Latest articles
December 23, 2024
December 23, 2024
December 23, 2024
مقدمة
كان اكتشاف النحاس ثورة صناعية حقيقية، ويمكن اعتبارها أول ثورة صناعية فعلية، وقد كان الأردنيون الأدوميون من رواد هذه الثورة، حيث أن النحاس أول معدن تم تصنيعه، وتطويعه، وتحويله لأدوات دقيقة، بعد أن كانت الأدوات محصورة في الصوان الذي يصعب تشكيله، كما أن عملية تصنيع النحاس هي من أوائل عمليات التصنيع الحقيقية، التي تحدث تغيراً جوهرياً على المادة الخام المستخدمة، وتحولها إلى مادة أخرى، وللقارئ أن يتصور حجم النقلة النوعية التي سببها اكتشاف النحاس وتصنيعه قبل آلاف السنين.
لقد كان أجدادنا الأردنيين الأدوميين، من أوائل من اكتشف النحاس، وقام بعملية تصنيعه، وتشير الحفريات الأثرية، في وادي عربة، أن الأردنيين الأدوميين شرعوا في تصنيع النحاس، منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد، حيث كانت منطقة وادي عربة، تحتوي على كميات هائلة من خامات النحاس، وتعد مملكة أدوم الأردنية، أحد أهم مصادر النحاس المصنع في العالم القديم.
عملية تصنيع النحاس
إن ما قام به أجدادنا الأردنيون الأدوميون، في عملية التنجيم عن النحاس وتصنيعه يدل على عقلية فذة، وعلى تطور ضخم في تلك الحقبة من تاريخ البشرية، حيث أن انتاج النحاس يتطلب عدة مراحل وعمليات معقدة.
الاستخراج
من المؤكد أن أجدادنا الأردنيين الأدوميين، قد وجدوا خامات النحاس، على وجه الأرض في منطقة وادي عربة، وقد بدأ استخدام هذه الخامات دون تصنيع، عبر تشكيلها على هيئة خرز واستخدامها في صناعة الحلي، أو كنوع من أنواع التزيين على بعض التماثيل.
ومع بداية اكتشاف الأردنيين الأدوميين، لعملية تصنيع النحاس، دعتهم الحاجة بالتأكيد، للبحث والتنقيب عن خامات النحاس، حيث أنه من الطبيعي أن يتم استهلاك كامل الخامات الموجودة على سطح الأرض.
وجدت الحفريات الأثرية حول مناجم النحاس في وادي عربة، مناجم للنحاس تعود للعصر الحديدي (عصر مملكة أدوم الأردنية)، حيث كان أجدادنا الأردنيين الأدوميين، يقومون بحفر الأنفاق والخنادق والمناجم لاستخراج النحاس، ووصلوا إلى أعماق الأرض باحثين عن أفضل الخامات، وأغناها بالنحاس، في عملية معقدة تتطلب جهداً وتنظيماً عالياً.
التجهيز والصهر
إن معدن النحاس لا يوجد بالطبيعة بشكل نقي جاهز للاستخدام، بل يتواجد على شكل حجارة أزوريت تحتوي على سيليكات وأكاسيد النحاس، لذلك كانت أول خطوة يمارسها الأردنيون الأدوميون من رواد صناعة النحاس، بعد استخراج حجارة الأزوريت النحاسية، هي قص وتكسير حجارة الأزوريت بما يتناسب وأحجام الأفران الموجودة، والبدء بعملية الصهر.
وقد مرت عملية صهر النحاس بمراحل تطور، فحيث بدأت في أفران بسيطة بانتاج شبه منزلي لسد الحاجات المحلية من معدن النحاس، ثم تطورت وتعقدت العملية مع تحول الانتاج إلى التصدير، بكميات تجارية ضخمة.
عملية صهر النحاس تعد من أعقد العمليات الممكنة، حيث أن النحاس يحتاج لدرجات حرارة عالية تصل إلى 1100 درجة مئوية، وهذه الحرارة يصعب توليدها في أفران مفتوحة، فابتكر الأردنيون الأدوميون بداية أفراناً صغير تسد انتاجهم المحلي، وقد استخدموا لبث الأكسجين داخل هذه الأفران، عيدان القصب وغلفوا مقدمتها بصلصال فخاري، حتى لا تحترق.
لقد كانت التجارة، أحد أهم المهن التي طورها الأردنيون الأوائل عبر التاريخ، وكانت التجارة مصدراً مهما للدخل لدى الأردنيين الأوائل منذ فجر التاريخ، بناءاً على ذلك لم يكتفِ أجدادنا الأردنيين الأدوميين بتصنيع النحاس للاستهلاك المحلي فقط، بل وسّعوا نشاطهم ليتحولوا لأحد أهم مصدري النحاس حول العالم القديم، الأمر الذي تطلب منهم تطوير تقنياتهم الانتاجية، لتوفير كميات ضخمة من النحاس كافية للتصدير، فشرع الأردنيون الأدوميون في وادي عربة، ببناء أفران صهر ضخمة، تستطيع صهر كميات أكبر من النحاس، وطوروا الآلية التي يضخون بها الأكسجين داخل هذه الأفران، حيث ابتكروا (الكير) وهي أداة من جلد وخشب، ولها انبوب طويل في مقدمتها، وكان أجدادنا الأدوميون يغلفون مقدمة هذا الأنبوب بالصلصال الفخاري أيضا كي لا يحترق داخل الفرن، بالإضافة إلى أن تحليل لقيات النحاس من تلك الحقبة في وادي عربة أثبتت أن الأردنيين الأدوميين اكتشفوا مواداً تضاف إلى النحاس لتخفيض درجات الحرارة اللازمة لصهره.
الأدوات والسبائك
بعد أن يصهر النحاس، ويفرز عن باقي المكونات الموجودة، ليتحول إلى نحاس نقي بحالة سائلة، عندها تبدأ مرحلة تحويله إلى أدوات، حيث كان الأردنيون الأدوميون يصنعون قوالب فخارية، على شكل الأدوات التي يريدون صنعها، ثم يصب بها النحاس المصهور، ويترك حتى يبرد ويعود إلى الحالة الصلبة، وعندما تضخمت عملية تجارة النحاس لدى أجدادنا الأردنيين الأدوميين، باتت الحاجة ملحة لا لتحويل النحاس إلى سبائك فقط، بل لإيجاد سبائك بوحدة قياس موحدة وثابتة، حيث اخترعوا السبيكة على شكل (تي) ذات الوزن الموحد، مما ساهم بمنح النحاس الأردني الأدومي الثقة حول العالم.
صناعة النحاس نواة تأسيس مملكة أدوم الأردنية
ساد الاعتقاد عند الباحثيين الآثاريين، حتى مدة قريبة، أن مملكة أدوم الأردنية لم تنشأ قبل القرن السابع قبل الميلاد، بحسب المسوحات والحفريات الأثرية التي أجروها، ولكن الحفريات الأثرية في وادي فينان في وادي عربة، حول مناجم النحاس، جاءت لتفجر مفاجأة ضخمة، حيث أن استخراج النحاس والتعامل معه في وادي عربة بدأ مع القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ليشكل هذا الأمر النواة التي أسست عليها مملكة أدوم الأردنية العظيمة، وأن وادي عربة كان مركز مملكة أدوم الأردنية قبل انتقاله إلى بصيرا، كما أن صناعة النحاس وتصديره كان النشاط الاقتصادي الأساسي في مملكة أدوم الأردنية عند نشأتها، قبل أن يتحول نشاطها الاقتصادي للتجارة والوساطة التجارية بشكل رئيس.
لماذا تعد صناعة النحاس دليلاً على نشأة مملكة أدوم الأردنية؟
إن عملية استخراج خامات النحاس، ومعالجتها بالصهر لفصل النحاس النقي عن باقي المكونات، ثم صبه في قوالب، وتجهيزه سواء للاستعمال أو للبيع، عملية معقدة جداً، ذات طابع متطور، لا يمكن أن يقوم بها مجتمع بدائي بسيط.
ومن الجلي، أن أجدادنا الأردنيين الأدوميين قد بدأوا بتطوير هذه التقنيات حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد، حسب الحفريات الأخيرة في منطقة وادي عربة، وقد خلصت نتائج هذه الحفرية الى أن عملية تصنيع النحاس بشكل تجاري بدأت في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، الأمر الذي سبب جدلا في أوساط علماء الآثار، حيث أن الاعتقاد السائد قبل هذه الحفرية أن مملكة أدوم الأردنية تأسست في القرن السابع قبل الميلاد، لكن النتائج التي خلصت لها الحفريات الأخيرة نقضت هذا الاعتقاد حيث أنه من المستحيل أن تنشأ صناعة النحاس دون وجود دولة، حيث أن هذه العملية تحتاج إلى مجتمع معقد ومنظم، بالإضافة إلى مهن جانبية لتوفير سبل الحياة للمجتمع الناشئ؛ وتاليا أبرز هذه العوامل والمبررات :
- التنظيم السياسي والإداري مما لا شك به أن عملية استخراج خامات النحاس، ومعالجتها وتحويلها إلى منتج نهائي للتصدير، عملية معقدة جدا، ولا يمكن لمجتمع بسيط القيام بها كما أسلفنا، إذ أن تنظيم العمل، وتوزيع المهام، والحفاظ على دورة المجتمع، تتطلب بالدرجة الأولى سلطة سياسية قادرة على فرض القانون، ومراقبة العمل، وانتاج منظومة إدارية قادرة على تسيير عملية الانتاج والحياة بشكل عام، كما أن مناطق الانتاج تحتاج إلى حماية عسكرية، من أي حالات غزو ونهب وتخريب، بالاضافة لتأمين طرق النقل التي ينقل عبرها النحاس إلى وجهات التصدير، فلا ريب أن نواة الدولة الأردنية الأدومية قد تشكلت مع تطور عملية صناعة النحاس.
- الطقوس الدينية ارتبطت الطقوس الدينية منذ أقدم العصور بالعملية الانتاجية، أو طريقة تحقيق الحاجات، لذلك يجد الباحثون أن أجدادنا الأردنيين الأدوميين، قد طوروا بلا شك منظومة دينية تتمحور حول عملية انتاج النحاس، وترتبط طقوسها بمراحل تصنيع النحاس.
- المهن المساندة إن مجتمع منتج لسلعة قيمة مثل النحاس، يحتاج بطبيعة الحال لا إلى الحاجات الأساسية فقط بل إلى بعض الرفاهية، حيث أن مجتمع مثل هذا المجتمع سيكون ثريا بديهيا، لذا كان لا بد من توفير عدد من المهن اللازمة لتوفير الحاجات الأساسية والرفاهية، في نواة مملكة أدوم الأردنية حول مناجم ومصاهر النحاس، من مزارعين، وناقلي مياه، ورعاة مواشي، بالإضافة لبعض التجار الذين يجلبون المواد التي لا يمكن انتاجها في منطقة وادي عربة الصحراوية.
الخاتمة
من وادي فينان- وادي عربة جنوبي الأردن، إلى عين غزال في عمان، وسط الأردن، ومنذ آلاف السنين، نقل الأردنيون الأوائل خام النحاس غير المعالج، لتزين به عيون تماثيل عين غزال، التماثيل التي تروي قصة البشرية الأولى، ومن وادي فينان أنارت نيران أوقدها من لا تكل لهم عزيمة، دروب البشرية المظلمة، وعبّد نحاس الأردنيين الأوائل الطريق أمام الانسان ليقفز نحو الحضارة بأرقى أشكالها، ولتكن هذه الثورة الصناعية الأولى عالميا.
المراجع :
- ياسين ، د. خير نمر (1994) ، الأدوميون ، الجامعة الأردنية ، عمان .
- كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006) ، تاريخ الأردن و اثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية ) ، دار ورد ، عمان .
- Najjar, M. Levy, T. (2011) Condemned Copper production, Biblical Archeology
- Kassisiandou, V. Papasavvas, G. (2009) An offprint from eastern metalwork in the second millennum BC, A conference papers, The University of Cyprus