إلى تطور مهم في تلك الحقبة الزمنية، حيث أن التصنيع الغذائي يتطلب وجود وفرة بالمحاصيل، ودراية بطرق الحفظ والتخزين، كما أنه يدلُّ على ذائقة ممتازة وأصناف غذائية وأساليب طهي معقدة، أما أهم هذه المنتجات الغذائية فهي: النبيذ، الزيت، الفواكه المجففة، مشتقات الألبان وغيرها.
ثانيا : صناعة الفخار
يعدُّ الفخار نقلة نوعية في تطور الجنس البشري، حيث يستخدمه بعض علماء الآثار كوسيلة للتأريخ، ما قبل وما بعد الفخار، كما أن دراسة الفخار وبقاياه من أهم أدوات استنباط معلومات تاريخية عن الحقب السحيقة.
ويعدُّ الفخار الأردني المؤابي من أجود أنواع الفخار في عصره، ولقد استخدمت الطريقة المؤابية في تصنيع الفخار لدى العديد من الشعوب المجاورة.
رابعا : الصناعة الحربية
وجد الأردن تاريخياً، في إقليم ملتهب، مليء بالصراعات والحروب والتناحر، لذلك كان لزاما على أجدادنا الأردنيين المؤابيين، تطوير قدراتهم العسكرية، من تجهيز المقاتلين وتدريبهم وصولا إلى صناعة الأسلحة، لذلك كانت صناعة الأسلحة أحد أهم النشاطات الانتاجية التي مارسها أجدادنا الأردنيون المؤابيون، من السيوف والنبال والرماح، وصولاً للعربات القتالية، وتعدُّ عملية صناعة الأسلحة عملية معقدة ومركبة، حيث أنها تبدأ من التعدين ومعالجة المعادن لتنتهي بالشكل النهائي للسلاح، مرورا بعملية الهندسة والتصميم.
التجارة
برع الأردنيون الأوائل عبر التاريخ في التجارة، وقد يكون الموقع الجغرافي الذي لا يمكن الاستغناء عنه للقوافل التجارية أحد أهم أسباب هذه الهِبَة.
إن مرور الطريق التجاري الملوكي (أهم الطرق التجارية في العالم القديم) عبر الأراضي الأردنية من الجنوب إلى الشمال، كان فرصة استثمرها أجدادنا الأردنيون الأوائل على أفضل وجه ممكن.
ولقد مرّ هذا الطريق من منتصف المملكة الأردنية المؤابية، فقام أجدادنا الأردنيون المؤابيون، بتقديم الخدمات اللوجستية للقوافل التجارية، كما كفلوا الأمن للقوافل المارة في أراض المملكة، ولكن الأهم من ذلك كان تطوير قدراتهم التجارية، من الوساطة التجارية، إلى إنشاء القوافل وتسييرها، وصولا لتصدير منتجاتهم الوطنية إلى العالم، ولم يكن من الممكن أن تنجح تجارتهم هذه لولا تحليهم بالدبلوماسية والانفتاح وتفهم الثقافات المختلفة.
الخاتمة
حاولنا في هذا البحث، تلخيص الأدلة العلمية المتوفرة، من نتائج الأبحاث التاريخية، والمسوحات والتنقيبات الأثرية، للوصول إلى تصور عام عن طبيعة النشاط الاقتصادي في المملكة الأردنية المؤابية، آخذين بعين الاعتبار أهمية النشاط الاقتصادي في عملية التطور الانساني، لنجد أن أجدادنا الأردنيين المؤابيين، استغلوا قدراتهم حتى النهاية، في صراع صعب مع ظروف طبيعية وسياسية غاية في الصعوبة، تاركين لنا مثالاً يحتذى بالنهضة وصناعة المستقبل.
المراجع
- كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية) ، دار ورد ، عمان .
- A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين، د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان
- أبحاث إرث الأردن، الملك الأردني المؤابي ميشع
- أبحاث إرث الأردن، مملكة أدوم الأردنية- النشاط الاقتصادي