الثورات الصغرى – ثورة 1760

By Published On: November 1, 2016

مقدمة

بات من الواضح للمؤرخين بأن نضال الأردنيين نحو الاستقلال بحكم مركزي  قد بدأ منذ فترة طويلة خاصة بعد أن أثبت أنه الأفضل في ترجمة تطلعات وطموحات الشعب بمختلف الحقب الإسلامية، وقد امتدت سلسلة  الثورات الصغرى  في تاريخ الاردنيين النضالي لأمد طويل، واندلعت الثورات بتسارع  وظلت مستمرة ومتقطعة جيلاً بعد جيل، وتارة لاستعادة الاستقلال الذي ظل حلماً قريباً تحول دونه قوى خارجية. وبعد كل ثورة كان تخضع قوى الحكم الخارجي للإرادة الأردنية أو يتم كبح جماح الثورات الأردنية عبر إبادات جماعية و بسط للسيطرة و النفوذ بقوة الجيوش الجرارة التي تم توجيهها على العشائر الأردنية لمرات لا يمكن حصرها .

لكن رغم كل هذه الظروف و التحولات التاريخية القاسية ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها واستمرت العشائر الأردنية بمقاومة السلطة الخارجية من الثورات الصغرى و الوسطى حتى كللّت طموحها الجمعي بالاستقلال عبر الثورة العربية الكبرى . 

قدمنا في البحث الماضي سردا تاريخيا موجزا و اضاءة معرفية على واحدة من الثورات الأردنية الصغرى (معركة الجابية )، في هذ البحث نستكمل مسيرة توثيقنا و استعراضنا للثورات الصغرى بالحديث عن معركة المزيريب الثانية عام 1760.

تمهيد

حتى نستطيع فهم هذه الثورة و أسبابها فإنه من المهم استعادة السياق التاريخي لها من خلال ايجاز ثورة الأردنيين السابقة لها عام 1705، حيث اجتمع الأردنيون مرة أخرى على زعامة الفواز لانتزاع حكم محلي يلبي طموحاتهم ويكون منهم، قريباً من احتياجاتهم، بعيداً عن اذلال الضرائب الجائرة تحت تهديد السلاح بلا أي مردود وبدون أي تمثيل سياسي. كان كليب بن حمد الفواز زعيماً حكيماً، ارتأى عدم الدخول بمعارك غير مدروسة وكان يرى بوضوح سياسة الاحتلال العثماني بإثارة الفتن بين زعامات العشائر المتحالفة وغير المتحالفة معه فأحبطها ووسّع من تحالفاته التي غطت الأردن التاريخي كاملاً من بادية الأنباط جنوباً وحتى حوران ومن نهر الشريعة (الأردن) إلى الجوف. وبعد أن اشتد بأسه وفاق جيشه العشرين ألف مقاتل من فرسان العشائر الأردنية سيَر جيشه المكون من 20 ألف فارس باتجاه منطقة الجابية شمال المزيريب في شمال حوران وذلك لترسية حدود الإمارة المأمول انشائها للأردنيين، وكان بين الجيش 4 آلاف جندي من حملة الدروع على ظهر خيولهم. قابله بمعركة الجابية الوالي العثماني في دمشق مع جيش جله من المرتزقة من جنوب شرق اوروبا عداده عشرة آلاف جندي من حملة الدروع، فتم الحاق الهزيمة بهم وقتل والي دمشق العثماني على يد أحد فرسان العشائر الأردنية. 

وفي ظل توحد الأردنيين خلف استقلالية أرضهم، فشلت كل محاولات العثمانيين بإثارة الفتن بين العشائر وعقداء الخيل في جيش الفواز. فلجأ العثمانيون لحيلتهم المعهودة التالية وهي وضع جائزة لمن يحضر رأس كليب الفواز، وظلت الجائزة تزيد حتى وصلت الى ألف ألف آقجة ولكن حتى مع قيمة الجائزة المرتفعة جدا لم يخنه أحد من أبناء وطنه. لكن الاحتلال العثماني انحدر أكثر من ذلك فأرسل إلى ابن كليب الفواز مرسالاً مفاده أنه يريد مفاوضته على شروطه في حكمه المستجد، فذهب ابنه الى دمشق بالسر فقاموا باستغلال الدين ليبرووا ضرورة التفاهم مع أبيه كليب وذلك بأن تنسيقاً بشأن الحجاج يجب أن يحصل لمصلحة الحجاج. وهكذا وبعد غسل دماغ الإبن بالمتاجرة بالعواطف الدينية ذهب فأقنع أبيه بأن الوالي في دمشق رجل يغار على الدين والحجاج وأنه شخصياً حلف له بأمان الشيخ كليب خلال دخوله دمشق، لم يقتنع الشيخ كليب بذلك ولكنه أمام الحاح ولده قَبِل بأن يلتقي والي دمشق قرب الجابية سنة 1709، أي بعد أربعة أعوام من إمارته الناشئة. وكما كان كليب يعتقد فما أن دخل خيمة الوالي حتى وجد مئات الجنود يختبئون خلفها فقطعوا رأسه ورأس ابنه وأرسلوهم الى استنبول للتقرب للسلطان والحصول على المكافأة على رأسه. ومن هنا خرجت المقولة المؤرخة لمقدار الجائزة والقائلة “جايب راس كليب”.

الحقد العثماني لم يرتوِ من دماء نسل كليب الفواز

 كان اجماع الأردنيين على زعامة بني لام (أجداد المفارجة، أجداد السردية، أجداد الفواز) كحكام محليين من داخل الأردن مصدر قلق للعثمانيين الذين رأوا بالأردن أرضاً مكلفة لحكمها بالتواجد الفعلي ولكنها غنية بما يكفي أن يسيروا لها جباة الضرائب المحميين من العسكر لفترات قليلة التكلفة. وكما كل زعامة عشائرية أخرى حاولت انتزاع حياة كريمة من احتلال استعماري، جلب هذا لهم الاغتيال والقتل والتطهير العرقي.

فلم يكتفِ المحتل العثماني باغتيال كليب الفواز غدراً وخسةً في خيمة الوالي العثماني عام 1709، وبقي يحاول الانتقام من كل ما هو مرتبط به، فبعد انتقال الزعامة لإبنه الظاهر بن كليب الفواز ترك العثمانيين الأمر يبرد قليلاً ثم حاولوا شراء ولاءات العشائر المتحالفة مع الفواز وعندما فشلوا سيروا جيشاً كبيراً باتجاه المزيريب ليلاً لتتم عملية تطهير عرقي لعشائر السردية عامة والفواز خاصة (في ذلك الوقت كانوا يدعون بالكليب نسبة إلى كليب الأول والد ظاهر الذي قتل في هذه المعركة) والقضاء على زعامة الفواز عام 1718، ولم ينجُ من تلك المجزرة أحد من ذرية كليب الفواز، إلا حفيدين طفل سمي كليب (كليب بن ظاهر بن كليب) [1] وطفلة سميت برقا، وتم تهريبهما لنواحي المدينة المنورة بعيداً عن من يمكن أن يعرفه ويدل مرتزقة الاحتلال العثماني من صائدي الغنائم عليه.

الهروب بكليب الثاني (كليب الصغير إلى المدينة المنورة)

كما أسلفنا وبعد انتهاء المعركة لم ينجُ من نسل كليب الفواز سوى طفل صغير هو “كليب الثاني” وطفلة تفوقه سناً اسمها برقا، قام أقاربهم والمحيطون بهم بالهروب بهم نحو المدينة المنورة والاستجارة بأحد القبائل الشهيرة هناك والتي ما تزال قائمة في الحجاز حتى يومنا هذا، وكانت “برقا” تبلغ من العمر نحو 14-15 ربيعاً، وكان الهدف أن ينتظر الجميع إلى أن يكبر كليب الصغير وبرقا ويقوموا بتزويجهما للحفاظ على نسل العائلة.

 قامت القبيلة الحجازية المذكورة بإجارة كليب الصغير والمرافقين له الذين دخلوا عليهم، لكن الخذلان أتى لاحقاً، فقد استطاعت إحدى النساء المحيطات بشيخ تلك القبيلة الحجازية، أن تخلق فتنة وتفتح للشر بابًا، عندما وسوست له بالزواج من الفتاة الطفلة “برقا”، ضاربين بذلك كل مخططات العائلة التي تحاول الحفاظ على نسل زعيمها، فتقول المرأة للشيخ بأنها قد شاهدت مهرة لا تصلح لسواه، فيجيبها متسائلاً إن كانت هذه المهرة تأكل بيدها أم تأكل بفمها (للاستدلال ان كانت فتاة أو فرساً)، فتجيبه بأنها فتاة تأكل بيدها وأنها شديدة الجمال، فينادي الشيخ كبير قوم الشهيد كليب الفواز في ذاك الوقت ويعرف تاريخيا بـ “ابن شيبانة”، فيجيبه ابن شيبانة بحكمة ويخبره بأنهم قوم مكسوري الخاطر وأنهم ينتظرون عيد الأضحى للتضحية عن شهدائهم ومن فقدوهم في الإبادة العرقية التي تعرضوا لها، وعليه يطلب المهلة إلى ما بعد العيد  و “بعدها يصير خير”، وذهب ابن شيبانه لقوم كليب وأخبرهم أن من لا يملك منهم رحولاً (ناقة) فليشتري واحدة له، ومن لا يملك ماءاً فليصنع صملاً، لأنهم سيعودون لموطنهم في الأردن ففعلوا وأعدوا العدة، فلما جاء  العيد ذبحوا  وضحوا لأهل كليب وأهل برقا، فقال ابن شيبانة للسردية، ارحلوا فرحلوا لمسافة 3 أيام، وذهب ابن شيبانة على شيخ القبيلة، وبقي يسهر معه طوال الليلة التي تسبق موعد الزفاف بيوم، وبقيا في سهرهم هذا حتى الصباح، وكلما اقترب الشيخ من أن يغفى شاغله ابن شيبانة بالأحاديث، وعندما جاء الصباح ولم يستطع شيخ القبيلة الاحتمال على السهر أكثر وغلبه النوم، ركب ابن شيبانه فرسه “الطرما” وكان قد طلب من قومه أن يضعوا لها الماء والعلف على الطريق في نقاط محددة ومتفق عليها، واستطاع بذلك اللحاق بهم، وعندما استيقظ الشيخ العريس لم يجد سردية ولا عروسا ولا ابن شيبانة، فجمع قومه وجهز جيشه وحاول اللحاق بهم، ولكن دون جدوى، ونجح الجمع بالعودة للأردن وبعد سنوات تزوج كليب من برقا، وتجاوزا المحنة والظروف الصعبة التي مروا بها.

%d8%ac%d8%a7%d9%86%d8%a8-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%88%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b1%d8%af%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%ba%d8%b1%d9%89

 معركة المزيريب الثانية عام 1760

تعرضت جميع قيادات الأردنيين الثائرة ضد الاحتلال العثماني للقمع والإبادة كما اتضح لنا من سياقات الثورات الصغرى ومن ضمنهم نسل كليب الفواز من السردية الذين تعرضوا لعملية تطهير عرقي وإبادة جماعية عام 1718، عندما قام العثمانيون بمهاجمتهم ليلاً والقضاء على عائلة الفواز في معركة المزيريب الأولى ، ولم يبقَ من هذه العائلة إلاّ حفيد كليب، حيث تفرقت أعداد السردية بشكل أو بآخر، لكنهم بقوا أقوياء في حدود العشيرة ومرهوبي الجانب، بعد أن كانوا زعماء لتحالفات العشائر وتسيطر تحالفاتهم على طريق الحج بأكمله، وأخذت حينها العديد من القبائل تتنافس على زعامة المنطقة، وعلى مصادر القوة ومكسب المعيشة الوحيد المتوفر ألا وهو طريق الحج، في ظل عدم وجود دولة ونظام بالمعنى الحقيقي للكلمة.

لم ينسَ الأردنيون الثأر وذكرى الإبادة الجماعية التي تعرض لها أسلافهم و زعامة حلفهم الوطني، فأعادوا ترتيب الصفوف و تدريب المقاتلين و تنشئة الفتيان على الفنون القتالية و مبادئ الفروسية، واضعين نصب أعينهم اليوم الذي سيضعهم في مواجهة مع القوة العسكرية للاحتلال العثماني، وانشغل عقداء الخيل بتجهيز الفرسان وتسليحهم بعيدا عن أعين السلطة العثمانية، فأعدت الخطط واشتعل الإصرار في نفوس الفرسان على أن يكون الموقع المخضّب بدماء أجدادهم وآبائهم هو ذات موقع الثأر، والواضح حسب الوثائق أن التخطيط استمر لسنوات بهدوء و روية وكتمان، اذ لم تتوقع السلطة العثمانية أن حلف العشائر الأردنية والسردية خاصة قادرون على القيام مجددًا والتقاط أنفاسهم، فوضعت ملف هذا الحلف الأردني الذي كلفهم سنوات من المواجهة و الاسترضاء و سياسات الخدع و التحايل و من ثم نصب الكمائن و الغدر العشيرةح وضعته بصفحاته بعيدا في غياهب النسيان.
وبعيداً أيضا عن مراكز سلطة الاحتلال العثماني كانت الصحراء الشمالية الأردنية تشهد إعادة ترتيب للأوراق وعقد للأحلاف العشائرية الأردنية وفنجان الثأر من المحتل يدور على عقداء الخيل يشربونه واحداً تلو الآخر في بيوت شيوخ العشائر الأردنية التي أعادت الانضمام للحلف ذاته، وعلى حين غرّة وصلت أنباء حشود فرسان العشائر الأردنية بقيادة السردية للباب العالي ما شكّل حدثا صادما للإدارة العثمانية التي وجهت جحافلها العسكرية للمواجهة، واستباقا للموقف كان السردية قد قادوا مقاتلي الحلف واختاروا ذات موقع المجزرة ليكون موقع المواجهة، وحين اللقاء كانوا قد استطاعوا أن يقتصوا من العثمانيين في معركة المزيريب الثانية التي حدثت عام 1760، ولقنوا العثمانيين درسا قاسيا في فنون المواجهة المباشرة بلا غدر أو خيانة، وكانت الصدمة قاسية مع خسائر فادحة أرّقت مضاجع الوالي العثماني في دمشق، اذ استيقظ على نبأ مقتل أكثر 1500 جندي عثماني خلال معركة دامت لفترة قصيرة جدا كانت الروح الوطنية الاردنية صاحبة الغلبة فيها والانتصار.[2]

وعلى الرغم من أن هذه الثورة لم تستطع انتزاع حكم مركزي للأردنيين مجدداً، إلا أنها بقيت نقطة انتصار مضيئة في تاريخ مسيرة الاستقلال لدى الأردنيين، وتركت أثرها في نفوس العشائر الأردنية – حيث اشتعلت بعد سنوات قليلة ثورات البلقاء والكرك – والتي أكدت من خلالها على الطموح الجمعي المشترك لدى الأردنيين بالوصول للاستقلال النهائي والتام الذي تكلّل لاحقا بسيل جارف من الثورات الصغرى عبر الأرض الأردنية، كانت ذروة درب التحرير فيها انطلاق الثورة العربية الكبرى وتطهير الأرض الأردنية من براثن الاحتلال العثماني.

المراجع:

[1] ابن كنان ، يوميات ، ص 302 ، أبو الشعر ، تاريخ ، ص 94

[2] فريدريك بيك، تاريخ شرقي الأردن، ص 353

مخطوطة تحت النشر لتاريخ عشائر السردية، تأليف و إعداد المؤرخ كليب الفواز ، ص (112-160 )، 2016.