Latest articles
December 23, 2024
December 23, 2024
December 23, 2024
مقدمة
أثار اكتشاف مسلّة ميشع ضجة واسعة في الأوساط العلمية، حيث أنه فنّد الكثير من الروايات التاريخية المكذوبة، وفي الآونة الأخيرة تم التطرق للملك الأردني المؤابي ميشع وعصره بصورة مكثفة، إلا أن جُلّ الكاتبين في هذا الموضوع ركزوا على جانب واحد من انجازاته، وهي انتصاراته العسكرية، مهملين ما قام به من عملية بناء شاملة، نحاول في هذا البحث من سلسلة الأردنيين عبر التاريخ تسليط الضوء على جميع انجازاته بشكل متساو، فيما نستعرض الظروف السياسية التي مهدّت لهذه الأحداث.
نقش ميشع 842 ق.م
يعد النقش المكتوب على مسلّة ميشع والذي وجد في ذيبان، أهم النصوص التي تؤرخ لتلك الحقبة الزمنية، حيث أنه النص الأطول في عصر الممالك الأردنية القديمة الثلاث، والذي يحمل الكثير من المعلومات حول فترة حكم الملك الأردني المؤابي ميشع.
يتكون نقش ميشع من 34 سطرا، كتبت على حجر بازلتي أسود على شكل قوس (مسلة)، يبلغ ارتفاع المسلة 124 سم، وعرضها 71 سم، حيث خلّد الملك الأردني المؤابي ميشع انتصاراته وانجازاته في إعادة بناء الدولة، وتعمير المدن، وإنشاء المعابد، وعملية الإصلاح الزراعي التي قادها عقب انتصاره على العبرانيين وطردهم من مملكته، ومطاردتهم والاستيلاء على جزء من أراضيهم، وقد استفاد الباحثون من هذه المسلّة في عدة حقول، منها دراسة الحالة السياسية والاجتماعية في المنطقة في تلك الفترة، ودراسة اللغة الأردنية المؤابية وتراكيبها بالإضافة للخط الأردني المؤابي.
وتاليا نص نقش مسلة ميشع مترجما من المؤابية إلى العربية
- أنا ميشع بن كموشيت ملك مؤاب الديباني.
- أبي ملك على مؤاب ثلاثين سنة. وأنا ملكت.
- بعد أبي. وأنشأت معبدا (أهراما) لكموش، بقرحي، ولقد بني ذلك.
- بسرور لأن كموش أعانني على قهر كل الملوك، ولأنه أشمتني بكل أعدائي المبغضين. أما عمري.
- ملك اسرائيل، فقد اضطهرد مؤاب طويلا، ذلك لأن كموش أضحى مكروها.
- بأرضه. وخلف عمري ابنه فقال هو الآخر: (سأضطهد مؤاب!) أجل، لقد قال شيئا كهذا الكلام.
- ولكن كموش جعلني أراه مهزوما من أمامي، هو والهه. وبادت اسرائيل، بادت الى الأبد. ولكن عمري قد ورث أرض.
- مادبا. فأقام بها مدة حكمه. كما أقام بها الاسرائيليون من بعده. مدة تبلغ نصف حكم أبناء عمري. فجميع ما أقاموه بلغ أربعين سنة.
- وأرجع كموش مادبا في أيام حكمي ولقد بنيت خربة معين وحفرت فيها تلك البركة. ولقد بنيت.
- خربة القريات. أما شعب جاد فقد كان يسكن خربة عطاروس من زمن قديم. وكان ملك اسرائيل قد بنى لشعب جاد.
- خربة عطاروس. والتحمت بالمدينة مقاتلا، وافتتحتها. وذبحت كل سكان.
- القرية لأجل كموش ومؤاب. ورددت من هنالك موقد ايل اله ملك اسرائيل المحبوب.
- وسحبته إلى بين يدي كموش بالقرية. وأسكنت بالقرية شران وشعب.
- محرت. وقال لي كموش: (اذهب! خذ بنو اسرائيل).
- فذهبت في نفس تلك الليلة، واشتبكت بالمدينة من وقت تبين الخيط الأبيض من الأسود حتى الظهر.
- وافتتحتها، وذبحت كل سكانها، وعددهم سبعة آلاف، رجالا وصبيانا ونساء وبناتا.
- واماء. ذلك لأنني ضحيتها لعشتر كموش. كما انني اخذت من هنالك موقد.
- يهوه وسحبتها جميعا حتى وضعتها بين يدي كموش. وكان كملك اسرائيل قد بنى.
- عليان وقت محاربته اياي. ولكن كموش طرده من امامي.
- واخذت من مؤاب مئتي رجل وهم قوام فرقتها العسكرية. ثم قدتهم ضد عليان. وافتتحها.
- مضيفا اياها الى مملكة ذيبان. وانا الذي بتى قرحي، وهي حمى اليعرن (؟) وبنيت كذلك سور.
- الاكروبولوس في قرحي. وانا الذي بنى ابواب قرحي واسوارها.
- وبنيت موقع بيت ملك. وانا الذي حفر كلا البركتين للماء بداخل.
- المدينة. لك لأن المدينة كانت خالية من اي بشر. فقد قلت يومها للشعب: (ليحفر
- كل رجل منكم بئرا بداخل بيته). وانا الذي قطع الأخشاب بأيدي الأسرى الاسرائيليين لقرحي.
- وقد بنيت عراعر. وعبدت الطريق في وادي الموجب.
- وانا الذي بنى بيت بموت لأنها كانت مهدومة هدما. وانا الذي بنى ام العمد لأنها كانت (هكذا وردت في النص ) وقد اصيبت بسوء.
- كبار القوم في ذيبان (ديبون) كانوا خمسين بالعدد. فذيبان كانت كلها خاضعة لي. وأنا ملكت.
- ….. على مئتي مدينة قد أضفتها إلى المملكة. وبنيت
- مادبا وخربة دليلة الشرقية وخربة معين. وهنالك أطلقت النقد (وهو نوع من الغنم صغير الأرجل)
- …… وضأن المملكة لكي ترعى الكلأ. وأما خربة الذباب فقد سكنها….
- … وقال لي كموش: (انزل والتحم بخربة الذباب!) فنزلت والتحمت…
- وأعادها كموش بأيامي. وكان بقربها من الطرف البعيد عشر ..
- سنة أربع وأربعين. وأنا…
مقدمات ثورة الملك الأردني المؤابي ميشع
كانت الأرض الأردنية على مر الزمن مطمعاً للعديد من الغزاة، لما لها من أهمية جيوسياسية، ولمرور أهم الطرق التجارية فيها، كما أنها عقدة الشرق القديم، فليس من الممكن أن تحظى بنفوذ دون أن تسيطر على هذه الأرض، أو أن تعقد العلاقات مع أهلها.
وكباقي الممالك الأردنية القديمة مرّت مملكة مؤاب الأردنية بمراحل من الضعف والقوة، وخاضت النزاعات مع جيرانها من امبراطوريات وممالك طامعة بأرضها، خضعت أحيانا، وسيطرت على أجزاء من أراضي أعدائها أحيانا أخرى.
قبيل حكم الملك المؤابي الأردني ميشع، مرّت مملكة مؤاب الأردنية بأحد مراحل ضعفها، وكانت خاضعة لمملكة اسرائيل بطريقة غير مباشرة، حيث احتلت مملكة اسرائيل أجزاءً من أرض مؤاب الأردنية، كما فرضت عليها نوعا من الجزية، وقد ذكر الملك الأردني المؤابي ميشع في مسلته أن ملك اسرائيل قد اضطهد مؤاب ” لأن كموش أعانني على قهر كل الملوك، ولأنه أشمتني بكل أعدائي المبغضين. أما عمري ملك اسرائيل، فقد اضطهد مؤاب طويلا، ذلك لأن كموش أضحى مكروها”، ومن الواضح من نقش الملك العظيم ميشع، أن الاسرائيليين تعمدوا تخريب وتدمير المدن والحواضر الأردنية المؤابية أيضا، كما قاموا بتخريب آبار المياه لضرب النشاط الزراعي في المملكة الأردنية المؤابية.
مع بدايات حكم الملك الأردني المؤابي ميشع، كان الاسرائيليون يخوضون حربا مع الممالك الآرامية شمالاً، في هذه الأثناء كان الحس الوطني لدى الأردنيين المؤابيين يشتعل، وكان الرفض لسيطرة الاسرائيليين على المنطقة يملأُ أفئدتهم، حيث شعر الأردنيون المؤابيون بأن كرامتهم تنتهك عبر هذا الخضوع، وعندما مات عمري ملك اسرائيل بدأت نار الثورة تسري في أرض مؤاب الأردنية، مستثمرين مرحلة انتقال الحكم بعد موت ملك اسرائيل عمري، والحروب التي تخوضها مملكة اسرائيل مع الممالك الآرامية.
ثورة شعب يتقدمها ملك
“ وخلف عمري ابنه فقال هو الآخر: (سأضطهد مؤاب!) أجل، لقد قال شيئا كهذا الكلام. ولكن كموش جعلني أراه مهزوما من أمامي”، بعدما مات عمري وخلَفه ابنه، ظل يطالب الاسرائيليون بالجزية من مؤاب الأردنية، الا أن أجدادنا الأردنيين المؤابيين رفضوا دفع الجزية، وبادروا بشن الهجمات على المواقع الاسرائيلية، والجدير بالذكر هنا أن الملك ميشع قاد حربا على مملكتي اسرائيل ويهوذا معا.
قاد الملك الأردني المؤابي ميشع عمليات الثورة بنفسه، وتقدّم الصفوف، حيث زحف على المواقع الاسرائيلية من الجنوب باتجاه الشمال، فبدأ بتطهير (مهدبة) أحد أهم مراكز القيادة الاسرائيلية في أرض مؤاب، ثم تابع التقدم شمالا حتى وصل (نبه) أحد أهم المراكز الدينية المؤابية، والتي تحتوي على معبد للإله الأردني المؤابي كموش، واستقر ميشع في (نبه) مدة من الزمن حتى وصلته التعزيزات، وتابع الزحف حتى وصل إلى الحصن الاسرائيلي (ياهص) فاحتله بكل سهولة، وتوجه إلى جبل نيبو مرورا بذيبان ومادبا، حيث قاتَل الاسرائيليين في نيبو من الصباح حتى المساء، مقدماً أعداءه ضحايا للإلهة عشتر- كموش.
بعدما انتصر الأردنيون المؤابيون في معركة نيبو ، وهزموا جيوش مملكة اسرائيل، وتم لهم تحرير بلادهم من الاحتلال، شرع الملك ميشع بتحصين حدوده الشمالية، حتى لا تقع مرة أخرى بيد الأعداء، وحتى يستطيع التفرغ لمهاجمة مملكة يهوذا، ليضمن حماية حدود مملكته الجنوبية دون الخوف من خسارة أجزاء من القسم الشمالي من المملكة.
عندما تم لميشع تحصين حدوده الشمالية بشكل جيد، شرع بتجهيز حملة للهجوم على مملكة يهوذا بالجنوب، المملكة التي استطاعت أن تتحالف مع ممالك مجاورة في محاولة لكسر شوكة الملك الأردني الذي قاد شعبه للنصر، وانتقاماً لأبناء عمومتهم في مملكة اسرائيل، وفي (حصن محي) المؤابي التقت الجيوش المتحالفة ضد المملكة الأردنية المؤابية، مع قوة بسيطة تحمي الحصن من مملكة مؤاب، واستطات القوات المعادية شق طريقها داخل الأراضي الأردنية المؤابية، حتى وصلت حدود الكرك (قير حارسة)، فحاصرتها القوات المعادية، وسط استبسال الأردنيين المؤابيين في حماية عاصمتهم -حتى ذلك الوقت قبل أن يحول ميشع العاصمة إلى ذيبان بعد أن هزم جميع أعداءه-.
إبن الملك ميشع- فادي الكرك وشهيدها
عندما اشتد الحصار على الكرك من قبل التحالف المعادي، وبعد مدة طويلة من القتال الدامي، بذل فيه الأردنيون المؤابيون دماءهم قرابين لحماية وطنهم، وصد الغزو عن عاصمتهم، شعر الملك الأردني المؤابي ميشع بمعنويات شعبه تنهار، وبأن أعداءه أصبحوا أكثر قرباً من دخول الكرك، الأمر الذي لم يكن من الممكن أن يقبل به هذا الملك عالي الهمة والطموح، ولم يجد أمامه حلاً سوى أن يقدم ابنه البكر أضحية وقرباناً للآلهة، حتى يشحذ همم شعبه ويرفع من معنوياتهم مرة أخرى، وليقول لهم أنا الملك أول من يضحي وبأغلى ما لدي، فداءً لوطني وشعبي، الأمر الذي قبله ابنه دون تردد، فكان مثالاً للتضحية والفداء، ومن أوائل المؤمنين بالأوطان عبر التاريخ.
بعد هذا التصرف البطولي الذي قام به الملك ميشع وابنه البكر، ارتفعت معنويات شعب مؤاب الأردني، فقاتلوا قتالا شديداً، فيما دب الذعر في قلوب الأعداء فكيف لهم أن يهزموا شعبا قدم ملكه ابنه البكر أضحية على درب النصر والبناء، لينكسر الحصار، وتتقدم القوات الأردنية المؤابية مطاردةً فلول الأعداء إلى ما خلف حدودهم، فينتهي بذلك مسلسل الحرب والانتصارات العسكرية لتبدأ رحلة البناء والتعمير.
معركة البناء
لا شك أن الانتصارات العسكرية، وثورات التحرر تعتبر انجازات مهمة، إلا أن المرحلة التي تتبعها هي التي تميز الأمم عن بعضها، فمن يستكين لنشوة النصر، لن يبنِ المستقبل، ولن يبنِ المستقبل سوى من لديه ملَكة التخطيط الاستراتيجي بالإضافة إلى الطموح، وهذا ما ميّز الملك الأردني المؤابي ميشع، التفكير الاستراتيجي والطموح، الطموح اللازم ليحجز لأمته درجةً على سلم الحضارة الإنسانية.
باشر الملك المؤابي الأردني ميشع عملية البناء، خلال خوضه للمعارك، إلا أن عملية البناء هذه كانت تقتصر على التحصينات اللازمة لحماية المواقع التي سيطر عليها، حيث أجّل عملية البناء الحقيقية حتى تم له الانتصار على أعدائه، وتأكد من زوال الخطر الخارجي، وفي تلك اللحظة بدأت عملية البناء الحقيقية.
انقسم مشروع البناء والتعمير لدى ميشع إلى عدة أقسام، منها شق الطرقات وتعبيدها، إعادة بناء المدن والقرى المهدمة، ثم إنشاء مدن جديدة، كما اهتم ببناء المعابد، التي تعبر عن حالة من الترف والراحة المادية، وسرعة التعافي من آثارالاحتلال وحرب التحرير.
أبرز مظاهر البناء في عهد الملك ميشع
شرع الملك الأردني المؤابي ميشع ببناء حصون إضافية تضمن حماية مملكته من أي اعتداء خارجي جديد مثل (حصن بعل يمون، حصن كرجتان، حصن بيت بموت، حصن برز، حصن مادبا، وحصن بيت دبلتان)، ثم أعاد بناء جميع المدن والقرى التي هدمتها الحرب، ومن أهم هذه المدن مدينة ذيبان التي اتخذها عاصمة له، وبنى بها ضاحية جديدة سماها قرحي، ضمت قصره الجديد، بالإضافة لمعبد ضخم للإله كموش، عدا عن المؤسسات الادارية، وبيوت الوزراء والقادة.
الثورة الزراعية
إن من أبرز ما قام به الملك الأردني المؤابي ميشع، هو الثورة الزراعية الضخمة التي قادها بنفسه، حيث بدى اهتمامه واضحا في الإنتاج الزراعي وسبل تحسينه وتضخيمه، بعد أن قام أعداؤه بتدمير هذا القطاع الإنتاجي المهم، حيث كان أهم ما قام به الملك ميشع، حفر البرك والآبار الضخمة، ومما يدلل على اهتمامه منقطع النظير بعملية الزراعة أن طلب من أهل قرحي أن يحفر كل بيت من بيوتها بئرا ” لأن المدينة كانت خالية من أي بشر. فقد قلت يومها للشعب: (ليحفر كل رجل منكم بئرا بداخل بيته).”
الخاتمة
لم يرضخ الإنسان الأردني على مر العصور، لأي غازٍ خارجي، وإن كان قادرا على تقبل الثقافات والحضارات الأخرى ومزجها بسلاسة مع منظومته الحضارية والثقافية، لذلك وقف الملك الأردني ميشع في وجه العدوان والهيمنة الخارجية، وقاد شعبه محققاً النصر تلو النصر، ولم يكتفِ بذلك، فلم يكن الأردني يوماً رهيناً للظروف التي تفرض عليه، ولم يقبل أن يتوقف دوره على رد الفعل اتجاه الأحداث التاريخية، لذا قام ميشع بعد أن انتصر على أعدائه بقيادة شعبه في معركة أخرى، أكثر أهمية وصعوبة، وهي معركة البناء، التي تَفاخر بها أكثر مما تَفاخر بانتصاراته العسكرية، فبنى بذلك دولةً منيعة، دولة يشعر شعبها بأن لهم وطناً بذلوا في سبيله دماءاً مستحقة.
المراجع
- كفافي ، د. زيدان عبد الكافي) 2006 (، تاريخ الأردن و اثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية ) ، دار ورد ، عمان .
- A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان