Latest articles
November 14, 2024
November 14, 2024
November 14, 2024
المقدمة
عبر التاريخ، لعبت سهول حوران الأردنية دورا مفصليا في تاريخ الحضارات في الأردن. وقد كانت السهول الأردنية عامرة بالمدن ذات البصمة الثقافية والأثرية التي نلمسها حتى اليوم. ضمن سلسلة أبحاثنا في مدن الديكابولس الأردنية، نستعرض في هذا البحث مدينة كابتولياس أو كما تعرف اليوم باسم “بيت راس”.
الموقع
تقع مدينة كابتولياس (بيت راس) 5 كلم شمال محافظة إربد. على هضبة عالية ترتفع بمقدار 600 متر عن سطح البحر (الشامي: 2002) أما المدينة القديمة فقد جاءت بين مدن الديكابولس الأردنية الأخرى فمن الجنوب حدتها أبيلا (طبقة فحل) ومن الشمال مدينة بيلا (حرثا/القويلبة) ومن الشمال الغربي مدينة جدارا (أم قيس) وقبل تأسيس المدينة كانت مدينة كابتولياس إضافة لمدينة أرابيلا (إربد) ضمن سلطة مدينة بيلا (طبقة فحل). (Lenzen & Knauf: 1987)
التسمية
تعود تسمية المدينة بكابتولياس نسبة إلى المعبد الذي أنشئ فيها للإله “جوبيتر وسمي المعبد جوبتير كابيتوليانس Gupiter Capitolinus يظهر المعبد منقوشا على العملات النقدية التي اكتشفت في المدينة والتي تؤرخ للسنوات 165-166 م.
ويعتقد بأن الاسم الروماني جاء ليناسب الوضع الجغرافي للمدينة. حيث تعني كابيتو تعني الرأس (الأعلى) ولياس تعني المنزل أي السكن في المكان العالي (البكري: 1947) وقد ثبت هذا الاسم في منتصف القرن السادس الميلادي. (Lenzen & Knauf: 1987)
ويطابق الاسم الحالي “بيت راس” المعنى السابق ذكره. ولكن ما يستغربه الباحثون هو عدم وجود اسم للمدينة من قبل تأسيس مدينة كابيتولياس (بيت راس) في الحقبة الرومانية. إن “بيت” و “راس” هما كلمتان تشتركان في جذر عربي وآرامي. إلا أن خلو المقطع من أل التعريف يرجح أن هذا الاسم ربما يكون أقدم من العربية التي نستخدمها اليوم. (Lenzen & Knauf: 1987)
تاريخ البحث الأثري
حظيت مدينة كابتولياس (بيت راس) باهتمام الرحالة والمستكشفين منذ مطلع القرن التاسع عشر. فكان الرحالة سيتزن من أوائل من زاروها عام 1806 وتبعه المستكشف شوماخر عام 1878 الذي أعد بعض المخططات وأشار إلى أن المدينة محاطة بسور. (الشامي: 2002)
بعدها زارها المستكشف ميرل عام 1885، وعام 1951 كانت مدينة كابتولياس من ضمن المدن التي خضعت للمسح الأثري الذي أجراه الباحث نلسون جلوك. وتبع جلوك الباحث ميتمان الذي أجرى مسحا أثريا آخرا كانت المدينة من ضمنه عام 1970. وفي الثمانينات جاء الباحثة شيري لينزن التي قامت بعدة مسوحات أثرية موزعة على مواسم بين الأعوام 1985-1987 ركزت على أقبية المدينة (الشامي: 2002)
التاريخ
كما أسلفنا فمن غير المعلوم تاريخ الاستيطان البشري في المدينة، ولكن بحسب القطع الفخارية والعملات التي وجدها الباحثون في المدافن والكنائس ومعاصر العنب والزيتون تؤرخ المدينة إلى 98/97 ميلادي أي في عهد الإمبراطور تراجان (الشامي: 2002)
جاء الإمبراطور الروماني بومبي عام 63 ق.م وسيطر على المشرق وأسس حلف مدن الديكابولس، ديكا تعني عشر وبولس تعني الحرة. وتمتعت هذه المدن باستقلال ذاتي وبعلاقات تجارية قوية مع المدن الأخرى.
ضمت مدن الديكابولس جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى)) وكما نرى ثمان أردنية، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) ومملا لا شك فيه أن مدينة كابتولياس (بيت راس) كانت واحدة من هذه المدن فقد ذكرت في أعمال المؤرخ ألكسندريان كلاوديوس بطليموس التي تعود لمنتصف القرن الثاني الميلادي.
عمد الأردنيون الغساسنة في مطلع القرن الثاني الميلادي وحتى القرن السادس إلى تأسيس حكومة مركزية تكون انطلاقة مملكتهم وتكون أيضا ممثلة عن أطياف الشعب الأردني الرافض للولاية الرومانية. فأسبغوا على هذه المدن صبغة تجارية وزراعية، فأصبحت مراكز لا مثيل لها، وظلت المدن والحواضر التي بنيت على أنقاضها مزدهرة حتى يومنا هذا. وكان لمدينة كابتولياس مركز مرموق بين جميع المدن، ويعود السبب لاشتهارها بزراعة العنب وصناعة النبيذ إضافة لزراعة الزيتون وصناعة زيته. وقد كانت هاتان الصناعتان عمودان أساسيان في ازدهار المملكة الأردنية الغسانية.
في منتصف القرن الثاني بلغت مدن الديكابولس ازدهارا كبيرا واستقلالا لا مثيل له، فبدأت المدن الأردنية الحرة بسك عملاتها الخاصة. فوجدت في كابتولياس (بيت راس) عمل سكت في عام 165 ميلادي تقريبا ومنقوش عليها المعبد الذي سميت على اسمه المدينة وكذلك كان الحال في كبرى المدن الأردنية الحرة كفيلادلفيا (عمان).
دخلت المسيحية إلى المدينة بقوة واعتنق أبناؤها الديانة الجديدة وكانت محركا للثقافة والمعمار. وصحيح أن المسيحيين الأوائل قد تعرضوا للاضطهاد الديني من الإمبراطورية الرومانية إلا أن المسيحية ترسخت أكثر. في القرن الثاني وما بعده لعب الأردنيون الغساسنة دورا حاسما في إيقاف الاضطهاد الديني على أساس اختلاف الدين أو الطائفة المسيحية. عن طريق تفعيل علاقاتهم مع الأباطرة الرومان خصوصا الإمبراطور جوستنيان والإمبراطورة ثيودورا، هدأ فتيل الاضطهاد الديني وأتيح المجال للازدهار التجاري والصناعي بأن يزداد وينمو.
في القرن الرابع الميلادي 325 كان لأسقف أبرشية كابتولياس حضور في مجمع نيقية وعام 451 ميلادي شارك أيضا في مجمع خليقدونية. (Lenzen & Knauf: 1987) وفي الفترة الممتدة بين تأسيس المدينة في القرن الثاني حتى القرن السابع تقريبا، بنيت عدة كنائس على طراز مميز.
النبيذ البتراسي
عدت الزراعة واحدة من أعمدة الاقتصاد في المملكة الأردنية الغسانية. فمنذ مطلع القرن الثاني حتى السابع الميلادي تنامت شهرة منتجات مدينة كابتولياس الأردنية. ساعدت خصوبة الأرض على الزراعة أما الموقع الاستراتيجي على طول خطوط التجارة القديمة والحديثة فقد ساهم على تسويق هذه المنتجات الزراعية وقد كان النبيذ من أهمها حيث يذكر ياقوت الحموي في مصنفه أن بيت راس “اسم لقريتين في كل واحدة منهما كروم كثيرة” (ملحم: 1995)
تصلنا أنباء شهرة المدينة بالزراعة عن طريق أمرين مختلفين، المعاصر الحجرية والشعر العربي. تناول الشعراء العرب منذ القرن السابع الميلادي فها هو الشاعر حسان بن ثابت يتغنى بنبيذ بيت راس فيقول
كَأَنَّ خَبيأَةٍ مِن بَيتِ رَأسٍ …….. يَكونُ مِزاجها عَسَلٌ وَماءُ
وأنشد أبو نواس قائلا:
وتبسم عن أغر، كأن فيه……مجاج سلافة من بيت راس
وقال المعري:
كأن سبيئة في الرأس منها …..ببيت فم سبيئة بيت رأس
أما شاعر الأردن عرار فقال في نبيذ بيت راس:
واحنيني إلى كأس مشعشعة …. والدنان بتراسي (أي بيت رأسي)
أما المعاصر الحجرية فقد اكتشفت عدة معاصر تتبع نمطي الحفرة المدورة في الأرض و النمط الثاني أحواض هرس مربعة تتصل بأحواض أخرى للترسيب ومن ثم إلى أحواض تخمير مدورة والنمط الثالث أحواض صغيرة مثلثة الشكل. (ملحم: 1995)
الآثار
بدأت مواسم التنقيبات بشكل رسمي مع العالمة شيري لنزن 1988. وهدفت التنقيبات إلى الكشف عن معالم المدينة. اكتشفت أجزاء واسعة من الجدار الذي كان يحيط المدينة. (كراسنة وفياض: 2005)
عام 2000 اكتشفت أجزاء من الجدار الشرقي والشمالي إضافة إلى عدد من الأبراج والأقبية التي تتواجد بكثرة في المدينة وقد وجد على واحد منها نقش على حجر كلسي متآكل يعتقد بأنه يؤرخ لاسم المدينة (كابيتولياس) في الحقبة الرومانية. (كراسنة وفياض: 2005)
المسرح
عام 2001 اكتشفت أجزاء من الجزء الشمالي. واستمر العمل على المسرح عام 2003 حيث اكتشفت المنصة التي تتصل بنفق محفور بالصخر بطول 19 متر وعرض 90 سم وارتفاع 1.85 متر ينفذ إلى خارج المسرح ويعتقد بان هذا النفق كان لاستخدام الممثلين والمؤديين حيث يوصلهم إلى منتصف المنصة لإضافة عنصر المفاجأة . (كراسنة وفياض: 2005)
ومن ثم تم اكتشاف جدار داخلي للمنصة وغرفة يعتقد بأنها لتغيير الملابس، ولاحقاً اكتشف جدار المسرح والذي يتصل بجدار المدينة الكبير. عام 2003، أي في الموسم الرابع في التنقيبات، تم الكشف عن الكثير من عناصر معمار المسرح كالأقبية وأدراج المشاهدين وأبراج المراقبة. بني المسرح من الحجر الكلسي وقد تعرض لكثير من التهدم بفعل العوامل الطبيعية إضافة لكونه محاطا بالطمم نتيجةً لأعمال التنقيب السابقة. (كراسنة وفياض: 2005)
الكنائس
دخلت بيت راس في الحقبة البيزنطية عام 323 م عندما أعلن قسطنطين الكبير بأن المسيحية دين رسمي للإمبراطورية إضافة لنقله العاصمة إلى بيزنطة (القسطنطينية) على مضيق البسفور وبهذا انقسمت الإمبراطورية إلى شرقية وغربية سميت الشرقية بالبيزنطية، أثر هذا على الدين والحضارة في المشرق بأكمله. دخلت المسيحية أرض الأردن منذ انطلاقها وكانت مدن الديكابوليس من أوائل المدن التي اعتنقت المسيحية حيث جال المسيح في هذه المدن ناشرا رسالته. واجه المسيحيون الجدد اضطهاداً دينيا فظيعا مارسته الإمبراطورية الرومانية الوثنية عليهم وقدمت أرض الأردن شهداء كثر في سبيل الحرية الدينية كالقديسين زينون وزناس وجراسيموس الأردني واليان العماني.
وتأثرا بالديانة الجديدة انطلق الأردنيون وأسسوا الكثير من الكنائس التي زينت بأبهى صور الفسيفساء الملوّنة والتي تحوي زخارف هندسية وحيوانية ونباتية وآدمية. كانت كابوتولياس واحدة من هذه المدن التي احتضنت ثورة في المعمار الديني المتمثل في بناء الكنائس. اكتشفت فيها حتى الآن ثلاثة كنائس سنعترضها في ما يلي:
الكنيسة قرب الجامع: بنيت الكنيسة على الطراز المستطيل (البازليكا) واكتشف منها محرابان توقع الباحثون وجود محراب ثالث. تفاوت تأريخ الكنيسة فوفقا للعالمة لينزن أرختها للقرن الخامس الميلادي بالاعتماد على اللقى الأثرية فيها. أما أقدم تأريخ آخر فهو للقرن الثالث الميلادي. تعذر وضع مخطط للبناء لسوء حالته. (قاقيش: 2007)
الكنيسة الشمالية: اكتشف في موقع الكنيسة قطع رخامية من ألواح وأعمدة تعود للهيكل وقد نقش على أحد الألواح باليونانية “أبناء أركاديوس” إشارة على الأغلب إلى المتبرعين. (قاقيش: 2007)
كنيسة عطروز: كنيسة على الطراز المستطيل (البازليكا) وهي مكون من صالة وجناحين وأرضيتها مزخرفة بالفسيفساء. (قاقيش: 2007)
المدافن
وجد العديد من المدافن في مدينة كابوتلياس (بيت راس) والتي تدل على الرخاء والرفاه الاقتصادي الذي نعمت به المدينة زمن الأردنيين الغساسنة من القرن الثاني حتى السادس ميلادي. لا زالت دائرة الآثار الأردنية بالتعاون مع هيئات ومؤسسات متخصصة مهتمة بآثار وحضارة الأردن تنقب عن المزيد من المدافن كان آخرها مدفن بيت راس المميز.
إن اكتشاف هذا الموقع يلقي الضوء على فترة مهمة من التاريخ الأردني خلال العصر الروماني خصوصا لاحتوائه على 52 نقش يوناني وآرامي وتشير إلى أن الميت كان مقدرا من قبل المجتمع ويتمتع بمكانة مجتمعية عالية.
وجدت الكثير من قطع الفريسكو بتفاصيل دقيقة واضحة لم تذكر سابقا في السجلات التاريخية. يمتد المدفن على أكثر من 60 متر مربع وقد حظي بتوثيق مكثف وعمليات ترميم ومحافظة ودراسة علمية من قبل عدد كبير من العلماء الأردنيين والإيطاليين والفرنسيين والأمريكيين.
الخاتمة
استعرضنا في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابوليس الأردنية تاريخ مدينة كابيتولياس (بيت راس) المدينة التي فاجئتنا بالكثير من الآثار التي تعكس الحضارة والثقافة التي تمتع بها أجدادنا الأردنيون عبر التاريخ وتمكنوا من أن ينقلوها لنا في معمارهم وفنونهم. تعتبر بيت راس واحدة من الوجهات المميزة في شمال الأردن والتي تحتاج إلى المزيد من الاهتمام على صعيدي السياحة والتنقيب الآثاري.
المراجع
- الشامي، أحمد. (2002)؛ مشروع التنقيبات الأثرية في بيت رأس- إربد موسم 2002، حولية دائرة الأثار العامة،
- ملحم، إسماعيل (1995)، تقنيات معاصر العنب في الأردن وفلسطين في العصرين الروماني والبيزنطي، حولية دائرة الآثار العامة
- البكري، أبو عبيد الله. 1947؛ معجم ما استعجم، القاهرة: مطبوعات لجنة التأليف والنشر.
- كراسنة، وجيه وفياض، سلامة. 2005؛ مسرح بيت راس الأثري، حولية دائرة الأثار العامة
- قاقيش، رندة. 2007؛ عمارة الكنائس وملحقاتها في الأردن في العهدين البيزنطي والأموي، عمان: دار ورد.
- اكتشافات جديدة فريدة من نوعها بالمنطقة في بيت راس، مقال مترجم منشور على موقع إرث الأردن. http://jordanheritage.jo/new-findings-in-bait-ras-tomb/
- Lenzen, C., Knauf, E. (1987) Biet Ras/ Capitolias a preliminary evaluation of the archeological and textual evidence, In Syria. Tome 64 de fascicule 1-2