Latest articles
November 25, 2024
November 25, 2024
November 25, 2024
مقدمة :
ينحدر نسب البطل الأردني كليب بن يوسف بن شريدة بن رباع من عشيرة حماد ، التي كانت تسكن في وادي بن حماد في الكرك جنوب الأردن ثم انتقلت شمالاً شأنها شأن العديد من العشائر الأردنية التي انتقلت بحثاً عن الأمن وهرباً من البطش والظلم في ظل انعدام الدولة إبان فترة الاحتلال العثماني الذي كان يحكم المنطقة بالوكالة، واستقرت بهم الأمور في بلدة “تبنه” التي كانت تقطنها عدة عشائر أخرى، وهي بلدة في لواء “الكوره” في محافظة اربد شمال الأردن وقد أثبتت دراسات قام بها باحثون من جامعة تورنتو الكندية أن أقدم علامات الاستيطان البشري في البلدة تعود للعصر الحجري، وتتميز منطقة لواء الكورة بطبيعة جغرافية مميزة ، حيث زنرتها الجبال و سيجتها الأودية والغابات المتشابكة ، مما جعل من محاولة السيطرة عليه من القوى الخارجية، ضرباً من ضروب المستحيل.
وقد قام كليب الشريدة خلال فترة الاحتلال العثماني بإنشاء حكم محلي ذاتي مكتمل الأركان في منطقة لواء الكورة الذي يشمل حالياً 22 قرية ، إضافة لقرى أخرى كانت تتبع له في ذاك الوقت أهمها دير يوسف وبيت يافا و زوبيا وعنبة، وقد نجح كليب الشريدة في الحفاظ على وحدة وتماسك مناطق وعشائر اللواء وكان له الدور الكبير في حماية السكان ومصالحهم والاهتمام بتوفير الخدمات لهم في ظل فشل العثمانيين في تلبية احتياجات السكان والقيام بمهماته وواجباته تجاههم والتي كان يفترض أن يقوم بها لو تعاملنا مع تواجده في الأردن كدولة.
لم ينصف التاريخ والمؤرخون الزعيم الوطني الأردني كليب الشريدة كما يستحق، ونقدم في هذا البحث تحليلاً لكافة جوانب شخصية كليب الشريدة والأحداث التي ارتبطت باسمه ، ولعل ثورة الكوره أكثرها إثارة للجدل ، نتيجة الغموض الذي لفها وعدم الدقة في طرح تفاصيلها خلال العقود الماضية.
الولادة والنشأة :
ولد كليب بن يوسف بن شريدة بن رباع في عام 1865 ونشأ وتعلم في مدرسة الزعامة التي لا تمنح بل تؤخذ، والتي ورث واكتسب صفاتها من والده الشيخ يوسف الذي كان مثالاً للدبلوماسية والحنكة، والتي مزجها كليب بما ورثه عن جده “شريدة بن رباع” من قوة وشجاعة وميل إلى الحزم والحسم ورفض الظلم ومحاربته، فقد قام جده برفض الضرائب العثمانية التي أرهقت السكان في ذاك الوقت، وردّ على رفع الضرائب بالدخول برفقة فرسان من لواء الكورة لدار سرايا في إربد والقضاء على الوالي العثماني بداخلها، كما انتصر وقواته على القوات العثمانية ودحروها في عدة مناسبات ، مرة عندما حاولت الدخول لمناطق نفوذه عن طريق “عنبة” ، وأخرى عندما أرسل الوالي العثماني أحمد الجزار قواته بقيادة “الوني” فهزمهم شريدة وفرسان الكورة وقتل ” الوني ” قرب منطقة كفريوبا وهربت قواته، فأثارت هذه الأحداث حقد العثمانيين ضده لما استشعروا خطره على تواجدهم وسلطتهم، فاستدرجه الوالي بالحيلة وبالغدر طالباً منه السلام عليه عندما سمع بمروره من منطقة المزيريب في درعا لحضور حفل زفاف، فقاموا بحبسه وصدر حكم إعدامه بالسيف، وتم تنفيذ الحكم بحقه عام 1831 بعد أن فشلت كل محاولات التفاوض مع العثمانيين من أجل الإفراج عنه وتحريره، ويذكر المؤرخون أن الناس قالوا له حين صدر الحكم ولم تنجح المفاوضات للإفراج عنه : “يا شريدة ما انقبل فيك رجا” قال: “وأني ما كنتش أقبل رجا*” . ( * أني : أنا بلهجة أهل حوران الأردنية).
وقد جمع كليب أمجاد البطولة والرجولة من كل أبوابها ، فإلى جانب ما ورثه عن والده وأجداده ، فقد تربى كليب منذ طفولته في مدارس الزعامة التي لم يرثها من رجال عائلته فحسب ، بل كان لأخوال أبيه وأخواله الأثر في ذلك فجدته لأبيه هي موزة عبيدات التي كانت تحمل صفات الأميرة و الشيخة وتتميز بالكثير من الذكاء والحكمة كما وصفها المؤرخون والرواة، وكذلك أمه الشيخة فهيدة الزعبي التي كان عمها حسام الصالح الزعبي شيخ مشايخ حوران في عهده.
سبب التسمية :
تختلف الروايات حول سبب تسمية الشيخ كليب، لكن يبقى السبب الأبرز كما يعتقد أن تسمية كليب جاءت تيمناً بشخصية أردنية تاريخية هي الفارس البطل كليب بن سلامة بن رشيد الفواز، الذي انتصر على الوالي العثماني في معركة الجابية عام 1705 ، ثم قتله العثمانيون غدراً في خيمة الوالي عام 1709، وقد درجت العادة أن يسمي الأردنيون أبناءهم بأسماء كبار الشيوخ و الأبطال و الزعماء الأردنيين أملا وتفاؤلا باستمرار و انتقال الروح الوطنية الأردنية عبرهم .
شخصية كليب الشريدة :
تربى الشيخ كليب في سنين حياته الأولى في كنف والده الشيخ يوسف وكان يرافقه ويتعلم منه فدرج على مدارج العز والكرامة، وتربى على الخصال الأردنية الأصيلة كالشهامة والفروسية والكرم ورفض الظلم وحماية الجار والدخيل وإكرام الضيف، كما ساهمت وفاة والده يوسف عام 1877 في تحمله المسؤولية وتفتح مدارك الشباب والوعي لديه بالرغم من صغر سنه ، كما استفاد من التنوع الذي كان يلمسه ما بين حياته في تبنه وزيارات والدته لأخواله في خربة غزالة في حوران الأردنية والذين كانت لهم الزعامة في منطقتهم في ذلك الوقت، ولا بد للطبيعة أن تترك أثرها في جبلة الناس وأخلاقهم وتكوينهم النفسي والجسدي ، فقد أثرت به وعورة التضاريس وصعوبتها وقسوتها، وعوّدته على تحمل المكاره والصعاب وقوة الشكيمة، ومضاء العزيمة وحب الحرية والاستقلال الفطري، والجهر بالقول والرأي، مهما ترتب على ذلك من مسؤوليات وأعباء، وإلى جانب كل هذا كان قوي البنية الجسدية وفارسا ماهرا ، يجيد ركوب الخيل في الأرض السهلة والوعرة وفي كل الظروف.
ومن الصفات الإنسانية المشهورة في شخصية الشيخ كليب والمعروفة عنه أنه كان لا يأكل مع الضيوف ولا المعازيب في مضافته، بل يبقى حتى يأتي وقت الأطفال والصغار ويجلس معهم ليطعمهم ويقطع لهم اللحم ، وكان يأكل مع ذوي الإعاقة ويطعمهم بيديه وبعضهم معروف بالاسم حتى اليوم.
الحكم المحلي في العهد العثماني:
برزت ملامح الشخصية القيادية على الشيخ كليب منذ شبابه فقد كانت مضافته عامره بالضيوف والمستجيرين به ، ونتيجة لفشل الحكم العثماني والظلم الذي كان يمارس على المناطق الخاضعة للاحتلال، لجأت الزعامات المحلية في المنطقة لتقوية أركان الحكم وإنشاء مناطق حكم ذاتية، فبدأ كليب يشكل التحالفات مع القوى المحيطة، لتقوية الحكم وتوفير الأمن المفقود في ذاك الوقت في المناطق المجاورة، ونجح في حماية مصالح الكورة و أهاليها، الذين شكلوا العمود الفقري لاستمرار مشيخته وزعامته ومدها خارج حدود منطقته، وكان فخوراً بحب الناس له وولائهم وتقديرهم لما يقوم به لأجلهم، وقد اهتم كليب بأركان الحكم الذاتي من كافة الجوانب كما يلي:
- الأمن والتحالفات :
كان من الضروري بالدرجة الأولى الاهتمام بالجانب الأمني في ظل غياب الدولة والافتقار لمبدأ سيادة القانون في العهد العثماني، واعتماد العثمانيين على أسلوب إثارة الفتن لكسب ود بعض العشائر ومعاداة عشائر أخرى لتسهيل مهمتهم في الحكم بالوكالة، فاعتمد كليب على أسلوب بناء التحالفات ما بين عشائر الكورة من جهة، وعشائر وزعامات المناطق المجاورة من جهة أخرى، فأسس قوات من فرسان وشباب ومحاربي عشائر الكورة تجاوز تعدادها ألف بواردي (محارب مسلح) ، فشكل تحالف الإنسان مع الإنسان من جهة و ومن جهة أخرى تحالف الإنسان مع الطبيعة المحيطة به في المنطقة ذات التضاريس الوعرة التي تحيطها الأودية والجبال من كل جوانبها، عوامل تجعل منها لا تقهر وأفشلت كل محاولات اقتحامها من القوى الخارجية.
- المضافة:
- قام كليب بإعادة استخدام مضافة والده وأجداده (العلالي) التي حولها إلى مؤسسة حكم ذاتي
ذات هيبة، فجعل لها خدماً وحرساً وعمالاً يقومون على خدمة الضيوف والمحتاجين ورواد المضافة، وقد تم تأمين ميزانية كافية من خلال مساهمة الفلاحين بالمال، مع تقديم الخدمات الأساسية لهم تشمل تأمين حمايتهم وصون ممتلكاتهم وتقديم العون عند الحاجة وحل مشاكلهم وتحصيل حقوقهم بشكل عادل، وكان ذلك شكلاً من الحكم الذاتي الحقيقي، نشأ في غياب سلطة الدولة العثمانية التي كانت تحكم بالوكالة، والتي كانت تفشل في السيطرة على كثير من المناطق الداخلية، ولم تكن قادرة على مواجهة الزعامات المحلية المتنامية آنذاك ولمواجهة ذلك الوضع قررت الآستانة إنشاء مديرية ناحية الكورة، لتخلق نوعاً من الحكم اللامركزي الذي لم يرفضه الشيخ كليب، لكنه بحكمة وقوة تمكن من الاحتفاظ بأهم صلاحياته، ولم تجد المديرية الجديدة مناصاً من التعاون معه، والقبول بتدخلاته وإملاءاته المتواصلة، في سبيل تجنب الصدام معه ومع الأهالي الذين يدينون له بالولاء والمحبة، خصوصاً مع توحد عوامل التحالفات بين عشائر المنطقة وثقتهم بكليب الذي انتهج نهجاً ديمقراطياً مبكراً في الحكم، فكان نهج كليب في اتخاذ القرارات هو نهج الشورى و الحوار، حيث كانت المضافة مقراً للاجتماعات الدورية بين ممثلين عن بلدات وعشائر اللواء، فلم يكن الشيخ كليب بالحاكم المستبد المتزمت برأيه ، بل كانت القرارات تتخذ بالمشورة وهو ما جعل الحكم ثابتاً ومتماسكاً في وجه كل المحاولات الخارجية لزعزعته، وبذلك أصبحت المضافة توازي قوة وفعل السرايا بل تتفوق عليها بكل ما تقوم وتتميز به مؤسسة الحكم المدني والشرعي.
- التعليم:
- عرف الشيخ كليب الشريدة باهتمامه بالتعليم و نظرا لأن النظام التعليمي المحلي المتبع كان يقوم على الكتاتيب و حلقات العلم التي كان يقودها الخطيب داخل المسجد، فقد أخذ الشيخ كليب من منطلق مسؤولياته زمام المبادرة وقام ببناء المسجد وجعله ملحقاً للمضافة بعد أن هدمت الزلازل المسجد الوحيد في البلدة في ذاك الوقت، وجعل من المسجد منارة للعلم والمعرفة ونشر مفاهيم التسامح والتعايش وليس بيتاً للعبادة فقط، فقد استقطب المعلمين والخطباء من المناطق المجاورة والذين كانوا قلة في ذاك الوقت، واستقدمتهم المضافة في إطار منظومة العون العشائري السائدة في ذلك الوقت والتي ابتكرها الأردنيين في كنف الاحتلال العثماني لمقاومة محاولات التجهيل ، وكانت تقوم على أن يتم إنشاء الكتاتيب بتمويل ذاتي من الأهالي في ظل رفض العثمانيين لبناء المدارس في المنطقة، فقام هؤلاء المدرسون بتعليم الطلبة العلوم الدينية والدنيوية، وقد أرسل ابنه عبدالله لاكمال تعليمه الثانوي في دمشق بمدرسة عنبر ، كما كانت المضافة تجمع أهل العلم والأدب والشعراء أمثال الشيخ سعيد الهامي والشاعر أبو عصبة من بلدة بيت ايدس والشاعر الدوقراني إبراهيم عبد الرزاق الشلول والشاعر مصطفى السكران وغيرهم.
- الاقتصاد:
- اهتم كليب بالجانب الاقتصادي الذي يعتبر من أهم جوانب الحكم والحفاظ على ديمومته واستقلاليته فبقوته يقوى الحكم، فأنشئ وفي نفس إطار منظومة العون العشائري نوعاً من العلاقة بين الفلاحين والمضافة ، فكانت المضافة تدعم المزارعين والفلاحين في سنوات القحط والجفاف والمواسم السيئة، وهو ما زاد من ثقة المواطنين في المضافة بمقارنتها مع السرايا العثمانية التي لم تكن تقدم سوى السجن و التعذيب و استدعاءات التجنيد الاجباري، بل أنهم حتى لم يسلموا من الضرائب المتصاعدة التي كانت ترهقهم في كل المواسم.
القضاء والعدل:
كانت إغاثة الملهوف وحقن الدم وصون الأعراض من أهم صفات كليب الشريدة وركائزه في الجانب القضائي حتى أصبحت عبارة “أخذ الحق على صفاة ابن رباع” مضرب للأمثال، ويقصد بصفاة ابن رباع مكان إصدار الأحكام والتقاضي بجوار العلالي، التي أصبحت محجاً للمظلومين ومناط الرجاء لذوي الحاجات والخائفين، فيفدون إليها من جميع المناطق الأردنية، وكذلك من فلسطين وسوريا ، كما كان كليب قاضياً عشائرياً ومصلحاً لذات البين ، ولا يكون لقضائه معقب ، وكان يأتيه المتقاضون من الكوره وخارجها ، فينعقد لهم مجلس القضاء بحضور عدد من الوجهاء ، وبعد الاستماع لحجج المتخاصمين بكل أناة وطول بال وصبر، ينتقل مع المجلس القضائي المكون من الوجهاء لمكان آخر ليتم التشاور والاتفاق على الحكم والقضوة، ثم يعودون للمضافة لإبلاغ المتخاصمين بالحكم، كما كانت له جولة شهرية على باقي قرى لواء الكوره، فيجلس مع الناس ويقضي على المشاكل في مهدها قبل أن يستفحل الخرق ويصعب على الراثي، أما المشاكل الحادة والخطيرة فكانت تأتيه إلى مقر الحكم في العلالي على وجه السرعة للاستعجال في حلها والقضاء على مسبباتها.
الشيخ كليب والثورة العربية الكبرى:
طوال فترة الاحتلال العثماني للمنطقة والذي استمر لأربعة قرون من الظلم على سكان المنطقة نكّلت القوات العثمانية بالكبير قبل الصغير ولم يسلم من أذى وبطش الجيوش العثمانية أحد، مما أثار حنق الأردنيين ضدهم فما من منطقة في شمال أو جنوب أو وسط الأردن إلا وخرجت في ثورات صغرى ضدهم انتهت جميعها بقمع المدن والقرى الثائرة وإبادة أهلها والانتقام منهم وتهجيرهم وملاحقتهم، وهو ذاته ما كان يحاول العثمانيين فعله في الكوره بعد افتتاحهم لمديرية الناحية التي عمل الشيخ كليب على الحد من نفوذها ، فحاول العثمانيون استمالته واسترضائه من خلال جعله عضواً في مجلس إدارة القضاء، المكون من ثلاثة أعضاء ، فكان كليب وأخيه عبد القادر الشريدة في بعض الفترات أعضاء في آن واحد، ومع انطلاقة الثورة العربية الكبرى وتواجد قواتها في منطقة أبو اللسن جنوب الأردن وتواصل رسلها والمبشرين بها مع الزعامات العشائرية المحلية، تصاعدت حدة التوتر بين الأردنيين والعثمانيين، فقام الحاكم العثماني مدير ناحية الكوره “تقي الدين أفندي” أسوة بغيره من الحكام والمندوبين الممثلين للوالي العثماني، بحلق شوارب ولحى بعض الرجال في الكوره من خلاف، وهو عرف درج على استخدامه العثمانيين إمعاناً في محاولة إذلال السكان وكسر أنفتهم، كما قام تقي الدين وما معه من عصابة القوات العثمانية بقتل السيد محمود جاد الله من بلدة بيت إيدس عند محاولته الهرب، فبلغ النبأ للشيخ كليب عن طريق ابنه عبد الله وابن أخيه رشيد الجروان، وكان كليب في ذاك الوقت عضواً في مجلس إدارة القضاء، فثارت ثائرته وقال جملته المعروفة : “من يحلق لحى أهل الكورة فكأنه حلق لحيتي” وصمم على الانتقام من مدير الناحية العثمانية “تقي الدين” واشتكاه إلى قائم مقام إربد في ذاك الوقت “محمود راغب” فقال : “يمكن لحاهم طالعة على نجاسة وبعد حلقها تطلع على طهارة” فزاد هذا القائم مقام الطين بلة، وقام كليب بالتصعيد وبالمقابل كان الرد العثماني بالتآمر ضده والسعي للتخلص منه، فهم الذين لم يرغبوا يوماً بمن يحاول وضع حد لظلمهم ، فأسندوا لكليب وابنه جملة من التهم ، أهمها التآمر ضد الدولة العلية والتواصل مع جيش الأمير فيصل، وبذلك حكم على الثلاثة “كليب وابنه عبد الله وابن أخيه رشيد” بأنهم “يطق أشقياء” أي بمعنى خارجين عن القانون، وكانت هذه الاتهامات التي هي وسام فخر في جوهرها؛ كفيلة بايصال المذكورين لحبل المشنقة وهذا ما حصل، حيث تم ترحيلهم من اربد لدرعا ومن ثم للشام وسجنوا في سجن القلعة وتم تحويل أوراقهم إلى ديوان الحرب (المجلس العرفي) برئاسة جمال باشا الذي حكم عليهم بالإعدام في أيلول عام 1917، وقد كاد الإعدام أن يتم وأن تمتد يد الغدر والظلم العثماني للبطش بأبطالنا ورجالنا، لولا العناية الإلهية وتدخل أخوال كليب من عشيرة الزعبي ، الذين نجحوا في رشوة العثمانيين بـ 100 دينار ذهب مجيدي، مقابل إطلاق سراح الشيخ كليب ومن معه، وعند عودتهم لإربد استغرب مدير الناحية والقائم مقام، وتساءل القائم مقام العثماني ومدير الناحية كيف خرجوا مستغربين ومتعجبين، ولم يطل الزمان بهؤلاء الظلمة فما لبث حطب الثورة أن لملم نفسه وكانت السلوكيات التي انتهجها العثمانيون تزيد من اشتعال النار وانتشارها حتى أحرقت العثمانيين وكسرت شوكتهم.
فتزامناً مع انطلاقة الثورة العربية الكبرى ، قامت القوات التي تضم أبناء الكوره ويبلغ عددها ألف “بواردي” مدربين ومسلحين كما أسلفنا بالاشتراك مع المتطوعين من الأهالي بتنفيذ العديد من العمليات ضد القوات العثمانية، فقطعوا إمداداتهم واستولوا على أسلحتهم واستثمروا العامل الجغرافي وسخروا الطبيعة وطوعوا التضاريس في خدمة الثورة العربية الكبرى، فعامود ابن رباع قرب بيت يافا ما زال شاهداً على ما ألحقه رجال الكوره المشاركين في الثورة العربية الكبرى بالقوات العثمانية هناك من هزائم، حيث نجحوا بتطهير المنطقة من فلول القوات العثمانية التي أنهكتها معارك التحرير في جنوب ووسط الأردن والتي كانت تتوج بانتصارات عظيمة لقوات العشائر الأردنية المشاركة في الثورة العربية الكبرى، وقد مهّد الدور الذي قامت به العشائر الأردنية في الشمال في استكمال مسيرة تحرير الأشقاء في سوريا بعد الانتهاء من تحرير الأرض الاردنية فتم تحرير درعا ووصول قوات الثورة العربية الكبرى لدمشق وتطهير سوريا، وإعلان الأمير فيصل ملكاً عليها.
موقف الشيخ كليب من الاحتلال الفرنسي والبريطاني والهجرة اليهودية :
واستكمالاً لما اتهمه به العثمانيون، واصل كليب الشريدة وقوات الكوره دعمهم للثورة العربية الكبرى وأهدافها ، ورفضهم لكل أشكال الاحتلال ، فبعد انكشاف المؤامرة التي كانت تحيكها بريطانيا وفرنسا في الخفاء، تم تجهيز جيش من فرسان ومحاربي الكوره وإرسالهم بقيادة عبد الله كليب الشريدة لدعم ومؤازرة الأمير فيصل في معاركه ضد الفرنسيين، ورفض كليب الشريدة كل الإغراءات والعروض والمحاولات الفرنسية في استمالته لجانبهم في ظل التنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا للسيطرة على أكبر مساحة من المناطق ومن ضمنها المناطق الأردنية، كما قام كليب الشريدة بإرسال فرسان ومحاربي الكوره للمشاركة في مقاومة الجيش البريطاني في فلسطين رفضاً لأطماع الفرنسيين والبريطانيين في تقاسم الاحتلال والنفوذ على دول المنطقة ووعدهم بوطن قومي لليهود في فلسطين، فشاركت قوات العشائر بقيادة عبد الله كليب الشريدة في معركة تل الثعالب التي قضى فيها أول شهيد أردني على ثرى فلسطين في العصر الحديث وهو الشهيد كايد مفلح عبيدات، وكتب كليب عند وفاة العبيدات رسالة أشاد بها بهذا البطل الأردني وشجاعته وتضحيته ، وهذا كله سنرى أثره على حياة كليب لاحقاً فقد ازداد حقد الانجليز ضده وحاولوا تصفيته والحد من تأثيره عبر أدواتهم من الشخصيات التي كان لهم كلمة وتأثير عليها في الحكومات المركزية المتعاقبة.
وصول الأمير عبد الله للأردن وتأسيس الحكومة الوطنية:
كانت في الكوره عام 1921حكومة محلية رفضت التعاون مع الاستعمار البريطاني، وعند قدوم الأمير عبد الله بن الحسين إلى شرق الأردن، أراد توحيد البلاد تحت حكومة مركزية، فقام وفد من رجالات الكوره وعلى رأسهم كليب الشريدة وابنه عبد الله بالتوجه لعمان ومشاركة جموع الأردنيين في استقبال الأمير عبد الله المؤسس عند وصوله لعمان عام 1921، وأعلن الولاء للأمير (آنذاك) عبد الله بن الحسين بعيد وصوله إلى عمان، وأعلن دعم الحكومة المركزية، لكنه رفض الانضمام لحكومة اربد، وقام بتأسيس حكومة دير يوسف التي ضمت مناطق الكوره وبني عبيد وكان مقرها في دير يوسف وطالب بأن تكون منطقة الكوره وبني عبيد على اتصال مباشر بالحكومة المركزية في عمان، احتجاجاً على تدخلات البريطانيين في عمل حكومة اربد وبقية الحكومات المحلية من خلال وجود عدد من المعتمدين الانكليز الذين يدافعون عن مصالح بريطانيا وسياساتها ويمهدون الطريق لأهدافها غير نظيفة ، وكان من جملة هؤلاء “الماجور سمرست” الذي كان معتمداً من حكومة بريطانيا في حكومة اربد المذكورة وأصبح لاحقاً عضواً في مجلس اللوردات البريطاني، إلا أن البعض استغل هذه النقطة لمحاولة الإيقاع بين كليب والحكومة الجديدة فرفض طلبه، خاصة أن الرفض الشعبي والرسمي في ذاك الوقت كان ضد كل ما له علاقة ببريطانيا والتدخلات الخارجية، وكان الهدف الذي يسعى جميع الشيوخ و الزعماء الأردنيين لتحقيقه هو التخلص منها ونيل الاستقلال بشكل تام لكن كل منهم كان يرى من زاويته وبطريقته.
ثورة الكوره :
تعددت التسميات حول الحركة التي حصلت في الكوره عام 1921 من مناوشات واشتباكات بين الحكومة المركزية ورجال الكوره فبعض المؤرخين يصفها بأنها ثورة وآخرون أسموها عصياناً، إلا أن الأقرب هو ما وصفه الأمير عبد الله في حينه بكونها ردة فعل تجاه “خطأ إداري”، حيث قامت الحكومة المركزية بإنشاء حكومة عجلون وجعلت مقرها اربد، واستمر الانجليز بسعيهم لتصفية حساباتهم مع الشيخ كليب ومحاولة تحجيمه والحد من تأثيره على مصالحهم والانتقام منه من خلال التحريض ضده ومحاولة إظهاره وإقناع الحكومة المركزية والحكومات المحلية بالتعامل معه كمتمرد، وقد كادوا ينجحوا بذلك، واستغل معتمديهم في حكومة اربد حادثة عرضية عابرة وأصبغوا عليها صفة الثورة أو التمرد، فحدث أن أرسلت الحكومة مفرزة من الدرك برفقة موظفين حكوميين مهمتهم تعداد الأغنام في لواء الكوره، وكاد الفريق ينهي مهمته، حيث أرسل موظف تعداد برفقة اثنان من الدرك لتعداد الأغنام في بلدة زوبيا فقام أحد العسكر بالتعامل مع الأهالي بما عهده وما زال يتأثر به من أفكار وأساليب رسخت خلال فترة الاحتلال العثماني، حين كان الموظف والعسكري يبطش ويظلم الناس دون مساءلة ودون رقيب وحسيب، وهو الأمر الذي لم يعتده ولم يقبله أهل الكوره خصوصا والأردنيين عموماً في عهد الاحتلال العثماني فكيف سيطيقونه في عهد الثورة والحرية والحكومة الوطنية، فتذكر الروايات أن العسكري المذكور قد قام بالإساءة لإحدى النساء على نبع رغم أنهن أكرمن الضيوف وقمن بسقاية خيولهم، فصاحت المرأة وكان أحد أفراد عائلتها قريباً، فأخذ العسكري بالشتم والانتهار، فاستفز أحد رجال المنطقة سريع الغضب الذي أطلق رصاصة أصابت العسكري وقتلته ففر الجابي والعسكري الآخر لبلدة المزار، وتواصلوا مع الحكومة في اربد، التي قامت بدورها وبتدخلات بريطانية بنقل الصورة إلى عمان بشكل مبالغ به، وانتشرت الإشاعة بأن “الكوره قامت . . . الكوره ثارت” ، ولم تقم حكومة اربد بإرسال أي قوة أمنية أو لجنة للتحقيق بالحادث مبالغة بسوء الظن بأهل الكوره، فأحس كليب ورجالات المنطقة بما يحاك لهم، وحملهم إحجام الحكومة وترددها على اتخاذ الحيطة والحذر، لأنهم أدركوا أن سكوت الحكومة قد يكون معناه أنها تتجمع لتثب وأنها تعد العدة لضربهم باعتبار أنهم ثائرون ضدها، واستثمر أعوان الشر والعملاء الموقف وأشاعوا في صفوف الأهالي أن الحكومة تعد العدة لانتقام شديد ينكل بجميع قرى لواء الكوره ورجاله، وألحت حكومة اربد على الحكومة المركزية في عمان بإرسال القوات لاعتقال من وصفتهم بالعصاة، فاشتبكت كشافة القوة مع بعض المسلحين الذين كانوا يترصدونها في وقت الفجر، ثم اشتبكت القوة بأكملها مع المسلحين من الأهالي وهبت القرى المجاورة للتصدي للقوة العسكرية، وتمت محاصرة القوة وقتل عدد من أفرادها، وتم أسر وجرح الباقين، وتعامل معهم أهل الكوره بكل إنسانية وفقاً لشهادة “فؤاد سليم” قائد القوة، التي تعتبر شهادة براءة بحق المشاركين في الثورة من التهم التي حاول البعض إلحاقها بهم، وقد سارع الأمير عبد الله المؤسس بالاجتماع بكليب شريدة في بلدة سوف بتوسط من الشيخ علي الكايد العتوم الذي أراد توضيح الحقيقة، وكادت الأمور أن تحل حيث طلب الأمير من كليب أن يتم الإفراج عن الأسرى وخيولهم، فأجابه كليب الشريدة بأن ذلك حدث فعلاً، إلا أن الحكومة المركزية الخاضعة للانتداب البريطاني و قراراته فرضت مبالغ وغرامات مالية على رجال الكوره كديّة للقتلى، وهو مبلغ كبير بلغ 4500 جنيه، فعجز الجميع عن جمعه، وتفاجؤا بعد فترة بمهاجمة قوات الحكومة المركزية للكورة من جديد بتغطية من الطيران البريطاني الذي قصف “العلالي”، عشية اجتماع كان مقررا بين كليب الشريدة والحكومة المركزية في دير يوسف مما يبين أن هناك أيدٍ خارجية كان لها يد في التحريض وإشعال نار الفتنة لعل أبرزها رجالات الحكومة – الفارين من سوريا إبان الانتداب الفرنسي- والمفروضين بالقوة من سلطات الانتداب البريطاني على الحكم الناشئ.
ويذكر “عبد الله كليب الشريدة” أنه وبعد أن تجمع مئات المقاتلين من مختلف بلدات اللواء واعتزموا صد القوات المهاجمة التي كانت في منطقة الطيبة تستعد لاقتحام الكوره ، ويقول عبدالله الشريدة وفقاً لمقابلة أجراها معه أخوه عبد العزيز بن كليب أنه اجتمع بوالده وسأله إن كان هدفه الحكم أو المنصب أو النفوذ فأجاب بالنفي فاقترح عليه أن يعود المقاتلين لبلداتهم وأن لا يحدث اشتباك حفاظاً على الدم الأردني ووحدة التراب الوطني وتماسكه، واقترح أن يغادر هو ووالده لمضارب الشيخ حديثة الخريشا، وهو الاقتراح الذي لاقى استحسان الشيخ كليب فوافق عليه، فخرج عبد الله وشكر المؤازرين على دعمهم وطلب منهم العودة إلى منازلهم حقناً لدماء الأردنيين وحفاظاً على تماسكهم، وانطلقا برفقة 40 من الفرسان باتجاه مضارب الشيخ حديثة الخريشا ، الذي تواصل مع الأمير وتواسط لديه لحل مسألة الشيخ كليب، فوعده الأمير بأن لا يمس كليب سوء سوى انفاذ القانون، ولبث كليب وابنه عبد الله في السجن بالسلط حيث أشادا بعد خروجهم بكرم وحسن تعامل جميع عشائر السلط معهم أثناء فترة تواجدهم في السجن الذي تحول لمضافة نتيجة علاقة الصداقة والأخوة المميزة التي كانت تجمع بين الشيخ محمد حسين العواملة والشيخ كليب الشريدة، وبالفعل بعد فترة قصيرة تم إصدار العفو الأميري عن كليب الشريدة تزامناً مع اعتراف بريطانيا بالاستقلال الأولي للأردن في حينه.
العلاقة مع الملك عبد الله المؤسس :
سادت علاقة صداقة حميمة بين الشيخ كليب الشريدة والأمير عبد الله المؤسس بعد ذلك ، فكان الأمير لا ينادي كليب إلاّ ” يا عود ” كناية عن مكانته وقدره، كما زار الأمير عبد الله بلدة تبنة وبات في ضيافة الشيخ كليب عدة ليالي، واصطحب كليب وزوجته إلى الحج بحراً في عام 1934، وتواسط كليب لأصدقائه الشيخ محمد حسين العواملة والبطل علي خلقي الشرايري لدى الأمير في حوادث منفصلة، وتولى ابنه عبد الله كليب الشريدة منصب وزير في الحكومة الوطنية، ثم أصبح لاحقاً وصياً على العرش قبل استلام الراحل العظيم الملك الحسين بن طلال مقاليد الحكم في خمسينيات القرن الماضي.
وفاة كليب الشريدة
في آخر أيامه مرض الشيخ كليب مرضاً شديداً بعد أن تعرض لإصابة تسببت له بنزيف داخلي أفقدته الوعي لعدة أيام، ثم ما لبث في 1/1/1941 أن فارق الحياة التي عاشها بطلاً وطنياً حراً مدافعاً عن قضايا وطنه وهمومه وحامياً وحريصاً على مصالح أبناء شعبه وكرامتهم، رافضاً لكل أشكال الاحتلال عثمانيا كان، فرنسيا، بريطانيا أو اسرائيليا، وترك خلفه 11 إبناً، وتولى منهم العديد من المناصب في الدولة وكان لهم كما كان لوالدهم وأبناء الأردن، الدور الكبير في بناء الأردن الحديث والحفاظ عليه.
المراجع :
- عدد من المقابلات الميدانية المسجلة مع أبناء وأحفاد كليب الشريدة – فريق عمل إرث الأردن.
- ﻣﺬﻛﺮﺍﺕ عامين في عاصمة شرق الأردن ، خير الدين الزركلي 1925
- سيرة حياة الشيخ كليب الشريدة ، عبد العزيز كليب الشريدة 2000
- تاريخ شرق الأردن وقبائلها ، فريدريك بيك.
- تاريخ الإدارة العثمانية في شرق الأردن ، أحمد صدقي شقيرات.