Latest articles
November 21, 2024
November 21, 2024
November 21, 2024
مقدمة
تعتبر العادات والتقاليد جزءاً من الإرث الإنساني للمجتمعات والحضارات وتستغرق مئات السنوات لتراكم هذه العادات، والتي تتأثر بالظروف المحيطة والتغيرات التي تطرأ على المنطقة سواء كانت هذه التغيرات والتحولات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، ومن خلال تحليل هذه العادات والتقاليد وفهمها ووضعها في سياقها الصحيح يمكن للباحث والمهتم الحصول على فهم أوسع لتركيبة وبنية المجتمع للتمكن من قراءة الأمور بصورة أوضح، وضمن سلسلتنا البحثية المتعلقة بالهوية الغذائية الأردنية رأينا أن المشهد لن يكتمل بدون استعراض طبيعة العلاقات الانسانية في المجتمع الأردني والتي يمكن تلمّسها من خلال المناسبات المجتمعية، أما الحديث عن العادات والتقاليد فهو نابع من ضرورة التمييز بين كل منهما وتفصيلهما وعدم الخلط بينهما رغم أن المصطلح غالباً ما يستعمل بشكل مركب للدلالة على أشياء بينها تفاوتات، وهنا نستعين بما أورده العلاّمة والمؤرخ الأردني العظيم روكس بن رائد العزيزي من توضيح وتبيان لهذا الخلط، فيقول علّامتنا:
“إن التقليد وفقاً لمعجم المحيط يعني إتباع إنسان غيره في ما يقول، أو ما يفعل، من غير نظر ولا تأمل في الدليل، اتباع إنسان غيره في ما يقول، أو ما يفعل، من غير نظر ولا تأمل في الدليل، كأن هذا المتبع جعل قول الغير، أو فعله، قلادة في عنقه، وربما عرّف التقليد بأنه اعتقاد جازم، غير ثابت، يزول بتشكيك المشكك، والتقاليد، غير العادات، لأن العادات هي ممارسات في مناسبات معينة، كعادات القوم في أفراحهم، وفي أحزانهم، وتلك العادات إذا حللناها وجدنا أنها نشأت لغرض يحقق منفعة، أو يدفع ضرراً,,
وفي هذا البحث نستعرض أهم العادات الأردنية في المناسبات والطقوس الاجتماعية التي كانت و/أو ما زالت تشكل جزءاً من أسلوب حياة الأردنيين، ونسلط الضوء بشكل خاص على العادات المتعلقة بالجانب الغذائي، بينما يتم تناول هذه المناسبات بالتفصيل من ناحية علوم اجتماعية في أبحاث أخرى.
- المشاعر الإنسانية:
قبل الحديث عن المناسبات لا بد من التطرق للمشاعر الإنسانية والتي كانت العامل الأول خلف هذه المناسبات وينعكس نتيجة لذلك السلوك الإنساني الذي أصبح يشكل ما يعرف بالعادات المتعلقة بهذه المناسبات ووسيلة للتعبير عن هذه المشاعر، ويرجع مفهوم المشاعر الأساسية أو الأولية إلى كتاب الطقوس (The Book of Rite) على الأقل، وهو موسوعة صينية تعود الى القرن الأول، وقد حدد الكتاب سبعة مشاعر للإنسان وهي الفرح والغضب والحب والكره والإعجاب والخوف والحزن. وفي القرن العشرين حدد Paul Ekman ستة مشاعر أساسية وهي الغضب والاشمئزاز والحزن والاندهاش. وحدد Robert Plutchik ثمانية مشاعر وقسمها على أربع مجموعات زوجية متضادة وهي (الفرح والحزن – الغضب والخوف – الثقة والارتياب – الاندهاش والتوقع).
- ويسود الاعتقاد بأن المشاعر الأساسية تطورت في الاستجابة لتحديات البيئة التي واجهت أسلافنا القدماء، وهذه مشاعر بدائية مترابطة مع كل شعور أساسي يقابله دائرة عصبية مميزة وخاصة، وهذه المشاعر الأساسية المترابطة (أو ما تسمى ببرامج التأثير) هي فطرية وشاملة وتلقائية ومحفز عالي لسلوك قيمة البقاء، ويمكن أن يقال عن المشاعر الأكثر تعقيداً مثل التواضع والحنين والتي على سبيل المثال لا تنسب إلى الرُضّع والحيوانات، أي أنه وبتطور هذه المشاعر يمكن الاستدلال على تطور وحضارة المجتمعات الإنسانية، وفي ما يلي من البحث سنستعرض أهم المناسبات والطقوس الاجتماعية الأردنية محاولين تأطيرها ضمن هذه المشاعر من خلال ربطها بسلوكيات معينة مثل الذبح وإعداد الطعام، حيث تعرفنا في بحث ميثولوجيا الضيافة الأردنية سابقاً بإيجاز على أنواع الذبائح وبعض الحالات التي يصبح الذبح فيها واجباً إنسانياً يمتدح فاعله ويذم تاركه، وسنحاول هنا أن نقوم بالاستدلال على السلوك الغذائي للأردنيين في مناسباتهم الاجتماعية من خلال إعادة النظر في مناسبات هذه الذبائح وتوزيعها على المناسبات باعتبارها وسيلة على أهميّة هذه المناسبة التي تجعل من الأردني يتنازل عن إحدى أهم مصادر الانتاج التي يمتلكها ويضحي بها في سبيل هذا الحدث ذو الأهمية والقيمة المضافة لحياته.
- الفرح:
يعتبر التعبير عن الفرح والسعادة الشعور الإنساني الأسمى نتيجة لما يرتبط فيه من مشاعر ايجابية يحاول الانسان التعبير عنها ومشاركتها مع من يحب وينعكس ذلك على من حوله حيث سيحاول جاهداً جعلهم سعيدين مثله، مما يخلق مناخاً معدياً من الفرح، ولهذا فقد تنوعت مناسبات الفرح والسعادة في أسلوب الحياة الذي طوره الأردنيون عبر السنين، واختلفت معه طقوس هذا الفرح وآلية التعبير عنه وإشراك الناس في متعة تقاسمه، ولعله من أهم الطقوس المتعلقة بالفرح هو الزواج، وهي المؤسسة الأسريّة التي تضمن استمرار هذا الفرح وإعادة إنتاجه وتجسيده في الأبناء الذين يأخذون شكل هذا الفرح فيكبرون وينضجون ويتعلمون ويتخرّجون في سلسلة مستمرة من حلقات الفرح، وهنا نستعرض أهم هذه المناسبات ومكانتها في المطبخ الأردني والهوية الغذائية:
- الخطبة: إن مراسم الزواج في الأردن طويلة وليست بالشكل المتعارف عليه في كثير من الدول والثقافات، وتبدأ هذه المراسم بالطلبة وهي إحدى مراحل الخطوبة وتعني إرسال جاهة من أهل العريس لبيت والد العروسة، وتبدأ المفاوضات والقهوة عنوانها ومفتاحها، ولعل المهر هو النقطة المحورية في هذه المفاوضات وهو في الأصل لا يطلب إلا من غير الأقارب، والغرض منه أن العادة جرت أن يتم تزويج الفتاة لأبناء عمومتها، إلا أنه وفي حالة رغبة غريب من الزواج بها فيطلب منه المهر كوسيلة لرفضه أو تعجيزه، فيقوم هو بالمقابل بإثبات وبرهنة استحقاقه لهذه الفتاة من خلال التضحية الماديّة أو المعنوية، ولما كانت الظروف أقل استقراراً وفي حالة غياب الدولة – في عهد الاحتلال العثماني تحديداً- كان من الطبيعي أن يكون مهر الفتاة مبالغاً فيه في تكلفته أو في خطره على حياة العريس نفسه، كأن يطلب من العريس رأس فلان أو خيل فلان وهكذا، وقد يكون المهر المادي مالاً أو قمحاً أو عدداً من المواشي أو الإبل لما كان لها من قيمة في الثقافة الانتاجية، وكان من المتعارف عليه أن أهل العروس يجب أن يذبحوا للجاهة ويقوموا بإكرامهم والإيلام لهم لما بذلوه من جهد في هذه الوساطة سواء كان للزواج أو المصالحة بين طرفين.
ثم الخطبة التي يرافقها ما يرافقها من مراسم القهوة والتحلية ويذبح في ليلة الخطبة “ذبيحة الصفاح”، ويتبع ذلك ما يسمى “النصّة” وهي فترة 7 أيام كان يتم نشر ملابس العروسين على الحبال طوال هذه الفترة، ثم تم الاكتفاء بعرض ملابس العروس وتجهيزها لصديقاتها وقريباتها قبل موعد الزفاف والذي كانت تبدأ الاحتفالات به قبل أيام تعرف بأيام “التعليلة” تقدم خلالها المشروبات الساخنة ليلاً والهيشي – التبغ – والحلويات وبعض الأطعمة أحياناً.
- الزفاف: وصولاً ليوم العرس والذي يكون القطار/الفاردة أحد أهم أركانه خصوصاً عندما تكون العروس من منطقة أخرى، فيخرج أهل العريس ومحبين بعد تناول الغداء في مضارب القبيلة، لتصل إلى مضارب أهل العروس والذين يكونون بدورهم قد ذبحوا لضيوفهم وقاموا بإكرامهم، ولا تنتهي الحكاية هنا، فالمتعارف عليه أنه وفي حال كانت المسافة بعيدة ومر القطار بجوار مضارب عشيرة ثالثة فمن الواجب على هذه القبيلة أن تقوم بالذبح وتحضير الطعام للقطار، ويسمى القطار في رحلة العودة ومعه العروس بـ “الفاردة” وتتضمن طقوس الاحتفال ما تتضمنه من رقصات وأهازيج شعبية، مثل السامر والدحيّة والمهاهاة والمحاشاة والترويد، ويسمى طعام يوم العرس “القرى” وهي عادة قديمة تعود لفترة الأردنيين الغساسنة وما سبقهم وتكون غالبا بالذبح وطهي المناسف وتقديمها للحاضرين سواء أثناء أيام التعليلة وبالأخص يوم الزفاف، ويلتزم الحاضرون والمشاركون بتقديم “النقوط” وهي مساهمة معنوية أو ماديّة، بتكاليف العرس التي تكون باهظة في الغالب نظراً لطول فترة الاحتفال، فيقدّم الناس النقود أو الذهب أو المواد الغذائية والإنتاجية مثل الماعز والقمح وغير ذلك، على أن يكون ذلك بمثابة نظام تكافل اجتماعي، بحيث يصبح هذا النقود ديناً على من يستلمه ويقوم بسداده في مناسبة مماثلة.
وقبل دخول العريس بعروسه يذبح ما يعرف بـ “ذبيحة الحليّة” بنية أن تحل له العروس، وتتبع أيام ما بعد العرس العديد من المراسم الغذائية، فالإفطار الذهبي الذي يحصل عليه العروسين صبيحة يوم الزفاف يسمى الصبحة/الصباحية، ويقوم أهل العروس بأخذ الطعام والحلويات ويقومون بزيارة ابنتهم بعد أيام من زفافها فيما يعرف في بعض المناطق بـ “اللحقة” وبعد ذلك تقوم العروس ونساء عائلة العريس بزيارة أهلها وأخذ بعض الحلوى فيما يعرف محلياً بـ “الزورة/الزوارة” فيذبحون لها “ذبيحة الزوارة” وهو عادة ما يكون خروفا تقوم بأخذه معها فيقومون بذبحه وصنع الطعام لها ولعريسها وتعود في المساء لبيت زوجها محمّلة بالهدايا أيضاً، ويستمر استخدام الطعام لجلب المحبة ودفع البغض حتى في العلاقة بين الزوجين، فذبيحة الحلية / أو ما تعرف بذبيحة الرضاوة جزء من عملية المصالحة في حال أصاب العلاقة بين الزوجين أي نفور.
- الإنجاب: وطقوس هذه المناسبة كثيرة تبدأ أثناء الحمل والإنجاب، والعقيقة التي يتم ذبحها كطقس غساني أردني قديم ورثه المسلمون والمسيحيون حالياً وتتشابه أحياناً مع ذبيحة الختان “الطهور” عند المسلمين أو “التعميد” عند العائلات المسيحية، وتسمّى أحياناً ذبيحة “الولد”، وتسمى المرأة في حالة الولادة ”حورية“، وفي أول يوم من ولادتها تقوم إحدى قريباتها بإعداد ”قرص البيض“، حيث تعجن كمية من الطحين بالبيض والبصل المقلي بالسمن ويخبز على الصاج ويقدّم لها، كما أنها تأكل طول فترة نفاسها نبتة “الزقيطة” الخضراء التي يتم تجفيفها وتخزينها خصيصاً لهذه المناسبة فيتم قليها بالسمن مع البصل والبيض وتقدم للحورية، وتعمل ”اللزاقيات والزلابية“ كحلوى تقدم بهذه المناسبة، كما يتم تقديم مشروبات القرفة والحلبة والشاي والقهوة للسيدات اللواتي يقمن بزيارة الأم التي وضعت مولودها الجديد.
- التسنين: عندما تبدأ أسنان الطفل بالظهور تقوم والدته بسلق كمية من القمح وتضعها في وعاء وترش عليها السكر وتسمى” السنينة“، وتدعو عليها جاراتها وقريباتها، وتقدمها لهن فيأكلنها ويشربن معها القهوة، ولا يشارك الرجال بهذه المناسبة.
- الحزن والمحن:
درجت العادة أن يخفي الأردني حزنه وأن يحاول أن لا يظهره إلاّ في أمر جلل، وحتى في أسوأ المواقف وأشدها ألماً وحزناً ستجد الأردني متلصماً في شماغه كوسيلة لمداراة هذا الحزن، فالأصل كان في فترة غياب الدولة والقانون أن الأردني يخفي حزنه ويصبر حتى يأخذ بثأره، لذلك فلا تعزية بطفل أو امرأة ولا يفتح لهما “مدالة” وهي من التداول وتعني بيت العزاء في قاموس المناسبات الأردنية، فالأصل في العادات الأردنيّة أن الحزن هو على المقاتل الذي قضى شهيداً في معركة الدفاع عن الوطن والعشيرة في مرحلة ما قبل الدين وقبل الدولة الحديثة، فيتداول القوم في طريقة الأخذ بالثأر، وجرت العادة أن تقوم النساء بالمعيد عند وفاة زعيم أو شخص ذو مكانة عالية، فيما يكون النواح على وفاة الأشخاص العاديين مهما اختلفت مكانتهم ورتبتهم في المجتمع، ويكون هذا بمثابة رثاء شعري تقف النساء صفين يذكرن مناقب الجماعة الذين قضوا في المعركة، أما الرجال فلا يبكون ومن تقاليد الأردنيين أنه إذا مات شيخ أو كبير قوم، فإنهم يرسلون النعي للقبائل الأخرى بمقلّدة من الخيل، وهي الخيل التي يقلدونها قطعة من نسيج البيت، ويعلن فارس الخيل أو الذلول موت الزعيم، وعندما يصل النعي إلى زعماء القبائل الآخرى، يتم دفق أباريق القهوة وتعفيرها بالرماد كإشارة على الحزن.
وتترافق مراسم الدفن والعزاء بطقوس غذائية حيث جرت العادة أن يقوم أهل الميت بالذبح وإكرام الضيوف الذين جاءوا لتعزيتهم، والأولوية تكون للضيوف الغرباء ووجهاء القوم نظراً لكمية الناس التي تحضر، حيث أوضحنا سابقاً – أين أوضحت ؟ – كيف يتم التحول من حالة الضيافة إلى التعزيب في تراتبية تحافظ على انسجام ووحدة المجتمع، ويسمى هذا الغداء “طعام المجبّرين” وهو لفظ يطلق على أهل الميّت كناية عن كسر جناحهم وما هم فيه من حزن، ويتم تقديم الغداء والقهوة السادة على الحضور القادمين للقيام بواجب العزاء طوال أيام العزاء والبعض يقوم بتقديم التمر معها، كما يقوم الناس في الأيام التالية بالذبح لأهل الميت والإيلام لهم كمحاولة لمواساتهم وتعتبر هذه الدعوة بمثابة دين اجتماعي آخر ويجب أن يتم سداده في وقت لاحق، ويمكن أن يلاحظ في هذا حجم التماسك الاجتماعي سواء في الفرح أو في الحزن، ويقوم أهل الميّت بالذبح ثانية في الليلة التالية للدفن، ويسمي البعض هذه الذبيحة بـ “ذبيحة الثالث” أو “ذبيحة القبر” ومنهم من يسميها “فكّة الكفن”.
- التعاملات الحياتية:
- السكن: جرت العادة أن يتم ذبح “ذبيحة البيت”وتسمى أحياناً “ذبيحة الواسط” وتذبح إذا أراد الرجل أن ينصب بيتاً جديداً وكان الأصل فيها نقل بيت الشعر وإعادة نصبه حتى لو على مسافة لا تتجاوز مائة متر، وهذا دفعاً للشر وجلباً للخير، ومن العادات أيضاً “ذبيحة الباطون” أو “ذبيحة العقد” وهي من العادات المرتبطة بالمساكن الحجرية حيث تتزامن هذه الذبيحة مع فترة العقد والصبّة أو القنطرة سابقاً، وكذلك ما يتعلق في “ذبيحة البيت الجديد” وغالباً ما يقوم الجيران بإعداد الطعام للساكنين الجدد فيما يعرف بـ “النزالة”، وكذلك يقوم أصحاب البيت الجديد بذبح “ذبيحة العتبة” والهدف منها هو طرد أرواح الجن.
- الزراعة: تتزامن عملية الزراعة بكافة مراحلها بالكثير من الأهازيج والممارسات التي تعبر عن تجذر قيمة الإنتاج عند الأردنيين، ويترافق هذا مع العديد من الذبائح، منها “ذبيحة الحصيدة” والتي كانت قديماً تسمى فتاحة المنجل، وتذبح هذه الشاة عند البدء بحصاد القمح، ومنها يصنع العشاء للحصادين والرجادين والشدادين ويستعيض عنها فقراء الزرّاع بالفطيرة المكونة من السمن البلدي ولبن الجميد وخبز الفطير وكلما زاد مقدار السمن كانت في نظر الناس أجلّ، وكذلك الحال “ذبيحة الجورعة” التي تذبح مع نهاية الحصاد لإكرام وشكر أفراد الأسرة والعاملين والمحبين وكل من ساهم في إنجاز العمل ويتم إعلان “الجورعة” فيها وهي التنازل عن ما تبقى في الأرض لصالح المساكين والراغبين بالاستفادة مما تبقى من غلال ويتم ذلك من باب الزكاة والمسؤولية الاجتماعية من أصحاب الثروة تجاه جيرانهم وعمالهم ولتطييب نفوسهم، وكذلك الحال في “ّذبيحة البيدر” وتكون هذه بعد نقل الغلال وإيصالها إلى المخازن.
- الثروة الحيوانية: للحيوان في الإرث الأردني مكانة وأهمية وحقوق لا تقل عما هي عليه في مؤسسات ومنظمات رعايته في الدول الغربية، فقد عرف الأردنيون ذلك وطبقوه منذ سنين طويلة، فإلى جانب حمايته والنظر له كمصدر للإنتاج وليس موضعاً للاستهلاك اليومي، فقد اهتموا بالتفاصيل المتعلقة بتربيته وحلبه وبيعه وشراءه، فنجد ذلك ماثلاً في حالة “ذبيحة الغنم” في حال أصاب الغنم وباء وأراد صاحبه أن يفتديه فيقطع إذن المرباع ؟؟ وينتظر فإذا ذهب الوباء يذبح هذه الشاة التي تسمى القطيشة (بعد قطع أذنها) ويولم لأهله وجيرانه ويدعوهم لأكلها، وكذلك الحال في “ذبيحة الفرس” والتي يذبحها من يقوم بشراء خيل أصيلة، و”ذبيحة التوريد” التي يذبحها صاحب الخيل الأصيلة التي تم بيعها عندما يحضر له مالك الخيل الجديد المثاني (وهي المهرة الأولى والثانية من نسل الخيل التي باعها) وفي هذا مثال على رقي التعامل التجاري بالحيوانات وخاصة الخيل لما لها من مكانة في نفس الأردني المحارب بالفطرة.
- الحرب والسياسة:
كانت الحرب بما يرافقها من سلوكيات وأعمال سلب ونهب ضرباً من ضروب الشجاعة في وقت لم يكن فيه مكان للأمن والحصول على الحقوق إلا بالقوة في ظل الفتن والأوضاع السياسية والاقتصادية الصعبة التي فرضها الاحتلال الخارجي من عثماني وغيره، لذلك ظهر مفهوم “ذبيحة الكسب” كوسيلة للتعبير عن الفرح بإنجاز المهمة والعودة غانمين سالمين من المعركة، كما توجد ذبائح خاصة بالصلح والتراضي ما بعد التخاصم، وذبيحة أخرى عندما يقوم شخص بترك قبيلته والانضمام لقبيلة أخرى، فيما يشبه اللجوء السياسي حالياً.
- التجارة:
كان للموقع الجغرافي المحوري بين أهم الامبراطوريات العالمية المتصارعة دوره في بناء شخصية الأردني ليكون قادراً على المناورة السياسية وبناء تحالفات تضمن الحفاظ على مصالحه ومنافعه، ومن ضمن هذه العلاقات تبرز التجارة كمهنة أساسية لكثير من القبائل الأردنية التي استفادت من وجود الأردن على أهم طرق النقل التجارية، الأمر الذي يفسر العثور على الدينار الحارثي النبطي في الصين وموانئ أوروبا، ومن هنا ترافقت التعاملات التجارية والصفقات التي كان يجريها الأردنيون بطقوس وبروتوكول يميزهم ويجعلهم يكسبون قلوب الشركاء المحتملين ويظهرون لهم حسن النية ولين الجانب، ومن هنا جاءت “ذبيحة الشراكة”.
- الضيافة:
وهي من المناسبات الأكثر تكراراً وأحد أهم عناوين هذه السلسلة البحثية، وقد تم تناولها في بحث منفصل، أوضحنا فيه كيف يكون واجب الضيافة مقدساً بالحد الذي تكون فيه الضيافة ضرباً من ضروب العبادة، وللضيافة أربع أنواع يذبح في معظمها للضيف ويتم الإيلام له في مهمة يتشاركها الرجل مع زوجته التي تنوب عنه في حال غيابه.
- المناسبات الدينية:
المقامات والقرابين: كثير من الطقوس الحالية المتعلقة بالذبائح تعود لجذور ما قبل التدين عند الأردنيين القدماء ولفترة تسبق ظهور الديانات المسيحية والاسلامية، ومثال ذلك “العقيقة” و “القرى” وهي ذبائح وعادات تعود لفترة الأردنيين الغساسنة، وأبقى عليها الأردنيون بغض النظر عن الديانة التي اعتنقوها لاحقاً، كما تحظى المقامات والأشخاص ذوي الكرامات باهتمام ملموس في عقيدة الأردنيين، ومن أشهر هذه الذبائح: ذبيحة اسماط الخضر، وذبيحة شيحان، وذبيحة الخمسان والعشيات عند المسلمين والمسيحيين لمقام النبي موسى، وذبيحة سليمان بن داهود وذبيحة العجام وذبيحة دانيال وغيرها.
- رمضان: في رمضان تستخدم معظم الأكلات نفسها، ولكن يتم الإكثار من تناول الشوربات مثل العدس والفريكة، ويتم مشاركة الطعام بشكل أكبر فيما يسمى بعملية المقادحة، وهي عادة كانت بأن يجتمع الرجال عند الإفطار في بيت كبيرهم وأن يحضر كل منهم قدحاً فيه من طعام أهل بيته.
- عيد الفطر: يبدأ هذا العيد بتناول طعام الإفطار لأول مرة بعد صلاة العيد، بعد صيام 30 يوماً وامتناعٍ عن الأكل في النهار، ويتم توزيع كعك العيد المصنوع من التمر إضافة لأقراص القسماط وهو الخبز المغطى بزيت الزيتون.
- عيد الأضحى: ذبيحة ذات رمزية دينية تعود لقيام النبي ابراهيم عليه السلام بافتداء ابنه اسماعيل، ويختار الأردني الضحية من أفضل المواشي أو الجمال الخالية من كل عيب جسمي، وكان يتم تكحيلها قبل نحرها، ويتم الاعتناء بها جيداً في الأيام التي تسبق عيد الضحية وتوزع لحومها على الأهل والأقارب والفقراء، وغالباً ما يستعمل كبد وأحشاء الضحية في افطار أهل البيت فيما يعرف محلياً بـ “المعلاق”.
- الحج: هناك طعام يعد للحجاج ما بعد عودتهم من الحج، حيث يقوم الجيران والأقارب والأًصدقاء بدعوتهم على الغداء وتعرف هذه العادة بـ “الدورية” وقد تستمر لمدة شهرين، وتكون الوليمة في العادة منسف برغل ومريس ولحم وشراك، ولا يوضع الرأس أمام الضيف الأساسي في المناسبة بل قطعة أكبر وهي الفخذ ويسمونها “الشذاة”.
- الصوم المسيحي:
خلال أربعين يوماً من الصيام، تتشكل مائدة كاملة لا تحتوي على اللحم بكل أنواعه ولا الحليب ومشتقاته، ويعتقد أن هذا الصيام الفلاحي من شأنه الحفاظ على الثروة الحيوانية خلال فترة الربيع وحمايتها من الذبح، إضافة لترك الحليب لرضاعتها، يحدث ذلك في الوقت الذي تفيض فيه الطبيعة بالأعشاب والنباتات المناسبة للأكل، وتدعم أطباق الأعشاب بالحبوب، ومن الأكلات الأردنية النباتية المناسبة للصوم “صيامية” والتي يستخدمها الجميع في تلك الفترة في الواقع، حوسات البصل والزيت مع الخبيزة أو الفطر، أو الكما، أو العكوب، أو الحميصة، أو الهندبة، أو السلق، أو اللوف، وكذلك سلطة العلت مع البصل والزيت، وسلطة فريم البندورة والبصل مع السماق، والنباتات النيئة كاللشيلوه (حويرة الماء)، وقرون القصيقصة، وقرون البرّيد والخرفيش، ومقالي الباذنجان، والبطاطا والكوسا والفليفلة، والفول الأخضر بالسماق، قلاية البندورة بالزيت، ورقة الدوالي أو ورقة اللسينة الذي يلف بالأرز، أو البرغل الدفين مع الحمص وفريم البندورة والخضار، حوسة الفول الأخضر بالكزبرة والزيت، المجدرة، الأرز بالشعيرية، الأرز والفول الأخضر بالزيت، مرقة العدس المجروش، مدمس العدس الحب، طبيخ العدس والباذنجان بالزيت والثوم والبصل والبقدونس، وأقراص النعنع والزعتر الأخضر والحميضة والخبيزة، وقلية القمح وغيرها.
- عيد الميلاد:
جرت العادة أن يتم عمل فطاير الكشك، بكميات تكفي لنحو يومين، مع إعداد أو شراء مختلف أصناف الحلويات وأقراص العيد التي تتكون من العجين الخامر المخلوط بالسمسم والقزحة وتصنع أرغفته على شكل قوالب جاهزة، وعند خبزه واخراجه من الطابون يتم دهنه بزيت الزيتون. - عيد الفصح:
كان الشخص القدير يقوم بذبح رأس من الغنم أو جدي ويتم إعداد طعام المنسف للعائلة، وقبل هذا العديد بثلاثة أيام فيما يعرف بخميس الصبيان جرت العادة أن يقوم خوري الكنيسة بعمل قدّاس يتضمن القراءة على قطع من الكعك غالباً ما تأخذ شكل الصليب ومن ثم توزع على الأطفال، أما قدّاس الأموات فيتكون من أرغفة خبز الكماج، ويطبع عليه آية من الإنجيل ترسل للخوري للقراءة عليها وتوزع يوم الأحد على المصلّين للترحم على الأموات.
- الخاتمة:
ومن هنا نلاحظ ارتباط الغذاء الأردني بالعادات والتقاليد المتبعة خلال الفترات الزمنية التي يغطيها هذا البحث، سواء العادات المتعلقة بالمشاعر الانسانية والعلاقات الاجتماعية والطقوس الدينية، ونلاحظ بأن المجتمع الأردني قائم على التعاون والتماسك وتشارك التفاصيل، ويتأكد ذلك من خلال نوع المناسبات وطقوسها والتي تدلل على مجتمع يتقاسم فيه أفراده أدق تفاصيل الحياة بفرحها وحزنها.
- المراجع:
- حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان: الأردن
- خريسات، محمد عبد القادر (2012) المسيحيون في قضاء السلط، عمان، الأردن
- العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.
- العزيزي، روكس (2012) معلمة للتراث الأردني، مطبعة السفير.