Latest articles
December 23, 2024
December 23, 2024
December 23, 2024
مقدمة تاريخية: اللغات السامية واللهجة النبطية
تتباين اللهجات المستخدمة اليوم في الأردن. وللزمن تأثير واضح على ما ينطق به الأردني من كلام. ومن المثير أن نعرف أن أجدادنا الأردنيين الأنباط كانوا ذوي نصيب كبير في عملية قولبة لهجة خاصة بهم إضافة لابتكارهم خطا خاصا بهم وهو الخط الذي بفضله نحن نكتب الآن وأنتم تقرؤون. لقد ساهمت تجارتهم المنفتحة على العالم وحرصهم على تأريخ حروبهم وتوسعهم إضافة إلى معتقداتهم الدينية على زيادة اهتمامهم بالتدوين. ولكن، ما هي اللغة التي كان يتكلم بها أجدادنا الأردنيين الأنباط ؟ وهل نتحدث لغة قريبة ومطورة عن تلك التي تحدثها أجدادنا؟
في الوقت الذي بزغت فيه المملكة النبطية الأردنية، كانت اللغة السائدة هي اللغة الآرامية وينطق بها اليوم حوالي 2 مليون فرد. والآرامية إحدى اللغات السامية التي انتشرت انتشارا كبيرا فيما قبل الميلاد وصولا إلى المراحل المبكرة في الإسلام. وقد نسب العلماء اللغات السامية لابن النبي نوح سام وهو الإبن الذي سكن هذه المنطقة حسب الروايات الدينية. تقسم اللغات السامية إلى شرقية (اللغة البابلية الآشورية) وغربية (اللغة الكنعانية والآرامية والعبرية) وجنوبية (العربية بجميع لهجاتها واللهجات الحبشية). (ولفنسون:1929)
أما شعب “الآرام” الذين تنسب إليهم اللغة فلم يحدد العلماء على وجه الدقة أصلهم، ولكنهم زاحموا البابليين والآشوريين وأقاموا العديد من الدويلات في وسط المشرق ورافقت هذه التغيرات السياسية في المنطقة تغيرات في اللغة القومية فتارة تكون البابلية وتارة الآرامية وتارة السريانية ولكن الحال استقر على الآرامية بعد هزيمة الآشوريين في القرن الخامس قبل الميلاد وصارت اللغة الرسمية وهي لغة المسيح والتلمود ومخطوطات قمران وغيرها الكثير من الوثائق. (ولفنسون:1929)
عبر التجارة اختلط الأردنيون الأنباط مع القبائل العربية المرتحلة جنوبا ومع الكنعانيين واليهود غربا وأهل العراق وصولا إلى تواصلهم مع الرومان وقد أدى ولا بد إلى تأثر لغتهم وإثرائها وبالتالي زيادة قوتها. ورغم هذا الانفتاح، صاغ الأردنيون الأنباط مع الوقت لهجة خاصة بهم يمكن اعتبارها خليطا من العربية والآرامية وقد سميت “رطانة الأنباط”.
ورد ذكر اللهجة النبطية في عدة مصادر عربية فقال الجاحظ في كتابه البيان والتبيين أن النبطي القُح يجعل حرف الزاي سين فيقول بدل زورق: سورق. كما يقلب العين همزة ويفتح المكسور. (ولفنسون: 1929) وهذا يدلنا على أن الأردنيين الأنباط لم ينطقوا بالعربية التي ننطق بها الآن إنما كانوا ينطقون بالآرامية وقد تصبغوا بالعربية نتيجة احتكاكهم بالقبائل العربية المرتحلة ونرى نتيجة هذا الاحتكاك في النقوش التي تتضمن بعض الكلام العربي. من تلك النقوش نستنتج أن الخط الذي طوره الأردنيون الأنباط وسمي لاحقا “الخط النبطي” ما هو إلا الصورة الأولى الأصلية للخط العربي بشكله الحالي. فالقبائل العربية المرتحلة لم تعرف الكتابة والتدوين ولم تملك خطا أو أبجدية مكتوبة إنما اقتبست الخط النبطي وطورته لتغطي الحاجة للتدوين التي انبثقت من تأسيس الدولة في الحقبة الإسلامية الأولى لاحقا. وسنتناول في تفصيل أكبر الخط النبطي وأثره على القلم العربي.
اللغة النبطية الأردنية : إطلالة على الأبجدية والقواعد
الأبجدية
تمتاز اللغات السامية بعدة مميزات تجعلها مميزة عن غيرها. فهي تعتمد على الحروف الساكنة لا الأصوات ولهذا زادت حروف اللغات السامية عن اللغات الآرية (لغات أوروبية). كما أن أغلب الكلمات ترجع لأصل ثلاثي- عادة فعل- كما الحال عند العربية. فإذا أردت البحث عن معنى كلمة “إرث” ستعود للمادة المعجمية “ورث”. وليس في اللغات السامية كلمات مركبة كما أن معظم الكلمات المؤلفة من حرفين مثل أب وأم ويد هي كلمات مشتركة بين اللغات السامية المتعددة. واللغة النبطية بوصفها لغة سامية أو لهجة سامية على الأقل تمتلك هذه الصفات.
الأبجدية النبطية الأردنية هي حروف آرامية استقلت وبدأت رحلة تطور خاصة. فقد مالت الحروف النبطية الأردنية للرسم المربع مما أدى لتشابه الكثير من الحروف مثل (ب، ي، ن) و (ق، ف، ه) وهنا صعدت مشكلة التنقيط والقدرة على التفريق بين الحروف ولم تغب هذه المشكلة عن الأردنيين الأنباط فاستخدموا بعض الأحيان النقاط للتفريق بين الحروف خصوصا الراء والدال (كانتينو: 2016). والجدير بالذكر أن الكتابة العربية غابت عنها مشكلة التنقيط حتى جاء أبو الأسود الدؤلي عام 643 م ونقّط الحروف.
وما يميز الكتابة النبطية هو الحروف المتصلة التي فرقتها عن باقي أخواتها من الكتابات الآرامية. ومن الواضح أن شدة النشاط الكتابي خصوصا ذلك الذي اتصل بالتجارة أدى إلى تطوير تقنيات كتابية تمتاز بالسهولة فالحروف المتصلة أسهل وأسرع في الكتابة من الحروف المنفصلة. كما أبقت الكتابة النبطية على الحروف (ز، ر، و، ا) غير متصلة من اليسار وهو أمر لا زلنا نقوم به الآن في كتابتنا العربية. وكما ذكرنا آنفا، فاللغات السامية جميعا تعتمد على الحروف الصامتة ولا تكتب أو تدون حروف العلة (كانتينو: 2016)
القواعد العامة
استخدم الأردني النبطي ضمير الغائب ( ه و/ ه وا) للمذكر و الضمير (ه ي) للمؤنث والضمير ( ه م) للجمع وهي مطابقة لما نستخدمه اليوم في العربية. ولم تزودنا النقوش بضمائر المتكلم والمخاطب، وغالبا ما استخدمت هذه الضمائر ولكن بوصفها اسما للإشارة أو اسما موصولا. واستخدم الأردنيون الأنباط ( ن ا) للدلالة على الملكية فيقولون ( م ر ا ن ا فلان) أي سيدنا فلان وهو استخدام قليل عند الأنباط ويرجح أنه راجع للتأثر بالسريانية. واستخدم الأردنيون الأنباط الضمائر ( ه ي – ه و – و- ه ) فيقولون ( أ ب و ه – بمعنى أبيه) و ( أ ح و ه- بمعنى أخيه). (كانتينو: 2016)
وفي النبطية أكثر الأفعال أفعال بسيطة ثلاثية غالبا ما تأتي بصيغة الماضي مثل الفعل (ع ب د) بمعنى عمل؛ أو المضارع (ي ك ت ب) بمعنى يكتب. كما يظهر استخدام فعل سببي مثل (ه ق ي م) بمعنى أقام ل.
أما الأسماء في النبطية فكانت متعددة الأنواع وقد حصرها الباحثون حسب المقاطع الصوتية وحسب الحرف الأول والحرف الأخير. وقد فرقت اللغة بين المؤنث والمذكر والتعريف والتنكير والإضافة والبناء والجمع والإفراد. وكان فيها إعراب وجمل اسمية وفعلية ولم تهمل أدوات الربط بين الجمل كحروف الجر والعطف والتعجب والوصل وغيرها. (كانتينو: 2016) ونستدل من كل ذلك على مدى تعقيد هذه اللغة لتتناسب مع الحضارة التي وصل إليها الأردنيون الأنباط .
الأرقام
استخدم الأردنيون الأنباط ستة أرقام وهي: 1 ،4، 10، 5، 20، 100 كما عرفوا تدوين العمليات الحسابية كالجمع والضرب وفق رموز معينة. من الصعب تحديد تاريخ هذه الرموز فبعضها كرقمي 4 و5 قد يكون حديثا أما استخدام الشرطة للدلالة على رقم 1 فهو قديم للغاية وموجود بشكل واضح في النقوش السومرية البابلية كذلك الأرقام 10 و 20 و100 فهي مأخوذة من الرسم الفينقي. (كانتينو: 2016)
كما عرف الأردنيون الأنباط كتابة الأرقام فكانت أرقامهم المكتوبة تصل للثلاثة آلاف وهو رقم كبير يتناسب مع قوة نشاطهم التجاري. ونلاحظ مدى التشابه بين الأرقام التي استخدمها أجدادنا والتي نستخدمها نحن ونذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض الأرقام بحسب الكتابة النبطية التي اكتشفت على نقوش المباني (كانتينو: 2016):
1: ح د | 7: ش ب ع |
3: ت ل ت | 8: ت م ن و ا ي |
4: ا رب ع | 9: ت ش ع |
5: ح م ش | 10: ع ش ر |
6: ش ت | 11: ع ش ر ة ح د ه |
20: ع ش ر ي ن | 24: ع ش ري ن و ا رب ع |
الخط النبطي وتطور الخط العربي
طور أجدادنا الأردنيون الأنباط خطا عرف بالخط النبطي وهو خط مربع مشتق عن الخط الآرامي الذي اشتق في الأصل من الخط الكنعاني. وقد ظهرت العديد من الخطوط المحلية المشتقة عن الخط الآرامي إلا أن الخط النبطي كان من أقواها وأكثرها انتشارا وهو ما ساعده على البقاء والتطور سريعا ليفضي أخيرا إلى الخط العربي الحالي. (كانتينو: 2016)
لقد ساعدتنا النقوش النبطية المكتشفة في مراكز المملكة الأردنية النبطية على صياغة فهم أكبر وأشمل للغة النبطية. ويؤرخ أقدم النقوش المكتشفة إلى 33 ق.م. أما أحدثها فقد نُقش بعد انهيار المملكة النبطية على يد الرومان عام 106 م. ومن ناحية أخرى، تزودنا هذه النقوش بوثائق لغوية أقدم من النقوش التدمرية كما تساعد المعلومات التاريخية في النقوش على القيام بموازنة المعلومات التاريخية الواردة في التوراة لأن النقوش لم تعرض للتزوير أو التشويه. (كانتينو:2016)
قد وجدت العديد من النقوش النبطية كشواهد قبور بل تكاد تكون جميعها شواهدا لقبور. وتتمركز هذه النقوش في أم الجمال والحجر وبُصرى.
وصل العلماء في نهاية بحثهم لمجمل النقوش في المنطقة إلى أن الخط النبطي المتأخر هو بداية الخط العربي. فالخط الاردني النبطي في فترته المبكرة كان يكتب الحروف منفصلة – كأغلب الخطوط السامية القديمة – بينما يرسمها الخط النبطي المتأخر متصلة كحال الخط العربي المستخدم اليوم. هذا إضافة لعدة خصائص أخرى كالتاء المربوطة وتعدد رسم الحرف الواحد فيكون رسمه في منتصف الكلمة مختلفا عن رسمه نهاية الكلمة. (ولفنسون: 1929)
أما أهم هذه النقوش فهو نقش (فهرو) أو كما يسمى (نقش أم الجمال الأول) وهو نقش وجده الباحث ليتمان في مدينة أم الجمال التي كانت إحدى مراكز المملكة الأردنية النبطية واستعان ليتمان بنقش اغريقي وجد بالقرب منه وكان ترجمة للنقش النبطي. وتكمن أهمية هذا النقش في كونه استخدم الخط النبطي المتأخر ويرجح أن يكون عائدا إلى 250-270 م. كحال النقش المهم الآخر (نقش نمارة) المؤرخ لعام 328 م وسنستعرض النقشين وأهميتهما تاليا.
نقش أم الجمال الأول
“هذا قبر فهر (فرو)
ابن سلى مربي جديمة
ملك تنوخ” [2]
هذه الترجمة العربية لنقش أم الجمال الأول والنص عبارة عن شاهد لقبر فهر بن سلى وهو المربي والمعلم للملك “جديمة” أول ملك تنوخي[3] في الحيرة[4]. وقد حدد الباحثون عدة خصائص للخط النبطي وقارنوها بالخط الكوفي العربي ووجدوا تشابها كبيرا فرسم حرفي الحاء والجيم شبيهين برسمهما في الخط الكوفي. كما لاحظ الباحثون عدة خصائص أخرى كرسم حرف الشين والياء بشكل منفصل إضافة للكتابة المتصلة والتي لم تعرفها بقية اللغات السامية (ولفنسون: 1929)
دار جدل واسع بخصوص الأسماء العلم في هذا النقش. فاقترح المستشرق ليتمان أنها عربية ولكن صيغت بقالب آرامي عبر إضافة حرف الواو للتعريف وهي صيغة آرامية في التعامل مع الأسماء. ولكن ذهب باحثون آخرون إلى أن اسم “سلى” غير مشتق من العربية بل هو آرامي أصيل. أما اسم الملك “جديمة” فقد ذهب ليتمان أنه مؤسس مملكة تنوخ في الحيرة بسبب اعتياد الحضارات القديمة على تخليد أسماء المؤسسين في النقوش. (ولفنسون: 1929)
وتكمن المشكلة في هذا النقش في اعتماد المستشرقين على الترجمة الإغريقية التي وجدت منقوشة بالقرب من النقش النبطي. وبهذا الصدد، يقترح الباحث الأمريكي العراقي سعد الدين أبو الحَب فرضية جديدة بخصوص الترجمة العربية. فالاستخدام النبطي لحرفين ميم “مملك” هو استخدام عربي فصيح. أما تاريخيا فقد أثبتت هذه القراءة أن جديمة هو أول ملوك تنوخ في الحيرة كما جاء الباحث بقراءة جديدة معتمدا على العربية الفصيحة. فكلمة “دنه” هي أدناه، وكلمه “نفشو” هي “نفسه” لا نصب.[5] ومن هنا استنتج قراءة جديدة لهذا النقش “ادناه نفسو(هو نفسه) قبر فرُء بن سالّي ربُّ (مُربّي) جُذيمة مُمَلَّكُ (مؤسس مملكة) تنّوخ”
نقش نمارة ( نقش امرؤ القيس )
يعد نقش نمارة من أهم النقوش التي ساعدت الباحثين في فهم المرحلة السابقة للكتابة بالخط العربي وذلك لقربه الشديد من العربية الفصيحة. وهو مؤرخ للعام 328 ميلادي. وقد قدم الباحث دوسو ترجمة للنقش بوصفه شاهد قبر لملك من ملوك الحيرة يدعى امرؤ القيس وهو ثاني ملك لمملكة الحيرة (المناذرة) بعد عمرو بن عدي.
أعاد الباحث سعد الدين أبو الحَب قراءة هذا النقش وقد كشفت أبحاثه عن تناقض صارخ في قراءة المستشرق دوسو. فقراءة دوسو تقول بأن النقش هو شاهد لملك يدعى امرؤ القيس. بينما تطرح أبحاث أبو الحب قراءة أخرى مبنية على اللغة العربية الفصحى إضافة للتوافق التاريخي مع الحروب وموت امرؤ القيس الذي كان قبل النقش بعدة سنين. وتقول قراءته بأن ذكر امرؤ القيس كان على سبيل التعظيم فقد عرفت الحضارات القديمة البدء باسم القائد أو الملك أو الإله على غرار التسمية باسم الله. أما المتن فكان في مدح قائد عسكري أو أحد سادات القبائل ويسمى ((عكدي)) وهو غير معروف تاريخيا. (أبو الحب: 2011)
وقد قدم الباحث أبو الحب قراءة نهائية عربية فصيحة لهذا النقش وكان متنه كالتالي: تَيا (قَسماً يا ؛ يا) نَفسُ (روحُ ؛ دَمُ) امرؤ القيس بن عَمْرو، مَلِكُ العَرَبِ كُلُّها، ذو أسَد التاج (كُنية)، ومَلِكُ الأسَديين (قبائل أسد في نَجْدْ) ونَزارٍ (بنو نَزار في الحجاز) وملُوكَهُمُ. (لقد) هَرَّبَ مِذْحِج (قبيلة يمانية) عكْدي (اسم علم)، وجاء (اي عكْدي) يزُجُّها (يُقاتلها بضراوة) في رُتِجِ (أزقة ؛ طُرُقْ ضَيّقة) نَجران، مدينة شِمرْ (الملك شِمرْ يَرعشْ)، مَلِكُ مَعَدٍ (بنو مَعَدْ)، وبَيّنَ (مَيّزَ بَيْنَ) بنيها الشعوب (فروع قبيلة مِذْحج)، ووكَّلَهُنَّ (وَضَعَهُنَّ تحت حماية) فُرْسانُ الروم، فَلمْ يبلغْ مَلِكٌ (اي حتى مَلِكٌ) مَبلَغَه (ما بَلَغَهُ عكدي). عكْدي هَلَكَ (مات ؛ قُتِلَ) سَنَة 223 (328م)، يَومْ 7 بكسلولْ (كانون الأول)، يالِسَعْدِ (يالسعادةِ) ذو (الذي) وَلَدَه (أَنْجَبَهْ).
بهذا نرى أن اللغة النبطية المتأخرة والخط النبطي المتأخر شكلا الجذر الأساس للخط العربي. ويمكننا أن نلاحظ مدى فعالية قراءة النقوش النبطية المتأخرة قراءة عربية وذلك للتأثر الشديد بالقبائل العربية المرتحلة إضافة لانتشار الأردنيين الأنباط بين تلك القبائل عقب انهيار مملكتهم في القرن الأول ميلادي وعودة الحكم القبلي بينهم.
الشعر النبطي الأردني
مشتقا من الشعور، يظل الشعر أداة إنسانية متفردة للتعبير عن الذات. كتب الإنسان الشعر منذ القدم للآلهة وللمحبوبة وللتأمل وللحرب. والشعر للإنسان حالة وجد في المقام الأول والشعوب الفقيرة روحيا لا تنتج شعرا. تغنى الصحراء الروح وتجبل نفس البدوي على الصبر والشجاعة والأصالة والحرية وفي البادية ينشد الشاعر محمد فناطل الحجايا:
البادية ما هي قصيدة وربابة
ومسلسلات فارغات وتنّعاب
البادية نخوة وطيب وصلابة
والبادية بيت الأصالة والأحسّاب
والبادية عز وشموخ ومهابة
إنتاجها فرسان وسيوف وحراب[6]
يعرف الشعر النبطي بأنه الشعر البدوي ويعتقد أنه رافق الحضارة النبطية في نشوئها وازدهارها وبقي حتى انهيار المملكة وانتشار قبائلها في الصحراء ومن ثم تمازجهم مع بعض القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية. وكما ذكرنا آنفا أن الأردنيين الأنباط -في وقت متأخر من حضارتهم- عرفت لكنتهم باللكنة أو الرطانة النبطية وهي عبارة عن آرامية مطعمة بالعربية وقد ذهب بعض الباحثين للقول بأن اللغة الآرامية المحكية قد انسحبت تماما وحلت العربية مكانها ولكن مع اللكنة النبطية الخاصة.
الشعر النبطي شعر عربي بدوي وهو أقرب الأنماط الأدبية الشعبية قربا للغة الفصيحة. وبسبب اللكنة التي عدت لهجة عامية عربية اعتبر شعراء العرب أن الشعر النبطي خارج عن القواعد العربية. فالشعر النبطي هو شعر ملتزم بالوزن والقافية وكذلك المضامين الشعرية المعتادة كالمدح والرثاء والغزل. إلا أن الشعر النبطي تحرر من البحور الخليلية[7] والإعراب واستحدث بحورا شعرية أخرى بعضها مشتق من البحور الخليلية (الدعجة: 2013)
اعتمد الشعر النبطي الأردني على بحور شعرية خاصة به وقد توارثتها الأجيال بعفوية دون كتابة ويعرفها الشاعر بسليقته الشعرية. تقسم هذه البحور إلى بحور أصلية وبحور مبتكرة فمن الأصلية :
- الهلالي وهو البحر الشعري الأقدم.
- الصخري وهو بحر قديم ينسب إلى قبيلة بني صخر وله لحن حزين.
- الحداء وهو بحر بدوي قصير ينشد للإبل.
- والمروبع وهو بحر جديد له طريقة وزن خاصة.
أما البحور المبتكرة فهي:
- المسحوب وهو منشق عن البحر الهلالي وهو أسهل البحور وأكثرها شيوعا.
- البحر الهجيني وهو بحر يلتقي مع بحر المتدارك العربي وسمي نسبة لطريقة سير الهجن والجمال.
- البحر السامري وهو مشتق عن الهجيني ويستعمل للسمر والسهر.
- بحر الفنون وهو مشتق عن السامري.
- بحر العرضة ويقول البعض أنه مشتق من الحداء.
- البحر الزهيري وغيره من البحور كالمديد والجناس والطويل والقلطة
الشعر النبطي له قواعده التي تحكمه فرغم عفويته وشعبيته إلا أنه مقسم بحسب القافية وللقصيدة عدة عناصر وموضوعات. كما تترافق القصيدة بما يعرف (جرة الربابة) وهي أنواع متعددة بحسب الموقف فلشعر الخصام جرة وللرثاء جرة وللتسامر جرة وغيرها. (الدعجة: 2013)
كان للأردنيين باع طويل في الشعر النبطي كيف لا وهم أحفاد الأردنيين الأنباط وورثة حضارتهم الذين ينسب لهم هذا النوع من الفنون. فمن نمر بن عدوان (1735م.) صاحب جرة الربابة المسماة باسمه وصولا إلى غيره الكثير من الشعراء والشاعرات، ينشد الأردنيون شعرا نابعا من روح الصحراء الأردنية النبطية. ولقد عملت وزارة الثقافة على جمع سير الشعراء الأردنيين فأصدرت كتابا تحت عنوان “مختارات أردنية من الشعر النبطي الأردني ورواده في الأردن” للكاتب طارق كساب الدعجة ويحوي الكتاب على مقدمة مفصلة عن الشعر النبطي وكل ما يتصل به إضافة لسير الشعراء الأردنيين ومختارات من شعرهم. واليوم، يحتفي الأردنيون بأصالة شعرهم فتقام المسابقات الدورية لهذا الشعر في المدارس والجامعات لغرس حب هذا الفن في قلوب أبناء الأردن.
خاتمة: اللغة والهوية
اللغة هي الواجهة الحضارية التي تقابل بها الشعوب الشعوبَ الأخرى. رغم استخدام الأردنيين الأنباط للغة الآرامية والعربية في وقت متأخر إلا أنهم قدموا إسهامات حضارية جليلة لكلا اللغتين. لقد وظفوا اللغة الآرامية لخدمة تجارتهم واتساع مملكتهم، كتبوا نقوشا لتخليد ذكر ملوكهم وانتصاراتهم، وكتبوا لآلهتهم ومقدساتهم. طوروا وأضافوا ولم يكونوا عنصرا مستقبلا خاملا. لقد كتب الأردنيون الأوائل هويتهم وهو ما يجب أن يلهمنا على الدوام ونحن نكمل ما بدأ به أجدادنا.
المراجع
- سعد الدين أبو الحب، نقش نمارة العربي النبطي، دراسة منشرة كفصل من كتاب Tracing Western Scholarship on the History of the Arabs and Arabic Language and Script 2011
- جون كانتينو، اللغة النبطية، مهدي الزعبي، 2016، سلسلة دراسات
- ولفنسون (1929) تاريخ اللغات السامية، بيروت: دار القلم
- الدعجة، طارق (2013) مختارات أردنية من الشعر النبطي ورواده في الأردن. عمان: منشورات وزارة الثقافة.
[1] للمزيد انظر https://en.wikipedia.org/wiki/Nabataean_alphabet
[2] وردت هذه الترجمة في كتاب تاريخ اللغات السامية لفنسون. كما أنها متوافرة أونلاين http://www.wikiwand.com/ar/%D9%86%D9%82%D8%B4_%D8%A3%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%84_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84
[3] التوخيين هم قبائل نبطية سكنت الأردن وجنوب سوريا التي كانت جزءا من المملكة النبطية ومن أهم هذه القبائل قبيلة المناذرة التي سميت باسمها الدولة التنوخية في الحيرة لاحقا. انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%88%D8%AE%D9%8A%D9%8A%D9%86
[4] الحيرة منطقة واقعة جنوب بغداد
[5] النصب هو شاهد مقام لتخليد ذكرى الميت وعادة ما ينقش عليه تاريخ الوفاة وأبرز أعمال الميت.
[6] ورد هذا الشعر في الجزء الأول من كتاب “مختارات أردنية من الشعر النبطي ورواده في الأردن المجلد الأول ص.12” لطارق الدعجة. إصدارات وزارة الثقافة الأردنية.
[7] البحور الشعرية التي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي.