Latest articles
December 21, 2024
December 21, 2024
December 21, 2024
” الحظّ للجميع ، أمّا الخلود الأدبي و العلمي فهو ، لأولئك الذين بذلوا
زهرة العمر وريعان الشباب ، متناسين كل ما في الحياة من مغريات .”
تحمِل الأردن وجوهاً من طيب, تقاسيمها طيّبة, في عيونها أسراب خير لها تاريخٌ غُرِسَ شجرهُ وحجرهُ بأيدي من غُرِست محبة الأردنِّ في قلوبهم, رَوَت يداهُ الزنابق حتى أينعت هذه الحروف النابضة من قلبٍ مرهف فأزهرت في سبعة أجزاء, ويا للغته الحسناء من نصيب من محبته وتدفق شذى قلبه وأدبه فكان مستطردُ البحث فيها, جامح في عملية بحثه وتوثيقه ,وأحبَّ الأردن حتى أشاد لتراثها الجميل الأصيل المتناغم معلَمَةً من خمسة أجزاء وكأنها مناهل علمٍ ومعالم عز, ومضافات تمدُّ زائرها بالحياة.
يقتبس الطبيعة الأردنية ويصيغها ويرسمها ويقدم مكتبة أُردنية صورية ومكتوبة اجتهد فيها مواصلاً محبته ودماثة خلقه وتطبُّع الأردن فيه وجهود قلمه وفكره المستنير وذاكرته التي عاشرت وعايشت اللبان والصفصاف والعرعر والطلح والأثل.
وقدَّم الهوية التي لا تبور, والتُراث الزاهي بالطرب والكرم وقوة الرجال والكرامة المقصبة بحقول القمح التي كانت أقوى من عيون العدو, هوية لا تطرف فيها ولا ضيم ولا أرتال من الأحقاد كما قد يبدو الآن بفعل شوائب الزمان. تعلو إنسانيتها و وجدانيَّتُها على كل شيء.
قلبه ناعور من طيب وكرم ومحبة, نَبَض كعين ماءٍ مقدسة لا تخور قواها ولا يقف جريانها, ابن مأدبا الذي نشأ من أمشاج المحبة الأردنية, كان سنداً للمرأة كأنما السنديان, نسوياً من النوع الأصيل المُحق الفاعل وليس القائل وحسب.
ما أشبهَهُ بالجسر الذي يربطُ بين ضفّتين وعرتين ، ذاك الجسر الشامخ الثقافي الذي رَبَط بين قَرونٍ كثُر بها التجّهيل و الظلم و بين قرنٍ كان أقل هوناً على الأردنيين، أطاحَ بالحبرِ الذي في قلمه على أرض الصفحة كما يطرَحُ الجندي بالعدو أرض الميدان في المعركة ، فكان ثابت الخطى و لم يخفف تسارعه يوماً في تجسيد الهوية و الكلمة الأردنية و تأريخها فكتب ما زاد عن 40 مؤلفاً ، منها ما درس منهُ الأردنيون من منهاجٍ مدرسيٍ مقرر في بداية القرن الماضي في مدارسهم فكان خير جندي مجهول من جنودٌ مجهولين كثر ، أيقظوا الأردن القديم العظيم من غفوته كعودة عنقاء نفضت عنها غبار قرون التجهيل .
- نشأة الحَبَر الأردني
ولد مَعلَمة التراث الأردني روكس بن زائد بن سليمان العزيزي في مادبا في السابع عشر من شهر أغسطس من عام 1903 ميلادية ، لقبيلة العزيزات الأردنية التي تعود بنسبها إلى الغساسنة ، سُمي بروكس تيمناً بعيد القديس ” روش ” الذي تصادف وقوعه في يوم ولادته ، و هو اسم لاتيني يعني المَلِك، بينما يُقال أن تسمية العزيزات تعود إلى سدانة وعبادة العُزّى .
عُمّد روكس في الرابع و العشرين من ذات شهر ولادته، وأمه هي زعول بنت حنا الشويحات و كان هو السابع بين أخوته على أربعة بنات وخمس من الذكور .
كان لروكس طفولة حازمة و حميمة بنفس الوقت ، إذ أغدق عليه والده جل الاهتمام و الرعاية فكان قد اودعه حين أصاب القرية مرض ولمس أمه بعضاً منه إلى مرضعة من القيسية و إسمها غالية و بقي عندها ثلاثين شهراً و كان ذا عقلية متحضرة متعلمة فقد درس والده في مدرسة دير اللاتين في الكرك كما كانت كذلك أمه ؛ إلا أنه كان صارماً و متديناً و هذا ما عكس على روكس وعلى شخصيته بعض من الصلابة والالتزام والجَلد ، وعند إتمامه السادسة من العمر في 1909 ألحقه والده بمدرسة الدير إلا أنه لم يستطع إكمال تعليمه بسبب وضع الاحتلال العثماني يده على كنيسة مادبا و تحويلها إلى مخزن حبوب و تحوّلت مدرسة الدير إلى ملكيتهم فأوقف تعليمه عام 1914، و عادت المدرسة للتدريس بعد الثورة العربية الكبرى في عام 1918 م .
لم يكتفِ روكس بما كان يعطيه إياه أستاذه حنا بونفيل في المدرسة، فقد حذا حذو والده في الاهتمام بالعلم و الثقافة فكان يتصفح ما لدى والده من كتب في مكتبته الصغيرة و بسبب ذلك حفظ كتاب كليلة ودمنة للجاحظ وهو في عمر الخامسة عشر .
كان روكس بن زائد العزيزي كوالده وكباقي الأردنيين ، لم ينظر يوماً إلى دينه و مذهبه بتعصب ولم يصنف الأردنيين يوماً على هذا الأساس ، فقد درس القرآن والانجيل ومزامير داود والتوراة حتى وحفظ منها وذلك ما دفعه إلى كتابة كتاب ” علي بن أبي طالب أسد الإسلام و قديسه ” فيما بعد .
- روكس طالباً
كان لروكس نجابة وفطنة و إلتزام بالنظام في بيئة مدرسية لا تختلف كثيراً عن البيئات المدرسية اليوم في أطراف العاصمة وفي المحافظات ، فلم يأفل نور روكس في الإبداع والاندفاع للعظمة بل و كانت بيئته الأردنية سبباُ من أسباب تشكيله .
يذكر العزيزي عن طفولته و دراسته ، فيقول أنه رفض المشهد القاسي للطلبة عندما صحبه والده إلى أٌقرب مدرسة في المنطقة حينها، و لم يكمل يومه الأول حتى هرب قائلاً : “ما ودي هالمدرسة من عين أصلها ” ، وعاش العزيزي تفاصيل البيئة المدرسية الأردنية بانضباطها و شقاوتها و جَلَدها ، فكان شاهداً على سرقة عصا المعلم الصارم بل و دهن يده بدم “الجراذين” (جمع جرذون) حتى لا يشعر بألم ضربة العصا و هذه خرافة يتداولها الأطفال الأردنيين حتى يومنا هذا، ولم يخفِ مقته لصرامة المدير حتى خارج أسوار وأوقات المدرسة.
- روكس معلّماً
في عام 1909 م بدأ الاحتلال العثماني باقتياد الشباب الصغار للتجنيد الإجباري من أجل حروبها مما جعل والد روكس يصغّر من عمره لفترة، من ثم بدأ روكس وظيفة التعليم في سن مبكرة ، إذ بدأ التدريس في 18-8-1918م أي عن عمر 15 سنة بالضبط و تعب فيها في بادئ الأمر فدرّس العربية وتاريخها و مبادئ اللغة الفرنسية في مدرسة اللاتين في مادبا لسبع سنوات ، وكانت مهنة التعليم حينها ذات تقدير اجتماعي عالٍ مما جعل المعلمين يتنافسون على العمل أكثر بالرغم من رواتبها القليلة والتي كانت تدفع لتسعة أشهر بالسنة على كل ثلاثة أشهر، و لم يكن التعليم مرحلياً إذ كان يقسم الأطفال على مرحلتين ؛ من عمر السادسة إلى الثانية عشر، ومن الثانية عشر إلى عمر السادسة عشر عاماً ، وحين تحررت المملكة من الاحتلال العثماني كان بها ثلاث مدارس : هي السلط ، وعجلون ، و معان بالإضافة إلى مدرسة شبه إعدادية في الكرك .
و كانت هذه المرحلة –أي تدريسه في مادبا 1918-1925 – بداية إهتمام روكس في الكتابة أيضاً فكان يكتب في عدة صحف منها (رقيب صهيون) في القدس ، كما كان مهتماً في القانون لدرجة أنه خوّل للتمثيل أمام المحكمة كمحامي .
ومن ثم قام روكس بالتدريس في مدرسة السلط لسبع سنوات أيضاً و من ثم انتقل إلى مدرسة اللاتين في 1932 لسنتين فمدرسة عجلون لثلاث سنوات و أسس فيها ما أشبه بنهضة مسرحية أردنية في نادي عكاظ الذي أسسه ومن ثم عاد إلى عمان حتى عام 1942 ، متنقلاً يعلم أبناء هذا الوطن ما يستحقونه من علم حُجب عن ذويهم لأربعة قرون، من محافظة إلى محافظة و من مدينة إلى مدينة .
انتقل بعدها روكس للتعليم في كلية تراسنطة في القدس و ظل فيها حتى حلّت النكبة عام 1948 ، فارتحل عائداً إلى الأردن حزيناً، وكان قد نُهب منزله ومخطوطاته هناك، وأعاد كتابة بعضها فيما بعد .
انتقل روكس للتدريس مع انتقال كلية تراسنطة إلى عمان فبقي ينهل على أبناء الوطن من عِلمه حتى عام 1956، وفي نفس العام نال دبلوماً في الصحافة من جامعة القاهرة ، من ثم انتقل إلى عدة مدارس في الأردن يُعلّم أبناءه حتى عام 1974 بذل أغلبها في تعليم أبناء الوطن و فضّل ذلك عن باقي المِهن التي عرضت عليه، كرئيس لبلدية مادبا مثلاً .
تأثر العزيزي في فترة تدريسه بالعديد من الاشخاص مثل الأب انستانس الكرملي و ميخائيل نعيمة وسلامة موسى و رشيد خوري وأحمد زكي أبو شادي ، مما جعله يبذل جهداً أكبر في تسليح الأردنيين بالثقافة و العلم فكان يؤسس الفرق المسرحية خلال تواجده في مدرسة دير اللاتين ، وعمل في تأليف المناهج خلال تواجده في مدرسة عجلون، وكان يستخدم آلة “الستانسل stencil ” أو المرسام و هي ورق او الواح رقيقة مفرّغة بالنص المراد طباعته لندرة الكتب المدرسية حينها وصعوبة طباعتها وكان ذلك كله جهد فردي منه ، كما كان يحرص على تعليم الطلاب القواعد والتاريخ والجغرافيا وبذل اهتماماً في الأنشطة اللامنهجية لما اعتبره جزءاً مهماً في المسيرة التعليمية فكان يسيّر الرحلات المدرسية العلمية و يحرص على التمثيل والمحاضرات والمسرح وبعض الأشغال اليدوية .
- زواجه
” الذي من الله عليه بزوجة صالحة فهو إنسان سعيد ، و كذا كانت أم عادل “
تزوج روكس من آنسة فاضلة تدعى هيلانة سليم مرار في 23-3-1923 ميلادية عن عمر عشرين عاماً ، وكان زواجهم قد تم بعد معاناة من قبول الأسرتين لعلاقة والدها السيئة مع والد روكس حتى أنه عندما لم يقدر على منع زواجها منه، خيّرها بين روكس و بين الحياة مع أسرتها ولها ما تريد من الحلي و الملابس ! فاختارت روكس بالخمسين ليرة العثمانية التي استدانها حتى بل وسافرت معه من القدس إلى مأدبا ، وكانت لها أعظم الأثر في معاونته و مساعدته، هذا الأثر الكبير الذي دفعه لأن يكتب فيها المرثية المؤلمة في “جمد الدمع”؛ فقال منها في زوجته :
عرفتك ما أحزنتي قلبي لحظة فما بالك تنسين في لحظة عهدي
نعيت حياتي فأنعمي عند ربنا فقلبي دفين في ضريحك عن عمد
وداعاً إلى أن نلتقي عند ربنا أعاتبك إن كان في العتب ما يجدي
فالمطلع على مذكراته ، سيلمس درجة حب المؤرخ و الأديب العظيم روكس العزيزي لزوجته و مدى تقديره لها ، ولعله ما ورثه عن والده الذي كان الأميز بين رجال مأدبا في تعامله مع أمه –أي والدة روكس- . و لم يقف تميز بيئته هنا بل إن والدته كان أيضاً طيبة و دمثة و لطيفة العِشرة مع زوجة روكس و تعطف عليها كثيراً.
أنجب روكس من الفاضلة هيلانة ، خمسة بنات و ثلاثة أبناء ، و رحلت في 29-1-1981 و بقي مخلصاً لها، فأخوها كان عرض على روكس بعد 40 يوماً على وفاتها أن يتزوج لحاجته إلى معين فقال روكس : “البيت الذي أقمت به معها لا أسمح أن تدخله زوجةً غيرها” و كان ذلك .
و من الجدير بالذكر ، نظرة روكس ين زائد العزيزي للمرأة، ففي معرض مقالته (الاستعمار يعمل لتأخير المرأة العربية) [1] قائلا : ” يخطئ من يظن أن الاستعمار لم يسعَ إلى تأخير نهضة المرأة العربية . و دليلنا على ذلك أن الانجليز عندما استولوا على الديار المصرية سنة 1882م كان أوّل ما فعلوه أنهم أقفلوا مدارس البنات في كل القُطر المصري مدعين أنهم فعلوا ذلك من أجل الاقتصاد، وأبقوا في مصر كلها مدرسة ابتدائية واحدة للبنات هي المدرسة السّنّيّة ترأسها ناظرة إنجليزية . لأنهم يعلمون أن نهضة المرأة هي أساس النهضة الاجتماعية ، وذلك لأن المرأة هي الأصل ، وهي أساس الأسرة ، ومربية الأجيال ” .
كما كتب عما دار في العراق عندما أبدى الملك فيصل الأول حرصه على تعليم المرأة و انتقد العقليات الجامدة التي كانت تقف ضد ذلك .
فنرى أن زائد العزيزي ورّث تحضره إلى ابنه روكس و ابنه ورّثه إلى أسطره، دليلاً على أن التربية و البيئة كانت خير صانع لما تحمله الأكتاف من أفكار و عقائد ، زائد العزيزي نفسه إبن البيئة الأردنية، ذاتها التي كان ملكها الاردني النبطي الحارث الرابع مشاركاً لزوجته الملكة شقيلات عملة الأردنيين الانباط التي جمعت صورتيهما، ذاتها التي حرص العزيزي على ذكر المنزلة الرفيعة عند البدوي لأخته التي قد تصل إلى تلبية “النخوة” عند الشدة بإسمها في الجزء الثاني من معلمة التراث الأردني .
ذاته ذات الأب الذي أبرق إلى إبنه روكس في إحدى فصول الشتاء معلِماً إياه بمرضه، فلما حضر روكس من عجلون إلى مأدبا وجده يقول : ” لا قيمة للمستشفى إذا كنت اليوم غائباً، وأنا اليوم أشعر إني تحسنت لرؤيتك” ! و كان والده قد رحل إلى جوار ربه بعد هذا الموقف بشهر واحد و روكس وعائلته حينها في عجلون .
- العزيزي و التاريخ الأردني
في يوم من الأيام وكان يوماً ماطراً وأثناء تدريس العزيزي في مدرسة دير اللاتين ، في عام 1922 تحديداً ، مر بأربع جُباة فاسدين يتعلقون بقوّة برجل من بني حميدة و يتناقلوه بينهم و معه “شوال” من الفحم وكان كل واحد منهم يطلب منه نوعاً من الضريبة .
فلما رأى العزيزي قال : ( أنا بوجهك يا النشمي ) ، فقال : (وصلت) ، فدفع العزيزي كل ما طلبوه ، بل و اشترى منه الشوال وأخذه معه إلى البيت وأبقاه عنده تلك الليلة، و في الصباح شكر “الحميدي” روكس و نظم فيه مديحاً من خمسة عشر بيتا ً ، منها :
حياك ربّي كل ما حل طرياك ولد الأعزيزي يا عقيد النشامى
لو أن نسينا أرواحنا ما نسيناك و أعيالنا تفداك يا أبا اليتامى
فكّيتني من سرية دون ما انصاك هذا الكرم والطيب لن فان عامَى
فكان هذا الموقف هو الدافع للعزيزي لتأريخ تاريخ هذا الشعب و محركه ، حيث قال حينها ” هذا شعب يستحق الدراسة ، فهذا العرفان والشعور المرهف الذي جعل هذا الرجل ينظم قصيدة مدح لأمر جدير بالاهتمام ” ، و لم ينسَ العزيزي هذا الموقف و كتب فيه في جريدة الأحوال اللبنانية مقالاً بعنوان (انتصاراً لفتى من قبيلة بني حميدة) .
منذ ذلك التاريخ التجأ العزيزي لدراسة البادية الأردنية ، فظل يتجول بين عام 1922 و 1938 ، و كان يكتب كل ما تعلق بحياتهم بأوراق كثيرة بلا ترتيب، وكان يَسعَد كلما رأى أكوام الدفاتر .
كانت معجزته الكبرى ، كتاب (معلمة التراث الأردني) كطوب لم يبنى فيه بعد، متناثر هنا وهناك تناول ما أحاطت به جدران الأردنيين و أوتادهم من حياة، حتى اتصل به العلّامة الأب أنستاس ماري الكرملي و دفعه إلى جمع قاموس لما كان يورد على اللسان الأردني من لهجة جُملةً و تفصيلا، ووعد الأب بطباعته .
فجمع العزيزي كل ما قدر عليه من كتابة خلال الـ 16 عاماً وأضاف إليها في أربعة مجلدات تزيد عن 1200 صفحة تزن ذهباً، لكن قصور المبلغ المرصّد بما كان بيد الأب الكرملي للقاموس جعل العزيزي يلتجئ لوزارة الثقافة حينها وكان معن أبو نوار حينها وزيراً لها إلا أن الوزارة أيضاً لم تكن ذات حيلة حينها لطباعة هكذا كتاب .
لم يقف العزيزي عند هذا الحد، فطلب منالمشير البطل حابس باشا المجالي أن ينجده بمطبعة القوات المسلحة فلم يُقصّر وكان ذلك فوراً ، كان هذا الكتاب في غاية الأهمية ، للأردنيين وغيرهم ، فبعدها بفترة ليست بالبعيدة كان الكتاب قد اعتمد في جامعة يوتا الأمريكية وأقر في جامعة باث البريطانية وجامعة السوربون الفرنسية.
- العزيزي وايليا ابو ماضي
من المواقف التي تُجهَل عن روكس ودوره في حفظ ما انتجه الأردنيون هو في سجاله الطويل مع ايليا أبو ماضي ، حيث أن العلّامة كان قد كتب فصلاً في كتابه و أذيع في منتصف الخمسينات تحدث فيه عن البادية الاردنية في الأدب المعاصر ومن بين هذه الأشعار هي قصيدة لأردني يدعى علي الرميثي وقال أنها أصل لقصيدة مشهورة لإيليا أبو ماضي و إسمها (الطين).
و هذا ما أدى لإشتعال حرب إعلامية بين روكس الذي حاول إثبات الابتكار الأردني وبين إيليا أبو ماضي الذي لم يفوت فرصة لقذف العزيزي والأردنيين بأبشع الصفات والألفاظ بل و أنكر التاريخ الأردني ومقدرة الأردنيين على كتابة قصيدةٍ مثل ما ادعى أنه كتبه، والحقيقة أن علي الرميثي معروف في الأوساط الأردنية ، خاصةً في البادية وهو علي الرميثي الخريصي من الفدعان من عنزة ويعرف في بعض الأوساط بمحمد الدسم الرميثي وقصته مع ابن عمه سالم متداولة، فعلي الرميثي عاش في حدود عام 1880 ميلادية، متخصّراً زنار الجوع و الفقر المدقع، لكن لم يمنعه ذلك من أن يتحزّم بسيق عزته وكرامته و نبله .
أما قصيدته فقصتها أن سالم في إحدى الغزوات قتلت فرسه وأصيب هو وسقط ، فعجل عليه عليّ بفرسه وأنجده فأصبح مديناً له بحكم ما فعله، إلى أن أحب الرجلين فتاةً واحدة وخُيِّرت بينهما واختارت علياً فكره الأمر الثاني . و بقيا على هذه الحال حتى توفيت الفتاة وذهب علي الرميثي إلى ابن عمه فلم يقم بواجب الضيف كما المفروض و التفت بوجهه عنه.
فقال في مطلع قصيدته الشهيرة :
يا اخوي ما احنا فحمة ما بها سنى و لا انت شمساً تلهب الدو ضيا
و تعني : يا اخي لسنا فحمة خالية من الدخان والنار ،ولا انت شمس تجعل الفضاء ملتهباً بضيائها وحرارتها .
وينسخ أبو ماضي :
يا أخي لا تمل بوجهك عني ما أنا فحمة ولا أنت فرقد
ويقول في موضع اخر :
لصار ما تاكل ذهب يوم تبلى يا خوي وش نفع الذهب لو تقناه
وينسخ أبو ماضي :
أنتَ لا تأكل النضارَ إذا جعتَ ولا تشرب الجمان المنضّدْ
ولا نريد أن نخوض في القصيدة أكثر ، فهذا ليس موضع كلامه و القصيدتان معروفتان و للكل حرية المقارنة، إلا أن ما يهمنا في هذا الكلام هو الالتفات إلى واحدة من أكبر المعارك التي خاضها روكس لحفظ الإرث الأردني، وهذا ما يفعله المؤرخ و الأديب الحق المنتمي لوطنه ، إذ أن أبي ماضي لم يُنكر فقط ؛ بل وسرق وأصر على ملكيته للقصيدة بالرغم من نهر الأدباء و المثقفين لأبي إيليا، للهجته مع الأردنيين و لسرقته الأدبية أيضاً .
ومن الجدير بالذكر أنه منذ بداية عهد العزيزي في التعليم كتابته الملاحظات حول الكتب المعتمدة في التدريس، فأفاد و أفاض و ظل ما نهل به في الكتب المدرسية إلى آخر عهده، و كان لاستقراره في عمّان الدافع لإنتاج كتب كثيرة .
أما في معرض ما قاله في سبب إهتمامه في الإرث الاردني و البادية تحديداً فيقول : ” يرى الكثيرون أن البادية مباءة الجهل وموئل الحماقة، ويعتقدون أن البادية لا تنتج إلا فكراً قاحلاً ، وعاطفة جامدة، وقد فات هؤلاء المعتقدين أن أبناء البادية على شظف عيشهم ينعمون بذكاء فطري يقف إزاءه ابن الحضارة دهشاَ – كيف لا و حضارة الأنباط أعجوبة حضارية بكل ما أنتجت و ما سبقهم من حضارة مؤاب و أدوم – [2]. و لبعضهم عاطفة عميقة لا ندرك نحن أبناء المدينة عمقها . ولست في سبيل الاستشهاد و ذكر الأسماء لأن ما أزفه في مطاوي كتابي هذا –فريسة أبي ماضي- سيكون البرهان على صدق ما أقول ” .
و يزيد فيقول : ” قد يرى الناس غير ما نرى ، ونحن لا نجادلهم ، لأننا عرفنا بالخبرة و التجربة أن شر ما في الحياة الجدال العقيم الذي لا تقنعه حجة ولا يقبل البرهان “ .
و لعل ما نعيشه اليوم من تعاملات اجتماعية ما اعتبره العزيزي كنزاً إرثياً تاريخياً، فالمملكة طوال عهد الاحتلال العثماني عانت من الظلم والتجهيل والتهميش الشيء الكثير ، ما أدى إلى ظن الكثيرين أن الاردن لم يملك تاريخاً وأن ولادة الأردن كانت من بداية الاستقلال الاول في 1918 بعد انتصار الثورة العربية الكبرى وتحريرها للأردنيين من حكم المحتل العثماني، وهنا القول بأن الاردنيين لم يستطيعوا الكتابة و التأريخ طوال هذه القرون، فالعزيزي اعتمد على الروايات الشفوية المحلية والاخباريين الذين توافرت فيهم الخبرة و المعرفة فلم يفوّت فرصة المشاركة و الملاحظة المتأنية من معاملات يومية و معايشة للناس و الجيران وزيارة الاحياء الشعبية ومشاركة الفلاحين المواسم الزراعية ومسامرة البدو وكان يضفي عليها تقويمه الذاتي من خلال رؤية نقدية –رؤية العزيزي النقدية كانت معروفة و مشهورة في القرن الماضي بين الأدباء العرب- و مناقشة اختلافات الرأي والروايات حول الوقائع .
” جائت الثورة العربية الكبرى لترفع رؤوسنا و تعزز مكانتنا ، جيش نعتز به ، أمن نفتخر فيه ، جامعات و مدارس ثانوية ، … كانت البلاد في جهالة عمياء … تبدل كل شيء ، و الحمد لله ” . (الرأي 6/3/1998)
- من مذكرات روكس و مواقف عصره
روكس و الاحتلال العثماني
لقد عاشر العزيزي الاحتلال العثماني و يذكر ما عاث به في البلاد من فساد، فنراه يذكر الجباة التي ترسلهم الحكومة العثمانية بصورة دورية ، تستولي على 12.5% – 50% من محصول الأردنيين، إلا ما إذا رشي أحد الجباة .
و كانت شدة الجباية عندما اشتعلت الحرب الكونية الأولى -كما اعتاد اصطلاحها العزيزي- ، فراح رجال الحكومة العثمانية ينهبون المتاجر ووضعت الدولة يدها على بيادر[3] الناس ، فيذكر العزيزي أحد الأيام كمثال على ما عاشه الأردنيون تحت هذا الاحتلال، فيذكر أنه في يوم واحد استولى الجيش العثماني من عائلته على حمار وفرس وما تم انتاجه من السمن بالإضافة إلى خمسة آلاف كيلو من الحنطة وباتوا في بيتهم وضربوا والده .
و يذكر أن المجاعة والأمراض تفشت في البلاد ، وكان الهاربون من فلسطين إثر الحرب يبيتون في الكهوف و يفدون على أهل مادبا، ويذكر أيضاً أن الحكومة العثمانية لجأت للتسبب في الفوضى من أجل اخماد أي توجه شعبي، بل ووصلت في الظلم إلى أن مدير المدرسة عندما كان يحاول مع أهل المنطقة بناء مستشفى في مادبا ـ اتهموه بالعمالة لفرنسا لما كان لفرنسا من امتيازات على حماية المسيحيين ولو انها انتهت مع بداية الحرب !
و عند استيلاء العثمانيين على المدرسة التي كان يدرس فيها روكس، كان يُرغم على إلقاء الخطب الموالية للاحتلال العثماني وكان عليه تدريس طلاب أصغرهم أكبر منه بخمس سنين لما أصبح في المدرسة من إهمال و فساد .
و يذكر أنه حين انهزم العثمانيون أمام الجيش البريطاني في مصر في واقعة ترعة السويس ، أقامت المدرسة احتفالاً “وطنياً” ! و قدموا روكس للخطابة كالعادة و كان حينها من الملزم ان يقول جمل مثل : ” باد شاهم جوق باشا ” أي فليعش ملكي كثيراً وجملة أخرى يختم بها و هي ” فلتسقط فرنسا وانجلترا و كل حليفاتها ” . أما حينها فقد اشتدّ بروكس الغضب لما أظهروه من كذب علني وختم الخطاب بـ : ” لتسقط الدولة العلية العثمانية و جميع حلفائها [4] ” ، و كان حينها روكس في خطر الترحيل هو وعائلته إلى أنقرة بالإضافة إلى استيلاء الحكومة على كامل ممتلكاتهم ، إلا أن الامر سوّي بخمس ليرات ذهبية عثمانية و تنكتين من السمن !
- روكس و التأليف
شهدت حياة روكس استقراراً نسبياً بعد استقرار أموره الوظيفية وحال البلاد حينها , خصوصاً بعد الثلاثينات حيث بذل 56 سنة من حياته في سلك التعليم، مردوفةً بالكم الكبير من التأليف و الجمع والتوثيق، كما كان كاتباً صحفياً فكتب في جريدة الأحوال والعرفان اللبنانية و من ثم صوت الشعب والكرمل والجهاد الفلسطينية و أبولو في مصر وعدد غير يسير في مواضع أخرى .
كانت أول مؤلفاته البحثية عام 1956 و هو كتاب فريسة أبي ماضي الذي ذكرنا منه جزءاً يسيراً، لحقه كتاب مادبا و ضواحيها الذي اشترك فيه مع الأب جورج سابا، وأعطى لمادبا العظيمة حقها فيه فأفاد وزاد .
و ثالثهما كان بحثاً بعنوان (الشعر الشعبي البدوي) ونشر في مجلة الفنون الشعبية الفصلية على ثلاثة أقسام .
أما أكبر هذا الكتب حجماً و هيبةً وأهمية هو (قاموس العادات و اللهجات والأوابد الأردنية) عام 1974 ، وفيه أنجد الأبناء بحبل الأجداد وصنع أداة تربط بين الأردنيين وأرضهم حقا في عهد احتاج فيه الأردنيين منهم من ينحت للكلمة مكانها، ووصيفه كان كتاب المعلمة آنف الذكر، سجل الهوية الأردنية، فكتاب المعلمة لم يترك شيئاً من حياة الأردنيين إلا و تطرق له، فلم يجتزل ولم يختصر ولم يسهب الاسهاب الممل، كتاب سهل القراءة كثير الأفكار سهل الاستخراج.
لحق هذه المجلدات الذهبية العظيمة، عدة كتب تحول بعضها إلى معالم أردنية حولها الاعلام إلى مواد، ككتاب نمر العدوان شاعر الحب و الوفاء حياته و شعره، و فيه توثيق لحياة الشاعر المشهور من لب بيته حيث اعتمد العزيزي على الثقات من أحفاده المباشرين لتوثيق حياته.
تبعه كتاب (الشرارات من هم تصحيح لأوهام التاريخ) حيث قضى مكان المحامي لقضية لم تكشف عنها مصادر كثر، تبعه كتاب لتوثيق الأعلام في الأردن بعنوان (أحسن ما كتب الأرادنة من سنة 1923-1946) .
” فقد ترك لنا المرحوم أسفاراً خالدة توثق للهوية الوطنية الأردنية، وتشكّل ذاكرة برسم القراءة لكل الذين أصيبوا بفقد الذاكرة ، ورأوا الوطن خيمة في معب ، أما الذين لم يفقدوا الذاكرة ، فإن لهم في هذه الأسفار تعاليل وأسمار ومراق إلى صفاء التاريخ ووضوحه في عتمة أيامهم. “[5]
- وفاته
رحل العلّامة بغير وقع أو صخب، فكان رحيله هادئاً في الواحد والعشرين من شهر ديسمبر بعام 2004 عن عمر يناهز قرابة الـ 95 عام، و كان قد أوصى بمكتبته إلى مجمع اللغة العربية الأردني وأقامت له بلدية مادبا و العديد من الجهات عزاءاً و نعياً سنوياً ، لم ينقطع التأبين عن روكس عن الأردنيين الذين عرفوه وعرفوا قلمه وما سطره ، أمّا روكس ؛ فحاله حال كثيرٌ من الأردنيين، جندي مجهول اخر .
المراجع و المصادر :
- شهاب ، د. أسامة (2009) , العلامة روكس بن زائد العزيزي (1903-2004) و جهوده في توثيق اعلام الأدب و الفكر ، ج3/4 ، عمان : الجامعة الأردنية.
- شهاب ، د. أسامة (2012)، من مذكرات روكس بن زائد العزيزي : رحلة الحياة ، أيام عشناها ، مجلد 3 ، عمان : الجامعة الأردنية .
- النوايسة ، حكمت (2008) ، روكس بن زائد العزيزي و تراثنا – دوره في توثيق الهوية الوطنية الأردنية . جذور الثقافة الوطنية الأردنية ، وثائق المؤتمر الثقافي الرابع ، ص 481-488 عمان .
[1] جريدة الرأي ، 17/7/1996
[2] إضافة و جملة معترضة من كاتب المقالة و ليست للعزيزي
[3] مفردها بيدر ، و هو مكان يُجمع به ما تم حصده
[4] كان الألمان الحليف الأول للعثمانيين في الحرب العالمية الأولى و هم من اعتدوا أصلاً على الجيش الروسي في البحر الأسود عن طريق سفن عثمانية و افتعلوا الحرب و جروا ساحة المعركة من أوروبا إلى هنا حتى شملت البلاد .
[5] – حكمت النوايسة 2008