Latest articles
November 21, 2024
November 21, 2024
November 21, 2024
مقدمة
يستدعي الحديث عن قامة أدبية كتيسير السبول استحضار الكثير من المشاعر والأحداث من ذاكرتنا الوطنية، فالأمور التي كان تيسير شاهدا عليها لم تكن لتتركه دون ندوب كثيرة يقضي حياته في محاولة مداراتها والشفاء منها. لم يكن مسار حياته بالمسار السهل؛ وربما هذا ما منحه حزنا كافيا لتطويع الكلمات شعرا ونثرا. وعلى الرغم من الحياة القصيرة التي عاشها إلا أنه قدم إسهاما رائعا في المشهد الأردني الأدبي، ورسم حرفا صعبا في سجل الأدباء في المنطقة وهو الذي خطّ بإبداعه طريقا فريدا في صنوف النثر متحديا أطر من سبقوه بلا وجل أو تردد.
بين ناي الطفيلة وناسك العالوك
لقد حفر تيسير السبول ذكراه في ذاكرة الأردنيين، حتى اختصه الشاعر الأردني العظيم الراحل حبيب الزيودي عام 2012 بقصيدة مؤثرة بعنوان “عودي ناقص وترا” فتيسير هو الوتر الناقص في العود أو الثقب الزائد في الناي ، الذي اختار “بابا آخرا للحقيقة” غير الباب الذي اختاره حبيب وإن كانت أبوابهما الاثنين تطل على وطن عظيم أحبوه هو الأردن.
” أذان الفجر أكملت القصيدة والصلاة
أطلّ تيسير السبول وقال كيف تطيق هذا الليل
خذها بغتة في الرأس
قلت طلعت رغم جحوده قمرا
وأنت اخترت بابا للحقيقة غير بابي حينما واجهت نزف الحبر منتحرا”
( حبيب الزيودي 2012 – عودي ناقص وترا)
المولد والنشأة
يعود نسب الأديب الأردني الراحل تيسير رزق عبد الرحمن السبول إلى عشيرة الهلالات إحدى عشائر محافظة الطفيلة. ولد عام 1939 وكانت المنطقة التي قضى فيها تيسير طفولته منطقة يعمل أهلها بالزراعة، وكذلك كانت عائلة تيسير. هو الأخ الأصغر لخمسة أولاد وأربع فتيات وعرِف بالشخصية القوية وسرعة البديهة التي أثارت إعجاب كل من قابله. فيصف صادق عبد الحق، أحد أصدقاء تيسير المقربين فيقول : ” نشأ تيسير في طبقة وسطى أو أعلى من الوسط، ضعيف البنية لكنه لم يكن يشكو من مرض معين، ذكيا بل شديد الذكاء، صادقا لا تبغض نفسه شيئا أكثر من الكذب والرياء، كان يشرب ويدخن.. كان يكره العجز والشيخوخة فرفضهما، كثيرا ما كان يصحبني، ولعله صحب أصدقاء آخرين له، في سيارته الصغيرة على طريق الجامعة، ثم يبدأ لعنة العبث يدوس البنزين “تيسير.. تيسير أيها الأحمق.. ماذا تفعل هنا.. لماذا أنت هنا الآن”.
انتقل تيسير إلى الزرقاء مع أخيه شوكت-الذي أهداه لاحقا قصيدة بعنوان “النسر الغائب”-، وهناك توثقت عرى الصداقة بين تيسير والقاص الأردني الراحل عدي المدانات واستمرت صداقتهما عقدين من الزمن، حيث حصلا على الشهادة الثانوية سوية من كلية الحسين في عمان عام 1957 وابتعث تيسير بعدها إلى الجامعة الأمريكية في بيروت والتي ستكون تجربة ذات أثر لا يمحى من حياته.
الغربة الأولى: الجامعة الأمريكية في بيروت
رغم الظروف التي كان تعيشها أسرة تيسير السبول العاملة في الزراعة كباقي الأسر إلا إن التوجه العام كان يقضي بتعليم الشباب جامعيا ولهذا سافر تيسير إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وذلك لدراسة الفلسفة عام 1957 وكانت هذه أولى ارتحالاته.
من هنا يبدأ نجم تيسير السبول الأديب باللمعان، فقد أثارت الغربة في روحه شتى العذابات إضافة لما كانت الصراعات العربية الإسرائيلية تفعل. كانت بيروت نقلة نوعية في الحياة بالنسبة للشاب السبول القادم من قرية جنوب الأردن. يبلغ الاغتراب مبلغه في نفس أديبنا ويتجلى في قصة (الهندي الأحمر) والتي يصف فيها حال شاب بدوي وسط مجتمع مختلف عنه لا هو يستطيع تقبله ولا هو يستطيع تغييره. وتختلط في القصة مشاعر الحنين للوطن والأب مع حماس التجربة المختلفة والجديدة كل الجدة، ويرى النقاد أن هذا الهندي ما هو إلا تيسير نفسه عاكسا تجربة الابتعاد عن الوطن للمرة الأولى.
دفع التيار السياسي للأحداث آنذاك بتيسير لترك دراسة الفلسفة في الجامعة الأمريكية والتوجه لجامعة دمشق ودراسة الحقوق ليتخرج فيها عام 1961. ورغم انتساب الصديقين عدي وتيسير إلى أحزاب سياسية مختلفة، فقد انضم تيسير لحزب البعث بينما كان مدانات منتميا للحزب الشيوعي؛ يستذكر عدي المرة التي أنقذ فيها تيسير حياته أعمال شغب هبت بين منتسبي الحزبين المختلفين في جامعة دمشق فيقول “كان من نصيبي أني تلقيت ضربة بجذع شجرة على جبيني وكان أن التجأت إلى مكتبة الجامعة … وفيما أنا في أشد أوضاعي خطورة، إذ بتيسير الذي كان يبحث عني يدخل المكتبة ويأخذني وقد جهز طاقما من أبناء بلدته الطفيلة ليشكلوا حاجزا بيني وبين الطلبة الغاضبين .. ثم ليساعدني على ارتقاء السور والهرب من الشجار.. ولم يقتصر موقف تيسير على ذلك إنما جاءني في المساء ليطمئن” كان تيسير حسب ما وصفه أصدقاؤه سهلا ولينا ويقدر الألفة التي تجمعه مع الأصدقاء ولم يسمح بأن يكون اختلاف الأحزاب السياسية سببا في الفرقة.
عمله وسفره
تنقل خلال السنوات التي عقبت تخرجه بين العمل الحكومي في دائرة ضريبة الدخل إلى التدرب في مكتب للمحاماة ومن ثم السفر إلى دول عربية شقيقة كالبحرين والسعودية. في تلك الأثناء رافقته زوجته السيدة مي اليتيم والتي أنجب منها ولدا وبنتا عتبة وصبا.
وخلال سفره كان يبعث دوما برسائل لصديقه صادق عبد الحق فكتب له مرة واصفا حزنه وخوفه من الوحدة والعجز “عندما كنت في البحرين كنت دائم التأثر بمنظر قارب مهجور على شاطئها حيث كنت أتسلى- لا بل أسلي النفس .. وذات أمسية كئيبة في الرياض أجهش صديق بغصة فقال: “بكل تداوينا فلم يشف ما بنا على أن قرب الدار خير من البعد[1]، يعلم الله أن الحزينة التي وعدت بيوم تفرح فيه فقدت أوانها، ويعلم الله أن الشيخوخة على الأبواب فهلا أعطتها الحزينة الوعد الحق”
كما كتب القاص الراحل عدي مدانات مستذكرا صديقه تيسير في تلك الفترة “قائمة محبي تيسير السبول تطول أكثر مما نعرف، فقد امتلك أفئدة كل من أقام معه صلة ولو صغيرة، فما من إنسان امتلك قلوب أصدقائه ومعارفه الكثر، كما فعل تيسير في حياته… لقد كان أكثرنا اندفاعا وتفاعلا مع الحياة وأكثرنا تحفيزا للفكر كي يعمل ويثمر” ولهذا ربما تحول مأتمه عام 1973 إلى بذرة رابطة الكتاب الأردنيين، بحسب ما قاله الراحل المدانات. كان تيسير شغوفا بفكرة ضم الكتاب الأردنيين في إطار موحد وقانوني ولطالما شارك أصدقاءه بحلمه هذا. في خامس أيام العزاء في بيت الراحل عدي مدانات، وبعد قراءة قصائد تيسير، اقترح عدي حلم تيسير على الموجودين ورحبوا بالأمر، وفي نفس الجلسة اختيرت لجنة تحضيرية ومن ثم لجنة تأسيسية للرابطة. وجعل أصدقاء تيسير – الذين وحدتهم فجيعتهم – حلمه واقعا.
الغربة الثانية: النكسة وما عقِبها
أنهى تيسير تنقلاته عام 1964 حيث عاد إلى الأردن وافتتح مكتبا للمحاماة. ولكن العواصف لم تهدأ في حياة السبول فما لبث إلا وأغلق مكتبه وعمل في الإذاعة حيث كان يقدم برنامجا بعنوان “مع الجيل الجديد”.
والمتتبع لحياة السبول يرى كم كانت الحروب العربية الإسرائيلية تحتل من تفكيره. كانت النكسة (1967) أو ما سمي بهزيمة حزيران التي منيت بها الدول العربية أمام الكيان الصهيوني زلزالا على نفس تيسير السبول المتشبع بحلم الوحدة العربية. ويمكن القول إنها أول خطواته نحو حزن عميق وممتد حتى آخر حياته.
نتاج أدبي عالي المستوى
طبعت أعمال الأديب تيسير السبول عدة مرات واشتملت على ما كتب في الرواية (أنت منذ اليوم) الفائزة بجائزة دار النهار، الفائزة بجائزة مجلة الآداب للراوية العربية والتي كانت أهم الجوائز الأدبية في تلك الفترة، والقصة القصيرة (الله يرحمهم، هندي أحمر، صياح الديك) وديوانه الشعري (أحزان صحراوية) كما تضمنت على دراساته في الشعر والرواية والسياسة والفن والتاريخ، كما نشرت صحيفة الدستور الأردنية في ذكرى رحيله الثلاثين رسائله مع صادق عبد الحق والذي كان من أقرب أصدقائه له، والجدير بالذكر أنه كتب التمثيليات أثناء عمله في الإذاعة الأردنية كما قدم عدة ترجمات لرباعيات الخيام.
كان النتاج الأدبي لتيسير السبول هدفا لكثير من دراسي الأدب الأردني المعاصر. ونذكر من هذه الإصدارات “الشاعر القتيل تيسير السبول- سليمان الأزرعي” و “تيسير السبول العربي الغريب- فايز محمود” و “فصول في الأدب الأردني ونقد- إبراهيم خليل” و “حالة شعرية خاصة (تيسير السبول) – أحمد المصلح” ويتحدث الأستاذ عبد الفتاح النجار عن استقطاب تيسير السبول لكل هذه الدراسات بقوله:
“إن هذا الاهتمام يعود إلى أسباب منها كونه أحد الشعراء الرواد الذين كتبوا الشعر الجديد أو “الحر” في مرحلة مبكرة من حياة الشعر الحر في الأردن، في فترة كان فيها التجديد يعد مغامرة خطرة وخروجا على التراث وعلى الأخلاق وعلى الدين على المجتمع وعلى التقاليد، إضافة إلى أن شعر تيسير السبول كله المنشور في ديوانه الوحيد “أحزان صحراوية” وفي أعماله الكاملة هو من الشعر الجديد“
وتعد دراسة الدكتور عبد الفتاح النجار “تيسير السبول شاعرا مجددا 1993” من أهم الدراسات التي تتناول شعره شكلا ومضمونا، كما تلقي الضوء على محاور التجديد الأدبي التي أضافها شعر تيسير السبول إلى الساحة الأدبية الأردنية والعربية.
ويضيف الأستاذ النجار في ملخص دراسته لشعر الأديب الراحل:
“بعد دراستي ديوان (أحزان صحراوية)… ودراستي الأعمال الشعرية المنشورة في كتاب الأعمال الكاملة، اتضح لي أن قصائدهما جميعها من الشعر الجديد (الحر) الذي نوع القافية أو ألغاها واتخذ التفعيلة وحدة موسيقية دون التقيد بعدد محدد من التفاعيل في كل سطر ، كما تجلت في شعره ظواهر تجديدية أخرى مثل الصور الشعرية والرمز والأسطورة والتكرار والتدوير والبنية الدرامية واللغة البسيطة… كما لاحظت أن شاعرنا قد تناول في مضامينه هموما ذاتية وأخرى اجتماعية ووطنية وقومية على أن همومه الذاتية في كثير من الأحيان كانت متأثرة بالهم الاجتماعي والقومي “
كما يُشار هنا أن النقاد العرب يشيرون إلى الأديب السبول على أنه المؤسس لنمط سردي روائي جديد، وأن روايته “أنت منذ اليوم” هي ” فتح أدبي” لا مثيل له. وقد تضمنت هذه الرواية جزءا من سيرته الذاتية إضافة لسيرة الحالة العربية آنذاك. وقد نجح في مهمته السردية تلك مستعينا بالأسلوب الأدبي “السرد عن السرد” والذي كان أسبق أدباء عصره في استخدامه. وبهذا كانت روايته الوحيدة عامودا من أعمدة الرواية العربية الحداثية. [2]
أما اليوم، وفي محاولة لتمثل ذكرى الأديب كجزء من إرثنا الثقافي والأدبي، ترعى وزارة الثقافة بالتعاون مع ملتقى الطفيلة الثقافي جائزة أدبية للشعر والقصة تحمل اسمه.
تيسير السبول أديبا أردنيا
كان تفكير السبول تفكيرا إنسانيا عالميا يتجاوز الأطر والحدود على الرغم من تعلقه الشديد بالقضايا الوطنية والتحامه بالشعب، وهذا ما جعل شعره ونثره قريبا لروح القارىء العادي للغاية. لقد كان لكلمات السبول صدى أعمق مما نتخيل في المجتمع الأردني.
رعب، لو، كلمات ثقيلة، لحظات من خشب.. هكذا كانت عناوين قصائد تيسير السبول مشبعةً بالألم والتيه الذي كتب على بني البشر في سبيل حيازة الحقيقة والخلاص. إلا أن قصيدته الأخيرة كانت بلا عنوان وقد وصف نفسه بنبيّ بلا آيات، يمضي ولا مقصد له سوى النهاية ولا عذر للآخرين سوى النسيان:
“أنا يا صديقي
أسير مع الوهم، أدري
أُيَمّمُ نحو تخوم النهاية
نبيّاً غريب الملامح أمضي
إلى غير غايةْ
سأسقطُ، لا بدّ يملأ جوفي الظلامْ
نبيّاً قتيلاً، وما فاهَ بعدُ بآيهْ
وأنت صديقي، وأعلمُ… لكن
قد اختلفت بي طريقي
سأسقط، لا بدّ، أسقطُ..
يملأ جوفي الظلامْ
عذيرك، بعدُ، إذا ما التقينا
بذات منامْ
تفيقُ الغداةَ، وتنسى
لكم أنتَ تنسى
عليك السلامْ”
لقد كانت لنشأة السبول في الطفيلة أعظم الأثر على شخصيته؛ فقد تربى الأديب الأردني الراحل في أحضان الجبال وربما من هنا قد اقتبس وعيه الحاد الذي يرسم حدودا واضحة بين الخيانة والوطنية، بين القوة والضعف. وقد كتب النقاد عن انعكاس مجتمع الطفيلة القروي والذي كانت تسوده السلطة الأبوية في كتابات تيسير السبول خصوصا ما تضمنته روايته الوحيدة “أنت منذ اليوم “.
في مجتمع كان ولا زال يضيق على الرجل في عواطفه وتعبيره عن مشاعره، كسر تيسير السبول هذه الحدود وعبر بشعر في غاية الرقة حينا وفي غاية الألم والحب حينا آخر. لقد رسم الأديب الأردني الراحل تيسير السبول شكلا جديدا للرجل الإنسان الذي من حقه البكاء والضعف والحب وحتى الانهيار. لقد خلع تيسير بشعره وحساسيته عن الرجل عباءة القوة الدائمة والمصطنعة التي تلف شكل العلاقات في المجتمع آنذاك.
إن التعبير الشفاف عن المشاعر والذي يصل إلى الشارع والمجتمع يساهم في إعادة تشكيل مفاهيم الذكورة والأنوثة، وفي فتح الإشكاليات المغلقة والأسئلة التي قد تعد في لحظة ما خطوطا حمراء. هكذا كانت إسهامات السبول تتعدى جماليات الأدب والشعر إلى ما هو منصب في نسيج المجتمع وصميمه. ومن منبره الإذاعي، خاطب السبول المجتمع الأردني آخذا على عاتقه نشر الثقافة والأدب، فقد كان يناقش ما يطالعه ويطرح تساؤلاته ويكتب تمثيلياته الإذاعية.
كأنه ما مات.. كأنه في إجازة
الحقيقة والخلاص اللذان لم يتجل طريقهما لتيسير سوى بالانتحار بطلقة في الخامس عشر من تشرين الثاني عام 1973. كان انتحار الشاعر رفضا واحتجاجا وخلاصا في آن واحد، فقد رفض واقعه واحتج عليه كما أثقلته التقلبات والخيبات، أثقله شعوره بالعجز وحصاره بالقلق وتجريم الذات وكان انتحاره آخر خط دفاع ضد هذه الورطة الوجودية التي علقت فيها روحه.
وقف السبول أمام شعوره بالاضطهاد في العمل، فقد نقل إلى غرفة نائية بلا تهوية أو إنارة أو هاتف في مبنى الإذاعة، وأمام الهزيمة التي مثلها لقاء القوات المصرية والقوات الإسرائيلية عند خيمة الكيلو 101 وبإعلان بدء المباحثات بينهما. في ذلك اليوم لم يمر السبول على صديقه عديّ كما اعتاد دوما ليشربا القهوة وليتبادلا الحديث.
غادر عمله مبكر وكان قد ودع جميع زملائه وطلب منهم أن يسامحوه وقد ذكر الشاعر حيدر محمود أن تيسير في ذلك اليوم كان شديد الرقة ومفرط الحساسية، وكان قد استعار مسدسا من صديق مقرب له .
وحسب ما ترويه عائلته فقد رسم السبول نهاية روايته الذاتية كما يأتي :” لم يكن تيسير يعمل في تلك الفترة وكان ساهرا تلك الليلة مع صديقيه عدي مدانات والروائي الأديب فايز محمود الذي توفي منذ بضع سنوات، كانوا يتحدثون عن الانتحار جماعة، لكنهم كانوا يتدربون على إطلاق الرصاصة من مسدس فارغ وكان تيسير يجري التمثيلية أمامهم ويقول : ( هنا سأضع فوهة المسدس وسأضغط على الزناد هكذا )؛ ويتحدث عن ماذا سيحدث، ثم وفي منتصف الليل غادر عدي في سيارته عائدا لمنزله وبقي فايز عند تيسير، وكون الأديب الراحل فايز محمود لم يكن يملك سيارة فقد كان تيسير عادة هو من يوصله ويعيده إلى منزله وهكذا كان، عاد تيسير إلى منزله وكانت زوجته الدكتورة مي اليتيم قد غادرت المنزل إلى عملها في مستشفى ماركا العسكري القريب من منزلهم في ذلك الحين. انتظرها تيسير لحين عودتها ، دخلت الراحلة ( أم عتبة ) فوجدته ساكنا ممدا على سريره وباسما في وجهها طالبا اياها الجلوس قربه ، في آخر لحظات جمعته مع مي كان قد تناول القلادة التي تحمل اسم “الله” في عنقها وسألها تؤمنين به؟ قالت نعم. بسؤال الإيمان العميق هذا أرسل تيسير آخر رسائل الوداع وأعلن نبأ الرحيل ضمنيا وبإجابة مي استقبلت عائلته خبر وفاته المفجع بصمت المشدوه. قال لها تيسير أنه ليس لديهم غاز وأنه يتوجب عليها أن تذهب إلى منزل الجيران كي تتصل بمحل الغاز كي يرسل أحدهم لتبديل الأسطوانة كون الهاتف في ذلك الزمن لم يكن متوفرا في كل منزل. وعندما خرجت وذهبت إلى منزل الجيران وبينما كان يراقبها من الشباك الذي يطل على مدخل منزل الجيران أطلق الرصاصة على رأسه لحظة دخولها المنزل وسمعت هي دوي الرصاصة، وكانت القصيدة ( أنا يا صديقي أسير مع الوهم أدري ) مما وجدته أخته في متعلقاته”.
أطلق تيسير رصاصة أخيرة في الجبهة التي كان يحارب فيها وحده. كان انسحاب تيسير السبول من حياة عائلته وزوجته وأصدقائه مفجعا للغاية؛ “أدركنا جميعا أننا كنا مقصرين، وقصيري النظر وأنانيين وآثمين في النهاية” كتب الراحل عدي مدانات.
لم يكن يتوقع أحد هذه النهاية وأيقن الجميع أن تيسير كان يحمل هما أكبر من أن يقال أو يخمن. لقد مشى تيسير السبول إلى موته، وتجرأ وكتب النهاية بيده. وبينما نفى كل من عرفه الضعف والانهزامية عنه، وأثبت له القوة والجدة؛ إلا أنه عاش أزمة المثقف المنتمي، الذي جعل هم الوطن وهم الشعب هما شخصيا له وقد أفصح عن هذا الحزن العميق مرات عديدة في رسائله وشعره ؛ فقد كتب يوما لصديقه صادق عبد الحق يقول :
لكن الفراق مر
والموت مر
وكل ما يسرق الإنسان من إنسان مر
والحياة مرة
والملل- والليل- والوحدة- والضياع أشياء مرة
وجودنا كله مر.. مر يا الله ما أشد مرارته
وريقي هو الآخر مر
حظنا أننا نموت يا صادق لأن الموت آخر مر نتذوقه”
المراجع:
- السبول، تيسير(1981)، الأعمال الكاملة، (ط1)، بيروت: دار ابن رشد
- عماد الضمور(2009)، شعر الشعراء المنتحرين في الأردن، دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 36 (2)
- تيسير النجار، إحدى وعشرون رسالة لتيسير السبول الذي انتحر محتجاً على هزيمة الأمة: رسائل تيسير السبول مع صادق عبد الحق كراسة مسكونة بالبوح والأسرار، الدستور، عمان، 15 نوفمبر، 2003.
- جعفر العقيلي، عدي المدانات مستذكرا تيسير السبول ” كأنه ما مات.. كأنه في إجازة “، الرأي، عمان، 19 نوفمبر، 2016
- معجم الأدباء الأردنيين (ط1) عمان، وزارة الثقافة.
- حبيب الزيودي (2012) عودي ناقص وترا، شبكة عمون الإخبارية .
- النجار، عبد الفتاح (1993)، تيسير السبول شاعرا مجددا، مطابع الدستور التجارية
- مقابلات إرث الأردن مع الدكتور حكمت النوايسة مدير مديرية التراث – وزارة الثقافة الأردنية، الأستاذ الدكتور مهند مبيضين أستاذ التاريخ في الجامعة الأردنية، الشاعر الدكتور إسماعيل السعودي أستاذ اللغة العربية في الجامعة الأردنية.
-
[1] من خاتمة قصيدة (خليلي مرا بي على الأبرق الفرد ) للشاعر قيس بن الملوح ( مجنون ليلى ).
-
[2] من مقابلة فريق إرث الأردن مع الدكتور حكمت النوايسة مدير مديرية التراث- وزارة الثقافة