Latest articles
November 15, 2024
November 15, 2024
November 15, 2024
من ثالث درجات الدين الإسلامي “الإحسان” يأتينا التصوف بمنهجه الروحي القويم. إن مفهوم الإحسان الذي صبغ هذا المنهج جعله يصب اهتمامه على بناء شخصية الفرد الواحد. فالإنسان الذي لا يعي قيمة “الحب” لن يستطيع فهم ذاته ولا فهم العالم ولن يكون سوى أداة تستخدمها الأطراف المتنازعة في كل زمن لبث سمومها وأحقادها.
يركز التصوف في جميع طرقه –وإن تعددت-على هدف واحد؛ ربط الأدب والعلم والعمل. إنها مفاتيح التصوف الثلاثة. ويذكر في أدبيات الصوفية أنهم قالوا: والله ما فاز من فاز إلا بحسن الأدب وما سقط من سقط إلا بسوء الأدب. إن حسن الأدب تعبير عن كمالات النفس وعن انضباطها وعن التحكم في نزواتها، وذلك وحده علامة خير. بينما سوء الأدب علامة على أن النفس لا زالت متلطخة برعوناتها، عاجزة عن الانضباط في المسار الصحيح” كما يستخدم المتصوفون أساليب تربوية كالقصة والقدوة وتعاليم الانضباط الذاتي لتعليم الأخلاق الحميدة وقد جعلوا التدين الحق هو الأخلاقي بالضرورة؛ يقول الكتاني:”التصوف أخلاق، فمن زاد عليك بالأخلاق زاد عليك بالتصوف”
لطالما عُرف الأردن بطيبة أهله ورحابة صدورهم، إضافة لمنعتهم إزاء كل دعوات الكراهية والعنصرية ونبذ الآخر؛ ولكن الأمر الذي ظل دوما في كواليس هذه الصورة المشرقة هو تشرب أبناء المجتمع الأردني قديما بقيم الصوفية الداعية للتسامح والانفتاح على الآخر. إن قصة التصوف الأردني، بلا شك، تستحق أن تروى وتستعاد.
قصة التصوف الأردني: فصل عجلون والشمال
تنادي العجوز الأردنية في كل قيام وقعود “يا خظر الأخظر (خضر الأخضر)” وربما تقول في أحيان أخرى “يا مستريحي” وتؤرخ الحاجة دون أن تدري قصة التصوف الأردني الذي تجذر في صميم هوية المجتمع وذاكرة الأهالي.
تعود معالم قصة التصوف الأردني لما قبل تأسيس الدولة الأردنية الحديثة، أي إلى الأيام التي كان الأردن فيها واقعا فيها تحت جبروت الاحتلال العثماني، ورغم ممارسة العثمانيين لشتى صنوف التجهيل والتفقير ناهيك عن قمع الثورات الشعبية وزج الشباب في مطحنة التجنيد الإجباري إلا أن مناخ الأردن وطبيعة جغرافيته قد ساعد على نزوح الكثير من العائلات المتصوفة من فلسطين وتركيا وسورية والمغرب وقد وجدت هذه العائلات في الأردن ملاذا آمنا. في عجلون تتخذ القصة أبعاد اجتماعية وثقافية أكثر عمقا من أي مكان آخر.
عجلون سيدة جبال الأردن، المحافظة ذات الهواء النقي والأشجار الضاربة جذورها في الأرض، كانت مسرحا مهيبا للتصوف الأردني الأول. استقرت الكثير من العائلات المتصوفة في عجلون إبان الاحتلال العثماني، ولم تكن الجندرمة العثمانية ذات سيادة حقيقية على المنطقة الأردنية، إنما كانت تدار من قبل زعامات محلية قبلية وصوفية أو عبر الحكم بالوكالة لفرض الضرائب الباهضة وجمعها. ولم تكن الصوفية بالطبع على نزاع مع السلطة القبلية إنما كانت متمما روحيا لعناصر افتقدها المجتمع آنذاك؛ يقول الدكتور أيمن الشريدة في وصفه لمكانة الصوفي عند الأهالي ” الصوفي العارف في عجلون كان يمثل سلطة شرعية روحية للأهالي ويعتبر شخصية كارزمية كان وجودها ضروري كمرجع ديني في الأساس” وبهذا اتسمت الصوفية في الأردن بنزعة تصالحية مع الأهالي واندماج كامل في الشعب، فكانت من أهم الحركات المجتمعية والدينية الداعية لعدم العنصرية أو التحزب- حتى ولو للقبيلة- على حساب الحق.
ونظرا لغياب جهود التنمية والإعمار- من مدارس ومستشفيات – وانعدام الأمن عموما والتعامل مع الأردن والأردنيين بنظام حكم المزرعة الدارج في حقبة الاحتلال العثماني المظلمة، مثّل الولي الصوفي للأهالي ملاذا آمنا، فعدا عن دوره الروحي في الرقية والحجابة وغيرها، كان يعهد الفلاحون عند مقام الصوفي بعدتهم ومتاعهم فلا تتعرض للسرقة أو النهب. كان للصوفي أيضا بُعد اجتماعي مهم في رعاية الفقراء وتوزيع الصدقات وكفالات الأيتام. وبهذا الصدد، يتابع الدكتور الشريدة وصفه لمقام الصوفي في قلوب الأهالي ” في حضوره بالمرقد والقبر والشجرة والمغارة والمقام، وغياب المسجد والقراءة والكتابة .. نعني أن مرجعية المتصوفة كانت هي بحد ذاتها مرجعية الأهالي المعوزة” والجدير بالذكر أن تأثير تصوف العشائر الأردنية لم يقتصر على المساحة الجغرافية التي كانت تقيم عليها العشيرة، إنما امتدت حتى تصل سيرين وطرابلس وعكار وحصن الأكراد وجيزوق وخريبة الجندي والسويسة والبيرة والمجدل راسمة بذلك الخطوط العريضة لمرجعية روحية تتجاوز الحدود الجغرافية.
مقامات للذكر وأشجار للأمنيات
تتلهف الأمهات الأردنيات مسلمات ومسيحيات على جلب أولادهن المتعثرين بالكلام إلى مقام الشيخ، يعطين الصدقات ويدعون الله عند المقام بأن يكبر أولادهن على صحة جيدة. كان المقام مركزا يستقطب طالبي العون والراحة والشفاء، كما كان يحظى بمنزلة خاصة تجعل القسم الذي يتم فيها قسما لا رجعة فيه. داوم الأهالي على خدمة المقام وتنظيفه وإشعال البخور دوما فيه. وكانت حلقات الذكر دائمة في المقام أو في بيوت طينية ملحقة فيه غالبا ما تكون معزولة عن مراكز القرى لجعلها وسيلة للتحرر من وطأة الحياة اليومية.
فمن مقام الشيخ الحاوي في برقش إلى مقام الشيخ مقدار ومقام الشيخ رباع ومقام الشيخ عبده ومقام أبو ذابلة تتوالى المقامات التي يصعب أحيانا حصرها. في منطقة كفر الما مقامان للشيخين عيسي الزعبي وأبو وتد. وفي منطقة زوبيا مقامان آخران للشيخين أبو العوف والخضر؛ في تبنة ثلاثة مقامات للشيخ العجمي والشيخ سعد والشيخ مسعود. في أزمال وسموع مقام الشيخ محمد القينوسي. في عنجرة، مقام الشيخ البعاج. أما أهالي ملكا وقرية شيخ البلد في إربد فكانوا يزورون مقام الشيخ العجمي ومقام الشيخ عمر. ويحضر مقام الشيخ أبو الطاهات والشيخ عيسى عند أهالي ناحية السرو. أما أهالي عنبة والمزار فكانوا يعنون بمقامين واحد للشيخ علي المساد العمري وآخر للشيخ محمد العمري. في جنين الصفا وحدها تتواجد خمسة مقامات للشيوخ أبو البركة وأبو طبلة وأبو قرنة ومغارة المستريحي وقبر صبيحة.
ويذكر أن مقام سيدي بدر في منطقة عنجرة هو مقام أو خانقاه يعود للعصر الأيوبي. وكان الخانقاه أشبه بمركز تعليمي و” فندق” إضافة لعمله كمركز لتجهيز الجيوش للحرب. أما في جنوب محافظة غرب جبال عجلون وبين أشجار السنديان يتربع مقام الحاجة أميرة. يحيط في المقام بعض أنصبة القبور ومسجد صغير يظهر منه محراب وجدران.
الله الله الله الله يا ولي يا أبا ذابلة يا بحر ممتلي
كالبحر لا هاجْ بشهور الربيع على جزيرة بها فواكه تحملي
يشير هذا التكثف الرهيب لمقامات الشيوخ في عجلون الشمال إلى التحام التصوف في نسيج المجتمع المحلي. لكن هذا الالتحام لم يقتصر على بناء مقامات مربعة المساحة بقباب خضراء على رؤوس الجبال لأغراض الخلوة والاعتكاف؛ إنما امتد لإشراك الطبيعة الخضراء لعجلون في سلسلة من الطقوس الروحانية التي شكلت أمنا وحصنا ضد خيبات الرجاء والآلام. في كل قرية من قرى عجلون، سنرى شجرة تسمى بشجرة العجمي (أي الولي القادم من بلاد العجم). وعلى الرغم من شيوع تقديس الأشجار في سفر التكوين وعند المسيحيين إلا أن أشجار عجلون اكتسبت أهمية خاصة من أهمية الشيخ المدفون تحتها أو حتى الشيخ الذي اعتاد على التظلل بظلها.
ينطلق أصحاب الحاجات والأمنيات إلى ظلال الأشجار “المباركة” كل خميس وإثنين ليعلقوا أمانيهم ورجاءهم على أغصانها ويصف الدكتور الشريدة هذا الطقس الذي كان مهيبا:
“يعقد الأهالي أمانيهم تحت ظلال هذه الأشجار ويحرقون البخور وعلى أطراف أغصانها يربطون الخرق والقماش الخضر مذكرين الولي بهم وبقدومهم وعند فيافي هذه الأشجار المقدسة تسكن خيبات الرجاء. جميع الأشجار المحيطة أو القريبة من هذه الأشجار المقدسة تعامل باحترام وتقدير من الأهالي وقد أخذت الشجرة قداستها ليس بسبب المكان بل من الولي الذي كرست له فلا يستطيع أحد تقطيع أغصانها أو إيصال الضرر بها تحت أي من الظروف”.
كذلك حظيت شجرة البركات والبصوص في كفر الما بأهمية مشابهة، إضافة لشجرة أبو مرسة في زوبيا وشجرة أبو شوشة والمستريحي وعامود الست في جنين الصفا وشجرة الفقير في كفر عوان. وفي عنبة كذلك، ثلاث شجراء بأسماء ثلاث أولياء: البلخي والفقير والعجمي.
موكب الأعياد، الأردنيون واحتفالات روحية من نوع خاص
لم تختلف الاحتفالات والحضرات الصوفية الأردنية عن مثيلاتها في منابع التصوف في قونية وبغداد. فمع احتوائها على التهجد والمناجاة والدعاء والتسبيح، أضفت طبيعة العشائر الأردنية لمسات خاصة على طبيعة الحضرة الصوفية.
القرع على الدفوف والكاسات والصنجات إضافة لنفخة في البرزان (بوق) تلك هي دعوة المتصوفة لأهالي القرية بالانضمام إلى الحضرة. وكان الإقبال على هذه الحضرات كبيرا فلا يخلو بيت من بيوت العشائر الأردنية من متصوف.
مع بعض الأدعية من قبيل ” يا هو[1].. يا حي..” ويشتد الوجد بالقائمين والداعين حتى يأتي الصباح. وكانت العادة أن البيت الذي يجتمع المتصوفة فيه يذبح صاحبه شاة للمدعوين.
تنوعت الاحتفالات الدينية، فكان الأهالي ينتظرون عاشوراء بفارغ الصبر. وكعادة العشائر الأردنية في المناسبات المهمة، يجتمع الأهالي في بيت العشيرة الكبير (المضافة) ويوزع على الأهالي والفقراء اللحم.
أما في العشر الأواخر من شهر رمضان، تغرق القرى جميعها بحالة من الروحانية. يتعالى صوت مقرئي القرآن ويتم عقد حلقات الذكر ويسير الناس مهللين ومسبحين حتى يطلع الفجر وقد اعتادوا القول في مثل هذه المناسبات:
هيا يسيادي هيا والحضرة قادرية
يد الرسول انمدت للرفاعي هدية[2]
ويذكر لنا الباحث الشريدة ما يفعله الأهالي من استكمال للطقوس الروحانية في أول أيام عيد الفطر وكانت تلك الطقوس تدار بواسطة الشيوخ المتصوفين من العشائر الأردنية:
“بعد تناول قطع من الخبز في صباح العيد ينطلق موكب ومسير كبير يتقدمه كبار الصوفية يتبعهم أهالي القرية نساء وصبيان لزيارة مقامات وقبور الموتى في ذلك اليوم، وترى القوم في حالة استعجال وربما هرولة سريعة الخطى، قسم ينادي الله.. الله.. وقسم يضرب بالدفوف وآخرون يحملون العلم الأخضر الكبير..”
بتوجيه من شيوخ كالشيخ عوض الخطيب أو محمد المصلح يسير الموكب نحو الشجر المبارك كزيتونة العجمي ومن ثم ينعطفون إلى مقام ولي من أولياء الله. وعند المقام تتعالي ضربات الدفوف ويصدح الجميع بالتهليل والتسبيح. تصل في آخر الموكب نساء أردنيات متصوفات كالحجة سكوت العبد والحاجة ثريا الخطيب. وبعدما يفرغ الجميع من زيارة القبر ينعطفون إلى المقبرة وقد يمرون بمزار المرحومة صبيحة العسولة أو شجرة العامود المباركة.
بهذا يختم الأهالي طقوسهم وروحانياتهم. الكل يعرف دوره في هذا الاحتفال الديني، والكل يجتمع بغض النظر عن فروق الطبقة الاجتماعية وبعيدا كل البعد عن أفكار نبذ الآخر.
العائلات الصوفية الأردنية
تتذكر العديد من المصادر أن أصل بعض العائلات الأردنية تعود لشيوخ متصوفين. فيعتز أبناء عشيرة المومني بأصولهم التي تمتد إلى شيخ متصوف يدعى “علي السائح الجنيدي” الملقب بالمؤمن أو “المومن” حسب اللهجة الشعبية. وكان الشيخ المؤمن قد ارتحل إلى عين جنا في شمال الأردن. في رواية أخرى يعود نسب هذه العشيرة إلى ” الجندي” الملقب بالقواريري وابنه محمد الملقب بالزجاج نظرا لاشتغالهم في بيع القوارير الزجاجية وأنهم في الأصل من نهاوند وارتحلوا إلى الأردن في القرن التاسع عشر ومنها انتشرت عشيرة المومني.
تذكر مصادر أخرى بأن عائلة المومنية تمتلك حجة نسب بتاريخ 1329 هجري منسوخة عن أخرى تعود لتاريخ 380 هجري تنسب فيها عشيرة المومني إلى سبط الرسول الحسين رضي الله عنه. ويرجح أن هذه الحجة حفظت لدى جنيد بن محمد الجنيدي. ويؤكد تلك الرواية المؤرخ الأردني روكس بن زائد العزيزي في كتابه “معلمة للتراث الأردني” إضافة لعدة كتب أخرى تتناول أصول القبائل العربية والأردنية ككتاب ” موسوعة القبائل العربية لمؤلفه عبد الحكيم الوائلي” وكتاب “عشائر شمالي الأردن لمؤلفه الدكتور محمود المهيدات” وغيرها.
اليوم، يسمى جبل في عجلون “جبل المومني” كما يسمى أحد أكبر أحياء المحافظة باسم “الجنيد” وتحوي منطقة عين جنا على مقام الجد الشيخ علي المومني. ويعقد هذا المقام حلقات لتدريس الدين وتحفيظ القرآن الكريم. ويعاد ترميم هذا المقام من حين لآخر من قبل أبناء عشيرة المومني.
أما بالنسبة لعشيرة الربابعة فهي عشيرة أردنية ذات تاريخ طويل في التصوف. إن جد هذه العائلة والمسمى “الشيخ رباع” كان متصوفا زاهدا ومنه انتقل التصوف وتجذر في نفس هذه العشيرة. أما عشيرة المستريحي، فقد وجدت أربع عشرة لفة خضراء (اللفة الخضراء هي العمة التي كان يرتديها المتصوفون والدروايش) وأغلبهم ينحدرون من جد واحد هو محمد عبد القادر الزاهد الملقب بالمستريحي. (الشريدة: 2010)
التصوف الأردني في العصر الحديث: الطرق والزوايا
من السلط كانت البداية، ففي القرن التاسع عشر استقر الشيخ مصطفى الكيلاني في السلط وكان قاضيا ومفتيا وحتى وفاته 1891 ترك الشيخ الكيلاني عددا من التلامذة. تابع عبد الحليم الكيلاني مسيرة والده الشيخ وأخذ الطريقة عن الشيخ نعمة الله النقشبندي. بعده استقر الصوفي الموريتاني محمد القذف عام 1910. وتعد الطريقة الشاذلية القذفية القادرية من أقدم الطرق الصوفية في الأردن ويعود الفضل بانتشارها إلى الشيخ محمد أمين بن زين القلقمي الذي نشر الطريقة في زوايا متعددة بين عمان والطفيلة عام 1920.
كما قدم الشيخ عايش الحويان الطريقة المغربية إلى الأردن، وبحلول عشرينات القرن الماضي كان هنالك العديد من الشيوخ الذين تابعوا نشر الطريقة في الأردن كالشيخ سالم ثلجي وخالد أبو زيتون. أما عم 1930 فقد دخلت الطريقة الشاذلية اليشرطية إلى زوايا عمان وتبعتها الطريقة الخلوتية والتي دخلت الأردن بفضل الشيخ خير الدين عبد الرحمن الشريف الذي طرده البريطانيون من الخليل إلى الكرك. استكمل الشيخ حسان الشريف نشر الطريقة الخلوتية وكان له زاوية في وادي السير في عمان وتبعه ابنه حسني الشريف ومن ثم الشيخ عبد الحي القاسمي الذي كان له زوايا في شمال ووسط الأردن. أما اليوم فالشيخ عبد الرؤوف القاسمي هو المسؤول عن الطريقة الخلوتية.
اليوم تشكل الطريقة الشاذلية الدرقوية الهاشمية الفيلالية الطريقة الأكثر انتشارا في الأردن وقد بدأت مع الشيخ محمد الهاشم التلمساني وبعد تلامذته الشيخ عبد القادر والشيخ عيسى الحلبي الذي استقر في الأردن في الثمانينات ومن بعدهما الشيخ عبد الهادي سمورة وحازم أبو غزالة.
ويعد الشيخ محمد سعيد الكردي الذي استقر في الأردن في أربعينيات القرن الماضي من أهم شيوخ المتصوفة في الأردن. كان الشيخ الكردي شيخا للطريقة الشاذلية الدرقوية الفيلالية وكانت زواياه التي بدأها عام 1950 منتشرة في محافظة إربد في البارحة والصريح وبيت راس. تعاقب الشيوخ الصوفية على زوايا الشاذلية في إربد فبعد موت الشيخ الكردي عام 1972 جاء الشيخ عبد الرحمن الشاغوري ومن بعده الشيخ عبد الكريم المومني ومن بعده الشيخ عبد الكريم عرابي الذي أقام زوايا في حكما ومادبا والطفيلة وعمان.
أما في منتصف الخمسينات فقد استقر مصطفى عبد السلام الفيلالي في الأردن؛ وهو شيخ يتبع الطريقة الشاذلية الفيلالية وقد أسس زاوية للطريقة في الجامع الحسيني ومن بعده أتى الشيخ شحادة الطبيري والشيخ أحمد حسن شحادة الردايدة في إربد، ومن بعده الشيخ والدكتور محمد الفيلالي في زاوية في الزرقاء والشيخ إبراهيم الفالوجي في منطقة شفا بدران والشيخ عبد القادر علي دار الشيخ في حي الجندويل.
أما الطرق الأقل انتشارا في الأردن كالطريقة القادرية فقد أسسها طلاب الشيخ محمد هاشم البغدادي وتنتشر زواياها في الزرقاء وعمان ويعد الشيخ عبد الحليم القادري في الشونة الجنوبية من أهم شيوخها وابنه الشيخ محمد في منطقة الهاشمي في عمان. والطريقة الكزكزانية التي قدم منتسبوها من العراق عقب سقوط بغداد وسكنوا منطقة ماركا الشمالية (أبو هنية: 2012).
الصوفية الآن واليوم: مجتمع العلم والعمل
ينخرط المتصوفون في نسيج المجتمع الأردني منذ القرن العشرين تقريبا. ولقد أفرزت الحركات الصوفية والزوايا جيلا يعي أن الدين لا يحصر فقط في المسجد والشعائر، فيؤكد السيد خلدون شكري أحد متبعي الطريقة الخلوتية في الأردن ذلك ويقول ” إن الدين غير محصور في مسجد طقوس شكلية، إن جوهر الدين هو إصلاح الفرد وبالتالي خلق جو فاعل لبناء الوطن ونفع المجتمع”[3] على أن الصورة النمطية للتصوف تقف بالمرصاد دوما وبهذا الصدد يقول السيد شكري ” إن الصورة النمطية السيئة للصوفية تكاد تكون مشوهة في مجتمعنا وهي غير مبنية على مشاهدات وتجارب فعلية إنما على أقوال وشائعات ومواد إعلامية وتلفزيونية مضللة” لقد ارتبطت صورة المتصوف في ذهن الكثير بالقعود عن العمل ولكن التاريخ يخبرنا بعكس ذلك تماما، فقد كان الصوفيون دوما أهل علم سواء علم شرعي من فقه وحديث أو علم طبيعي، فالطبيب المتصوف رشيد الدين علي بن خليفة كان طبيبا كبيرا للعيون كذلك الكثير من المتصوفة أصحاب الحرف والمهن.
لم يكن المتصوفة بمعزل عن مجتمعاتهم إنما كانوا في صميم همومها، فبدءا من صلاح الدين الأيوبي والعز بن عبد السلام وصولا إلى الشيخ عمر المختار، قاوم المتصوفون جنبا إلى جنب محاولات احتلال بلادهم ونزلوا إلى ساحات القتال. يتابع السيد شكري وصفه للمتصوفة “إنهم قوم علم وعمل، لأن أساس التصوف هو تزكية النفس ومن تزكت نفسه انصلح عمله وخلقه”
ويمكننا السؤال هنا عن حاضر الصوفية في هوية المجتمع الأردني وعن دورها في تشكيل درع يقي الشباب الأردني من الانجراف مع تيار الأفكار الإرهابية التي تحيط بوطننا الأردن من كل الجهات. وقد حدثنا السيد شكري عن علاقة الصوفية بالشباب الأردني حسب مشاهداته ” لقد شهدت الصوفية بلا شك إقبالا كبيرا من الشباب. إننا نعيش في منطقة ملتهبة، والشباب يتساءل على الدوام: هل تمثل هذه الحركات الإرهابية الدموية الدين؟ هل ما يفعلونه هو باسم الله ومن أجل الله؟ هل الدين يحث حقا على مثل هذه الأفعال؟ ولقد وجدوا في الصوفية صدرا رحبا للإجابة عن تساؤلاتهم بينما قابلت جهات أخرى هذه التساؤلات المشروعة بعين التشكيك والذم. إن الصوفية تهدف إلى نشر الثقافة الدينية الواعية والمتسامحة”
ربما لا يعود إقبال الشباب الأردني على الحركات الصوفية ردا على تلك التساؤلات فحسب. إن الصوفية الأردنية تطرح أمثلة منيرة في العمل المجتمعي الفاعل تجعلها تستقطب الأفراد وتدفعهم لتعزيز تيار التنمية المجتمعية الفاعلة. فقد أخذنا السيد شكري في جولة سريعة على مؤسسات الطريقة الخلوتية الرحمانية الجامعة والتي أسسها الشيخ حسني الشريف. فمن تكية دار الإيمان ومشاريع كفالة الأيتام والأسر المحتاجة إلى سكن طلابي ومركز لغات حديثة ومدارس. ولم تغفل الطريقة عن إدراج البحث العلمي ضمن مشاريعها. “إننا نطمح بالانطلاق أكثر بالنشاطات الخدمية، فهنالك العديد من الخطط المستقبلية المختصة بدعم ورعاية الأيتام حتى بعد انتهاء مدة الكفالة، لإيماننا بضرورة تمكينهم في المجتمع وتسليحهم بالعلم وفرص العمل. إن هدفنا الرئيس هو ألا نحصر الصوفية في زاوية في مسجد فحسب ونتمنى أن نحصل على دعم منظم في المستقبل القريب “وقد لخص لنا السيد شكري الهدف الأساسي من كل هذه المؤسسات بقوله ” إن إنسانا لا يمتلك توازنا روحيا وسلاما نفسيا ولا يشعر بأنه يعيش في مجتمع يدافع عنه ويحميه إنسان لا يستطيع أن يخدم وطنه بالطريقة المطلوبة”
الصوفية: المحبة والانسجام في المجتمع الأردني
بعد إعادة تأريخ قصة التصوف في الأردن تقابلنا قصة أكثر جمالا وهي قصة المجتمع الأردني نفسه. شهد مجتمعنا تحولات كثيرة، فمن “هية الكرك” و “ثورة الكورة” والهبات الشعبية ضد الاحتلال العثماني وصولا إلى منافسة الأردن كبرى الدول في شتى المجالات العلمية. رافق هذا المسار المشرف لوطننا تغيرات في ديموغرافية المجتمع نفسه أي في نسيجه.
إن المجتمع الأردني مجتمع ثري للغاية. وإن أفضل ما يمكن أن نشبه به مجتمعنا هو لوحة الفسيفساء. إن كل حجر في اللوحة يحمل قيمة ولون مختلف عن الآخر ولكن كل الأحجار مرصوصة بطريقة تشكل فيها لوحة مميزة. بهذه الطريقة يمكن للمرء أن يعرف كيف يعيش البدو والفلاحون والأكراد والشيشان واللاجئون جنبا إلى جنب حاملين هوية واحدة هي تلك الصورة الفسيفسائية الكبيرة التي تمثل كل واحد منهم.
من هذا الغنى تحديدا، نلمس عمق الأثر الذي تركته الصوفية الأردنية في المجتمع المحلي. ومن هنا ندرك أن قيم التسامح والقبول والمحبة هي قيم أصيلة لدى الأردنيين كانت الصوفية وتدًا من الأوتاد التي رسختها وعمّقت وجودها وجعلتها جزءا من حاضر الهوية الأردنية التي تنبذ الإرهاب والكراهية وتحض على السماحة والمحبة وتمثل مؤشرا مهما على فطرة الأردني الوسطية منذ العصور.
المراجع:
- الشريدة، أيمن (2010) الفكر الصوفي في الأردن: دراسة في التاريخ الاجتماعي الديني. سلسلة من تاريخ شرقي الأردن: عمان.
- حوى، سعيد (1999) تربيتنا الروحية (ط6)، القاهرة: دار السلام
- للوه، عمر (2009) المضامين التربوية للفكر الصوفي في الإسلام، رسالة دكتوراة، جامعة عمان العربية، عمان، الأردن.
- الرواشدة، محمد. الحالة الدينية في الأردن، الصوفية أنموذجا. المنتدى العالمي للوسطية.
- عبيدات، علي(2015) الصوفية، لماذا وكيف عادت؟ الأردن أنموذجا. موقع ثقافات.
- أبو هنية، حسن. (2012) الطرق الصوفية في الأردن، عمان: مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية.
- موقع الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية http://www.khalwatiya.com/
- مقابلة هاتفية مع السيد خلدون شكري عضو مجلس إدارة مؤسسات دار الإيمان.
- عشيرة آل المومنية- حسن المومني (2009) موقع المدينة الإخبارية.
- الصوفية في الأردن: بؤرة الروحانية. موقع قنطرة https://ar.qantara.de/node/12018
- زهران، مصطفى. (2011) العايدي: التصوف الأردني تراجع مثل التصوف العالمي، موقع إسلام أون لاين.
- عمراوي، خالد. حاجة المجتمع المعاصر للتربية الصوفية، موقع مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة.
- القضاة، عليّ (2016) مقام الشيخ المومني في عين جنا منارة للعلم وتعلم القرآن الكريم، صحيفة الدستور.
- محمود الشريدة، ذاكرة المكان.. شجرة أم الشرايط، وكالة عجلون الإخبارية.
- القضاة، أحمد. المساجد والمقامات في محافظة عجلون، بحث منشور. موقع وزارة الثقافة الأردنية
[1] يشير المتصوفة في أدبياتهم إلى الله بالضمير “هو”
[2] يسيادي : أسيادي، حيث اعتاد الصوفية على القول “سيدي” بمعنى الشيخ. الحضرة: حلقة الذكر. قادرية: نسبة للطريقة القادرية في التصوف. الرفاعي: الشيخ أحمد بن علي الرفاعي مؤسس الطريقة الرفاعية في الأردن.
[3] من مقابلة هاتفية مسجلة عن السيد خلدون شكري عضو مجلس إدارة دار الإيمان التابعة للطريقة الخلوتية الرحمانية الجامعة