كذبة لورنس: الجزء الأول…أكاذيب متفرقة واثباتها
Latest articles
November 16, 2024
November 16, 2024
November 16, 2024
تمهيد
قدم الباحثان الدكتور بكر خازر المجالي وقاسم الدروع في كتابهما “التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية “[1] ملخصاً عاماً عن لورنس وحقيقة دوره في معارك الثورة بالاستناد إلى مذكرات قادة الثورة والضباط العرب المشاركين في عملياتها من أمثال الراحل صبحي العمري، و بالاعتماد على كتاب المؤرخ الأردني الأستاذ سليمان الموسى (لورنس وجهة نظر عربية) الذي يعد واحداً من أفضل الكتب التي تناولت شخصية لورنس بشكل تفصيلي وموضوعي حيث استطاع الوقوف على كل مغالطة ومبالغة وتناقض أورده لورنس خلال مذكراته ويعود هذا بالدرجة الأولى لسعة إطلاع الأستاذ الموسى على المراجع الإنجليزية المختلفة ولقدرته الفذة على فهم شخصية لورنس وجوانبها النفسية المختلفة. ومن الجوانب الهامة التي أبرزها مؤرخنا الفاضل في كتابه هي صورة التباين الواضح بين ما كتب لورنس من تقارير عسكرية أرسلت لقيادته العسكرية وبين ما كتب هو لنفسه بمذكراته عن نفس الموقف ونفس الحدث وهذا كان جلياً واضحاً في معظم كتاباته حيث كان له أسلوبان في الكتابة أثناء تناوله للحدث الواحد أسلوب واقعي عسكري وآخر خيالي شاعري إنشائي تشوبه المبالغة والتهويل.
في هذا الجزء نقدم استعراضاً عاماً لمجموعة من المفاصل والتوضيحات التي تكشف زيف الرواية البطولية التي تم تأليفها للورنس ودوره في الثورة، و يتبعها في الأجزاء البحثية القادمة مزيد من التفاصيل التي تكشف الكذبة السينمائية التي ارتبطت بعمليات الثورة العربية الكبرى وساهم بها مؤلفون و مسرحيون وكتاب غربيون و على رأسهم لورنس نفسه بخياله الواسع، فعرفت لجمهور المتنورين بــ كذبة لورنس .
مقدمة
شهدت الأرض الأردنية ما يزيد على عشرين معركة توزعت معظمها على صحراء البادية النبطية استشهد خلالها العديد من رجالات الثورة وفرسان العشائر الأردنية وقد بلغت قوات الثورة العربية المشاركة عشرات الآلاف من الجنود النظاميين والمتطوعين من أبناء العشائر، حيث شارك عدد من الضباط العرب الذين التحقوا بالثورة وقد كان هؤلاء الضباط على مستوى عال من التدريب والإعداد والمعرفة بشؤون الحرب والقتال خاصة وأنهم من خريجي الكليات العسكرية .
وفي هذا الوقت من الحرب كانت القيادة البريطانية قد أرسلت ( لورنس ) وبرفقته ( ستورس ) على أساس أنهما يستطيعان معاً الحصول علي تقييم جيد للوضع في منطقة عمليات الثورة وفي هذه المناسبة يقول لورنس: “ولكني التمست العذر لنفسي بدافع من ثقتي بنجاح الثورة العربية إذا قدمت المشورة الملائمة، لقد كنت عاملاً “محركاً” على بدئها وكانت أمالي تتركز عليها” [2] هذا على الرغم من قوله في كتابه أعمدة الحكمة السبعة : (كانت الثورة حرباً عربية، خاض العرب غمارها لتحقيق هدف عربي في بلاد العرب. كان دوري الحقيقي في الثورة دورا صغيراً، ولكن نتيجة لقلم سيال وذهن ناشط، فإننى أخذت، لنفسى دوراً رئيسياً مصطنعاً، ألم أفقد شرفي عندما أكدت للعرب أن إنجلترا تحافظ على عهودها؟ لا أدري إذا كانت عظمة جميع المشاهير بنيت على التزييف مثلما بنيت شهرتى؟!”، أي أن لورنس يعترف بنفسه أنه لم تكن له علاقه بالثوره عند إبتدائها، وهذا بالطبع من أشد التناقضات التي وقع بها لورنس على شاكلة التناقضات الكثيرة التي سسنلط عليها الضوء في هذا البحث، ذلك أن لورنس ومن خلال أسلوبه هذا نال إهتماماً بالغاً من الكتاب لم ينله غيره من العاملين من الضباط البريطانيين في قوات الحلفاء. وفي هذا الصدد يقول المؤرخ العراقي عبد المنعم مصطفى: “لم ينل شخص في تاريخ الشرق الأدنى الحديث من الشهرة والصيت ما ناله لورنس الذي أحاطت به هالة من الأساطير والأقوال وقد تشابكت القصص التي تروى عنه في حقيقتها وخيالها حتى لم يعد للإنسان القدرة في التفريق بين الإدعاء والصدق، ولقد بلغ من شدة تأثيره في أحداث الشرق أن لا فتته تنشب أو أزمة تحدث أو ثورة تقوم إلا ويقال أن لورنس له يدٌ فيها؛ وهذا ما حدث فعلا بعد نشوب ثورة العرب الكبرى ضد الحكم التركي إبان الحرب العالمية الأولى وهذا ما فكر به حتى أصحاب الرأي حيث نشبت ثوره الأكراد في تركيا وامتدت إلى العراق سنة ١٩٢٩ فقالوا أن لورنس هو الذي أشعل فتيلها لينال من تركيا ويفتح ثغره لتغلغل الإنجليز فيها )[3] .
وهكذا تناولت الكتب شخصية لورنس بالكثير من المبالغة والتهويل لم ينلها أحد من العاملين معه في ذلك الوقت، فأشادت به الكتب الأجنبية كثيراً، مديحاً وإطراءً مسرفاً حيث البسوه هالة عظيمة أكبر بكثير من حجمه كضابط تنسيق وارتباط وخبير متفجرات يعمل مع جيش الثورة العربية منتدباً من الجيش البريطاني. قد تكون المبالغة والتهويل في مذكراته بالدرجة الأولى وذلك لاعتماده على أسلوبه الإنشائي الخيالي المصطنع الذي انتهجه في معظم كتاباته ومذكراته الشخصية، وعلى هذا النحو تناولت الكتب الأجنبية شخصية لورنس تهويلاً ومبالغة درامية فبهر الناس بهذه الشخصية التي عاشت في صحراء العرب وأدارت معارك الثورة حسب زعمها حتى بلغ في أحد المحاضرين البريطانيين أنه جمع عشرات الآلاف من الجنيهات لقاء إعطائه محاضرات تاريخية حول دور لورنس في معارك الثورة.
ومن هنا سنمر مروراً عابرا وسريعاً على أبرز الأحداث خلال معارك الثورة لتظهر بشكل جلي مواقف الإدعاء والإنتحال في شخصية لورنس لبعض المواقف العسكرية والتعبوية التي طالما أظهر لورنس نفسه من خلالها وكأنه غرفة العمليات المتنقلة لمعارك الثورة وحروبها المختلفة وأكثر من ذلك بأنه ينبوع الأفكار والتنظير للمعارك المختلفه، طامساً بذات الوقت بطولات أدوار العشرات من الثوار الأردنيين والعرب ومن هنا جاءت أهمية هذه الوقفه مع كذبة لورنس.
لورنس يسرق بطولات رجال الثورة
وقد يكون لهذه القصة التالية كبير الأثر في ضرورة تناول شخصية لورنس خلال هذا الجزء من البحث، خاصة ما ترمي إليه هذه الحادثه من دلالات، وقد ورد ذكرها في مذكرات صبحي العمري وملخصها أن صبحي العمري كان قائداً لإحدى سرايا معركة الطفيلة، وقد تمكن صبحي العمري بسريته من دحر قوة عثمانية محتلة شمال مدينة الطفيلة عند ( رجم كركا ) [4] وتمكن في ذلك اليوم من تحرير بعض الأسلحة والعتاد الألمانية والنمساوية والمدافع فلما انتهت المعركة جاء لورنس وطلب من صبحي العمري أن يأخذ له صورة تذكارية مع الغنائم، وبالفعل أخذ له صورة ثم طلب لورنس من أحد مرافقيه بأن يأخذ ماكنة التصوير ليلتقط صوره مشتركة للورنس وصبحي العمري، ويضيف صبحي العمري قائلاً عن هذه الحادثة ( وبعد مدة أراني لورنس مجلة إنجليزية وفيها تلك الصورة التي كان فيها بجانبي واعتذر عن عدم إمكانه إعطائها لي بسبب عدم وجود غيرها لديه إنما وعدني بأن يأتيني بواحدة ولكنه لم يف بوعده، ولم أقرأ ما كتب تحت تلك الصورة لعدم معرفتي باللغة الإنجليزية في ذلك الوقت، ولكن بعد أن مرت السنوات وقرأت ما كتبه لورنس عن موقعة الطفيلة وعن أنه كان بطلها وقائدها، وعن مكافأته بأكبر وسام عسكري إنجليزي وبرتبة كولونيل؛ أقول عند ذلك خطرت لذهني تلك الصورة وما كان يمكن أن يكون كتبه لورنس لتلك المجلة عن أنه هو الذي غنم هذه الرشاشات وأن الشخص الذي بجانبه تابعه ) [5]
صبحي العمري : لورنس كان متفرجا في معركة الطفيلة
وعلى هذا الموقف يعلق صبحي العمري بعد أن اطلع على البطولات الصورية التي كان ينسبها لورنس لنفسه في كتابه فيقول العمري: “أما فيما يتعلق بلورنس وقد قرأت فيما بعد ما كتبه عن الدور الذي لعبه في هذه الموقعة وعن أنه نظم خططها ورتب أمورها وقاد صفحاتها وكان أثناء القتال يكر ويفر ويصدر الأوامر إلخ، فكل ذلك كذب واختلاق من أساسه وليس له أي مقدار ولو قليل من الصحة، لقد كان لورنس متفرجاً في بداية المعركة إلى نهايتها ولم يكن بإمكانه أن يكون خلاف ذلك، ولو أنه تدخل بأي أمر أو حاول ذلك ولو بأتفه الأعمال لوجد صدا وإهانة ( وهنا يبدو حجمه الطبيعي )، ولهذا السبب فإن لورنس وأي إنجليزي آخر لا يجرؤ على الظهور بأي مظهر يستشف منه المداخلة وهم يعلمون ذلك حق العلم فيتجنبونه كل التجنب أما لورنس الذي يعرف ذلك أكثر من الآخرين فإنه اتبع قاعدة عدم الظهور أكثر من غيره ولكنه يختلف بأنه كان ضابط مخابرات مطلوب منه تقارير عن جميع الأمور والوقائع وهذا ما يجعله يهرع إلى كل مكان يشتم منه رائحة معركة ليكتب إلى رؤسائه بأنه حضر الموقعة وفعل ” كيت وكيت ” وينسب لنفسه كل شيء من خطط وفكر وقيادة وليس هناك من يكذبه أويصحح ما كتب وكان يكتب بالجرائد الإنجليزية ما يشاء وعلى أسلوب ألف ليله وليلة )[6]
لورنس المنتحل
إن الأمثلة على مبالغات لورنس وتناقضاته أكثر من أن يحاط بها أو يأتي على آخرها باحث بهدف إحصائها والوقوف عليها مما يدفعنا لأن نذكر بعضاً منها على وجه الخصوص. و من هذه المواقف انتحال لورنس فكرة القائد العسكري عزيز المصري وادعائه أن الفكرة كانت له وقد فضح هذا الإدعاء نوري السعيد في مذكراته عندما أكد أن فكرة تقسيم الجيش إلى قسمين تعود في الأصل إلى عزيز المصري وليس كما يدعي لورنس، وقد تلخصت هذه الفكرة بأن يقسم الجيش إلي قسمين قسم يحارب بصوره اعتيادية والآخر يبقى بأسلحته الخفيفة بحيث تتركز واجباته على الحركة خلف خطوط الأتراك بهدف إثارة الرعب وزعزعة الروح المعنوية لدى الاحتلال التركي تاعثماني وحلفائه الألمان والنمساويين ليكون هذا الجيش قادراً على التحرك وضرب مؤخرة القوات والعودة إلى قواعده وأماكن تزويده واستراحته بسهولة. وقد لاقت هذه الفكرة إستحسان الأمير فيصل، وهكذا تعكس فكرة الإنتحال هذه الضعف الذي عليه لورنس كي يدعي مثل هذا الأمر، علماً بأن مستوى لورنس العسكري أمام عزيز المصري لا يساوي شيء، ذلك أن عزيز المصري خريج كلية عسكرية وقائد عسكري مشهود له بالكفاءة والإقتدار، وبإمكان الباحث المتمعن في ثنايا كتاب لورنس ” أعمدة الحكمة السبعة ” أن يقع بصره في كثير من الأحيان على بعض العبارات التي تعطي الحكم الحقيقي لطبيعة مسؤوليات لورنس كضابط إرتباط. ونستنتج ذلك من خلال سؤال الأمير فيصل للورنس عن معركة ( سمنه ) وماذا يعرف عنها وعن جعفر العسكري، فيرد عليه لورنس بما قاله نوري السعيد حول المعركة ويستمر في حديثه في كتاب أعمدة الحكمة السبعة ص 326 بقوله: “وأمضيت الأيام التالية أراقب العمليات مع ” مينارد “[7] فقد إستولى بنو تايه بقيادة ( عودة )[8] على مركزين أماميين للعدو في الجهة الشرقية من المحطة، بينما سيطر صالح بن شفيع[9] على حاجز دفاعي مهم مع رجاله العشرين ورشاشه الوحيد وأتاح لنا هذا الكسب أن ننتقل الآن بحرية أكثر حول معان، وفي اليوم الثالث ركز جعفر العسكري مدفعيته على القمة الجنوبية فيما كان نوري السعيد يغير على مخازن المحطة ومستودعاتها وبما أنه قد نجح في الوصول إليها فقد توقفت المدافع الفرنسية عن القصف وكنا نحن في سيارة فورد نحاول إقتفاء آثار قواتنا )[10] ، وهكذا نلحظ في هذا المقتضب السريع من الكلام أن القادة الفعليين الميدانيين هم من شيوخ العشائر الأردنية والضباط العرب وكما ذكرهم لورنس نفسه وهو يردد أسماءهم “عودة أبو تايه، صالح بن شفيع، جعفر العسكري ونوري السعيد ” ويخلص لورنس نفسه إلى حقيقة مفادها أن قادة الثورة علي قدر كبير من الشجاعة والضراوة والحنكة ويأنهم قادرون على القتال دونما مساعدة الإنجليز، ويستطرد لورنس: “هكذا أثبتت لنا معركة معان أن العرب يمكنهم أن يقاتلوا بشجاعة ويحاربوا بضراوة وحنكه دون مساعدة الإنجليز” [11] .
ولقد زعم لورنس في كتابه بأن القائد مصطفى كمال وقع أسيراً في أيدي العرب أثناء إنسحابه من درعا باتجاه دمشق حيث قام العرب بإطلاق سراحه بغية بناء علاقات ودية وحميمة مع الأتراك في المستقبل، غير أنه لم يشير إلى هذا الكلام أحد من المؤرخين العرب ولو كان هذا الإدعاء صحيح لما غفل عنه نوري السعيد وأمين سعيد ممن كتبوا عن الثورة العربية .
ومن الأدله الدامغة التي يوردها المؤرخ سليمان الموسى رداً على إدعاءات لورنس بأنه كان يخطط للحملات العسكرية في جيش الثورة العربية الكبرى قوله: “وهكذا عاد لورنس إلى العقبه في ٢٨ تموز بعد غيبة استمرت حوالي خمسين يوماً قضاها في مصر وفلسطين وفي الرحله إلى جدة، ومن هذا نرى أن الدعوة القائله أنه كان يقود العرب لا تمت إلى الحقيقه بصلة فقد تغيب عن ميدان الجيش العربي حوالي ثلاثة أشهر من أصل التسعه أشهر الأولى من عام ١٩١٨ ومن المؤسف أن الكتاب الإنجليز حاولوا إستغلال كل الطرق للتدليل على أهمية وجهود لورنس مع العرب فهذا الكابتن ” ليدل هارت ” يقول أن المدة التي غاب فيها لورنس عن الجيش الشمالي كانت فترة ركود، وهذا غير صحيح لأن قوات الثورة تلقت خلالها عدة ضربات أهمها عدم الاستيلاء على الجردونة في حينه وهذا الكاتب يعزو فشل العرب في تحرير معان إلى عدم أخذهم برأي لورنس وقد نجد شيئاً من العزاء في أن هذا الكاتب وأمثاله عزوا كذلك فشل الجيش البريطاني في الإحتفاظ بالسلط إلى عدم إستشارة لورنس !” [12]
وهكذا أيضا يمكن القول عن الجسور التي ادعى لورنس بأنه دمرها جميعاً حيث بلغ عددها تسعة وسبعون جسراً، فماذا يبقى لجيش الثورة ولضباط الثورة ممن تدربوا على قصف الجسور في العقبة؟ .
وبعد أن يعدد الأستاذ سليمان الموسى الجسور التي دمرها لورنس والبالغ عددها سبعة جسور مضافاً إليها جسر من نوع العبارة يتساءل وبأسلوب إستفهامي إستنكاري: “أين هي الجسور الأخرى وهل تستطيع قياساً على هذا أن تسقط من أقوال لورنس تسعة أعشارها ؟!”[13]
يتضح لنا أنه هكذا كان ديدن لورنس في كل حركاته وسكناته قادراً على مخادعة بني قومه الإنجليز نظراً لأنه يعمل خارج دائرتهم وبعيداً عن رقابتهم ولا نتصور أن لورنس نفسه قد إقتنع بأنه قادر على خداع العرب كل الوقت، وهنا يقول صبحي العمري في مذكراته “وأني متأكد أن لورنس لخبرته بالعرب خلال وجوده معهم قبل الحرب في الحفريات الأثرية، ثم أثناء الثورة فإنه يعرف حق المعرفة أنهم أذكى من أن تخذلهم المظاهر الكاذبة ولكنه يقصد قبل ذلك أن يخدع قومه الإنكليز فيظهر أمامهم بمظهر البطل المغامر الأسطوري الذي عرف العرب حتى صار واحداً منهم، وفهمهم حتى قادهم وسيرهم في مصلحة بريطانيا” [14]
وما يفاجأ به الباحث المدقق في أقوال لورنس يجده أثناء حديثه عن إستدعاء الجنرال اللنبي له إلى مصر حيث أعلمه بأنه أي اللنبي يعد العدة للقيام بهجوم جديد على خط الدفاع التركي من غزة إلى بئر السبع وذلك بعد فشل الجيش التركي بالهجومين اللذين قام بهما ضد الجيش البريطانى سابقاً وفي معرض حديثه حول النصح الذي قدمه للجنرال اللنبي في أهمية إبقاء سكة الحديد عامله بشكل جزئي خشية إيقاف الإمدادات عن الجيش التركي في المدينة يقول لورنس: “أوضحت له أننا لا نريد تعطيل ذلك الخط كلياً بل إلى الحد الذي تتمكن قوات فخري من الحصول على الحد الأدنى من وسائل العيش لأن بقاءها في المدينة يكلفنا نفقات أقل مما يمكن أن نتكلف عليها إذا جئنا بها إلى معسكرات الأسرى في القاهرة”! [15].
لورنس رجل النصائح المجانية
كثيراً ما أظهر لورنس قدرته على تقديم المشورة والنصح رغم عدم طلب مشورته حتى إلى اللنبي نفسه فهو يورد أثناء حديثه عن خطة اللنبي للهجوم في تشرين الثاني قوله: “كنا – هو يعني العرب هنا – أعرف من اللنبي بخواء العدو وضعفه، وأننا يجب أن نستعد للمساهمة عندما تحين اللحظة الحاسمة. وكانت النقطة الملائمة في نظري بالنسبة للجبهات التركية، خاصة لأنها المنطقة التي يوجد بها عدد كبير من المقاتلين الذين دعمهم فيصل وسلّحهم من العقبة. وحيث يمكن أن نستعمل هنا خدمات فرسان الرولة والسردية والخريشا، بالإضافة إلى أهل حوران وجبل الدروز وفكرت بعض الوقت فيما إذا كان يجب أن ندعو كل هؤلاء الأنصار لتدمير المواصلات التركية. وكان من المؤكد أننا نستطيع جمع ١٢ ألف مقاتل وهو عدد كاف لإحتلال درعا، وتحطيم كل الخطوط الحديدية، بل لأخذ دمشق على حين غره، ولا بد أن أي عمل من من هذه الأعمال كان سيجعل موقف جيش بئر السبع حرجاً ولم تكن تلك المره الأولى والأخيرة التي أشعر فيها بالإنزعاج من خدمة سيدين، كنت ضابطاً موثوقاً عند اللنبي، وكنت مستشار فيصل الذي كان بدوره يثق بي وبكفاءة مشاورتي، كان أهل البلاد يحثوننا على القدوم، وأرسل طلال الحريذين زعيم القرى المحيطة بدرعا رسائل متكررة يقول أن باستطاعته أن يسلمنا درعا إذا أرسلنا عدداً قليلاً من رجالنا كدليل على معاضدتنا له. ولكن إحتفاظنا بالبلاد كان مشكوكاً فيه، والفلاحون يستطيعون الثورة مرة واحدة فقط فإذا تراجعنا قضى عليهم الأتراك، ووزنت الجيش البريطاني في ذهني، ولم أكن بالحقيقة واثقاً من قدرته، وأخيرا صممت على تأجيل المجازفة من أجل خاطر العرب ” .
وفي هذا الصدد نستعرض رداً قوياً على إدعاءات لورنس هذه في ” كتاب لورنس وجهة نظر عربية ” حيث يقول المؤرخ سليمان الموسى: “الجيش التركي لم يكن خاوياً نخراً كما يدعي لورنس، وهو الجيش الذي رد البريطانيين مرتين عن أبواب غزة بخسائر فادحة رغم تفوقهم بالعدد والعدة، وإذا كان الترك كما يظنهم لورنس، فلماذا لم يسحقهم الإنجليز وعدد جنودهم المقاتلين يومذاك 92 ألفاً مقابل 21 ألف جندي مقاتل من الترك؟”
لورنس يقوي مركزه الشخصي
كان لورنس يكثر التنقل والسفر بين القيادة الإنجليزية والعربية بهدف التنسيق واطلاع الحلفاء على إنجازات العمليات العسكرية في قيادة الجيش العربي ويعد أن شاهد العمليات العسكرية التي قام بها رجال الثورة على خط سكة حديد القطار العسكري بين معان والمدورة سافر إلى السويس لبحث الخطط المقبلة مع القائد البريطاني اللنبي وفي هذه الأثناء فوجئ لورنس بأنباء زحف قوات الحلفاء إلى عمّان والسلط، وفي هذا الصدد يقول المؤرخ الأردني سليمان الموسى في كتابه لورنس وجهة نظر عربية: “ولا يخفي لورنس شماتته بالقادة البريطانيين الذين صدقوا هذه الأقوال وزحفوا إلى السلط وعمان فلم يجدوا شخصاً واحداً يساعدهم وكانت النتيجة أن الترك أرغموهم على التراجع. وشماتة لورنس هنا ناتجة عن إتصال القادة البريطانيين مع رجال القبائل دون إستشارته والرجوع إليه وهو يعتبر نفسه المرجع الموثوق فيما يتعلق بالقبائل وأنه لو استشير لما وقع الإنجليز ضحية لهذا المقلب ولما تكبدوا أية خسائر، وقد أفاد لورنس من إخفاق الإنجليز في هجومهم على السلط وعمان فعمل علي تقوية مركزه الشخصي إذ اقتنع رجال القيادة البريطانية أن حروب النظاميين تختلف عن حروب غير النظاميين.
المراجع :
[1] التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية، بكر المجالي و قاسم الدروع ، مطابع القوات المسلحة الأردنية، 1995.
[2] لورنس وجهه نظر عربية ، سليمان الموسى ، ص 50 .
[3] لورنس ” حياته ، د . عبد المنعم مصطفى ، ص 7 .
[4] رجم كركا : مكان يقع إلى الشمال من الطفيلة ب 10 كم ، وهوتل أثري شهد العديد من معارك الثورة.
[5] المعارك الأولى ، صبحي العمري، ص ١٧٤.
[6] المعارك الأولى ، صبحي العمري ، ص 180.
[7] مينارد : أحد ضباط البعثة البريطانية
[8] عوده أبو تايه أحد فرسان قبيلة الحويطات جنوب المملكة الأردنية الهاشمية وقد كان فارساً شجاعاً وزعيماً لقبيلة الحويطات ورغم أنه كان يقارب السبعين من العمر غير أن بنيته كانت قرية حيث إمتاز بالذكاء البدوي الفطري وقدرته على قيادته الرجال
[9] صالح بن شفيع : أحد رجال قبيلة الحويطات
[10] أعمدة الحكمه السبعة، لورنس، ص 326.
[11] المرجع السابق ص327
[12] لورنس وجهة نظر عربية / سليمان الموسى ص ( 55 )
[13] لورنس وجهة نظر عربية ، سليمان الموسى ص ( ٢١٨ )
[14] المعارك الأولى ، صبحي العقري ص ( 158)
[15] لورنس وجهة نظر عربية، سليمان الموسى ص 123 .