Latest articles
December 23, 2024
December 23, 2024
December 23, 2024
مقدمة
كان عهد الأردنيين الأنباط عصراً ذهبياً للحضارات الأردنية القديمة ، فقد جاءت متممة لما كانت عليه الممالك الأردنية القديمة كالمملكة الأردنية المؤابية و المملكة الأردنية العمونية والمملكة الأردنية الأدومية، كما توالى على هذه المملكة العديد من الملوك العظام الذين أسسوا أردناً كبيراً كان علامة بارزة في مسيرة الأردن الحضارية الإنسانية الضاربة في القدم وفي تاريخ المنطقة ككل، وقد حافظت هذه المملكة على بريقها حتى بعد انتهاء عهدها الملكي وواصل شعبها مسيرة التقدم والبناء والمساهمة في تقدم البشرية وتطورها.
ما قبل الأحداث
بعد أن ضاعت دمشق من قبضة الأردنيين الأنباط في عهد الملك مالك الثاني (40-70 م) ابن الحارث الرابع، في تلك الفترة ذاتها، وصل رب ايل الثاني، آخر الملوك الأردنيين الأنباط إلى العرش. كان رب ايل الثاني قاصراً وكانت والدته الملكة شقيلات تتصرف كوصي عليه لمدة ست سنوات. ويبدو أن رب ايل الثاني كان قد فضّل مدينة بصرى في شمال مملكته لما لها من موقع تجاري مرن أكثر في ظل الظروف الراهنة حينها، و قد كان معروفًا بلقب “دي يحي وشيزب عمه ” أي ” هو الذي يجلب الحياة والنجاة لشعبه”. ويبدو أن هذا يشير أيضا إلى قيامه بقمع تمرد في شمال شبه الجزيرة العربية . و خلال عهد هذا الملك، تمتعت المملكة بفترة سلام وازدهار. ومع ذلك ، فقد كانت هذه هي العقود الأخيرة للمملكة النبطية قبل الاحتلال الروماني للمملكة الأردنية النبطية .
ففي ذروة قوة دولة الأردنيين الأنباط ، امتدت المملكة الاردنية النبطية من دمشق ومدن الديكابوليس الأردنية شمالاً إلى الجنوب تجاه شمال الجزيرة العربية. وكان يحدها من الغرب الأراضي التي يسيطر عليها الرومان والتي تتألف من يهودا، السامرة، الجليل، ومصر في الجنوب الغربي. الحدود الشرقية للأنباط امتدت على طول البادية الأردنية وأعمق لما عرف بأنها حدود امبراطورية بارثيا الفارسية . بفضل العبقرية الأردنية النبطية في إدارة المياه ، ازدهرت زراعتهم في البادية وربطت إمبراطوريتهم التجارية – التي تتعامل في السلع الرئيسية والكمالية – العالم المتوسطي بالصين والهند وباراثيا الفرس وشبه الجزيرة العربية.
انضمام مشروط
يختفي الملك الأردني النبطي رب ايل الثاني من المشهد في عام 106 بعد الميلاد بسبب وفاته، فيقوم المندوب الروماني في سوريا كوريليوس بالما بحملة على المملكة الأردنية النبطية نيابة عن الإمبراطور تراجان، محاولاً ادراجها كمقاطعة رومانية جديدة، لكن من المثير للاهتمام أنه بعد عام 106 ميلادية، استمر الأردنيون الأنباط في الظهور كشعب متميز بذاته داخل الإمبراطورية، بل حتى أنهم تمتعوا بفترة من الرخاء الاقتصادي في الحقبة البيزنطية المتأخرة. مباشرة تم سك النقود المعدنية التي تشير إلى ” arabia adquista” أو الحاق البترا التي لم يتم الاستيلاء عليها عسكرياً فلم يستطع الرومان إخضاع الأردنيين الانباط حتى في عهدهم الملكي الأخير وهناك أدلة على استمرارية النشاط التجاري الاردني النبطي بعدها بقرون. و تحت حكم الرومان بنى كلوديوس سيفيروس طريقًا معبّدًا جديدًا ربط في النهاية مدينة بصرى الشمالية بالبحر الأحمر ميناء أيلة (العقبة) في الجنوب. كان طول الطريق حوالي 500 كيلومتر، وكان يعرف باسم فيا نوفا ترايانا. وقد اكتمل في عام 114 بعد الميلاد، وبنيت على الكثير من ذات المسارات القديمة لطرق القوافل القديمة وطريق الملوك القديم . فأصبح بإمكانهم نقل القوات العسكرية وكذلك بضائع التجارة بسرعة من مكان إلى آخر.
لم يكن المشهد الأردني النبطي في نهايته يشبه النهايات المعتادة للدول، ففي القرن الأول ميلادية لم يكن عصر وعهد سقوط و انهيار للدولة، بل على العكس تماماً حيث واصل الأردنيون الأنباط الصعود الحضاري بل أن حدودهم تمددت أيضاً، وكذلك التجارة و الصناعة و الاستمرار الحضاري بشكل عام، حتى إقتصادياً ، فقد واصل الأردنيون الأنباط سك عملتهم الخاصة مما يدل على أن المملكة الأردنية النبطية كانت عصية حتى على الأمبراطورية الرومانية حينها، وعلى الأرجح أن أسباب الحملة اللاعسكرية على الأردنيين الأنباط التي آلت إلى تحالف روماني – أردني نبطي كان بسبب اتفاقات تجارية وتوحيد سياسي خارجي ضد البارثيون الفرس ، فلقد أراد الرومان الاستفادة من الجغرافيا القوية الأردنية النبطية والمزايا العسكرية للأنباط على الجبهة الشرقية ضد البارثيون، وأراد الأردنيون الأنباط تحصين المملكة من الغزو البارثي حينها .
فيعلق المؤرخ التاريخي د. إبراهام نيجيف : ” إن هذه الأحداث لم تكن ذات أهمية كبيرة، خاصة أنها ذكرت عرضاً في كتابات المؤرخين الرومان “، مما يدل على أن انضمام المملكة النبطية للإمبراطورية الرومانية لم يكن على إثر انهيار حضاري أو سقوط عسكري بل جرى عبر اتفاق مسبق ولأهداف واقعية واضحة كانت تضمن جميعها الحكم الذاتي المحلي لمناطق نفوذ الأردنيين الأنباط على الأرض الأردنية وخارجها.
فمثلاً ، يذكر المؤرخ نيجيف أن النقوش الأردنية النبطية المكتشفة في النقب أشارت إلى أن العمل والبناء في المستوطنات والمنشآت الزراعية الأردنية استمر بعد الإنضمام حيث يعود تاريخ هذه النقوش إلى عامي 108 و 126 ميلادية .
الاستمرار الأردني النبطي
لم تكن العاصمة الاردنية النبطية البترا وما حولها فقط مما استمر من المملكة على نحوه السابق، بل كانت المناطق الشمالية للمملكة مواصلة لما هي عليه، فوجدت نقوش لتلك الفترة في حوران الأردنية وجبل العرب وظل استخدام المعابد الأردنية مستمراً في السويداء و سيع .
ولعل الملك رب إيل الثاني قد لا يكون الملك الأردني الأخير للمملكة الأردنية النبطية، اذ تشير الوثيقة الثانية من أرشيف باباثا مثلاً إلى ابن رب إيل الثاني و إسمه عبادة فتذكر الوثيقة : ” في حياة ، عبدت “عبادة” اب رب ايل الثاني الملك ملك الأنباط الذي أحيا و أنقذ شعبه في حياة جملت “جميلة” وهجرو “هاجر” إخوته ملكات الأنباط أبناء منكو “مالك” الملك ملك الأنباط ابن الحارث الرابع الذي أحب شعبه “، و هذا هو المصدر الوحيد لهذا الوريث للعرش الأردني حينها، حيث أنه من المرجح أن الرومان لم يتقبلوه حاكماً حينها لسبب نجهله .
ويبدو أيضا أن عبادة لم يكن هو الوحيد، فالوثائق التاريخية تذكر مالك الثالث الذي لعله حكم ما بين 106-126 ب.م، و حكم بقوة واستقلالية تامة المناطق الأردنية الواقعة إلى شرق البحر الميت، لكن بعد وفاته لا يوجد أثر لسلالة حاكمة أردنية نبطية .
وبالطبع في هذا السياق أنه لم يكن الاهتمام الكامل بالعاصمة البترا اهتمام الأردنيين الأنباط فحسب، بل كان هناك اهتمام سيادي روماني ايضاً، فلقد زار الامبراطور هدريان العاصمة الأردنية البترا عام 130 ب.م و بقيت تسك النقود في البترا على أساس أنها العاصمة حتى عام 132 ميلادية حتى انتقل الثقل الأكبر سياسياً و اقتصادياً إلى العاصمة البديلة والمؤقتة بُصرى .
و قد وجدت نقوش أردنية نبطية في النقب و مادبا تشير إلى الانتقال السياسي إلى بُصرى حيث أرخ الأول إلى السنة الثالثة للولاية والثاني إلى السنة العشرين للولاية وظل استخدام هذا النمط من التقويم الأردني النبطي موجودا من عام 151 ميلادية حتى عام 286 ميلادية في سيناء تحديداً، مما يدل على أن سيناء ذاتها لم تخرج من النفوذ الأردني النبطي حتى نهاية القرن الثالث ميلادية وفي جنوب المملكة حتى مدائن صالح لعام 306 ميلادية .
حتى عند بناء الرومان للطريق الجديد عام 110 ميلادية وجدت مراكز عسكرية أردنية نبطية على طول الطريق في كل من القويرة وخربة الخالدي وخربة كثارة حتى عين الصدقة، فلم ينتهِ الجيش الأردني النبطي بالانضمام الأردني النبطي للامبراطورية الرومانية بل ظل مستمراً حتى في العمليات العسكرية وحفظ الأمن الداخلي فنرى على سبيل المثال 6 كتائب رماة أردنيين أنباط مكون من 6 آلاف جندي أردني نبطي بعد أن كانت فيلقاً في عهد رب إيل الثاني وجناح من الجمّالين تمركز في الشمال، بل ونجد تأثراً عسكريا رومانياً بالجيش الأردني النبطي فقد ورث نظامه الدفاعي العسكري ونمط حصونه في كامل البادية الأردنية، فنرى أن الرومان قد قلدوا الأردنيين ببناء حصون مشابهة في قصر الحلابات والحميمة و جنوب المملكة و امتدت شرقاً حتى النقب فاستخدم الرومان حصناً أردنياً نبطياً هناك وإلى الشمال حيث بنى الرومان حصناً على الطراز العسكري الأردني في قصر برقع .
وحتى اللغة بقي لها تأثيرها الكبير في المنطقة التي أسست لنشوء للغة العربية حالياً، فنرى في مدينة الرافة ( 80 كيلومتر جنوبي مدينة تبوك حالياً) أن الثموديين قاموا ببناء معبد لهم بين عامي 166-169 ميلادية واستخدمت اللغة الأردنية النبطية في نقوشها بجانب اليونانية، و نقشاً آخر في حوران في دير المسقف يشير إلى الإله الاردني النبطي ذو الشرى في عام 158 ميلادية، و نقشاً آخر شمالي بصرى في منطقة سجن يؤرخ للعام 180 ميلادية .
أما الحكام الإداريين في المنطقة فكانوا قد تأثروا بحالة الاستمرارية الأردنية، فنجد أن سكسثيوس فلورنتينوس الحاكم الاداري في عام 127 ميلادية، قد رغب في نقش مدفنه على غرار المدافن الأردنية النبطية ودفن في البترا بناءً على رغبته، التي ظلت مستمرة في أهميتها على الرغم من الانتقال السياسي للعاصمة البديلة بُصرى، فقد قام الامبراطور الروماني إيلاغابالس بمنح البترا لقب Colona عام 222 ميلادية و تبعتها بُصرى في عهد الكسندر ساويروس في عام 235 ميلادية مما يدل على أهمية العاصمتين النبطيتين حتى بعد أكثر من قرن من حادثة الانضمام .
لم تنتهِ الأهمية الحضارية للعاصمة الأردنية البترا هنا بل استمرت حتى أصبحت مركزاً دينياً مهماً للأبرشية القيصرية في المنطقة عام 358 ميلادية وفي العهد البيزنطي كانت شريكة في المجامع الدينية خاصةً مجمع نيقيا، كما شارك أسقف البترا أستيروس في مجمع سارديس، واشترك أسقف البترا جيرمانوس في المجلس المسكوني في سلوقيا عام 359 ميلادية .
كان الحدث الأصعب على الأردنيين هو الزلزال المدمر الذي حدث عام 363 ميلادية، الذي أدى إلى تدمير نصف العاصمة الأردنية البترا، والواضح للعيان أن الأردنيين لم يهجروا عاصمتهم بل استمروا فيها واعتنقوا المسيحية وبنوا الكنائس و المعابد في أرجاء العاصمة و المملكة.
حتى عند حدوث الزلزال الثاني عام 749 ميلادية، لم يترك الأردنيون العاصمة بالرغم من انتقال عدد وافر منهم إلى الجهة الشمالية من العاصمة باتجاه مدينتي (مؤاب ) الكرك و( أدوم ) الطفيلة ، فقد انتقلت الاسقفية من العاصمة إلى الربة في الكرك وبقي الأردنيون في العاصمة حتى هجرت خلال العهد العباسي لما جرى في تلك الفترة من عداء وتهميش للحواضر الأردنية .
و في العهد الاسلامي في القرن السابع تقريباً بقي الأردنيين الأنباط محافظين على انجازهم وإرثهم الاقتصادي وواصلوا تجارتهم مع يثرب في الحجاز ونقلوا الزيت إليها بشكل كبير، وقد نقل الأردنيون الأنباط أيضاً الأخبار العسكرية لأهل الحجاز قبيل معركة تبوك مما يدل على تحالف عسكري ضد البيزنطيين، وفي القرن الثاني عشر كان هناك استغلال فرنجي للجغرافيا الأردنية فأنشؤوا القلاع والحصون على امتداد الكرك حتى العقبة وبنوا في العاصمة الأردنية النبطية البترا قلعتي الوعيرة والحبيس فيها .
و يذكر أحد الحجاج المسيحيين إلى الأردن و يدعى تتمار Thetmar في عام 1217 ميلادية أنه مر بالعاصمة البترا وذكر بأن سكانها من الأردنيين كانوا يطلقون عليها اسم الرقيم بجانب اسمها الأول بترا .
و في ذات القرن زار السلطان المملوكي بيبرس البترا في عام 1260 ميلادية وزار قلعة الحبيس، إلا أن العاصمة الأردنية البترا بعدها أسدلت ستائرها الوردية حتى اكتشفها ونشر عنها الرحالة السويسري بيركهارت في عام 1812 ميلادية .
المراجع و المصادر :
- النصرات ، محمد إسماعيل (2007) مملكة الأنباط التاريخ السياسي ، مشروع بيت الأنباط للنشر والتوزيع ، عمان ، الأردن.
- Negev , A (1977) The Nabatean and the Provincia Arabia , ANRW , pp.520-686.
- Khairy , N. (1980) An Analytical Study of Nabatean Monumental inscriptions at madain saleh , pp.162-168.
- Bowrsock , G (1983) Roman Arabia , Harvard University Press , Cambridge , London .
- Bowrsock , G (1971) A Report on Arabia Provincia , pp.219-242.