كذبة لورنس – الجزء الثالث (التحليل النفسي لشخصية لورنس)
Latest articles
November 16, 2024
November 16, 2024
November 16, 2024
تمهيد
قدم الباحثان الدكتور بكر خازر المجالي وقاسم الدروع في كتابهما التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية “ ملخصاً عاماً عن لورنس وحقيقة دوره في معارك الثورة بالاستناد إلى مذكرات قادة الثورة والضباط العرب المشاركين في عملياتها ، و بالإعتماد على كتاب المؤرخ الأردني الأستاذ سليمان الموسى (لورنس وجهة نظر عربية ( ، إضافة إلى عدد كبير من مؤلفات الكتاب و علماء النفس و المؤرخين من الغرب.
في هذا الجزء نقدم استعراضاً عاماً لمجموعة من المفاصل التي تضع شخصية لورنس على محك التحليل النفسي من وجهة نظر المؤلفين و علماء النفس الغرب، و يتبعها في الأجزاء البحثية القادمة مزيد من التفاصيل التي تكشف الكذبة السينمائية التي ارتبطت بعمليات الثورة العربية الكبرى وساهم بها مؤلفون و مسرحيون وكتاب غربيون و على رأسهم لورنس نفسه بخياله الواسع، فعرفت لجمهور المتنورين بــ كذبة لورنس .
نظرة جديدة في لورنس[1]
ما تزال سيرة حياة الكولونيل لورنس – الذي اشتهر في بلاد الغرب باسم لورنس العرب – تثير اهتمام الكتاب والباحثين وتجتذب أنظار القراء، وعلى الرغم من مرور اكثر من نصف قرن على ذيوع شهرته بُعيد الحرب العالمية الأولى فإن الكتب التي تبحث في مختلف جوانب حياته ما تزال تصدر تباعاً، وما يزال كل مؤلف في هذا الموضوع يعلن أنه عرض تلك الجوانب من نوايا جديدة وعلى ضوء وثائق جديدة، وأنه فسر الغامض منها تفسيراً أقرب ما يكون إلى الصواب.
ونعرض هنا تسليطا للضوء على الكتاب الذي أتى من تأليف المستعرب دزموند ستيوارت، الذي قضى سنين عديدة من حياته في بلاد العرب، وخاصة في مصر والعراق، والذي صدرت له نحو عشرة مؤلفات عن قضايا العرب والشرق الاوسط، وقد أفاد المؤلف في بحثه هذا من المصادر العربية ومن معرفته بالعرب وعاداتهم، ولكنها لم تكن الإفادة الكافية الشافية.
وقد يتساءل المرء عن الحافز وراء كل هذه الكتب عن لورنس، ما دام أن خطوط سيرة حياته أصبحت معروفة للجميع : خاصة بعد صدور كتابه الشهير ( أعمدة الحكمة السبعة ) وبعد صدور الكتب الإنتقادية التي كشفت النقاب عن شطحات خياله في اختراع القصص والروايات عن نفسه و أهمها كتاب ريتشارد الدنجتون وكتاب الصحفيين نايتلي و سمبسون, ولكن على الرغم من كل التساؤلات، نرى أن الموضوع ما يزال يلهب مخيلات القراء وما يزال يمثل تحدياً مثيراً بالنسبة للمؤلفين، حتى وصل الأمر الى أن ورثة لورنس اختاروا الكاتب الشاب جريمي ولسون لوضع كتاب جديد عن حياة لورنس يعتمد على وثائق ومراسلات ظلت إلى يومنا هذا في طي الكتمان.
وإذا عدنا الى كتاب دزموند ستيوارت ألفينا أنه ينحو وسطاً بين مدح المادحين وقدح القادحين، فهو يتتبع حياته خطوة خطوة منذ أن ولدته أمه من زواح غير شرعي, الى دراسته فى اكسفورد إلى رحلته الأولى في بلاد الشرق، إلى عمله في حفريات كركميش، الى اشتراكه في الثورة العربية ودخوله في معترك الصراع السياسي بين العرب والانكليز ثم ما حدث بعدها عندما ألقى المنصب جانبا ودخل في قوة الطيران برتبة نفر عادي.
والمنحنى الوسط الذي يسير عليه المؤلف هو انه يتتبع الاحداث محاولاً اكتشاف الحقائق من بين القصص والأساطير العديدة التي حيكت حوله، والتي نبع أكثرها من شطحات مخيلة لورنس.
لقد احرز لورنس شهرته الواسعة نتيجة اشتراكه في الحرب مع العرب, وفي هذا الصدد علينا أن نقدر لـ ستيوارت موضوعيته التي أبت ان يسير مع الفكرة القائلة بأن لورنس هو الذي قاد العرب وهو الذي وضع الخطط لهم وهو الذي كان يحلم منذ نعومة اظفاره بتحريرهم من ربقة الأستعباد، وأنه هو الذي دخل دمشق فاتحا على رأسهم, انه لا ينكر عليه جهده الذي بذله في ميدان الحرب، ولا ينكر ذكاءه وشجاعته، ولكنه يضعه في في مكانه الطبيعي دون مبالغة أو انتقاص, ومن جملة استنتاجات هذا المؤلف ان لورنس لم يكن يهتم بحرية العرب إلا في حدود ولائه الشخصي للزعماء الذين عمل معهم واعجب بهم.
ويرى ستيوارت ان النقطة الحاسمة في حياة لورنس تنطلق مما حدث له في تشرين الثاني عام 1917 عندما ذهب مع الشريف علي الحارثي من العقبة إلى نهر اليرموك لنسف أحد الجسور المهمة في خطوط مواصلات الاحتلال التركي العثماني كضابط استخبارات بريطاني مختص بعمليات التفجير, وأخفق لورنس في تنفيذ المهمة، ولكن ذلك الاخفاق ساق لورنس الى السقوط في زلة اكتشف من خلالها حقيقة ميوله الجسدية، ومن رأي المؤلف أن السقطة التي وقع فيه لم تحدث في درعا ولم تحدث قهرا كما قال في كتابه وفي رسائله بل حدثت في واحة الأزرق أثناء الأيام العشرة التي قضاها هناك مع الشريف علي، ودفعه عذاب نفسه و شعوره بالخزي الى أن يطلب من الشريف أن يجلده بالسياط.
وينطلق دزموند ستيوارت من هذا الى حل لغز آخر حير الباحثين من قبله، الا وهو اللغز المتعلق بالأسم الذي اهدى لورنس إليه كتابه الشهير ( أعمدة الحكمة السبعة )، فقد اكتفى لورنس بوضع حرفي ( S.A. ) وترك للقراء مهمة تفسير اللغز الكامن وراءهما، بل أنه ساعد على تعميق اللغز باجوبته المتناقضة لمن سألوه ، وذهب أخرون الى القول انهما يرمزان الى الجاسوسة اليهودية سارة ارونسون وذهب آخرون الى القول انهما يرمزان الى سوريا العربية، أو الى الشيخ احمد صديق لورنس في حفريات كركميش, ولكن دزموند ستيوارت يرى أن الحرفيين يرمزان الى الشريف علي صديق لورنس وموضع اعجابه واحترامه.
ولايعطي ستيوارت رأياً جديداً فيما يتعلق بانصراف لورنس عن سلك المناصب الرفيعة في الخدمة الحكومة, وتبديله اسمه ودخوله في الجيش برتبة نفر عادي, فهو يرى أن ذلك حدث بفعل سيطرة الرغبة في تعذيب الذات على نفسه، وفي هذا النطاق، نراه يهمل قول بعض الكتاب أنه فعل ذلك تكفيراً منه على الخداع الذي مارسه مع العرب.
ويستبعد المؤلف أن يكون لورنس قام بتلك المغامرة الفريدة، التي زعم لورنس كاذبا انه قطع خلالها مسافات شاسعة ابتداء من وادي السرحان الى تدمر وبعلبك ودمشق وجبل الدروز، كما أنه لا يعطي الفضل للورنس في قضية تحرير العقبة كما أدعى لورنس نفسه و سرقته المتكررة لانجازات الأمير زيد بن الحسين و الشيخ عودة أبو تايه تحديدا, وكذلك عند دخول العرب الى دمشق.
ومن مطالعة هذا الكتاب يتضح لنا أكثر واكثر أن لورنس كان يتميز بتلك الموهبة النادرة التي لا يتصف بها إلا القلائل من الناس، ألا وهي قدرته على اقناع الناس بالأفكار التي يحملها، وعلى اقناعهم بأنه يكن لهم الاحترام والتقدير والولاء حتى و هو يضمر عكس ذلك.
لورنس على محك التحليل النفسي[2]
من الكتب العديدة التي وضعت عن لورنس والتي ترجمت وانتشرت في معظم أرجاء العالم، ومن بينها كتاب نشر في امريكا وبريطانيا في آن واحد، وهو من تأليف الدكتور جون ماك أستاذ علم النفس في احدى الجامعات الامريكية, وقد جاء نشر هذا الكتاب في الذكرى الأربعين لمصرع لورنس في حادث دراجة نارية، ونتيجة لعشر سنوات من البحث والدراسة قضاها المؤلف وهو يتابع موضوعه ويجمع مصادره، وينقب عن الجوانب الغامضة في حياة هذا الرجل الذي يعتبره المؤلف واحداً من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في القرن العشرين.
يرى جون ماك أن الناس عموماً يعجبون بأصحاب المواهب الفائقة الذين حققوا لأنفسهم ما نحلم كلنا بتحقيقه، وكتابه هذا دراسة من الناحيتين التاريخية والنفسية لشخصية مرموقة أثرت قراراتها واعمالها في حياة ملايين الناس في حينها، واذا كان الجانب التاريخي قد أصبح معروفاً، فإن قصد المؤلف من البحث في الجانب النفسي كما يقول – هو أن يظهر كيف يستطيع الشخص المؤمن بهدفه أن يؤثر في مجالات الأحداث التاريخية، ثم كيف تعمل تلك الأحداث بدورها على التأثير فيه.
ولا يكتم ماك انه تأثر تأثراً عميقا بما عاناه لورنس، وانه تعرف تدريجياً على اسباب تلك المعاناة، ثم قادته دراسته للصراع الداخلي في نفس لورنس، الى تقدير انجازاته حق التقدير، بل ان المؤلف يصرح علناً ” انه لم يكن حيادياً في تناول موضوعه “، لأنه يعتبر لورنس حسب رأيه رجلاً عظيماً وشخصية تاريخية مهمة، وأنه أثّر تأثيراً قوياً في مجرى الأحداث العسكرية والسياسية في بلاد العرب.
من هذا المنطلق يضع خبرته كعالم نفسي على محك تفسير التناقضات العديدة في اقوال لورنس, فهو يخفي احيانا جزءاً من حادث معين وأحيانا أخرى يعطي صورتين متباعدتين لقضية واحدة، احيان يفتح قلبه تماماً ثم يعود إلى التراجع, ولكل ذلك اسباب ومبررات عند المؤلف الذي يبدأ موضوعه من منطلق التأثير الذي تركه في نفسه كونه وُلد من زواج غير شرعي، ثم ما كان لأبيه وأمه من تأثير عليه, وبذلك نراه على هذا الأساس وجد لكل علة سبباً ولكل قضية تعليلا.
يتتبع المؤلف سيرة لورنس مثل من سبقه من المؤلفين، ولكنه يضع معلوماته على محك النظريات النفسية, وهذه هي الميزة الرئيسية التي ينفرد بها عمن سبقه من مؤلفي الكتب في حياة لورنس, وهو يعالج موضوع شعور لورنس بالخدعة التي تعرض لها على أيدي والديه، وهي خدعة خلقت عنده فيما بعد شعوراً بأنه خدع العرب بدوره، وهو يرى أن مقدرة لورنس على ” اختراع ” الحوادث انما تنبع من شعوره بأنه ابن غير شرعي.
وتمر سنوات الطفولة والدراسة، كما تمر بعدها سنوات الرحلة إلى سورية والعمل في آثار كركميش, ثم تبدأ الحرب العالمية الأولى فيقضي لورنس السنتين الأولى والثانية منها في القاهرة ( التي كانت يومذاك مركز القيادة البريطانية في مصر ), ثم تبدأ الثورة العربية في حزيران 1916 ولا يلبث لورنس يلتحق بها، ويقضي أهم سنتين في حياته كما يقول المؤلف – في صفوفها, إذ لولا اشتراكه في تلك الثورة لما كان هناك ” لورنس العرب “، ولما كانت الأسطورة التي حيكت حوله.
لقد وفرت الثورة – في رأي المؤلف – فرصة فريدة لإبراز مواهب لورنس المتعددة- ومنها نسج القصص و الحكايات – ولذيوع شهرته.
يتحدث المؤلف باسهاب عن المعارك التي اشترك فيها لورنس، وهو يتبع في ذلك خطى اكثر المؤلفين من الغرب الذين كتبوا عن لورنس واعربوا عن اعتقادهم بأنه هو الذي قاد تلك المعارك وخطط لها, وهو يرى أن لورنس كان يملك مقدرة عجيبة على التأثير في رؤسائه من امثال الجنرال اللنبي وونستون تشرشل، إذ كان يقنع اولئك الرؤساء بوجهة نظره فيعملون على تنفيذها.
وهنا نرى المؤلف يستشهد بقول لورنس أنه كان يتخذ مع العرب دور ” العراب “، وأن هدفه كان دائما ان يجعلهم يقفون على اقدامهم، وهو ينفي التهمة القائلة بأنه جعل نفسه في خدمة الدوائر الاستعمارية، ويقول أنه خدم العرب وخدم الانجليز سواء بسواء، وانه من خلال ذلك حاول ان يحل الصراعات الشخصية في داخل نفسه، حتى اصبح يعتقد بصورة لا شعورية أنه قائد العرب, ويرى المؤلف أن من بين مواهب لورنس ذاكرة متفوقة وذكاء حاد ومرونة وخيال عالٍ وشجاعة شخصية عظيمة ويذكر اعجاب لورنس بمزايا الشريف فيصل، ويذكر رأي المندوب السامي البريطاني ( ريجنالد ونجت ) من أنه يرجح ان الشريف فيصل بن الحسين قد استخدم لورنس لتحقيق اهدافه وليس العكس.
وفي حديث الدكتور جون ماك عن تحمل لورنس ما يسميه ” مسوؤلية ضخمة ” في اثناء الثورة, وعن كيفية نشوء الأسطورة سيرى أن قيامه بدور الوسيط بين الشريف فيصل واللنبي يمثل ذروة المسؤولية, وهو يخالف القائلين بأن الصحافي الأمريكي لوسل توماس هو الذي خلق تلك الاسطورة, على أساس ان الاسطورة نمت وترعرعت من عناصر نفسية لورنس وشخصيته، تلك العناصر التي برزت في أعماله وفي كتاباته, ومن هنا فهو يرى ان ظهور اسم” لورنس العرب ” كان مسألة حتمية، ويستدل على ذلك باستمرار جاذبية الاسطورة طوال هذه السنين رغم كل الخيال الذي يعتريها.
ويحاول الدكتور جون ماك تفسير ذلك الجانب الغريب من حياة لورنس بعد أن اعتزل الحياة العامة، وترك الوظائف الكبيرة وبدل اسمه وانضم الى قوة الطيران برتبة ” نفر “، ألا وهر اتصاله بشخص يدعى ( بروس ) وإقناعه بأن يجلده بالسياط فى فترات متباعدة على ظهره العاري, ومن رأيه أن ذلك يعود إلى أسباب عدة منها إحساسه العميق بالخطيئة التى ارتكبها والده ونتج عنه ولادته من زيجة غير شرعية، وأن شعوره بتلك الخطيئة حال بينه وبين الزواج, وان اختياره تعذيب نفسه بتلك الطريقة كان ينبع في كسر حدة الرغبات الجنسية في جسده والبحث عن تطهير نفسه.
ويرى الدكتور جون ماك في ذلك دليلا على الصراع الداخلي الذي كان يعاني منه والذي دفعه الى إيذاء جسده كما كان يفعل الأولياء والقديسين, ويرجح المؤلف في تفسيراته ان لورنس تأثر الى حد كبير بما حدث له في درعا على يد الضابط التركي، وأن ذكرى تلك الحادثة كانت مبعث عذاب دائم له، حتى انه كان يود لو يقضي على قدرته الجنسية, كما أنه يضيف الى كل ذلك شعور لورنس بالذنب ازاء العرب في اثناء الثورة, ومن الغريب ان المؤلف يرى ان الطريقة التي سلكها لورنس لإيهام ( بروس ) ودفعه الى جلده بالسياط – تدل على مقدرة لورنس الفائقة على خلق التصورات واختراع الحكايات، ولا ندري كيف لم يتبادر الى ذهن المؤلف الدكتور جون ماك ان حادثة درعا كانت من أولها الى يائها اختراعاً في اختراع ولم تحدث على أرض الواقع ، ما دام انه يرى فيه تلك المقدرة على تلفيق الحكايات.
ومن الواضح أن الدكتور جون ماك بذل ما بذل من جهد لكى يفسر حياة لورنس على ضوء معطيات علم النفس، فلم يترك شاردة ولا واردة إلا وناقشها واعطلى تفسيراً لها، ولكنه بلا شك وقع فيما وقع فيه معظم الذين كتبوا عن لورنس؛ أكثرهم كال له المديح وأسرف في اعلاء شأنه وتمجيد مواهبه، وبعضهم تتبع سقطاته وهفواته وحاول الحط من قدره دون مبرر.
ولايشك أحد في أن الرجل كان كثير التناقضات، وأن هذه التناقضات وما أحاط بها من غموض، هي التي زادت من انتشار اسطورته, والمؤلف لا يرى ضيراً في تأكيد هذا على اساس أن تلك التناقضات لم تحل بين لورنس وبين تحقيق الإنجازات التي وضعها نصب عينيه.
المراجع
- [1] التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية , بكر خازر المجالي,قاسم محمد الدروع, ص388-391، مطابع القوات المسلحة الأردنية 1995.
- [2] التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية , بكر خازر المجالي,قاسم محمد الدروع, ص384-387
مطابع القوات المسلحة الأردنية 1995 .