Latest articles
November 21, 2024
November 21, 2024
November 21, 2024
كانت الكرك قد تحررت منذ فترة من الوجود الفرنجي في المنطقة، وعادت الأمور إلى مسارها الطبيعي فعادت طرق القوافل بالامتلاء وأعيد ترميم قلعتها الشامخة، فكان لعودة النماء في المدينة أن يشهد على ميلاد أحد أهم علماء الجراحة الذي خلدته سطور الكتب وكل من نهل من علمه فيما بعد وبنى عليه مأوى للناس يزيل آلامهم .
كان ذاك العظيم هو أبو الفرج أمين الدولة موفق الدين بن يعقوب بن اسحق بن القف الكركي المعروف بابن القف الكركي، ولد يوم السبت بتاريخ 22 من اب 1233 ميلادية في زمن الملك الأيوبي الناصر صلاح الدين داود وانتقل مع والده عندما رُقي إلى منصب كاتب قضائي في المحكمة العليا إلى صرخد (صلخد) لعمل والده في ديوان البر هناك ، كان والده طيب السمعة و المجلس و صديق للطبيب المشهور حينذاك ابن أبي اصيبعة الذي قال فيه : ” كان والده موفق الدين صديقاً لي مستمراً في تأكيد مودته، حافطاً لها طول أيامه ومدته. تستحلي الأنفاس مجالسته وتستحلي عرائس مؤانسته، ألمعي أوانه وأصمعي زمانه ، جيد الحفظ للأشعار، علامة في نقل التواريخ والاخبار ….. ” [1] .
و في صرخد كان شباب ابن القف الكركي ، فنهل من العلم و حقق الكثير من حفظ و فهم و تحقيق و شرح لكل مصادر الطب حينها على يد معلمه، كما أحاط بمؤلفات أبقراط و الرازي و جالينوس و ابن سينا و المجوسي و الزهراوي غيره و من الطب و أساليبه و ادابه و منهجياته ، توفي معلمه الطبيب ابن ابي اصيبعة عام 668 هجرية بعد ان ترك كتاباً قيماً هو عيون الانباء في طبقات الأطباء و ذكر بها تلميذه الكركي .
انتقل ابن القف الكركي مع والده مرة أخرى إلى دمشق، فكان قريباً من بيمرستان النوري الكبير و القيمري و باب البريد ، ودرس هناك عن جهابذة الطب حينها ، كـشمس الدين الخسروشاهي و علي عز الدين الغنوي و نجم الدين بن المنفاخ ، و علي موفق الدين السامري , و درس أيضاً كتاب إقليدس على يد مؤيد الدين العرضي ، فأصبح ممارساً للطب عن عمر 29 عاماً أي في عام 1262 ميلادية و عيّن طبيبأ في الجيش فرقّي في الرتب و أصبح بعدها مدرساً لطلاب الطب حينها [2] .
قالوا عنه : ” كان فاضلاً، ماهراً، بارعاً في الصناعة الطبية، ظهرت نجابته من صغره
وكان حسن السمت، كثير الصمت، وافر الذكاء عالم بالطب والجراحة. ” الزركلي[3]
عيّن أبو القف الكركي طبيباً في قلعة عجلون بعد أن كان هجوم التتار هو قضية المنطقة حينها فتمركز هناك و كتب كتاباً أسماه الشافي في الطب في عامي 1271 و 1272 ميلادية ، و كانت الجراحة هي المحور الرئيسي لممارسة ابن القف ، لكنه اهتم أيضا بالجوانب الأخرى للطب ، بما في ذلك علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء وعلم الأجنة وعلم السموم والطب السريري والطب الوقائي [4] كما أن الكتاب تألف في أول كتابة له من 12 فصلاً حول مجموعة واسعة من القضايا الطبية. يعتبر هذا الكتاب من أهم مساهمات ابن القف في الطب في عصره ، و محفوظ الان في الفاتيكان و المتحف البريطاني ، وبعدها ألّف أيضاً :
- جامع العرض في حفظ الصحة و المرض في عام 1274ميلادية ، وكتب فيه الكثير و أجتهد في علم الأجنة فوضع نظريته على نشأة الجنين والمراحل التي يمر بها في نموه ، لا سيما ظهور كتلة رغوية مثل اليوم السادس للإخصاب ، وعلى التكوين المبكر للجنين بعد اليوم الثاني عشر. وتحدث عن كيفية ظهور الرأس بوضوح منفصل عن الأكتاف وأن الدماغ هو أول عضو رئيسي يتطور [5] ، الكتاب مؤلف من 60 فصلاً محفوظة حالياً في المتحف البريطاني .
- الكليات من كتاب القانون لإبن سينا في عام 1278 ميلادية في ست مجلدات ، وموجود الوقت الحالي في مكتبة الأسد بدمشق.
- كتاب عمدة الإصلاح في عمل صناعة الجراح (يُعرف بالعمدة في صناعة الجراحة أيضاً) في عام 1281م
- كتاب الأصول في شرح الفصول في عام 1283 والذي تم العثور عليه في القاهرة واسطنبول وباريس ، وطبع في الإسكندرية في عام 1902 .
و عدة كتب أخرى لم تتم أو فقدت .
كانت مساهمة الجراح الأردني بن القف الكركي في الطب عظيمة ، إذ أن كتابه العمدة هو أول كتاب مرجعي للجراحة و الجراحين ونشر هذا الكتاب في الهند واستخدمه أطباء هنديون في بعض نظرياتهم وكتبهم الطبية و طبع هناك في وقت ليس بالبعيد ! فقد طبع في عام 1937 ميلادية و في الاردن في التسعينات . [6]
يعرف العمدة على أنه أشهر دليل له ، و يتألف الكتاب من 20 كتاباً وتغطي مواضيع جراحية مختلفة باستثناء الجراحة العينية ، التي يعتبرها ابن القف تخصصاً مستقلاً. و حاول سد الثغرات في العلوم الطبية في وقته من خلال كتابة هذا الكتاب .وهذا الكتاب هو أول كتاب من القرون الوسطى (من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر الميلادي) الذي كتب بالعربية وخصص فقط للجراحة. لفترة طويلة ، ظلت هذه الرسالة بمثابة كتاب دراسي للجراحة في الشرق الأدنى [7] ، و برز في وقت كان هجوم التتار يفرض على المنطقة أن تكون أحوج ما إليه إلى المبدعين في مجال الطب ، فكان منيراً محيياً للطب في الوقت الذي بدأ السواد يزحف إلى المنطقة .
قد تكون المرة الأولى في تاريخ الطب ، أن يقترح طبيب استخدام وحدات قياس متماثلة في الممارسة الطبية والصيدلانية . كما أن العالم والجرّاح الأردني ابن القف هو أول شخصية في تاريخ الطب تقول بوجود الشعيرات الدموية و تفترض أن الأوعية الدموية البشرية عبارة عن نظام وعائي مغلق داخل الجسم .فلعدة قرون قبل ابن القف ، كان الاعتقاد السائد هو أن الشرايين والأوردة تنقل الدم إلى الأعضاء الطرفية حيث يتم استهلاكه و ينتج دما جديدا مركزياً ليحل محل الدم الأول [8] ، كما شرح العالم الاردني ابن القف الكركي وظيفة صمامات القلب وعددها في تأصيل لمساهمة الأردنيين في الحضارة الإنسانية.
ميّز ابن القف بين الآلام و كتب في التخدير ، و صنّف التخدير فقال بأن ” المخدر الأول (أي الحقيقي) هو معارضة أو عكس سبب الألم (على سبيل المثال الجرح) ، أما المخدر ، وهو ما يحتاجه الجراح في هذه الحالة. فإنه يخفف الألم بأربعة طرق: أولا ، من خلال البرودة فإنه يمنع قنوات الروح ويمنع الإحساس المؤلم من الاختراق ، لذلك يقلل من الشعور والألم يخفف أو يمنع . وثانيا ، من خلال البرودة أيضاً، لكنها في هذه الحالة فإنها تقوّي جوهر الروح وتمنعه من الاختراق والتداول. ثالثًا ، يحدث الشعور المؤلم من خلال وجود الحرارة والرطوبة ، ويكون المخدر باردًا وجافًا ، وبالتالي يعاديه. هذا يقلل من قوتها ويجعلها ضعيفة. رابعاً ، بما أن المخدر له تأثير سام ، فإن القوة الحسية تنخفض ، مما يؤدي إلى تقليل الألم “
وكانت الأدوية المستخدمة ، التي وصفت بأنها “مواد تحفز النوم وعدم الإحساس بها” ، في هذا الكتاب هي : الخس ، و القنب و الأفيون و غيرها .
” و الطريقة الأولى (طريقة تخفيف الألم الحقيقية) هي الطريقة المفيدة ولها نتيجة جيدة ، ولكن الطريقة الثانية يمكن أن تخفف الألم أو تستخدم في العلاج (الجراحي) ، لأنها تقلل الألم وتقلل من القوة الحيوية وتصلح المادة المؤلمة إلى العضو. لذا يجب على الجراح استخدامها فقط في مهام عظيمة ” . [9]
يُظنّ أن موضع سكنه في الكرك كان في وادي بن حماد، لوجود جبل هناك يحمل إسم جبل القف و فيه مغارات أثرية كانت اساساً لبيوت أقيمت هناك تُعرف اليوم بإسم “مغاير جحرا” .
توفي الجراح الطبيب العظيم ابن القف الكركي سنة 1286 ميلادية عن عمر يناهز الاثنين و خمسون عاماً تاركاً خلفه من العلم ما خفف من آلام عصره والعصر الذي تلاه و لعل جزءا كبيرا مما يُدرّس اليوم في هذه المجالات الطبية والجراحية هو بما أنجزه وابتكره وجرّبه لنعيش على التراكم الحضاري الذي تركه لنا الآباء الأردنيين الأوائل والأجداد.
المصادر و المراجع :
اللبدي ، د. عبد العزيز (1992) تاريخ الجراحة عند العرب ، دار الكرمل ، عمّان ، ص 302-313
العودات ، يعقوب (2009) القافلة المنسية من أعلام الأردن ، وزارة الثقافة ، عمّان ، ص 36-42
جبران ، د.نعمان محمود ، و حداد ، د. حنا بن جميل ( 2007) معجم المنسوبين الى الديار الأردنية في المصادر التراثية ، مؤسسة حمادة للنشر والتوزيع ، اربد ، ص 301-302 .
Behnam Dalfardi and Hassan Yarmohammadi , Ibn al-Quff (1233–1286 AD), a medieval Arab surgeon and physician , Journal of Medical Biography 24(1) , 36-37
[1] ابن أبي اصيبعة: عيون الانباء في طبقات الاطباء ، دار الحياة ، بيروت . ص 768 .
[2] Hamarneh S. Thirteenth century physician interprets connection between arteries and veins. Sudhoffs Archiv Fu¨r Geschichte der Medizin und der Naturwissenschaften 1962; 46: 17–26.
[3] الزركلي – الأعلام -ج 8 / ص 196
[4] Yarmohammadi H, Dalfardi B, Kalantari Meibodi M, et al. Ibn al-Quff (1233–1286AD), genius theorist of the existence of capillaries. International Journal of Cardiology 2013; 168: e165
[5] S. K. Hamarneh, “Ibn Al-Quff”, op. cit.,pp. 238-239.
[6] Hamarneh SK. Ibn Al-Quff (al-Karaki). In: Selin H (ed.) Encyclopaedia of the history of science, technology, and medicine in non-western cultures. New York: SpringerVerlag New York Inc, 2008, pp.1095–1096.
[7] Savage-Smith E. The practice of surgery in Islamic lands: myth and reality. Social History of Medicine 2000; 13: 307–321.
[8] Azizi MH, Nayernouri T and Azizi F. A brief history of the discovery of the circulation of blood in the human body. Archives of Iranian Medicine 2008; 11: 345–350.
[9] Historical essay: An Arabic surgeon, Ibn al Quff’s (1232–1286) account on surgical pain relief Mohamad Said Maani Takrouri