Latest articles
December 22, 2024
December 22, 2024
December 22, 2024
تمهيد
حيثما ذُكر الأردنيون الغساسنة تُذكر مملكة أردنية حكمت من مقرها في البلقاء الأردنية ستة قرون من الرفاهية الحضارية والحرية والثقافة. يرتبط وجود المملكة الأردنية الغسانية ارتباطا وثيقا بتدينهم فقد تغلغلت المسيحية فيهم وكانوا مؤمنين بها إيمانا قويا دفعهم لمجابهة البيزنطيين والمناذرة والفرس مرارا. وبحسب الباحثين، فقد كانت المسيحية حجر أساس في السياسة الغسانية وفي الازدهار الحضاري الذي شهده الأردن وسائر المناطق التي كانت تحت النفوذ الغساني آنذاك.
في هذا البحث من سلسلة الأردنيون عبر التاريخ سنحيط بجوانب المسيحية الغسانية وكيف أثرت الكنيسة الغسانية على كنائس المشرق. عبر العرض التاريخي لأهم الأحداث الدينية والسياسية والعلاقات المتبادلة مع كنيستي القسطنطينية وأنطاكية.
المشهد العام للمذاهب المسيحية
امتاز القرن الأول الميلادي الذي يسمى تاريخيا “قرن الرسل – تلاميذ المسيح” بأنه القرن الذي انطلقت فيه المسيحية إلى العالم. انتشرت عن طريق الرسل والمبشرين في أنحاء كثيرة في الأردن وسوريا والعراق والحجاز ولكن سرعان ما تعرض أتباعها للاضطهاد على يد الأباطرة الرومان الذين كانوا يدينون بالوثنية.
بعد مرور قرنين ونصف تقريبا، اعتنق الإمبراطور الروماني قسطنطين المسيحية وتحولت الإمبراطورية بأكملها للدين المسيحي ونقلت العاصمة إلى مدينة بيزنطة الواقعة على البسفور وبدأ عهد جديد.
في ذات الوقت كانت المسيحية تتعدد مذاهبها. في المشرق وجدت العديد من المذاهب (الأريوسية [1]والنسطورية والمونوفيزية -اليعقوبية والأرثوذكسية الميافيزية) وما يعنينا منها هم المذاهب الثلاثة النسطورية والمونوفيزية والميافيزية فقد كان الأردنيون الغساسنة يدينون بالمونوفيزية، وكان أعداؤهم المناذرة يدينون بالنسطورية وكانت الإمبراطورية البيزنطية تدين بالأرثوذكسية الميافيزية.
لعبت هذه المذاهب دورا حاسما في العلاقات السياسية بين الدول والممالك آنذاك (المملكة الغسانية، مملكة الحيرة، الفرس الساسانيون، الإمبراطورية البيزنطية)، إذ لم يقتصر دور المسيحية ومذاهبها على تشكيل أنماط العلاقات السياسية بين تلك الدول إنما كانت محركا ثقافيا وحضاريا مهما يجب أن نتلمس آثاره التاريخية في الأردن.
المذهب الأول: النسطورية
كان البطريرك نسطور الذي عين عام 421 ميلادي في كنيسة أنطاكية يحمل أفكارا مختلفة. تتلخص أفكاره بالفصل التام بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية في شخص السيد المسيح ووفقا لآرائه فإن المسيح قد منح الصبغة الإلهية عندما تم تعميده وقد نزعت منه عندما تم صلبه ولهذا لا يقول عن السيدة مريم بأنها أم الرب بل يقول أم المسيح. عقد مجمع أفسس عام 431 وتم عزل نسطور عن منصبه الديني وتمت الدعوة لمحاربة النسطورية. (قاشا: 2005) هرب أتباع النسطورية من الأردن وسوريا خوفا من الاضطهاد إلى العراق وكانت تحت حكم الإمبراطورية الفارسية. لم يطل الأمر، حتى ازداد أتباع النسطورية واعتنقها المناذرة في مملكة الحيرة ليضاف سبب آخر للعداء بين المناذرة والأردنيين الغساسنة.
المذهب الثاني: المونوفيزية
المذهب المونوفيزي هو مذهب الأردنيين الغساسنة. وبحسب عقيدة هذا المذهب فإن للمسيح طبيعة واحدة هي طبيعة إلهية اختلطت بها الطبيعة البشرية. ووفقا للمصادر التاريخية فإن من ثبت هذا المذهب بين الغساسنة وسكان المشرق الآخرين هي الملكة الأردنية ماوية، التي خاضت حروبا ضد الإمبراطورية البيزنطية وأرّقت القادة الحربيين. وصفت الملكة ماوية بالملكة الخطيرة والشرسة التي قادت جيشها بنفسها ودمرت الثغور البيزنطية في الأردن وسوريا ومصر وفلسطين ولبنان.
اضطر البيزنطيون لعقد صلح مع الملكة ماوية وتلبية كافة شروطها. كان شرطها الأهم هو تولية القس يعقوب البرادعي على مسيحي القبائل الأردنية في بالبادية الشرقية.
ظل ذكر القس البرادعي والملكة ماوية حاضرا في الأدبيات الغسانية، وظلت شخصياتهما ملهمة للغساسنة كدافع للتمسك بمذهبهم الديني.
المذهب الثالث: الأرثوذكسية الميافيزية
أما المذهب الثالث فهو مذهب الميافيزية الذي دانت به الإمبراطورية البيزنطية. والميافيزية تعني أن للسيد المسيح طبيعتين إلهية وبشرية وهاتان الطبيعتان موجودتان معا في شخص المسيح.
لقد رسمت المذاهب الثلاث السابقة طبيعة العلاقات بين الغساسنة وكل من المناذرة والبيزنطيين. فأحيانا كانت تغلب الصراعات المذهبية وأحيانا أخرى تغلب المصالح الاقتصادية والسياسية. وما يمكن قوله بثقة بهذا الصدد، أن الأردنيين الغساسنة كانوا متمسكين بشدة بمذهبهم الديني وقد دعاهم هذا لتحدي الإمبراطورية البيزنطية عام 500 ميلادي وشن حملة عسكرية على الحامية البيزنطية في فلسطين. فيما بعد، اتخذ الأمر شكلا أكثر سلمية بين الأردنيين الغساسنة والبيزنطيين، فقد جنح البيزنطيون للسلم وأجبروا على احترام المذهب المسيحي الغساني. أما بالنسبة للمناذرة الذين اعتنقوا مذهب المسيحية النسطورية في أواخر القرن الرابع ميلادي تقريبا فقد كانوا طوال الستة قرون على عداء كبير مع الغساسنة.
مسيحية الغساسنة وفق الخط الزمني للأباطرة البيزنطيين
كما ناقشنا سالفا، اعتنق الأردنيون الغساسنة المذهب المونوفيزي المسيحي على يد القديس يعقوب البرادعي ولهذا تمت تسميتهم باليعقوبيين أو اليعاقبة. ولندرة المصادر والتوثيق حول المسألة، لا تاريخ محدد يمكن الوثوق به لانتشار المذهب بينهم وتمسكهم فيه. ولكن يمكننا البدء من القرن الثالث – الرابع الذي شهد حملات الملكة البدوية الأردنية ماوية على الإمبراطورية البيزنطية وتعيينها للقديس البرادعي في بداية القرن الثالث ميلادي وبهذا سنضع أنفسنا على خط زمني تقريبي يتتبع التطورات التاريخية الدينية لدى الغساسنة.
سنناقش في هذا الفصل من بحثنا الأزمات والأحداث التي مرت بها المسيحية عند الغساسنة، وسنعتمد التقسيم الذي أرساه الباحث عرفان شهيد في كتابه “Byzantium and the Arabs in the sixth century” والذي يعتمد على الحقب التي حكمها الأباطرة البيزنطيين وعلاقتهم الكنسية مع الأمراء والملوك الغساسنة.
أناستاسيوس الأول Anastasius I (491- 518)
تصنف حقبة الإمبراطور أناستاسيوس بأنها حقبة ذهبية فرغم أنه كان على المذهب الميافيزي إلا أنه كان منفتحا للغاية على المونوفيزية الغسانية. انعكس هذا على العلاقات السياسية بين الغساسنة والإمبراطورية.
تأثرت سياسته الدينية الكنسية بشخصيتين هما القديس فيلوكسينوس المنبجي[2] وساويرس الأنطاكي[3] وكلاهما كانا مدافعين غيورين عن المونوفيزية.
ولد القديس المنبجي في مدينة منبج وهي مدينة سورية خضعت لإمارة الغساسنة. وكان قد شهد الاضطهاد الذي عاناه المسيحيون في بلاد فارس والاضطهاد الذي عاناه المونوفيزيون في الإمبراطورية الرومانية. اشتهر كثيرا بروحانياته ورسائله إلى المؤمنين بالصبر كما بعث بالعديد من الرسائل لملوك المناذرة الذين كانوا يدينون بالنسطورية دعاهم فيها لاعتناق مذهبه ولإيقاف الحرب الدينية التي كانت تثور من حين لآخر.
رغم أن محاولات القديس المنبجي بدعوة المناذرة للمذهب المونوفيزي قد فشلت إلا أنها نجحت مع حِمير وحضرموت ونجران وبعض مناطق فلسطين واعتنق أهالي هذه المناطق المونوفيزية بتأثير القديسين أمثال المنبجي وغيره.
وله العديد من المؤلفات والترجمات أهمها ترجمة الكتاب المقدس من اليونانية إلى السريانية. كان المنبجي شخصية يقدرها الغساسنة ويحبونها ويكنون لها الاحترام ويدينون لها في الدفاع عن مذهبهم في بلاط الإمبراطور البيزنطي.
أما بطريريك كنيسة أنطاكية فهو من البطاركة القلة الذين كانوا مونوفيزيين أيضا وقد تولى بطريركية أنطاكية عام 512 ميلادي. سويا، المنبجي والأنطاكي، استمالا الإمبراطور البيزنطي أناستاسيوس إلى المونوفيزية في العقد الثاني من القرن السادس الميلادي. ولهذا تسمى هذه الفترة بالفترة الذهبية على الصعيدين الديني والسياسي.
الجو العام
في تلك الفترة عقدت بعض المجامع للدفاع عن العقيدة المونوفيزية وتبيين الفروق بينها وبين النسطورية وتكاثفت المؤلفات وكان الجو محفزا لكثير من الإنتاج في مجال الكتابة الدينية. وبسبب هذا الجو، امتدت المونوفيزية إلى فلسطين بيد الغساسنة المبشرين. كان أول احتكاك بين الغساسنة والأهالي في فلسطين وقتما قاد الملك الحارث حملة عسكرية ضد فتنة أحدها اليهود السامرة والبيزنطيين. ورغم أن كنيسة المقدس تدين بالميافيزية إلا أن الجو العام لم يكن ليؤدي لحرب دينية.
لا يمكننا أن نغفل عن دور مدينة “بيت راس” الأردنية في صياغة كل هذا المشهد، فقد كانت إحدى العواصم الدينية المهمة تحت اسم “كابوتلياس” واحتوت عدة أديرة، وشارك القساوسة المسؤولون عن أديرتها في كتابة مؤلفات تدافع عن عقيدتهم إضافة لحضور المجامع الدينية آنذاك. وقد أقيم في كاتدرائية بوسطرا – بُصرى – حفل عيد تكريس[4] الكاتدرائية الذي تذكره المصادر في أيلول 512 – آذار 513 وكان يحضره الملك الغساني الفيلارخ الحارث آنذاك. وتذكر المصادر والتواريخ الكنسية حضور الملوك والغساسنة لجميع الأعياد والتكريسات في مختلف الكنائس.
مصير القديسين الأنطاكي والمنبجي
تسلم الإمبراطور جوستين الأول الحكم بعد أناستاسيوس ولم يكن يمارس نفس السياسة الكنسية. فعقب توليه للحكم أمر بطرد 12 قس منهم الأنطاكي والمنبجي إن لم يؤمنوا بالميافيزية. مارس الإمبراطور شتى أنواع التعذيب على القساوسة والقديسين فنفى المنبجي وحبسه في بيت أوقدت النار فيه فمات مخنوقا.
أما القديس الأنطاكي فاضطر للجوء إلى مصر وبقى فيها حتى مات. بهذا انقضى عهد أناستاسيوس الذهبي، العصر الذي ازدهرت فيه العلاقات بين البيزنطيين والغساسنة، بنت أديرة كثيرة وانتشر السلام بين الطوائف، أقيمت التكريسات والأعياد وتم إنتاج مصنفات ومؤلفات دينية مهمة، وفي نهاية هذا العهد قدم الغساسنة شهداء كُثُر في سبيل الحفاظ على عقيدتهم.
جوستين الأول Justin I (518- 527)
انتهى عهد أناستاسيوس ودشن جوستين الأول عهدا عنوانه الاضطهاد الديني لكل ما هو مخالف لما يؤمن به. طرد 12 قسا وعذب الكثيرين. انسحب الكثير من الأردنيين الغساسنة من المشهد البيزنطي الحربي اعتراضا واحتجاجا على انتهاكات الإمبراطور. وأمام هذا السيل العنيف من المواجهات صمد الأردنيون الغساسنة وتمسكوا بمذهبهم ولم يكترثوا لمحاولات جوستين الأول بتحويلهم عن عقيدتهم.
عام 519 نفى الإمبراطور أسقف مدينة إفاريا (حوارين) – تقع في سهول حوران الأردنية – وكان غسانيا، وحارب الإمبراطور هذه الأسقفية وحاول تدميرها. وتذكر المصادر الكنسية بأن اسم الأسقف الغساني كان جون أو يوحنا – يقابله يحيى بالعربية.
صار الغساسنة الحُماة الوحيدون لمذهب المونوفيزية في المشرق بأكمله في عهد جوستين الأول إلا أنهم حظوا بدعم الإمبراطورة ثيودورا زوجة جستنيان، الإمبراطور البيزنطي الذي تلا جوستين الأول في الحكم.
جستنيان Justinian (527-569)
متسلما مقاليد الحكم من عمه الإمبراطور جوستين الأول، أدار جستنيان الإمبراطورية كما كان عمه يفعل. لم تحصل تغيّرات في السياسة الدينية في البدء وظل الجو العام متوترا لكنه انشغل بالحرب التي كان الفرس قد شنوها على الإمبراطورية وكان الوضع الداخلي في القسطنطينية متوترا كذلك. لم يشأ جستنيان أن يزيد الوضع سوءا وأن يعود لممارسة الانتهاكات الدينية التي مارسها عمه جوستين الأول فانصرف لإصلاح الوضع الاقتصادي والسياسي وعقد الصلح مع الفرس وأخمد الثورات الداخلية.
في ذلك الوقت كانت مملكة الأردنيين الغساسنة تنعم بحالة من السلم النسبي وأنتجت رخاءً ورفاهية حضارية. إضافة لذلك، عمّق الغساسنة علاقتهم مع زوجة جستنيان الأول، الإمبراطورة ثيودورا.
الغساسنة وثيودورا
رغم كونها إمبراطورة بيزنطية إلا أنها ذكرت كثيرا في كتب التاريخ الكنسية كملهمة ومساعدة للغساسنة ومدافعة عن مذهبهم الديني. انشغلت ثيودورا بدراسة الدين المسيحي ولم تكن مقتنعة بالميافزية بل اعتنقت المونوفيزية. خففت الإمبراطورة كثيرا من حدة السياسات الدينية البيزنطية. عرفت بالإمبراطورة مُحبّة الخير والعطف، وكانت تعطي اللجوء والأمان لمن يتعرض للاضطهاد الديني. أعادت بناء الكنائس التي هدمت وأرجعت بعض القساوسة الذين نفوا.
تعاون معها الملك الحارث بن جبلة وكانا صديقين يجمعهما حبهما لمذهبهما. وكانت هي من ساعدت القديس ساويريس الأنطاكي على النفاذ من قبضة التعذيب على يد الإمبراطور جستين الأول.
جوستين الثاني Justin II (565-578)
تميزت حقبة جوستين الثاني بابتداعه لقوانين تنظيمية جديدة على الصعيد الديني والسياسي. ولكن ما يميز هذه الحقبة هو الظهور المتميز للملك الأردني الغساني الحارث بن جبلة وتصاعد الأحداث السياسية وتأزم المواقف الدينية عقب وفاته.
لم يكن الملك الغساني الحارث محض زعيم سياسي إنما كان أسقفا للكنيسة الغسانية. تولى أعمال الكنيسة المونوفيزية في المشرق وأرسى علاقات جيدة وسلمية مع كنيستي أنطاكية والقسطنطينية رغم اختلاف المذاهب في تلك الحقبة اشتعل فتيل الحرب بين المناذرة والغساسنة لأسباب دينية وسياسية وأثبت الملك الأردني الغساني الحارث كفاءته العسكرية وبسالته في الدفاع عن مملكته.
من ناحية أخرى، وطّد الحارث علاقته مع جوستين الثاني الذي كان مونوفيزيا كالغساسنة قبل أن يغيّر مذهبه، إضافة لعلاقته مع الإمبراطورة صوفيا زوجة جوستين التي كانت مونوفيزية أيضا. ونتيجة لجهود الحارث في إرساء السلام بين الكنائس أطلق عليه لقب “الفيلارخ” أو البطريق” وكان يذكر دوما في المصادر التاريخية “البطريق الأمجد الملك الحارث” أو “قائد مسيحي الحواضر البطريق الحارث”.
في عهد الملك الحارث وعهد جوستين الثاني، قويت المسيحية المونوفيزية كثيرا وأعيد تعيين أساقفة غساسنة. لم يدم هذا كثيرا، فعقب هذه الفترة الذهبية، قُتل الحارث في حربه مع المناذرة وتولى بعده ابنه المنذر بن الحارث الغساني عام 569م. سرعان ما تفاقم الموقف وشُخص جوستين بالجنون عام 574م وحكم معه تيبريوس بالتوازي.
تيبريوس Tiberius (578- 582)
بعد تسلم تيبريوس مقاليد الحكم تماما عام 578، بدأ عهدا جديدا للقضاء على المشكلات الدينية التي تفاقمت في عهد جوستين الثاني. لقد تواءمت ميول المنذر الغساني والإمبراطور تيبريوس للسلام بين الطوائف المسيحية. لذلك عقب انتصار جديد حققه المنذر الغساني على الفرس دُعي إلى القسطنطينية لزيارة الإمبراطور وتم استقباله بحفاوة بالغة وصفت وصفا دقيقا عند المؤرخين باللاتينية والسريانية.
رغم العلاقات الحسنة التي أنشأها المنذر مع تيبريوس إلا أنها ضعفت عقب واقعة شهيرة. فعندما تقدّمت القوات الأردنية الغسانية والقوات البيزنطية لمحاربة الفرس وجدوا جسر نهر الفرات مقطوعا فاتهمه البيزنطيون بالخيانة والتآمر مع الفرس. طلب بعدها البيزنطيون الصلح فعقدوا معاهدة صلح عند قبر القديس جرجيوس في الرصافة في العراق. لم يدم هذا الحال كثيرا، فقد حاول المنذر الغساني إعادة توطيد العلاقات بشنّ حرب أخرى على المناذرة، ما جعل البيزنطيون يتهمونه بتحدي الإمبراطورية والكنيسة.
وفي أثناء حضور المنذر الغساني لقدّاس في إحدى الكنائس، اعتقله البيزنطيون ونقلوه إلى القسطنطينية ومن ثم نُفي إلى جزيرة صقلية هو وعائلته.
انقسم المذهب المونوفيزي الغساني على إثر هذه الأحداث. فانضم بعضهم لكنيسة الإسكندرية وبعضهم ظلوا يعاقبة أرثوذكس وآخرون صاروا أتباعا للقديس بطرس وسموا “البطرسيون”. أثّر هذا الانقسام على وحدة صفوف الجيش الأردني الغساني. فقد كانت قوة الجيش تعتمد على وحدته الدينية وشعور أفراده بالانتماء القبلي وقد تزعزع واحد من هذه الثوابت.
وكمحاولة لضبط الفوضى الدينية الحاصلة آنذاك، عقد مجمع القسطنطينية عام 581 م. وهدف لمحاربة البدع الدينية وإعادة توطيد العلاقات بين المذاهب وقد حضره المنذر الغساني إلا أن المجمع لم يفضِ للكثير.
أباطرة آخرون
بقيت الحالة الدينية في مد وجز، فتارة يستعيد الغساسنة قوتهم الدينية ويعيدون تشكيل نظامهم الكنسي موحدا وتارة ينقلب الحال. جاء بعد تيبريوس أباطرة آخرون كالإمبراطور موريس والإمبراطور فوكاس وغيرهم. وتتضارب المصادر التاريخية عن الغساسنة وعن الأحوال الدينية في الفترة ما بعد عهد تيبريوس ولكنها تذكر عدة محاولات من الكنائس الأخرى والمذاهب لتحويل الغساسنة عن مذهبهم ولكنهم لم يفعلوا.
الحالة الدينية في آخر القرن السادس وبداية القرن السابع
يؤرخ العديد من الباحثين نهاية المملكة الغسانية بموت الملك الحارث، فبعده جاء ابنه المنذر الذي انشغل بالحروب. خاض حروبا كثيرة جر فيها شعبه إلى التفرقة والضعف. ووفقا للبناء الاجتماعي للمجتمع الأردني عند تأسيس الإمارة الغسانية والذي ناقشناه في بحث سابق، لم يكن الأردنيون من سكان البادية والحواضر ليرضوا بحاكم لا يأخذ وحدة شعبه كأولوية.
وتوازيا مع هذه الأحداث نهاية القرن السادس، كانت الجيوش الإسلامية تشق طريقها إلى الأردن عبر عقد اتفاقيات صلح وأمان مع القبائل الأردنية التي تعتنق المسيحية حتى حدثت معركة اليرموك عام 636 ميلادي.
خاتمة
استعرضنا في فصول هذا البحث المشهد العام للمذاهب المسيحية في المنطقة آنذاك إضافة للخط الزمني للملوك الغساسنة والأباطرة البيزنطيين. وعبر هذا الخط الزمني، رأينا كيف كانت الحالة الدينية للغساسنة تؤثر وتتأثر بالأحداث والمجريات السياسية والدينية المحيطة. ومما لا شك فيه أن الأردنيين الغساسنة قد ضُرب فيهم المثل في الثبات على المبدأ والصمود.
اليوم يشكل الأردنيون المسيحيون على اختلاف طوائفهم ما يقارب 2% من سكان الأردن. شاركوا في بناء هذا الوطن منذ القدم، عاشوا لحظات الثورة ضد المحتل وقدّموا الغالي والنفيس لتظل الحرية عنوانا لحياة الأردني.
المراجع
- Shahid, (1995) Byzantium and the Arab in sixth century, VOL.1, Part 2, the ecclesiastical history, Dumbarton Oaks Research library: Washington D.C
- Shahid (1996) Byzantium and Arab in the sixth century, Vol1. Dumbarton Oaks Washington D.C
- اليسوعي، ل.( 2011) الآداب النصرانية قبل الإسلام،(ط2) دار المشرق: بيروت
- قاشا. س (2005) صفحات في تاريخ المسيحيين العرب قبل الإسلام، (ط1) لبنان: بيروت، منشورات المكتبة البوليسية، سلسة الكنائس المسيحية الشرقية
[1] نسبة إلى أريوس وهو كاهن مصري بدأ ينشر تعاليمه مطلع القرن الرابع الميلادي. تتلخص عقيدة مذهبه بأن “الله واحد أحد وهو الواحد السرمدي، ليست له بداية وهو وحده الحق، وهو وحده الذي لا يموت، وهو وحده الحكيم اللطيف. أما ابن الله فليس في وسعه أن يحوز على الصفات المنفردة للأب” وكان يقول بأن المسيح عيسى مخلوق غير معصوم إنما مستقيم الخلق. أدينت الأريوسية وحكم على الكاهن أريوس بالنفي والإبعاد. المصدر: صفحات من تاريخ المسيحية قبل الإسلام، الأب قاشا (2005) ص 21-22
[2] للمزيد انظر: https://st-takla.org/books/fr-athnasius-fahmy/patrology/phiukcinoc.html
[3] للمزيد انظر: https://st-takla.org/Saints/Coptic-Orthodox-Saints-Biography/Coptic-Saints-Story_1065.html
[4] التكريس مفهوم مسيحي متشعب يعني الحياة الرهبانية والخدمة الكهنوتية، للمزيد أنظر http://www.chaldeaneurope.org/2013/09/23/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%80%D9%80%D9%88%D9%85-%D9%83%D9%84%D9%85%D9%80%D8%A9-%D8%AA%D9%83%D9%80%D8%B1%D9%8A%D8%B3/