كذبة لورنس – الجزء الرابع
Latest articles
November 16, 2024
November 16, 2024
November 16, 2024
تمهيد
مع اتساع رقعة أحداث الثورة العربية الكبرى بما يتوافق مع حجم الطموح والآمال العربية التي رأت في هذه الحركة فرصة للخلاص من الويلات التي عانت منها المنطقة لقرون طويلة تحت الاحتلال العثماني، فبرزت الحاجة لضرورة فتح العقبة وتطهيرها لما لها من مركز استراتيجي بالغ الأهمية في سير الأحداث حيث كانت تعتبر مفتاح التوسع شمالا لتطهير بقية المناطق، والى جانب ما تقدم، كانت العقبة من أهم المواقع المطلة على البحر الأحمر والتي استعملها الترك والألمان والنمساويين لزراعة الألغام في مياهها وبرزت المخاوف لدى الحلفاء من استعمالها من قبل الألمان كقاعدة للغواصات الحربية في إطار التنافس على المواقع الإستراتيجية في خضم اشتعال الحرب العالمية الأولى بغية التحكم بموازين القوى، ونذكر هنا محاولة الأسطول البريطاني الحد من الدور التركي في العقبة، حيث ضربت مدافعه القوات التركية مرتين، وفي المرة الثانية بتاريخ 20 نيسان 1917 تكبدت الحامية العثمانية الموجودة في العقبة خسائر جمة وذلك نتيجة الاشتباك مع مفرزة بريطانية نزلت للساحل، مما دفع أفراد الحامية للاحتماء بالتلال المطلة على العقبة وإنشاء استحكاماتهم فيها ، مما لم يتح المجال للبريطانيين بالبقاء هناك طويلاً او التقدم نحو التلال الوعرة.
إلا أن الكثير من المصادر تؤكد عدم رغبة قوات الحلفاء في ذلك الوقت بان يكون تحرير العقبة على أيدي عربية أو رغبتهم الحقيقية بإنهاء الوجود العثماني في مناطق جنوب الأردن، لان ذلك سيبعثر مخططاتهم ، وخصوصا فيما يتعلق باتفاقية سايكس بيكو التي لم تكن قد كشفت بعد ، ومن ذلك نستنتج أن المهمة المطلوبة التي كان يريدها الحلفاء لقوات الثورة هي فقط إثارة الشغب والعمليات المحدودة والغير حاسمة للإبقاء على انشغال العثمانيين بمحاربتها وملاحقة القائمين عليها ، لضمان تواجدهم في المناطق وعدم انسحابهم وحشد قواتهم في المناطق الشمالية التي كان الحلفاء يخططون لاحتلالها ، وهو ما لم يكن أبداً سيلبي طموح وأهداف ثورة أحرار العرب و فرسان العشائر الأردنية و شيوخها كافة و الذين قاموا رفضا لظلم الاحتلال العثماني لا لاستبداله ، مما جعل إيمانهم بقضيتهم دافعاً لتنظيم أنفسهم ووضع الخطط العسكرية وتوجيه الضربات للعثمانيين بشكل فاق توقعات الحلفاء وأثار قلقهم.
التخطيط والإعداد لحملة تطهير العقبة ولورانس يرجو السماح له بمرافقة الحملة
وكان البحث في السيطرة على العقبة وتطهيرها من أولويات الأمير فيصل لدفع الثورة شمالاً وهو ما يؤكده نسيب البكري الذي عاصر تلك الإحداث وكان من أول العاملين على أعداد الثورة ومن المقربين للأمير فيصل ، حيث يذكر البكري ان الأمير فيصل كان يتحين الفرصة المناسبة لرفع الثورة في مناطق الأردن وسوريا وظل على اتصال مع عودة أبو تايه و نوري الشعلان وشيوخ العشائر الأردنية في مدن جنوب الأردن وزعماء المناطق الشمالية من مدنيين وعسكريين، لذلك كان قدوم عودة أبو تايه الفارس المشهور بجرأته وزعامته العنصر الفعّال الذي ينتظره فيصل، حيث رحب عودة ترحيباً بالغاً بفكرة رفع علم الثورة في معان والعقبة، وبناء على ذلك تم انتداب الشريف ناصر لقيادة هذه المهمة كما تم انتداب نسيب البكري رسولاً لزعماء جبل الدروز لتهيئة أفكارهم وإقناعهم بقضية الثورة، وهكذا جرى بحث الشروع في الحملة للتوسع شمالاً والقيام بها دون أن تبدو ضرورة مرافقة لورانس لها، ولكن لورانس مدفوعاً بحب المغامرة وربما ما هو أكثر من ذلك ، رجا الأمير فيصل كثيرا ان يأذن له بمرافقة الحملة قائلاً أنه يستطيع المساهمة في زرع الألغام وتفجيرها ، فتمت الموافقة على ذهابه بهذا المفهوم لا أكثر.
الوصول لجنوب الأردن ، تسجيل وتسليح المتطوعين والتخطيط للعمليات
انطلق الشريف ناصر يرافقه عودة أبو تايه ونسيب البكري والقائد زكي الدروبي و35 متطوعاً من عشيرة العقيلات ، ومعهم لورانس، وأخذ الشريف معه عدداً من البنادق وكمية من العتاد وأصابع الديناميت ، واتجهت الحملة الصغيرة شمالاً وسط الصحراء الموحشة القاحلة ، ونفذ رجالها عددا من المهمات التي تمثلت بنسف قضبان السكة الحديدة وقطعوا خطوط الهاتف، قبل وصولهم لمنطقة العيساوية في ضيافة عشائر الحويطات ومنها بدأت مرحلة الحشد والتجهيز وتسجيل المتطوعين والفرسان وتسليحهم ونذكر منهم أيضا فرسان الرولة الأشاوس، حيث أخذ البدو يتوافدون لإعلان انضمامهم للثورة.
وتمكن الشريف ناصر وعودة أبو تايه من تجنيد أكثر من 500 متطوع وانطلقوا بهم لمنطقة باير، ولما كان له من الحنكة والدهاء ، قرر عودة أن يخدع الترك حول اتجاه الحركة المقبل ، فأرسل ابن أخيه زعل على رأس مئة من الفرسان شمالاً ورافقهم لورانس لوضع المتفجرات بصفته متخصصا بتركيب المتفجرات في المواقع التي يحددها له قادة الثورة ، فنفذوا عددا من عمليات نسف للعبارات ونزع للقضبان الحديدية.
بداية معارك تحرير العقبة
انطلقت الحملة من باير باتجاه الجفر وفي أثناء الليل بلغتهم أنباء وصول كتيبة تركية إلى موقع أبو اللسن بقيادة الأميرالاي نيازي بك ، فانطلقوا طوال الليل ووزعوا أنفسهم على التلال المحيطة بالموقع وانضمت لهم هناك بعض عشائر الحويطات ، فأحاطوا بالموقع من جميع الجهات وبدأ العرب بإطلاق النار وقام بعض الخيالة بقطع خطوط الهاتف الموصلة الى معان لعزل الكتيبة عن قيادتها.
واستمر تبادل إطلاق النار طيلة صباح يوم 2 تموز ، واستعمل الأتراك مدفعاً جبلياً كان معهم ولكن قذائفه كانت تقع على الصخور وراء ظهر العرب / والواقع أن الترك أساءوا اختيار موقعهم عند عين الماء في واد منخفض تحيط به التلال، وعند العصر شن عودة هجوما من ناحيتين على مراكز الترك يرافقه خمسون من الخيالة من جانب ويقابلهم أربعمائة من الهجانة من الجانب المقابل ، وارتبكت فوف الترك أمام هذه الهجمة الخاطفة وحاولوا الفرار دون جدوى من ذلك وانتهت المعركة بمقتل 300 من الترك وسقوط 160 أسيرا في أيدي العرب من بينهم قائد الكتيبة نيازي، بينما استشهد اثنان من أبطالنا المقاتلين العرب الأشاوس، الذين ضحوا بدمائهم من اجل حرية أمتهم.
لورانس في ام اللسن ، دور بطولي ويتحارب مع ناقته !
عندما قرر لورانس أن يمثل الدور البطولي خلال معركة أم اللسن؟ ماذا حدث ؟
لقد اعترف في كتابه أنه ساق ناقته نحو القتال وأخذ يطلق النار من مسدسه فأصابت إحدى طلقاته ناقته، وكانت هذه الإصابة الوحيدة التي حققها خلال المعركة، فخرت على الأرض وسقط هو مغمى عليه ولم يصحُ إلا بعد انتهاء المعركة لكتابة وتأليف الأحلام والأكاذيب التي شاهدها أثناء نومه، ثم تسليمها لقيادته في تقارير مليئة بالأكاذيب، بينما لم يُصب الفارس الشيخ عودة أبو تايه بأذى رغم أن فرسه قتلت تحته بإجماع المراجع و الروايات الشفوية و إحداها رواية لورنس نفسه.
قوات الثورة والعشائر تحرر العقبة
واصلت الحملة تقدمها وأرسل العرب عدة رسائل لشيوخ الحويطات في المناطق القريبة من الساحل طلبا لمساندتهم، وكذلك رسائل من نوع لقادة الحاميات التركية في القويرة وكثارة وخضرا وهي المراكز التركية الثلاث المشرفة على العقبة طالبين منهم الاستسلام ، فانضمت العشائر ، واستسلمت حامية القويرة بعد محاصرتها ، وتلتها حامية كثارة التي رفضت في البداية قبل أن ترغم على الاستسلام بعد انهيار مقاومتها ، فسارت الحملة في وادي اليتم ليكتشف العرب أن الأتراك اخلوا جميع مخافره وتجمعوا في موقع خضرا وهو موقع منيع محصن يتحكم في ثغر العقبة ويدافع عنه أكثر من 300 جندي وضابط ، ولما وصل العرب للموقع كانت أعدادهم قد تضاعفت وهبت جميع عشائر المنطقة لمساعدتهم خصوصا عشيرة الدمانية استجابة للرسائل التي وصلتهم ، فعرضوا على الترك المتحصنين في الموقع الاستسلام فرفضوه بداية ثم أعادوا تقييم موقفهم ، نتيجة عدم كفاية المؤن ، وانصاعوا لمطالب القوات العربية ورفعوا رايات الاستسلام.
وبلغ مجموع أسرى الاحتلال العثماني خلال هذه المعارك ما مجموعه 780 أسيراً ، 745 جندياً و 35 ضابط احدهم برتبة أميرالاي ، ومن بين هؤلاء ضباط وجنود وخبراء ألمان ونمساويين كانوا يقدمون المساعدة للاحتلال العثماني ، وجاء في رسالة الشريف ناصر بتاريخ 6 تموز 1917 ، أن أبناء العرب من الأسرى يودون الانضمام لقوات الثورة.
وأقام الشريف ناصر في العقبة بعد تحريرها بينما عاد عودة إلى القويرة ليتخذ منها ومن أبو اللسن والمريغة وعين وهيدة ودلاغة مراكزاً له، للوقوف في وجه الأتراك إذا حاولوا استعادة تلك المواقع ،بينما مضى لورانس في نفس اليوم (6 تموز) مع ثمانية من الحويطات للاتصال بالجيش البريطاني المرابط عند قناة السويس، وتسليم تقاريره واستلام مخصصاته.
وحالما دخل الشريف ناصر و عودة أبو تايه إلى العقبة مكللين بالانتصار، بادر الشريف ناصر بالكتابة إلى الأمير فيصل وأرسل رسالته مع عدد من هجانة قوات العشائر الأردنية إلى معسكر الأمير فيصل قرب الحدود الأردنية الحجازية، ومن هناك أرسل الأمير فيصل بن الحسين رسالة إلى أبيه الشريف الحسين بن علي قال فيها ” إن جيوشكم المنصورة استولت على العقبة و أخذت جميع حاميات درب العقبة و معان ، وتكريما لقادة الثورة على هذا الانتصار أهدى الحسين سيفين إلى كل من الشريف ناصر بن علي والشيخ عودة أبو تايه نظير بسالتهم وإخلاصهم وشجاعتهم في العمليات العسكرية لتطهير العقبة من الاحتلال التركي.
لورانس يسرق انتصار وفتح العقبة وينسبه لنفسه
بعد وصول لورانس لمركز القيادة في الجيش البريطاني ، نكتشف هول التزييف والفرق بين الحقيقة والخيال في تقريره السري الذي قدمه الى الجنرال كلايتون بتاريخ 10 تموز 1917 والذي يصفه الكاتب المؤرخ سليمان الموسى في كتابه لورانس والعرب بأنه “يتضمن مجموعة من الاختلافات لا يعتقد أن تقريراً رسمياً آخر في تاريخ الحروب يجاريه فيها” ، حيث يستطيع أي قارئ ان يكتشف جانبا كبيراً من هذه الأكاذيب والتناقض ، إذا ما قارن بين ما كتبه لورانس في التقرير وبين ما كتبه هو نفسه في (النشرة العربية) وفي كتابه (أعمدة الحكمة السبعة).
رحلة افتراضية وبطولات وهمية وتناقضات ، لورانس يكذّب نفسه
يتحدث لورانس في تقريره عن رحلة افتراضية يزعم انه قام بها لتدمر ودمشق ثم الأزرق ثم العودة للنبك موقع تجمع الشريف ناصر والحملة، ثم انطلاقه إلى زيزياء ووادي اليرموك وأم قيس ثم المفرق والزرقاء وما قام به من بطولات واجتماعات ومباحثات مع شيوخ عشائر ضلت موالية للترك حتى الأيام الأخيرة من الثورة نتيجة انخداعها بشعارات التجارة بالدين أو إجبارها من قبل العثمانيين واستخدام أبناءها كرهائن ودروع بشرية، حيث يدعي في تقريره التحالف مع هذه العشائر والتخطيط للمعارك وإدارتها.
ومن الجدير بالذكر هنا أن لورانس يورد في تقريره أن رحلته (المزعومة) إلى تدمر ودمشق حدثت قبل ذهاب رسول الأمير فيصل نسيب البكري إلى جبل الدروز لمخاطبة زعمائها بشأن انضمامهم للثورة وانه أعطاه “التعليمات” يوم 18 حزيران ، بينما نراه يناقض ويكذب نفسه في كتابه أعمدة الحكمة السبعة ويقول أن تلك الرحلة حدثت بعد ذهاب نسيب ولا يذكر تفاصيل عنها، وهو الادعاء الذي ينفيه نسيب البكري بشدة حيث أكد في رسائله للكاتب والمؤرخ الأردني سليمان الموسى أن لورانس بقي معهم في وادي السرحان حتى اليوم الذي تحرك فيه البكري لجبل الدروز وتحرك الشريف ناصر وعودة إلى منطقة باير، وأكد ذلك كل من عيد بن قاسم ومحمد أبو تايه وآخرون.
وفي ذات التقرير يدعي لورانس انه بلغ ومن معه من المقاتلين البدو أم قيس وخط السكة في وادي اليرموك بينما يقول في كتابه أعمدة الحكمة انه بلغ منطقة منيفه فقط (عند الكيلومتر 173) على مشارف المفرق، وهو الادعاء الذي يفنده أيضاً واقع الأمور ويدخله في حكم الاستحالة نظراً لطبيعة منطقة أم قيس وما حولها من نواحي اربد المأهولة بالسكان الذين كانت علاقتهم متوترة مع البدو في ذلك الوقت نتيجة ما زرعه العثمانيين من فتن بين البدو والحضر.
نسيب البكري يفضح أكاذيب لورانس
ويقول نسيب البكري المجاهد السوري الذي عايش أحداث الثورة ومراحلها كاملة وأكمل بعد ذلك مقاومته للاحتلال الفرنسي لسوريا وقد كان كما ذكرنا من الموجودين مع الحملة منذ انطلاقتها ، حيث انتدبه الأمير فيصل رسولاً له لجبل الدروز : “أما زعم لورانس بأنه ذهب متخفياً إلى دمشق وبعلبك وتدمر فأستغربه جداً لأنه يبعد كل البعد عن الحقيقة ، وأنا واثق من أن لورانس لم يفارقنا يوماً واحداً ولم ينفصل أحدنا عن الآخر ، إلا بعد أن ذهب هو مع عودة وناصر نحو العقبة وذهبت أنا لجبل الدروز، كما أن مزاعم لورانس الغريبة عن قيادته للثورة، تدل على جهل تام بالحركات العربية الرامية إلى الاستقلال منذ سنة 1908 ، وعلى تجاهل للضحايا والشهداء الذين قدمت منهم الأمة العربية المئات والآلاف “.
محاولات لورانس إيقاع الفتنة بين صفوف الثوار
يضيف نسيب البكري : “ولا بد لي من القول أن لورانس كان يميل إلى تفريق الصفوف، وقد حاول تحريض عودة وناصر على أن يأخذا مني السبعة آلاف جنيه التي خصصها الأمير فيصل للإنفاق والتسليح في سوريا وجبل الدروز، لكنهما كانا يملكان من الفطنة ما يكفي لاكتشاف اللعبة وقلبوا السحر على الساحر، حيث اعلمني الشريف ناصر ان لورانس قام بتحريضهما لأنه لم يكن ارغب ان اذهب إلى جبل الدروز، وقال لي الشريف ناصر انه حسماً للخلاف وضمانا من أي ألاعيب قد يقترفها لورنس سوف يقول بأنني سلمته المبلغ وهكذا كان، وأظن أن لورانس بقي إلى حين وفاته يعتقد أنني سلمت المال بينما لم أسلم منه ليرة واحدة”. ، وهو الأمر الذي يعترف به لورانس في كتابه، حيث يقول بأنه لجأ إلى الدس والتفريق بين نسيب البكري من جهة وبين الشريف ناصر والشيخ عودة أبو تايه من جهة أخرى، كما زعم أن نسيب عرض عليه القيام بحركة في سوريا تحت زعامته -نسيب- على أن تكون منفصلة عن الثورة العربية الكبرى التي يقودها الشريف الحسين، وأنه وعد نسيب بمساعدته إذا نجح في ذلك، ولا حاجة للقول أن نسيب البكري نفى هذا الزعم لأنه وإخوانه كانوا من أشد أنصار الشريف حسين ابان الثورة، وما قبلها حتى، وذلك حين استضاف الشريف فيصل بن الحسين في داره بدمشق عند مروره بها قادما من اسطنبول سنة 1916 وفي داره أقسم الشريف يمين الإخلاص لجمعية الفتاة ، ومن بيت البكري انطلقت صرخة الشريف فيصل الشهيرة : “طاب الموت يا عرب”، ومنه أيضاً أبرق برقية جاء فيها “أرسلوا الفرس الشقراء”، وهذا كان مصطلحاً سرياً يعني بدء إعلان الثورة العربية الكبرى وإطلاق الرصاصة الأولى، وذلك بعد إعدام جمال باشا للقافلة الثانية من أحرار العرب يوم 6 أيار 1916م، رغم توسط الأمير فيصل لدى جمال باشا، مقرونة بوساطة الشريف الحسين نفسه، فقد أقدمت السلطات التركية على إعدام مجموعتين من الأحرار العرب في كل من ساحة المرجة في دمشق وساحة الشهداء في بيروت.
لورنس يتهم بني صخر هذه المرة !
وفي مثال آخر على محاولة لورانس ومساعيه الحثيثة لإيقاع الفتنه وخلط الأوراق ومناقضة نفسه، نجد لورانس يتحدث في كتابه أعمدة الحكمة (ص532)، عن زيارته في طريق عودته لمنطقة زيزياء ولمضارب بني صخر وقضاء ليلة في ضيافة الشيخ فواز الفايز، بينما يذكر في تقريره أن زيارة زيزياء كانت في طريق الذهاب وليس العودة وانه مر بها وانطلق مباشرة إلى أم قيس، ولكن هنا يضيف لورانس كذبة وافتراء من نوع آخر لشق الصفوف بين الثوار ، حيث يتهم فواز الفايز وبعض من رفاقه بمحاولتهم تسليمه للترك، وهو الأمر الذي يستحيل تصديقه، وعن هذا يقول الشيخ مثقال الفايز شيخ مشايخ بني صخر وشقيق فواز : “أنه لا يشك في اختلاق لورنس للقصة لأن تقاليد البدو لا تبيح لصاحب البيت أن يسلم ضيفه أبدا و مهما كانت الظروف، كما أن الشيخ فواز كان عضواً في جمعية العربية الفتاة المعروفة بموقفها الرافض للاحتلال العثماني”.
لورانس يقترب . . أنصاف حقائق ونصف اعتراف
والحقيقة أن لورانس اقترب ذات يوم إلى الاعتراف بأن قصة رحلته هذه كانت محض اختلاق، ونستند في ذلك إلى ملاحظات كتبها إلى مؤرخ سيرة حياته روبرت جريفز بتاريخ 22 تموز 1927 ، فقد ذكر أن ما تضمنه تقريره لقيادته كان جزءاً من الحقيقة ، وانه لا يريد لأحد أن يتمكن من التحقق من صحة القصة، وطلب منه كتابة تفاصيل يعترف هو بعدم واقعيتها وتجنب ذكر تفاصيل أخرى حقيقية ، كما طلب من جريفز أن يذكر أن لورنس زوده بأقوال متناقضة، أو مضللة “وهذه أفضل طريقة لإخفاء ما حدث، إذ صح أن شيئاً ما قد حدث فعلاً”.
مشاهد محذوفة من كتاب لورانس ، ووثائق لم يستطع تعديلها
يتضح للباحث بكل سهولة هنا أن لورانس في كتابه “أعمدة الحكمة السبع” أسقط زعمه بلوغ أم قيس ونهر اليرموك وزيزياء ، كما أسقط الزعم بقيادته لمعارك تحرير الشوبك ووادي موسى والطفيلة التي لم تحدث، وحذفت من الكتاب لأن كل هذه المزاعم لم تكن صحيحة، وكان هو يعرف ذلك، فاضطر إلى إسقاطها خشية الفضيحة واكتشاف أكاذيبه، ولكن التقرير الذي قدمه لقيادته لم يكن لديه الصلاحية على حذفه أو تعديله فبقي على حاله ولم يستطع ان يسقط منه شيئاً، وهو ما ساعدنا في الكشف عن هذه الأكاذيب.
كما نلاحظ من كتابات لورانس المنشورة في النشرة العربية، والتي كتبها مباشرة بعد فتح العقبة، أنه لم يزعم أبداً أنه كان قائداً للحملة التي حررت العقبة أو انه اقترح القيام بها أصلاً، وقد كرر أكثر من مرة قوله أن الشريف ناصر كان يقود الحملة وأن عودة أبو تايه كان هو القائد الفعلي للمقاتلين، وتجدر الإشارة هنا أن الجريدة الرسمية لشرقي الأردن أبّنت عودة أبو تايه عند وفاته سنة 1924 ، فوصفته بأنه فاتح العقبة.
ندرة الوثائق وغياب الرواية العربية أتاح المجال لكتاب الخيال
يقول الكاتب سليمان الموسى في كتابه لورانس والعرب : “لا يستطيع أي عربي أن يصدق أن ضابطاً أجنبياً يستطيع أن يتولى حملة كهذه الحملة ، ولكن العجيب أن لورانس ادعى هذا الفضل لنفسه فيما بعد، ووجد كتاباً عديدين من أبناء بلده يتقبلون هذا الادعاء بروح الثقة الكاملة ويروّجون له ويجرّون معهم قراءهم الكثيرين والرأي العام في بلادهم، ومن حسن حظ لورانس أن القادة العرب في جيش الثورة ، لم يكتبوا مذكرات مفصلة عن أحداث الثورة وعن دور الضباط الأجانب فيها، وقد يكون لهم العذر، وان كنت لا أجد عذراً مقبولاً، فالثورة العربية كانت أعظم حدث في تاريخ العرب منذ بضعة قرون، وكان لا بد أن تتوافر المعلومات عنها للأجيال اللاحقة، ولا بد أن وثائق مهمة ذات قيمة تاريخية كبيرة ضاعت نتيجة لانتهاء الدولة الهاشمية في الحجاز وإخلاء مكة على عجل عام 1924م.
ضياع أوراق الثورة في الحجاز مع نهاية الدولة الهاشمية هناك
يذكر حافظ وهبة في مقدمة كتابه (جزيرة العرب في القرن العشرين) أن أكداساً من الورق لفتت نظره مهملة في فناء دار الإمارة بمكة، وأنه عندما بحث فيها وجد السجلات الإدارية للحكومة الهاشمية، وكثيراً من الأوراق السياسية الهامة التي لها علاقة بالثورة العربية والحركة العربية في أطوارها المختلفة، ولو بقيت هذه الأوراق أو وجدت من يحتفظ بها ويرتبها ، لأستطاع المؤرخون أن يجدوا فيها مادة كافية لوزن الأمور وتقييمها ، ووضع الحقائق من الجانب العربي مقابل المعلومات المتوافرة في الجانب الآخر والرواية المقدمة من جانب واحد.
المراجع :
- لورنس وجهه نظر عربية ، سليمان الموسى، دار ورد للنشر و التوزيع ، الطبعة الثالثة