Latest articles
December 30, 2024
December 30, 2024
December 30, 2024
المقدمة
تعد أم قيس (جدارا) إحدى أهم الوجهات السياحية في الأردن، إنها مدينة متكاملة ومحتفظة بأغلب بمعالمها رغم العوامل الطبيعية التي أدت إلى تهدم بعض مبانيها الأثرية. حظيت أم قيس (جدارا) بالكثير من الاهتمام على صعيد البحث والتنقيب الآثاري وفي رحلة تتبعنا لمدن الديكابولس الأردنية كان لا بد أن نقف على أطلال جدارا المدينة السوداء الجميلة.
الموقع والطبوغرافية
تقع مدينة أم قيس (جدارا) شمال الأردن على بعد 120 كلم من العاصمة. وتتبع إداريا للواء بني كنانة وتعد من أكبر مدنه. تتخذ المدينة موقعها على مرتفع يبلغ 364 مترا فوق سطح البحر. يفصلها عن الجولان نهر اليرموك ومن الجنوب وادي العرب ومن الغرب بحيرة طبريا، حيث ينحدر سهل أم قيس (جدارا) حتى بداية نهر الأردن عند طبريا. (بيضون: 1997)
تقع المدينة الأثرية غربي مدينة أم قيس الحديثة. تبلغ مساحتها 1600 متر من الشرق إلى الغرب و450 متر من الشمال إلى الجنوب. أما طبيعة جدارا فهي تجمع ما بين طبيعة الهضبة العالية وبين التربة الخصبة ويقول عنها المستكشف غوتليب شوماخر “من الصعوبة أن تجد في هذه البقعة من جبال عجلون مكانا يجمع بين التربة الرائعة والمكان القيادي مثل أم قيس.” (بيضون: 1997)
التسمية
أطلقت عدة تسميات على أم قيس، ولكن الاسم الأكثر التصاقا بها هو “جدارا” وقد حاول الباحثون إيجاد تفسيرات لهذا الاسم. ربط الباحثون اسم جدارا بمنحدر وادي العرب الذي يطلق عليه “جدر” (العوض: 1993) أما البحث في أصل الكلمة فجدارا مأخوذة من الجذر “جَ دَ رَ” وهو جذر سامي الأصل يعني الحصن أو التحصين وعند تحويل الاسم ليناسب اللفظ الروماني أو اليوناني أصبح جدارا. (بيضون: 1997)
ونقلا عن الباحثين شوماخر وهنري سكين فإن اسم جدارا محفوظ في تسمية كهوف مدينة أم قيس حيث يسمي الأردنيون المنطقة الشرقية من المدينة والمليئة بالكهوف “جدور أم قيس” (بيضون: 1997)
ومن الأسماء الأخرى “أم قيس ومكيس” بوضع السكون على الميم والسين فهو يعني “التخم” أي الحد الفاصل وهو يعكس الدور السياسي والتجاري والعسكري الذي لعبته المدينة فيما سبق. (بيضون: 1997) بينما يقترح آخرون بأن مكيس تعود للفظة المكوس والتي تعني الضرائب حيث كانت المدينة نقطة لجمع الضرائب. (العوض: 1993) إضافة لتلك الأسماء فقد أطلق عليها “بومبيا” تيمنا بالإمبراطور الروماني بومبي الذي دخل المنطقة عام 63 ق.م. وأسس تحالف المدن العشر “الديكابولس”.
ذكرت جدارا في المصادر التاريخية اللاحقة كمعجم البلدان للحموي “جدره هي قرية في الأردن” وقال الشاعر أبو ذؤيب “فما أن رحيق سبته التجار…. من أذرعات فوادي جدر” (العوض: 1993)
تاريخ البحث الأثري
جذبت جدارا أنظار الكثير من الرحالة والمستكشفين. زارها لأول مرة المستكشف الألماني ستزن عام 1806 وكان أول من صنفها كواحدة من مدن الديكابولس العشر. ومن بعد زارها المستكشف فيتنستاين ووصف القناة المائية التي كانت تغذي المدينة من عين التراب والتي لا يزال القطع الحجري ظاهرا منها على طول الشارع الأسفلتي الحديث ويسميه الأهالي قناة فرعون (بيضون: 1997)
وزارها الرحالة بيركهارت عام 1912 وكتب عن المسرحين اللذان فيها. وزارها المستكشف بانك أيضا. أما من درسها دراسة معمقة فكان المستكشف غوتليب شوماخر عام 1886 الذي قام برحلة في شمال الأردن ووثق مدينتي أم قيس وملكا. وبالنسبة لجدارا عمد على صنع مخطط للمدينة ووثق مبانيها وآثارها كما أرفق كتابته بوصف للثقافة والحياة اليومية الأردنية آنذاك (بيضون: 1997)
أما في القرن العشرين فقد بدأت أعمال التنقيب والترميم منذ عام 1930. تعاونت دائرة الآثار العامة مع عدد من الباحثين والعلماء لإجراء التنقيبات. فكشف الباحث ميتمان عام 1959 عن الحمام (سبيل الحوريات) وعن أرضية فسيفسائية ووصف الطريق المرصف بين جدارا ودرعا إضافة لتوثيقه عددا من النقوش. (بيضون: 1997)
عام 1961 كشفت دائرة الآثار العامة عن أرضية فسيفسائية غربي المدينة الأثرية في بيت حسين الفرج. وعام 1968 وجراء القصف الإسرائيلي للمنطقة اكتشف المدفن الأرضي. توالت مواسم التنقيب ولكن التنقيبات الأساسية أجرتها دائرة الآثار العمة بالتعاون مع المعهد البروتستانتي للآثار منذ سبعينات القون الماضي على عدة مواسم تم الكشف عن أغلب معالم المدينة، توثيق القطع الفسيفسائية والنقوش والتماثيل. (بيضون: 1997)
تاريخ المدينة
سُكنت أرض الأردن منذ فجر التاريخ، فقد وجدت عدة دلائل على الاستيطان البشري الأول كالمدافن والكهوف التي تنتشر في محافظة إربد وما حولها. إلا أننا في هذا البحث سنتبع تاريخ جدارا منذ الحقبة الهلنتسية. قام الإسكندر المقدوني بغزو المشرق في القرن الرابع قبل الميلاد 333 ق.م. وعقب وفاته انقسمت البلاد التي خضعت لحكمه بين السلوقيين والبطالمة (العوض: 1993)، ودارت معارك عدة بين الطرفين على حكم المدن الأردنية كفيلادلفيا (عمان ) وجراسا (جرش) وغيرها. وضع كل من البطالمة والسلوقيين بصمتهم الحضارية على حضارة وعمران المدن الأردنية.
عندما حكم البطالمة مدينة جدارا أعادوا بناءها وجعلوها حصنا قويا في وجه أعدائهم السلوقيين. لقد عرف عن البطالمة اتخاذهم المدن كحاميات عسكرية وثغور تحصينية ضد العدو وقد كانت جدارا بموقعها الاستراتيجي حصنا ممتازا (العوض: 1993).
دارت حروب عديدة بين البطالمة والسلوقيين بهدف مد النفوذ وقد أحصاها المؤرخون أربعة حروب. ويأتي ذكر جدارا في الحرب الرابعة عام 217-218 ق.م. حيث قاد الحاكم السلوقي أنطيوخوس الثالث جيشا فيه 162 ألفا من المشاة و102 فيلا من الهند واحتل جدارا (أم قيس) وأبيلا (حرثا) وقد أعاد أنطيوخوس احتلال المدينة مرة أخرى عام 198 ق.م. بعد انتصاره على البطالمة في حرب بانياس (قرب منابع نهر الأردن) وقد أحكم قبضته على جدارا وسميت حينها “سلوقيا وأنطاكية” وهما لقبان شاع استخدامها في عهد السلوقيين للمدن المهمة (العوض: 1993).
لم تهنأ مدينة جدارا بالسلام فقد قام الملك الحشموني ألكسندر جانوس باحتلالها إذ حاصرها مدة عشرة أشهر بغية إخضاعها، هي ومدينة أبيا (حرثا) التي دمرها لأنها لم تتحول لليهودية أو تخضع للزي اليهودي. دمر جانوس الكثير من معالم جدارا أيضا أثناء الحصار ولكنه استطاع دخولها وضمها مع مدن شمال الأردن تحت منطقة سمها بيرابا (العوض: 1993).
يذكر المؤرخون توطد العلاقات بين ثلاثة مدن أردنية في تلك الفترة فيلادلفيا (عمان) وجدارا (أم قيس) وبيلا (طبقة فحل،) أسست المدن الثلاث أحلافا تجارية وعسكرية جعلتها تنهض وتزدهر. ولكن قبل عام 34 ق.م شن الحارث الرابع، الملك الأردني النبطي، حملة للسيطرة على مدن شمال الأردن ومن بينها جدارا. (العوض: 1993)
ضعف الحكم السلوقي شمال الأردن، واستغل الرومان الصراعات التي شبت بين السلوقيين والبطالمة والحشمونيين وعمدوا إلى شن حروب عدة انتهت بسيطرة الإمبراطور الروماني بومبي على المشرق بأكمله عام 63-64 ق.م. خلص بومبي مدينة جدارا من احتلال الحشمونيين وأعاد بناءها تكريما لصديقه ديميتريوس الجداري الأصل وقد لقبت جدارا في تلك الفترة “بومبيا” نسبة لبومبي وبدأت باستخدام التقويم البومبي أيضا (العوض: 1993).
أسس بومبي حلف المدن العشر الحرة (الديكابولس) ديكا تعني عشر وبولس تعني الحرة أو المستقلة. وقد ضم الحلف عشرة مدن في البداية وما لبث أن توسع حتى امتد ليشمل 14 مدينة أغلبها أردنية. شكلت هذه المدن حلفا تجاريا وعسكريا قويا. واتصلت جدارا بطرق تجارية قوية مع بوسطرا (بصرى) وكابتولياس (بيت راس) وبيلا (طبقة فحل) وفيلادلفيا (عمان) وجراسا (جرش).
كانت المدن العشر ملزمة بدفع ضريبة للإمبراطورية الرومانية وكانت جدارا مركز جمع الضريبة وقد ذكر المؤرخ جوزفيوس “إن فيها مواطنين أغنياء يسكنون الفلل والقصور التي تحيط بالمدينة “(العوض: 1993)
انتصر الرومان بقيادة اكتافيوس على انطيونيوس وكليوبترا عام 30 ق.م. في معركة اكتيوم التي شارك فيها الأردنيون الأنباط. أعطى أكتافيوس هيرود الملك اليهودي الحشموني السلطة على المناطق التي أخذتها كليوبترا منه وكان من ضمنها جدارا وهيبوس (الحصن). صار هيرود تابعا للإمبراطور اكتافيوس في روما. عانى أهالي جدارا من تدخلات هيرود وظلمه وقد اشتكوا كثيرا للإمبراطور الروماني ولكنه لم يعر انتباها، ولكن بعد وفاة هيرود وذهاب جدارا لابنه اركلوس الذي كان أشد ظلما من أبيه أقام الأردنيون في جدارا ثورات عديدة وبعدها أخذت السلطة من أركلوس وأعيد الحكم الذاتي والاستقلال لمدينة جدارا (العوض: 1993).
في القرن الأول الميلادي، ازدهرت مدن الديكابولس كثيرا ونعمت بالاستقرار التجاري والعسكري، وكانت جدارا المدينة التي تجمع الضرائب من المدن الأخرى. استرجعت جدارا مكانتها التجارية، فصارت طريقا رئيسا للتجارة مع الحواضر المحيطة، كما أعيد بناؤها واستأنف سك العملات الخاصة فيها. (العوض: 1993)
في القرن الثاني لمع نجم الأردنيين الغساسنة وقد استطاعوا تشكيل حكومة مركزية تجمع مدن الديكابولس واستحدثوا طرقا تجارية وحافظوا على أمن القوافل لمدة أربعة قرون 2-6 ميلادي. ولكن جدارا كانت مطمعا على الدوام، في القرن الأول (68م) أعاد الحشمونيون احتلالها ولكن الإمبراطور فسبسيانوس حررها مرة أخرى. وفي القرن الثاني، عمل الأردنيون الغساسنة والجيوش الرومانية على تخليصها من الحملة الفارسية 162 م. التي دمرت كثيرا من معالمها وقتلت كثيرا من أهلها. (العوض: 1993)
استقرت الأمور حتى عاودت الهبوط بسبب الحروب الأهلية وضعف التنظيم وقام حينها الإمبراطور دكلتيانوس بإعادة التنظيم الداخلي للمشرق بأكمله. كانت المسيحية في الأردن قد انتشرت سرا منذ مطلع القرن الأول الميلادي، ولكنها كانت تنتشر ببطء في جدارا على عكس مدن الديكابولس الأردنية الأخرى التي كانت مسيحية بشكل شبه كامل في نهاية القرن الثاني. مورست شتى أنواع العذاب على معتنقي الديانة المسيحية في البداية، وقد قدم الأردن شهداء كثر في سبيل حرية المعتقد. في القرن الثالث بدأت الأمور تتحسن مرة أخرى، حيث بدأت الحقبة الكلاسيكية البيزنطية، حيث أعلن الإمبراطور قسطنطين أن الديانة المسيحية هي ديانة الإمبراطورية ونقل العاصمة إلى مدينة بيزنطة (القسطنطينية) على البسفور عام 312 م. (العوض: 1993)
بذل الأردنيون الغساسنة وقتهم وجهدهم لتحسين أوضاع الأردنيين المسيحيين وقد رفضوا الخضوع لأي نوع من أنواع الاضطهاد الذي تحول من أن يكون (وثني-مسيحي) إلى اضطهاد بين المذاهب المسيحية. في القرن الرابع كانت المسيحية قد تجذرت في المدينة، وأصبح لها أسقف خاص بها ومثلها في مجمع نيقية[1] وفيما بعد أصبحت جدارا مقرا لأبرشيه مقاطعة فلسطين الثانية. ولكن لم يدم الأمر كثيرا فعام 612 م. شن الفرس أعنف حملة عسكرية على جدارا أدت لتدمير أغلب معالمها وقتل الكثير من أهلها. (العوض: 1993)
الثقافة والعلم
كانت جدارا مركزا للثقافة والفن والحضارة على مر التاريخ. ومنها لمع نجم العديد من الفلاسفة والأدباء وتخلد اسمهم كمساهمين في إرث الحقبة الكلاسيكية. ونذكر منهم الشاعر ميلياغروس الجداري الذي كان من أهم شعراء عصره. ولد في القرن الأول الميلادي، كان شاعرا وجامعا للقصائد وقد جمع 134 قصيدة كانت هي نواة الأنثولوجيا اليونانية وسماها الإكليل [2]، كتب القصيدة الساخرة والقصيدة الأيروسية وقد اختار هذه القصيدة كي تنقش على قبره وتظل حتى يومنا هذا:
أيها العابر من هنا
لا تخف من مرورك بين أجداث الموتى
فهنا يرقد عجوز مسالم رقدته الأخيرة
إنه ميلياغروس ابن أوقراطس
الذي تغنى بالحب
وجعل الدموع السعيدة تهطل من المآقي
لأنه وقف واسطة
بين ربات الشعر وتجسيد الجمال الساحر
لقد كان رجلا من مدينة صور
التي باركتها الآلهة
ولكن مدينة جدارا المقدسة
كانت هي مسقط رأسه
ويونوماوس المولود في القرن الثاني والذي اشتهر بمهاجمته للأوراكل (التنبؤ والوساطة الروحية في الحضارة اليونانية) له كتب عديدة في السخرية والسياسية والفلسفة.
والشاعر أريبوس الذي له نقش شهير محفوظ في متحف أم قيس:
“أيها المارّ من هنا.. كما أنت الآن كنتُ أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت، فتمتّع بالحياة لأنك فانٍ“.
وأبسينس الجداري المولود في القرن الثالث الميلادي فقد درس علم البلاغة اليونانية وصار معلما في أثينا وكان عسكريا رقاه الإمبراطور ماكسيمينوس إلى رتبة القنصلية.
أما مينييوس الجداري الذي لقبه المؤرخون بالمهرج الجاد فقد ناقش في كتبه أمورا جدية ومهمة ولكن بقالب من السخرية والتهكم وكان يسخر ويرد على الأبيقوريين[3] والرواقيين[4]. وللأسف ضاعت أشعاره وأعماله إلا أننا نعلم أنه كتب عدة كتب منها: كتاب استحضار الأرواح، كتاب رسائل الآلهة، كتاب الردود على الفلاسفة والطبيعيين والرياضيين والنحويين، ولادة أبيقور.
والأديب تيودوروس الجداري الذي كان معلما للإمبراطور الروماني تيبيريوس الذي ترك الكثير من الكتب منها: أسئلة في النطق (في 3 كتب)، كتاب عن التاريخ، الأطروحة، عن التشابه بين اللهجات وعرضها (كتابان)، عن الدستور (كتابان)، عن قدرة الخطيب.
مصادر وأنظمة المياه
تعد جدارا من المدن الأردنية كثيرة المصادر المائية. حيث تسقط الأمطار عليها بمعدلات عالية مقارنة بباقي المدن 400-500 ملم، إضافة للأمطار تشتهر المنطقة بالينابيع والعيون ومن أشهرها عين العسل جنوبي منطقة القبو وهي عين غزيرة تحوطها عدة مصاطب. وعين أم قيس التي ترتفع عن سطح البحر 220 متر. وفي المنحدر السحيق جنوبي عين أم قيس تقع عين الفخت التي تصب مياهها متحدة مع مياه عين أم قيس في وادي العرب. وهناك ينبوع خنيزير وهو صغير جدا وعين ماقوق في المنحدر الشمالي الغربي وترتفع العين عن سطح البحر بمقدار 100 متر. وهنالك عيون أخرى في أماكن منخفضة في المدينة متل عين شيحان وعين الطبق وعين حية وعيون قرط وأغلبها قد جف في وقتنا الحالي (العوض: 1993)
كما تطل المدينة على عدة أودية خصبة تغذيها مياه الأمطار والينابيع مثل وادي الفخت ووادي العين (عين أم قيس) ووادي خنيزير. غذت هذه الينابيع حركة الزراعة في المدينة إلا أنها لا يمكن أن تكون قد غذت المدينة نفسها بماء الشرب نظرا لانخفاضها عن مستوى بناء المدينة. ولكن عينا غزيرة تدعى عين التراب تقع على ارتفاع 470 متر عن سطح البحر كانت تغذي المدينة عبر القنوات بماء الشرب، هنالك عيون أخرى مرشحة لهذا الغرض كعين الخراج وعين الشيخ 450 متر فوق سطح البحر وعين الحراثين 350 متر فوق سطح البحر.(العوض: 1993)
بدأ نظام القنوات والأنفاق المائية منذ العصر البرونزي ولكنه ازدهر وبلغ أوجه في العصور الكلاسيكية، حيث كانت الأنفاق المائية التي تزود المدن بالماء أمرا ضروريا، كانت تلك الأنفاق سرية تحت الأرض ويدخل إليها المهندسون للصيانة عبر مداخل منحدرة وبعيدة عن أعين العدو في حالات الغزو والحصار. بنيت الأنفاق المائية في الصخر عبر نحتها وفي التراب عبر إنشاء قناطر. (العوض: 1993)
تعد شبكة المياه والحصاد المائي التي توجد في جدارا واحدة من أعقد وأبرع الشبكات التي أنشئت في الحقبة الكلاسيكية. فهي تعتمد على نظام الجسور، حيث صنع جسر يحمل قناة مائية، عثر على 60 متر متبقي من هذا الجسر وقوس بطول مترين تقريبا. وعبر هذا الجسر نقلت المياه من تلة إلى تلة، بأمان حيث كان الجسر مدعما بالحجارة الضخمة وبالأقواس. (العوض: 1993)
وفي هذه القناة تم التحكم بتدفق الماء عبر محابس حجرية ضخمة. تتصل هذه القناة بقنوات أصغر سميت محليا بقنوات فرعون لأنها وحسب قصة متداولة بنى أحد الفراعنة هذه القنوات وصادر قمح سهول حوران الأردنية بأكمله وأمر بأن يكوم على شكل جبلين وعندما أرسل عماله ليجلبوا القمح إلى جدارا تحول جبلا القمح إلى جبلين من الصخور البازلتية السوداء. (العوض: 1993)
واليوم بجهود علماء آثار أردنيين افتتح جزء من نفق جدارا العظيم عام 2019 والذي يصل مدن الديكابولس ببعضها ويمتد عبر المدن بشبكة قنوات دقيقة.
تخطيط المدينة
كباقي مدن الديكابولس الأردنية هناك مخطط رئيسي تشترك فيه المدن. عادة ما يكون للمدينة شارعان متعامدان (كاردو وديكامانوس) ويشكلان قلبا للمدينة ومحورا للحركة فيها، حيث تقع على جانبيهما المباني الأثرية كسبيل الحوريات 21 والساحة المعمدة والبوابة التذكارية وغيرها (بيضون: 1997) ولا توجد في المدينة سوى كنيسة واحدة صغيرة كانت قبرا بيزنطيا.
بنيت المدينة على مرتفع جبلي سمي بالأكروبولس وقد تم تحصينه بسور حجري دفاعي بني في الحقبة الهلنستية وأعيد ترميمه في الحقب اللاحقة. إضافة إلى البوابات التي لم يبق منها الكثير.
الآثار
المنحوتات
أثناء عمليات التنقيب والترميم وجدت الكثير من المنحوتات في المدينة وقد قسم هذه المنحوتات حسب موضوعاتها فالمنحوتات التي تصور الميثيولوجيا الإغريقية بلغ عددها 19 منحوتة 12 منها للآلهة، 1 منها لشخصية أسطورية، و6 تتعلق بشخصيات شهيرة. صنعت هذه المنحوتات من الحجر الرخامي الأبيض المبلور عالي الجودة ومن المرجح أن هذه الخامة قد تم استيرادها من الخارج لقلة توفرها محليا، عرضت هذه التماثيل في الأماكن العامة والساحات وقد وجدت مبعثرة بجانب أماكن عرضها (بيضون: 1997)
ووجدت منحوتات آدمية يقدر عددها 40 منحوتة نصفية و22 منحوتة أنثوية نصفية وتخدم أغراضا جنائزية وقد وجدت في المقابر الفردية والجماعية. وتشكل هذه المنحوتات الآدمية تشكيلا رمزيا للفرد حيث تصور المنحوتة الرأس والرقبة والكتفين دون الاهتمام بالتفاصيل والملامح، استخدمت هذه المنحوتات لإبراز مكانة الميت فإن كان التمثال النصفي يحمل كتبا أو لفائف فمن المحتمل أن يكون الميت فيلسوفا أو أديبا، وإن كان التركيز على إبراز الحلي التي يرتديها فهي إشارة على ثرائه ومكانته الاجتماعية. صنعت هذه المنحوتات من الحجر المحلي البازلتي، وتحمل كثير منها ملامح شرقية فهي تصور أبناء جدارا أنفسهم (بيضون: 1997)
وجد أيضا تمثالان حيوانيان يصوران ثورا وأفعى وتعود قلة هذه التماثيل لاهتمام الثقافة آنذاك بالآلهة على شكل الإنسان وبالأساطير التي تمتلك الآلهة حياة تشبه حياة البشر. (بيضون: 1997)
المسارح
في جدارا مسرحان، المسرح الشمالي الذي بني في الجزء العلوي من المدينة، استخدمت حجارة هذا المسح في بناء المدينة التي بنيت على انقاض مدينة جدارا، كما استخدمت أقبيته كثكنات عسكرية مما زاد في تهدمه مع الوقت. كان الباحث والمستكشف غوتليب شوماخر أول من درس هذا المسرح فقد قدم وصفا شاملا له ولأبعاده وللمواد المستخدمة في بنائه (حجر البازلت والحجر الجيري) وقد ذكر بأن جدار المسرح كان متصلا بجدار المدينة. ورجح شوماخر أن جدارا كانت “منتجعا” حيث عرف عنها الثراء والغنى وبعدما ينتهي الناس من الاستمتاع بالمياه الكبريتية حول المدينة يصعدون لها ويمارسون نشاطات ترفيهية كالمسرح.(الدهش: 1993) المسرح الشمالي مسرح كبير يبلغ قطره الخارجي 85 متر والداخلي 49 متر وقد اقتطع جزء منه من الصخر. يرجح أن المسرح بني في نهاية القرن الأول الميلادي وبداية القرن الثاني. (الدهش: 1993)
أما المسرح الثاني فهو المسرح الغربي ويزوره آلاف السياح حتى يومنا هذا، ولا يزال المسرح محتفظا بشكله على عكس المسرح الشمالي، وربما يعود السبب إلى بعده عن الطريق العام وإلى صعوبة الوصول إليه فكان من الصعب أخذ حجارته لبناء البيوت. يبلغ قطر المسرح الخارجي 58 متر. وجد في المسرح تمثال رخامي بديع يصور الآلهة تايكي ربة الحظ والرعاية وهي تمسك قرن الوفرة والخير دلالة على ثراء المدينة وجرت عملية نقل التمثال وعرضه في متحف أم قيس. (الدهش: 1993)
مجمع الحمامات
شرق الشوارع المبلطة وفي طريق ترابية تقبع هنالك عدة حمامات على الطراز الروماني، تحوي الحمامات غرفا للماء الساخن وأخرى للبارد وغرفا لتغيير الملابس. بنيت هذه الحمامات في القرن الرابع الميلادي وظلت تستخدم حتى القرن السابع الميلادي. على بعد 500 متر نجد نصبا تذكاريا متصلا من الخلف بصهريج ماء كبير.
المقابر
تعد المقابر الفردية والجماعية إحدى أهم الدلائل على رخاء المدينة، وتنتشر المقابر العائلية في جدارا فنجد مقبرة عائلة جيرماني ومقبرة موديستوس ومقبرة تشيرياس ومقبرة كرياس وفي هذه المقابر، وجدت المنحوتات النصفية والمتعلقات الشخصية وأغراض أخرى للاحتفالات الجنائزية.
بوابة طبريا
على بعد 800 متر من تقاطع شارعي الكاردو والديكمانوس، توجد آثار أساسات لبوابة المدينة الغربية وتحيط بها أبراج عديدة. وعلى بعد 400 متر من أساسات البوابة الأولى تقابلنا آثار البوابة الثانية على شكل قوس ثلاثي، ويدلنا هذا على التوسع والازدهار الذي عاشته المدينة في النصف الأخير من القرن الثاني الميلادي.
الخاتمة
استعرضنا في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابولس الأردنية تاريخ وحضارة مدينة جدارا، المدينة التي عاشت أحداثا مفصلية كثيرة وعظيمة وضعتها بجدارة واستحقاق على خارطة السياق الحضاري العالمي والتي ما زلنا نرى آثار صمودها وعظمتها حتى يومنا هذا.
المراجع:
- بيضون، غادة (1997) المنحوتات الحجرية في أم قيس، دراسة أثرية فنية مقارنة، رسالة ماجستير منشورة، جامعة اليرموك.
- العوض، عمر (1993) الأنظمة المائية في أم قيس، رسالة ماجستير منشورة، جامعة اليرموك.
- الدهش، منذر (1993) طرق بناء المسارح الرومانية في عمان وفي أم قيس، دراسة مقارنة، رسالة ماجستير منشورة، جامعة اليرموك
- زريقات، ميساء ( 2011) أم قيس مدينة تروي قصة حضارات مختلفة، مقال منشور على صحيفة الرأي
[1] مجمع نيقية الأول أو المجمع المسكوني الأول هو أحد المجامع المسكونية السبعة وفق للكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة وأحد المجامع المسكونية الأربعة، سُمي مجمع نيقية بهذا الاسم نسبة إلى مدينة نيقية التي عُقد فيها وهي العاصمة الثانية لولاية بيثينية وتقع في الشمال الغربي لآسيا الصغرى. للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%AC%D9%85%D8%B9_%D9%86%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84
[2] الأنثولوجيا، أو المختارات الأدبية، أو المقتطفات أو المقتطفات الأدبية المختارة هي مجموعة منتقاة من الأعمال الأدبية للكاتب، يتم تجميعها من قبل المؤلف الذي يقوم باختيار اعماله وتنسيقها
[3] الأبيقورية أو المذهب الأبيقوري (بالإنجليزية: Epicureanism) يُنسب إلى الفيلسوف اليوناني أبيقور (340 ق. م ـ 270 ق. م)، الذي أنشأه وقد ساد لستة قرون، وهو مذهب فلسفي مؤداه أن اللذة هي وحدها الخير الأسمى، والألم هو وحده الشر الأقصى، والمراد باللذة في هذا المذهب ـ بخلاف ما هو شائع ـ هو التحرر من الألم والاهتياج العاطفي.
[4] الرواقية بضم الراء وتشديدها مذهب فلسفي، وإحدى الفلسفات المستجدة في الحضارة الهلنستية، أنشأه الفيلسوف اليوناني زينون السيشومي.