Latest articles
December 22, 2024
December 22, 2024
December 22, 2024
مقدّمة
ثمّن أجدادنا الأردنيون الضيافة غالياً، ومن مظاهرها و أعمدتها القهوة، حيث يشرب المعزب ، الفنجان الأول على الملأ ، ليتأكد من سلامة القهوة ومذاقها وجودتها.
وفي العقود الماضية كان لدى شيوخ العشائر الأردنية وبعضهم ما زال لديه حتى الآن، عامل متخصص بصنع القهوة أو قهوجي متخصـص يدعى ( الفداوي ) وهو إضافة إلى إتقانه صانع القهوة، لا بدّ له من أن يتقن العزف بالمهباش في الجرن (الوعاء المخصص لطحن القهوة ) . وجرن الشيوخ مصنوع عادة من خشب البطم أو الزيتون المشغول والمزخرف بمسامير نحاسية ، طوله بين 50-60 سم، والفداوي الذي يكسر النجر أثناء دق المهباش، يستحق عند الشيخ مكافأة خاصة هي عبارة عن رداء يسمى ( لبسة الجرن)، وذلك لأن كسره دليل على كرم الشيخ الذي لا تنطفئُ ناره ولا يتوقف دق المهابيش في داره .
القهوة أداة للتعبير عند الأردنيين
مع مرور الزمن أصبحت القهوة جزءاً من التركيب الاجتماعي للمجتمع الأردني، وحاضرة في كل المناسبات والعادات، وإحدى وسائل التعبير عن كرم صاحب البيت أو عن الدعوة لتناول الطعام أوعن إجابة الطلب بطريق السماح، إضافة للتعبير عن الحزن أو الفرح، وارتبطت بطقوس مختلفة مثل الشعر والقصيد وأمسيات بيت الشعر والربابة، وهناك الكثير من القصائد والأهازيج التي تتغنى بالقهوة، والتي أصبحت رمزاً للكرم ونارها مضرباً للأمثال، كركن من أهم أركان عملية الضيافة، والتي أوضحنا في بحثنا المفصل عن أبجديات الضيافة أنها ضرب من ضروب العبادة بالنسبة للأردنيين.
القهوة وفن التفاوض عند الأردنيين
ترتبط القهوة بالعديد من التقاليد والمناسبات الاجتماعية، وتنعقد على أدبيات القهوة القرارات الحاسمة، وأهمها الزواج في الجاهة التي يرسلها أهل العريس لأهل العروس لطلب موافقتهم تكون القهوة بداية الحديث وخاتمته، فعندما يقدّم المعازيب (أهل الفتاة) القهوة للضيوف (أهل الخاطب) يضعها الضيوف أمامهم على الأرض، فلا يشربونها، وهذا بحد ذاته لفت نظر للمعازيب أن هناك أمر ما، ذلك أنه عادة ما تقدم القهوة لمجموعة، فإنها تقدم باستخدام ثلاثة فناجين، وحين الانتهاء من صب الفنجان الثالث يتم العودة لأخذ الفنجان الأول فيجده الصبّاب على الأرض، فيفهم أن الأمور تقترن بالطلب، فيأخذ حينها دلته ويعيدها الى جانب النار، وهذا في نفس الوقت تنبيه للحاضرين بأن هناك شيء تريد الجاهة طلبه، مع ما في كل ذلك من تفصيلات ودلالات، ويقوم المعني بالأمر من المعزبين أو من يمثلهم ، ويلقي التحيّة، ويسألهم المعزّب عن سبب عدم شربهم لقهوتهم، ويجيبون بأنهم لن يشربوها حتى تتم تلبية طلبهم، وتبدأ سجالات وجولات عديدة ، قبل الوصول للمرحلة الخاتمة والتي تحضر القهوة ودلالاتها فيها، فبعد الاتفاق وإجابة الطلب، تبادر الجاهة بالقول: صبوا القهوة، ويرد المعازيب: اشربوا قهوتكو، ويتم افراغ الفناجين السابق صبّها من القهوة من جديد، لأنها أصبحت فاترة (غير حارّة بما يكفي للشرب)، ويقال في مثل هذه السياقات بأن: ” الجاهة الشاطرة قهوتها ما تبرد ” ويقصد هنا أن الجاهة الناجحة والتي يتمتع وجهاؤها من القدرة على التأثير والإقناع، لن تحتاج إلى الكثير من الوقت لإقناع المعزّبين بتلبية طلب الضيوف، فهي بذلك إذاً لا تبرد قهوتها نظراً لقصر الوقت بين الطلب والإجابة.
أدوات تحضير القهوة
تتكوّن أدوات تحضير القهوة من :
1- المحماسة:
وهي من المعدن، وبالذات من الحديد.بحيث تبدو كصحن مقعر ذي مقبض (عصاة) من الحديد مربوطة بالجسم المقعر بواسطة برغيين يثبتانهما معا، وعند هذا الموضع رجلان، لترتكز عليهما المحماسة، بينما في نهاية المقبض ثقب تخرج منه سلسلة أو زرد خفيف من الحديد يقبض بما يسمى (سواطة المحماسة) وهي مطرق من الحديد ينتهي برأس مرقوق بحجم فوهة كأس الشاي الصغيرة، وبها تحرك حبات القهوة داخل المحماسة وهي على النار.
توضع حبات البن بالمحماسة، وتقلب وتحرك بيد المحماسة حتى يتحول لونها الأخضر إلى أشقر أو المائل للسواد ثم توضع على قطعة قماش أو جلد، حتى يبرد، ثم تدار في المهباش، حيث تدق لتكون مسحوقا يصنع منه القهوة.
وتستعمل (البشعة ) : لتحريك المحماسة وهي على النار مرفوعه على ثلاثة احجار تسمى (لدايا) وتكون على شكل مثلث، كما ان (البشعة) كانت تستخدم لكشف الشخص الكاذب بوضعها على لسانه ولسعه حسب قوانين القضاء العشائري.
2- المهباش:
أما الجُرن (المهباش) فهو أمر يعتز به صاحب البيت ويطرب له ويعتبر في الوقت نفسه وسيلة نداء لمن يسمعه من الجيران أو عابري سبيل للضيافة. ولدق الجُرن نغم يتفنن به كثير من الناس فهو بالإضافة إلى عملية طحن البن والهيل فإن عملية الطحن هذه تتم بإيقاعات متناسقة، وهو المدقة الكبيرة التي يتم فيها دق القهوة بيد خاصة من الخشب أيضًا، (ويمسى النجر، الجرن، وعبدان، الضبوح والعزّام) وهو المصنوع من الخشب وخاصة خشب البطم والزان والبلوط.
واختيار خشب البطم يأتي لكونه قوي وصلب، وسهل النجارة في آن واحد، حيث يمكن لصانع المهابيش النحت والتسوية، والتجميل والزينة فيه كما يشاء، ويمتاز خشب البطم أنه إذا جف لا يتشقق، وعادة يضعون أو يكمرون قطعة الخشب المنوي صنع المهباش منها بعد قطعها مباشرة في الزبل حيث تتوفر رطوبة تعوض عن المفقودة، فيذبل الخشب بدل أن يجف ويتشقق لو بقي في الشمس أو العراء. وصوت النجر من أجمل الأصوات المحببة المقبولة عند الأردنيين. خاصة لمن يجيد دق القهوة فيه.
ويعتبر دق المهباش فناً قائماً بحد ذاته وله أصوله ويستخدم صوته مناديا وداعيا للمجيء والمشاركة في شرب القهوة، وقد تختلف دقاته من شخص إلى آخر وهو فن قليل من يتقنه، وهم المختصون بدق القهوة وتجهيزها.
3- الدلال: مفردها دلة وهي آنية من النحاس واسعة القاعدة والفوهة، ضيقة الوسط، ذات مقبض يدوي ولها (فتحة) كالقناة تصب القهوة منها بالفنجان وهي ثلاثة أحجام، الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، ولكل واحدة دور في صنع القهوة متمم للآخر، ومتفرع عنه إذا صنفناها تنازلياً:
أ. الدلة الكبيرة: وهي التي يوضع فيها الماء عند البدء بصنع القهوة، وتسمى (المطباخ، أو الطباخ) ذلك لأن الماء يغلي مع طبخ حثل القهوة القديم فيها، ويكون حجمها كبيرا قد يبلغ بعضها سعة صفيحة من الماء، أما الثانية فهي الوسطى، التي يوضع فيها مسحوق القهوة، ويصب الماء فيها بعد غليانه بالكبيرة، وذلك فوق القهوة التي يكون دورها بالغليان في الوسطى، وكلما تؤخذ كمية من ماء الكبيرة للوسطى يضاف ماء جديد بدلا منها (وتبقى قريبة من النار) لإضافتها عند الحاجة إلى الدلة الوسطى.
ب. الدلة الوسطى: المسماة (المصفاة أو الثنوة)، لأنها مرحلة وسط، وبها يَصَفَّى الماء المأخوذ من الكبيرة، ليطبخ هنا ويغلي مع القهوة المصحونة حتى يصبح لونها قريب إلى الأشقر أو الاحمرار.
جـ. الدلة الصغيرة (المَصَب): ويوضع فيها البهار، ثم تصب القهوة من الوسطى بعد أن (تصفى، وتركد)، وتترسب المواد العالقة بالسائل، ومن الدلة الصغيرة يتم صب القهوة لشاربيها، وتسمى الصغيرة (البكرج)، وتحتاج البكرج للنار باستمرار لتحافظ على حرارتها.
4- المبرد: وهو وعاء خشبي مجوف يتم استخدامه لتبريد القهوة، حيث توضع القهوة المحمصة بداخله إلى أن تبرد قبل وضعها في (المهباش).
5- المنقل: يستعمل لإشعال النار من الحطب أو الفحم، لوضع الدلال والبكرج حول النار لتبقى القهوة ساخنة.
6- الظبية: عبارة عن كيس من جلد الغزال تزيّنه خيوط صوفية ملونة والخرز، توضع فيها القهوة ويكون مربوط معها كيس آخر أصغر حجماً يوضع فيه البهار (الهال )، ويصنع من الكيس من جلد الغزال تقديرا للقهوة واحتراما لها وحفاظا على نكهتها من التغيّر والتبدّل .
7- المصفاة والفناجين ( الفناجيل باللهجة الأردنية)، تستعمل المصفاة لتنقية القهوة خلال مراحل إعدادها، وتستخدم الفناجين الزجاجية المزخرفة لتقديم القهوة، وقد كانت في البداية تصنع من الفخار، ثم أصبحت تصنع من الخزف الصيني الأبيض والمنقوش والملون، وقد يزين جدارها الخارجي بنقوش جميلة، ويجب ألاّ يقل عددها عن ثلاثة، ويكون بجانبها وعاء ماء ليجري تنظيفها بين الحين والآخر.
8- المنفاخ: يستعمل لزيادة إشعال النار .
9- الليف: هو الذي يحجب الهيل من النزول في الفنجان عند صبه .
10- البيق : تمسك به الدلة إن كانت حارة .
عملية تحضير القهوة
تُحمّس القهوة الخضراء بمحماسة من الحديد، ثم توضع على مبراد من خشب، وبعد أن تبرد توضع في المهباش ليتم دقها وطحنها، وتوضع بعد ذلك على المنقل في طبّاخ وتترك لتغلي لفترة طويلة، حتى تصبح فقاعتها بحجم”عين النملة” ثم تدار في الدلة التي تحتوي على البهار المدقوق، ثم تدار في بكرج أصغر من الدلة، وتقدم ساخنة بالفناجين.
ومن المهم أثناء التحضير وبعد الانتهاء منه أن ينتبه صانع القهوة أو المعزّب لسلامة القهوة من أي عيب خوفا من أن تكون “صايدة” فيلحقه حق كبير، والقهوة الصـايدة هي القهوة التي لحقها الأذى من طعم غريب أو جسم غريب كالحشرات واوراق النباتات العطرية وغيرها أو أن يعملها شخص على نجاسة ذلك أن القهوة تستطيع امتصاص أي رائحة حتى رائحة الانسان، وقد كان أجدادنا يعرفون ويميزون القهوة الصايـدة عن تلك السليمة نظرا لسلامة مذاقهم واعتيادهم على مستوى جودتها الرفيع، وهناك مسمّيات وأوصاف خاصة بالقهوة التي تخالف أصول تحضيرها وجودة تقديمها منها :
- القهوة الغْراق : وهي القهوة التي تكون فيها حبات القهوة غير محمصة جيداً مما يؤثر على طعمها .
- القهوة الحْراق : وهي القهوة التي تكون فيها حبات القهوة قد حُمّصت إلى درجة الاحتراق مما يؤثر على طعمها.
- القهوة كثيرة الماء : وهي القهوة التي تكون فيها كمية الماء أكثر من القهوة بنسبة مرتفعة .
- القهوة المسّربه : وهي القهوة المتبقية في نهاية الدلة بعد نفاذ الكمية الموجودة فيها إذ تكون رواسب القهوة أكثر من سائل القهوة .
- القهوة الدافيه ( الدافئة ) : وهي القهوة التي انخفضت درجة حرارتها وأصبحت غير مستساغة للشارب .
- القهوة الشايشة : وهي القهوة التي يقوم المعزب بصبها بعد الغليان مباشرة بحيث تكون المواد الصلبة منتشرة على سطحها في الدله ولم تترسب بعد .
عمليّة تقديم القهوة
كما أشرنا في قواعد التعامل مع القهوة عند الأردنيين فإن من واجب صباب القهوة أن ينحني ليصبح الفنجان أدنى من صدر الضيف وفي متناول يده، وعند صب القهوة في الفنجان ينزل خيطا رفيعا من القهوة مع رفع الدلة عن الفنجان دون قطع الخيط، والغاية من هذه الحركة إمتاع الضيف بمنظر انسكاب القهوة قبل شربها. ويحمل صباب القهوة البكرج بيده اليسرى ويقدم الفنجان باليد اليمنى بعد أن يضرب فوهة الدلة بطرف الفنجان للفت انتباه الضيف الذي يسكب له، وشارب القهوة إن هز فنجانه بعد شربه فيعني أنه اكتفى، وان لم يهزه يبقى صباب القهوة يصب له إلى أن يهزه، وهنا يقول الشارب “عمار” أو “دايمة” أو ” عن وساع ” ويرد الصبّاب : “صحتين”، وفي حالة الترح وتقديم واجب العزاء لأهل الميت تعتبر هزة الفنجان أو شرب أكثر من فنجان أو استخدام لفظة “دايم” من الأمور غير اللائقة واللا مقبولة لأنها جميعاً تعبّر عن الأمل بدوام الحال، وتكرارالمناسبة، وهذه أمنيات مستخدمة ومقبولة في حالة الفرح فقط، لذلك يجب الاكتفاء بوضع اصبعي السبابة والوسطى على الفنجان دون هزّه.
ومن واجب الضيف أن يتناول الفنجان باليد اليمنى والتصرف بغير ذلك معاكس لقوانين الضيافة الأردنية، فلا يجوز مقابلة اليمين باليسار، لأن ذلك احتقار للمضيف وازدراء له، كما أنه لا يجوز أن يتناول الفنجان وهو متكئ، بل عليه أن يستند وأن يكون جالسا باحترام.
كما أن هنالك العديد من القصائد في اللهجة المحلية التي تمتدح قهوة البن وتصف صنعها وتقاليدها ؛ ومنها :
يا عاملين البن وسط التراميس
لا تقطعونه من حشا مرضعاتو
ردوه لامات الخشوم المقاييس
صفر الدلال اللي عليها حلاتو
ما عاد شفنا البن وسط المحاميس
يحمس وصوت النجر طوّل اسكاتو
القواعد الأردنية في التعامل مع القهوة
و لدى العشائر الأردنية مجموعة من القواعد الرئيسية للتعامل مع القهوة، إذ أنه كما للضيافة قانون، أيضاً للقهوة قوانينها وآدابها التي تحكم الضيف والمضيف معاً؛ وقد ذكرنا بعضها في السياق ونعيد ذكر أبرزها وأهمها تباعاً مع دمجها مع بعضها البعض حسب تشارك مواضيعها ليسهل فهمها للقارئ:
القاعدة الأولى: (القهوة مفتاح السلام و الكلام)، أي أن الضيف و المعزّب لا يأخذان راحتهما بالكلام إلا بعد أن يشرب الضيف فنجان القهوة الأول، فيكون بذلك قد مالَح المعزب وأمن أحدهما الآخر وأخذا حريتهما بالكلام في أمان مطلق، ومن المعروف أن القهوة لا تقدم فاترة أو قليلة الدفء، ومهمة من يقوم بصبّها سواء كان المعزب أو صبّاب القهوة أن يتأكد من حرارتها وسلامتها وجودة مذاقها، ولذلك عليه أن يشرب الفنجان الأول قبل الجميع ويسمّى فنجان الهيف، وواحد من أبرز أسباب ضرورة شرب الفنجان الأول من قبل المعزّب أنه قد تعتريه برودة السطح وبذلك يقدم الفنجان الثاني للضيف ساخناً.
القاعدة الثانية: (القهوة قصّ مش خَصّ لو كان أبو زيد عاليسار) أي أن تقديم القهوة يبدأ من الجالسين على يمين المعزب الذي يقدم القهوة ثم يستمر باتجاه اليسار بغض النظر عن منزلة الشخص الجالس إلى اليسار. و تكسر هذه القاعدة فقط في حال وجود ضيوف غرباء، حيث يبدأ المعزب تقديم القهوة عندهم، وحينها تتحول القاعدة لتصبح ( القهوة أولها خص وثانيها قص )، أما في الجاهات ، يقدّم أول فنجان لكبير الجاهة، ثم لأفرادها، ولكنهم يمتنعون عن شربها، حتى إذا تمّت استجابة المعزب لطلب الجاهة، قال لهم : اشربوا قهوتكو، وهذه القاعدة سنأتي عليها بشيء من التفصيل في عنوان قادم.
القاعدة الثالثة: (فنجان للضيف، فنجان للكيف، و فنجان للسيف) أي أن نِصاب القهوة ثلاثة فناجين. و كان من حق الضيف الداخل إلى بيت أحدهم أن تقدم له القهوة، و إذا لم يحصل ذلك يحق للضيف أن يطالب المعزّب بالحقوق الناجمة عن عدم احترامه.
القاعدة الرابعة: يمسك المعزب أو صبّاب القهوة الدلة بيسراه والفناجين بيده اليمنى، ويصب القهوة وهو واقف ثم يناولها للضيف بيده اليمنى، وتصب بالفنجان كمية قليلة لا تزيد عن حجم ملعقة طعام فالقهوة لغاية الضيافة والكيف وليست لتحصيل الشبع أو الجشع ، ذلك أن الأردنيين يصفون كمية القهوة في الفنجان بـ ( شفَهّ وهَفهّ) أي أنك تَشِفْ شَفَّ ثم تَهُف هَفَّ فتنتهي الكمية في الفنجان ورغم أن هذا معاكسٌ لكرم الأردنيين الذي يقدمون كل شيء بزيادة إلا القهوة فالزيادة تكون فقط بالبهار والهيل وفلسفتهم في ذلك أن الدلة الواحدة يجب أن تكفي عشرات الجالسين كما أن الأشياء العزيزة تكون في شُح والحصول عليها قديما لم يكن بالأمر الهين.كما أن زيادة القهوة في الفنجان تدل امتلاء قلب صبّاب القهوة بالغضب والحقد وهو أمرٌ معيب وشائن بحق الضيف، كما أن عليه أن يراقب القهوة التي يصب منها فلا يقدمها والحثل يندلق في قلب الفنجان، فهذه علامة على نفاذ كمية القهوة ويجب تبديل الدلّة فورا.
القاعدة الخامسة: يجب على الضيف تناول القهوة بيده اليمنى، ثم أن يشرب ويرجع الفنجان إلى صبَّاب القهوة يداً بيد ولا يجوز أن يضع الفنجان جانباً قبل أن يشرب منه إلا في حالات فنجان الجاهة.
القاعدة السادسة: يستمرّ صبَّاب القهوة بتقديم القهوة عن يمينه للضيوف بعدد الفناجيل التي بيده وبعدها يعود لأول ضيف فيأخذ منه فنجاله ويستمر في تقديم القهوة من حيث توقف، وهكذا حتّى آخر ضيف، ومن العيب ترك أحد الضيوف دون أن تُصب له القهوة سهواً، فعيون الذي يصب القهوة عليها أن تكون أحدّ من عيون الصقر، وعليه أن يدور على الضيوف باستقامة وبثبات حتى لا يدلق شيئاً من القهوة على أحدهم.
القاعدة السابعة: من المعتاد أن ينحني صبَّاب القهوة أثناء تقديم الفنجال للضيف، وفي ذلك زيادةٌ في الاحترام للضيف، وعلى الضيف بالمقابل الاستناد أو تعديل جلسته عند تناول القهوة من المعزّب أو الذي يصبها احتراما لضيافته، يقول المؤرخ الدكتور محمد أبوحسّان :”و أَذكر في ذلك أنني كنت ضيفاً عند أحد بيوت منطقة تقع جنوب مطار الملكة علياء الدولي، ولم ينحنِ صبَّاب القهوة عندما قدّم لي الفنجال، فلاحظ ذلك المعزب وقام بصرفه من البيت واعتذر لي اعتذاراً خجلت لشدة صدقه و إلحاحه وأبى إلا أن يقدِّم لي القهوة بيده ويقف أمامي إلى أن فرغت منها وهززت له بفنجالي.“
القاعدة الثامنة: إذا كان الضيف مشغولاً بالحديث أو خلاف ذلك ينبهه صَبَّاب القهوة إلى وجوده بأن يدق الفنجال بمقدمة الدلّة، كما أنه من غير اللائق ترك المعزّب أو صبّاب القهوة واقفا لفترة أطول من اللازم، وعلى الضيف أن يهز الفنجال لدى إرجاعه كإشارة إلى أنه لا يرغب بالمزيد، فإذا لم يهزه وجب على الصَّباب أن يعيد الصب.
القاعدة التاسعة : من العيب النفخ على الفنجان إذا كانت القهوة ساخنة، ولكن يمكن تحريك فنجان القهوة باليد قبل شربها للمساعدة على تبريدها، كما يمكن شربها على ثلاث جرعات.
لمن تصب القهوة أولاً ؟
تتنوع حالات وقواعد أولوية صب القهوة، وأهم هذه القواعد والحالات:
- البدءُ من اليمين: من الآداب الرئيسية لتقديم القهوة عند الأردنيين هي أن تدار من اليمين إلى اليسار، وهم يقولون: ”القهوة قص ما هي خص لو كان أبو زيد على يسارك”، ويعني ذلك أن الأصل في تقديم القهوة أن يناول صبّاب القهوة الفنجان الأول إلى أول شخص على يمينه، ثم يستمر باتجاه اليسار حتى لو كان أبو زيد الهلالي – وهو فارس مشهور ويضرب به المثل – على يساره.
- البدءُ بصاحب الرأي: في حالات أخرى خاصة لا يجوز تقديم الفنجان الأول لرجل ما لمجرد قعوده في يمين المجلس، حيث يجب أن يكون الفنجان الأول من نصيب صاحب الرأي، وهو الشخص الذي يمتاز برجحان عقله وقوة حكمته، وسداد رأيه، ولا شك أن هذا التقليد يعكس أهمية الرأي عند العشائر الأردنية، واحترامهم للحكمة والعقل وتدبير الأمور .
- البدءُ بالضيف: إما إذا أعدت القهوة على شرف ضيف قادم من منطقة بعيدة، أو إذا دخل أثناء إعدادها فإن الدور يبدأ به أينما كان مجلسه، ويستمر بمن يجلس عن يمينه حتى ينتهي بمن يجلس عن يساره.
- البدءُ بكبير السن: إذا كان عدد الضيوف أكثر من واحد فإن الدور يبدأ بأكبرهم سنا، ثم الذي يليه ، وإذا التبس الأمر على ساقي القهوة، فعليه أن يحرك الفناجين بين يديه مصدرا صوتا، إشعارا للضيوف أنه عاجز عن معرفة كبير السن بينهم، وفي هذه الحالة، على الضيوف أن يبينوا له ذلك، ويشيرون عليه بصب القهوة للذي يسمونه من بينهم.
وفي هذا السياق يضيف الباحث الأستاذ سليمان أحمد عبيدات إلى أن من الأخطاء الفادحة عند البعض أن يتجاوز ساقي القهوة أي شخص عند تقديم القهوة، ويعتبر ذلك أكبر إهانة واحتقار له، ولا يُفعل هذا الأمر قصدا وعمدا إلا أن يكون المقصود قد هرب من معركة أو اقترف جرما أخلاقيا، أو قام بعمل مشين لا يؤهله لأن يجلس بين الرجال ويشاركهم شرب القهوة.
دلالات هز الفنجان
بعد أن يرتشف الضيف فنجانا أو عدة فناجين من القهوة عليه أن يناول الفنجان لصباب القهوة بعد أن يهزّه عدة مرات بيده اليمنى الممدودة إلى صباب القهوة ليشعره بأنه اكتفى من شرب القهوة، فيتوقف حينئذ الصباب عن صب القهوة لهذا الرجل والمقصد من عملية هز الفنجان أنها مرتبطة بحركات لغة الإشارة والإيماءات بالوجه واليد والعينين وهنا كحركتين مختلفتين في هذا السياق فإن لهما معاني مختلفة:
- الحركة الأولى: دفع راحة اليد التي تحمل الفنجان باتجاه خارج الجسم قليلا.
- الحركة الثانية: رفع راحة اليد المذكورة إلى أعلى والتوقف لحظات مع هز الفنجان.
وهذا يعني في أن الحركة الأولى تعني طلب الابتعاد بالقهوة، أما الحركة الثانية فتعني طلب التوقف عن صب القهوة ، أي الاكتفاء من شرب القهوة عند هذا الحد، سواء كان الشخص قد تناول فنجانا أو أكثر.
رمزية عدد الفناجين وترتيبها
أحيط عدد الفناجين التي يشربها الضيف بالدلالات الرمزية، فالقول الشائع أن القهوة ثلاثة فناجين، الأول للضيف والثاني للكيف، والثالث للسيف، فما دلالات هذه التسميات؟ نستعرضها فيما يلي:
- الفنجان الأول : وهو الفنجان الذي يأتي بعد فنجان الهيف ويسمى فنجان الضيف وهو فنجان الترحيب بالقادم سواء كان معروفا أو غير معروف، وشرب هذا الفنجان لا بد منه إلا لعلة مرضية واضحة، ويمكن للضيف أن يرفض الفنجان الثاني، أما رفض الفنجان الأول فلا يجوز ويحسب إهانة كبيرة بحق المضيف وإنذارا بشر أو طلب صعب.
- الفنجان الثاني : يسمى فنجان الكيف ويوصف من يشربه أنه صاحب كيف، وهو على استعداد لمسامرة مضيفه ومؤانسته وتبديد وحشته.
- الفنجان الثالث: يسمى فنجان السيف ويفترض بمن يشربه أن يكون عونا للمضيف في حالة الشدة وأيام الحرب، وهو على استعداد لمشاركة مضيفه في رد أي عدوان يقع عليهم. وهو أشبه ما يكون بعقد تحـالف عسكري وميثاق أمني ما بين الضيف والمضيف وفي هذا الموضوع أورد الاستاذ الباحث ياسين صويلح قصة أحد شيوخ القبائل البدوية وقد اتجه مع رجاله إلى مكان آخر بقصد التجارة، وعند حلول الليل حطوا رحالهم يستريحون، فرأى الشيخ ضوءاً فترك رجاله وقصده لاعتقاده أن الضوء صادر من قرية، لكنه فوجئ بخيمة لأحد المماليك، فأصر المملوك على استضافته، فشرب الشيخ فنجاني قهوة، واعتذر عن الثالث بإصرار، وحين استفسر المملوك عن سبب إصراره ورفضه الفنجان الثالث، أجاب الشيخ بأنه جاء تاجراً وليس محارباً.
وقديما كان هنالك فنجان آخر خاص ونادر التقديم وهو ليس من فناجين الضيف الثلاثة ولا يقدّم أو يشرب إلا في حالة الثأر والحرب ويسمى فنجـان النشامى أو فنجان الفارس أو فنجان الدم وكلّها سيّان، ويقدّم الفنجان عندما يطلب صاحب الدم أو الثأر في العشيرة ثأره – سواء كان شيخ العشيرة أو رجلا كبيرًا في السن أو إمرأة أو من هو غير قادر على انفاذ ثأره – فيستدعى عقداء الخيل وفرسان العشيرة من قبل صاحب الثأر ويصب القهوة في الفنجان ويرفعه عاليا على رؤوس الأشهاد وأمام الجميع ويقـول :
هــذا فنجـان فـلان بن فـلان – يقصد به الشخص المراد أخذ الثأر منه – من يشربـه ؟، أي من يأخذ حقنا أو ثأرنا أو دمنا منه؟، فيقوم أحد الفرسان ممن يتطوعون لجلب الحق أو أخذ الثأر فيقـول : أنا له ، في تعبير عن قدرته على تعمل مسؤولية وتبعات هذا الفنجان، فيأخذ الفنجـان ويشربـه، ويذهب في طلب هذا الشخص ولا يعـود إلى عشيرته إلا بعد إحضـار البينة على أنه انتقم لصاحب الفنجـال من الشخص المطلوب، وإلا فله أحد خيارين :
- إما أن يجلي – يرحل – عن مضارب عشيرته ولايعـود لها أبدا لما لحقه من ذل وعار عدم وفاءه بالوعد.
- وإما أن يعود محملا بالخزي والعار ويصبح مدعاة لسخرية أفراد القبيلة صغيرها وكبيرها رجالا ونساء، فلا يتزوج منها ولا يخرج للحرب مع فرسانها ولا يجلس مجالس الشيوخ والفرسان.
وقد سبق وأن شرب هذا الفنجان عدد واسع من شيوخ وفرسان العشائر الأردنية خلال حروبهم وطلبهم للثأر من جيش الاحتلال العثماني أثناء الثورات الأردنية الصغرى والوسطى، ولعلّ أشهر هذه الحوادث، حادثة شرب الشيخ البطل الشهيد اسماعيل المجالي ( الشوفي ) لفنجان الثأر للشهيدين سيّد وعلي ابنا الشيخ ابراهيم الضمور بعد حرقهما على يد ابراهيم بن محمد علي باشا والي مصر المنقلب على العثمانيين.
- المراجع:
- حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان:الأردن
- بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة, مؤسسة أهلنا للعمل الإجتماعي والثقافي.عمان: الأردن
- العبادي، احمد (1979) المناسبات البدوية ، عمان: الأردن
- العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.
- الحوراني، هاني (1978) التركيب الاقتصادي الاجتماعي لشرق الأردن، مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت:لبنان
- نتائج المسح الميداني في الكرك القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة القافة الأردنية، عمان:الأردن.
- نتائج المسح الميداني في البلقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان:الأردن
- نتائج المسح الميداني في الزرقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان: الأردن
- أبو حسّان، محمد (2005) تراث البدو القضائي نظرياً و عملياً، الطبعة الثالثة.
- عبيدات، سليمان أحمد (1994) عادات وتقاليد المجتمع الأردني ، الأهلية للنشر والتوزيع.
- صويلح، ياسين (2004) مجلة المأثورات الشعبية ، العدد 71.
- زيارات ومقابلات، إرث الأردن الميدانية أثناء مرحلة البحث.