الثورات الصغرى – ثورة الأردنيين 1519

By Published On: October 28, 2016

مقدمة

بات من الواضح للمؤرخين بأن نضال الأردنيين نحو الاستقلال بحكم مركزي  قد بدأ منذ فترة طويلة خاصة بعد أن أثبت أنه الأفضل في ترجمة تطلعات وطموحات الشعب بمختلف الحقب الإسلامية، وقد امتدت سلسلة  الثورات الصغرى  في تاريخ الاردنيين النضالي لأمد طويل، واندلعت الثورات بتسارع  وظلت مستمرة ومتقطعة جيلاً بعد جيل، وتارة لاستعادة الاستقلال الذي ظل حلماً قريباً تحول دونه قوى خارجية. وبعد كل ثورة كان تخضع قوى الحكم الخارجي للإرادة الأردنية أو يتم كبح جماح الثورات الأردنية عبر إبادات جماعية و بسط للسيطرة و النفوذ بقوة الجيوش الجرارة التي تم توجيهها على العشائر الأردنية لمرات لا يمكن حصرها .

لكن رغم كل هذه الظروف والتحولات التاريخية القاسية ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها واستمرت العشائر الأردنية بمقاومة السلطة الخارجية من الثورات الصغرى والوسطى حتى كللّت طموحها الجمعي بالاستقلال عبر الثورة العربية الكبرى.

في هذا البحث نقدم سردا تاريخيا موجزا و اضاءة معرفية على واحدة من الثورات الأردنية الصغرى بالحقبة الإسلامية المتأخرة وأولى الثورات الأردنية على العثمانيين ( ثورة الأردنيين عام 1519 ).

تمهيد

  كنا قد نشرنا عن انتزاع الأردنيين للحكم الذاتي في الحقبة الإسلامية المتوسطة (الأيوبية والمملوكية)  وقد ظلت الثورات مستمرة ومتقطعة، منها مثلاً عندما ثارت العشائر الأردنية فقتلت نائباً معيناً من خارجها عام 1453م. أو ما وثق في عام 1462 عندما تم بعث جيش جرار من مصر المملوكية لقمع ثورة أردنية اتخذت من آيلة وقلعتها معقلاً لها وبقيادة زعيم العشائر الأردنية وقتها مبارك العقبي (بني عقبة أجداد العديد من العشائر الأردنية اليوم). وحتى بعد قمع ثورة ال1462 ظلت النزعة الاستقلالية موجودة وبعثت العشائر الأردنية ما مفاده أن الأردن لن تحكم من خارجها وعند استهتار السلطان المستمر خرجت بعض العشائر بقيادة بني لام (أجداد عشائر المفارجة ومن ثم السردية ومن ثم الفواز اليوم) فصادروا قافلة حكومية متجهة لمصر مكونة من ثلاثة عشر ألف من الابل بعام 1494م وذلك كوسيلة أخيرة للاحتجاج وتحقيق المطالب المشروعة بالاستقلال والحكم المحلي.

قلعة الزعيم الجغيمان

قلعة الزعيم الجغيمان

إمارة بني لام في الأردن

أسست إمارة بني لام على يد الزعيم الأردني للعشائر الأردنية في حينها الأمير حسان بن المفرج وامتدت من جنوب غرب الأردن وصولاً لشمال منطقة حوران الأردنية واستمر نفوذها لمائة عام وضمت تحالفاً بين عدد كبير من العشائر الأردنية، قامت هذه الإمارة بما فيها من تحالفات للعشائر الأردنية وفرسانها بالإضافة لدورها بانتزاع الحكم المحلي (كما نشرنا ببحث سابق تحت مسمى “المفارجة”) بمحاربة غزو الفرنجة للمنطقة، فعلى سبيل المثال فإن أسامة بن المنقذ ومعه 18 شيخاً من قبيلة بني لام قضوا في يوم واحد دفاعاً وصداً لغزو الفرنج وذلك في عام 1070 تقريباً، وهو نهج ثابت لأبناء المنطقة في وقوفهم ضد كافة الأطماع ومحاولات الحكم الاستعماري المتستر والمتاجر باسم الأديان أمسيحية كانت أم إسلامية. إمارة بني لام استفادت من التحالفات التي كانت تقوم بها مع العشائر الأردنية الأخرى من جهة، ومع الفاطميين في القاهرة والمماليك في دمشق من  جهة اخرى، وبعد انهيار الإمارة ارتدت بني لام نحو جبال الشراه النبطية وأقاموا فيها. ومن شراه الأنباط أعاد حفيد إمارة بني لام “حسان بن المفرج” التموضع وأسس لاحقاً إمارة أخرى اتخذت من حوران عاصمة لها وعرفت بإمارة آل مرَا واستمرت متقطعة من عام 1300 ولغاية 1550 تقريباً. وما زالت آثار آل مرا في الأردن ماثلة حتى يومنا الحالي حيث شواهد القبور التي تحمل أسماءهم في البادية النبطية بجنوب معان.

الأردنيون يتمسكون باستقلالهم وارثهم رغم محاولات الحكم الخارجي لهم

 كان الأردنيون يلتفون حول زعيم تحالف العشائر الأردنية في وقتها الشيخ سلامة بن فواز الذي تذكره الوثائق خلال الفترة من 1490 ولغاية 1523. وفقا للوثائق فقد كان لتحالف سلامة بن فواز ثلاثة عشر ألف قوس (كناية عن عدد المحاربين تحت إمرته )، من بني لام وبني تميم والعمرو وبني عطية وعباد والعدوان وبني حميدة وغيرهم من بقية العشائر الأردنية، وكانت سيطرتهم تمتد من حوران وحتى جنوب البادية النبطية شرق البحر الأحمر لتصل لمشارف تبوك. وفي السرد التاريخي لقوة هذه الإمارة و اتساعها يذكر بعض المؤرخين عبارة تقول : “لقد دوّخ بني لام دولة الشركس” والمقصود بهذه المصادر هي دولة المماليك الذين تفاوضوا مع سلامة الفواز واتفقوا أن يدفعوا لتحالف العشائر الأردنية بقيادته ما مجموعه ألف دينار ذهبي مقابل البقاء في مناطق سيطرته وعدم التعرض لقوات المماليك أثناء مرورها من المناطق المجاورة له، حيث بني في عهده قلعة الجغيمان سنة 1495، وهي نفسها قلعة المدورة القديمة، التي تبعد عن المدورة الحالية نحو 4-5 كم وهي مهملة الآن للأسف ولكن لهذه المعلومة مدلول تاريخي حيث لا يعقل لشخص أن يبني قلعة وتسمى باسمه ما لم يكن لديه سلطة سياسية وقوة ومال، وتشير الوثائق إلى أن هذه القلعة كانت أحد المراكز الرئيسية لإدارة طريق الحج والتجارة الذي رعته العشائر الأردنية لآلاف السنين، حيث تشير الوثائق العثمانية بالنص الصريح مبدوءة بـ “إلى جغيمان” ، وقد ذكرها ابن بطوطة في رحلته حيث تعرض للمنطقة والسكان الموجودين فيها.

وخلال تلك الفترة شهدت المنطقة نوعا من الاستقرار النسبي في العلاقات ما بين تحالف العشائر الأردنية والسلطة الحاكمة ممثلة بالمماليك،  وذلك من خلال الاتفاقات على حماية خطوط الحج التي تمر بمناطق سيطرة تحالف العشائر الأردنية وترأس نعمان بن سلامة بن فواز الحج الشامي عام 1502.

أدناه بعض الصور لقلعة الزعيم الجغيمان ويلاحظ أنها مهدمة وبحاجة للترميم

 

 

الثورة الأولى على العثمانيين 1519 – ثورة الجغيمان

نجحت الثورة الأردنية بقيادة زعيم العشائر الأردنية مبارك العقبي كما أسلفنا بالوصول لانعدام السلطة الخارجية بين عامي 1502-1505م، وبالتفاصيل فان الثورة وصلت لمحاصرة الحاكم المعين بدون توافق الأردنيين في قلعة الكرك وتكللت بالوصول لاتفاق بحيث يستسلم ويخرج آمناً الى مصر المملوكية. عيَن جان بردي الغزالي حاكماً للأردن من الكرك عام 1509م فلم يرضوا به وثارت عليه العشائر الأردنية فطرد منها وعاشت الأردن مرحلة ” لا حكم ” أخرى وتم تعيينه لحكم فلسطين من صفد.

 قاد قايتباي الخصاكي جيشا ضخما من دمشق بعام 1512 لإعادة السيطرة على الأردن بعد طرد جان بردي من أراضيها ولكنه فشل وعادت غزوتين لاحقات حتى غلب عدد العسكر كافة المطالب الاستقلالية للأردنيين بعام 1513. خان جان بردي الغزالي المماليك وتحالف مع السلطان سليم العثماني وانضم لخيانته خاير بك، والذين وعدا بالحكم مقابل تحييد القوات التي يأمرون عليها فسقطت سوريا بيد العثمانيين بسهولة في مرج دابق. مرج “دابق” كانت موقع المعركة التي سقطت فيها سوريا بيد الأتراك العثمانيين بعام 1517م وعلى اثرها انتقل صراع الأردنيين مع الحكم الخارجي من مصر المملوكية الى استنبول العثمانية، ومما يستوجب ذكره و الالتفات له بنظر ثاقب و لمرات متعددة أن اسم المعركة “مرج دابق” هو نفس الإسم الذي يستخدمه تنظيم الدولة الإرهابية في العراق والشام في أدواته الإعلامية المتشابهة.

تم تعيين جان بردي الغزالي والياً على الشام والأردن كمكافأة لخيانته للمماليك، جان بردي الغزالي ذاته الذي طرده الأردنيين سابقاً والذي خان المماليك، كان أول والي يعيَن لحكم منطقة شاسعة تضم الأردن بعام 1517م من دمشق، واستمر نضال الأردنيين ضد الحكم الخارجي فكل ما تغير هو انتقال القطب الآخر وعاصمة الخصم من مصر المملوكية إلى استنبول العثمانية؛ فلم يعترف الأردنيون بولايته خاصة أنهم قد طردوه قبلها، وقد اصطدم والي دمشق الغزالي بالعشائر الأردنية التي لم تعترف بولايته نتيجة ما كان له معها من تاريخ أسود وطردهم له قبل ذلك في عام 1509. لم ينسَ الغزالي ما فعله الأردنيون به في عهد المماليك فحاول التنكيل بهم والتضييق عليهم بشتى السبل، فلجأت العشائر الأردنية لاستخدام ورقة سياسية ذكية رداً على سياسة الغزالي القمعية، فعمدت العشائر لإيقاف الحماية التي كانت توفرها على طريق الحج وذلك كوسيلة للاحتجاج السلمي والضغط على سلطات الحكم الخارجي لإرغامها على التفاوض معها والاستجابة لمطالب أهل المنطقة التي كانت تعاني من التهميش المتعمد جراء رفض أهلها الخنوع والخضوع للسلطة الخارجية، ونظراً لما له من باع طويل في الخيانة فقد انقلب جان بردي الغزالي من جديد ولكن هذه المرة ضد العثمانيين أنفسهم، حيث ارتدت بضاعة الخيانة على العثمانيين وأعلن جان بردي الغزالي الاستقلال عن العثمانيين عام 1518م فنزلت عليه كافة الجيوش العثمانية للإطاحة والتنكيل والبطش به، حيث تم تعيين إياس باشا خليفة له وواليا على الشام مكانه بعد أن قتل جان بردي (تعددت الروايات عن تاريخ وطريقة قتله هل كانت من قبل الشعوب المقاومة له وللأتراك العثمانيين أم باغتيال سياسي، أو كلاهما). أول قرار أخذه اياس باشا هو قمع ثورة كانت في نابلس فاتخذها ككبش فداء ليظهر بأسه فشرد الكثير من أهلها وهدّ بيوتهم، قبل أن تتحد معها مناطق فلسطينية أخرى وتدحره خائباً. ثم وصل اللجون فذبح أربعة من أبناء آل طرباي حكام اللواء وأرسل رؤوسهم إلى السلطان سليم في بادرة لإظهار الولاء للحاكم العثماني. وفي خطوة هوجاء تهدف بالمنظور قصير المدى إلى تجفيف المصادر الاقتصادية المتأتية للأردنيين من أسواقهم على طريق الحجاج المسلمين والمسيحيين والمعروف بالطريق الملوكي، قام إياس باشا وبتوجيه من السلطان العثماني سليم الأول (أو ما بات يعرف لاحقاً بسليم المتآمر) عام 1519م بنقل الطريق شرقاً ونصب المخافر عليه بعيداً عن التجمعات السكانية المعادية لوجوده والمستخدمة لأداة ” ايقاف الطريق ” كأحد أدوات الضغط نحو الاستقلال، ثم قام بفرض ضريبة على ما يعرف ببازارات الحجاج، فتسبب القراران بانهيار المنظومة الاقتصادية للتجار الأردنيين والتي نجت لآلاف السنين حتى بعهد الرومان والفرس والفراعنة ولكنها لم تنجُ من العبث السياسي بحقبة العثمانيين. أما سياسياً فقد عمد الأردنيون على انشاء تحالفات عشائرية بإمارات تنتزع الحكم المحلي لهم وتراعي احتياجتهم.

بدا واضحاً أن الأردنيين بزعامة الجغيمان لن يقبلوا باستبدال حكم خارجي من مصر بآخر من دمشق فدأب السلطان على بعث قوة تلو أخرى لاخضاع الأردن لحكمه من مركز خارجي لكنها باءت بالفشل الذريع حيث أنهم لم يجدوا أمثال جان بردي الغزالي ليخون ويسلمهم الأرض لقاء منصب ومال كما حصل في مرج دابق.

وبعد مناوشات جسيمة بين جيش العثمانيين والقوات المقاتلة الأردنية في الفدين (المفرق) لجأ العثمانيون لحيلهم القبيحة حيث تسلل ليلاً بضعة أفراد من قواتهم لخطف أبناء الجغيمان شيخ الفواز وزعيم تحالف العشائر الأردنية بوقتها، وإرسالهم للسلطان سليمان “القانوني” حيث عرف حينها بسليمان “الرهائن”، ليتم بعدها مفاوضة الأردنيين على تسليم الرهائن وتولية حكام من الأردنيين مقابل السلم وانهاء الثورة عام 1519، وبعد هذه المفاوضات تم تولية الغزاوي (بتسكين الغين) كما أوردنا في بحث سابق لكن العثماني استمر برفع الضرائب في تصاعد كبير حيث توزعت ما بين ضريبة دخل تبدأ من 25% وأخرى على مبيعات الحجاج ومثلها على الأنعام من الإبل والمواشي ، وكذلك على المحاصيل الزراعية، فأتت ثورة الغزاوية بشكل طبيعي عام .

 

  • المراجع :
  • ابن تغري بردي، الجزء 7، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة صفحة 232-377
  • ابن تغري بردي، الجزء 7، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة صفحة 749-50
  • Johns, Jeremy (1995), ‘The Longue Durée: state and settlement strategies in southern Transjordan across the Islamic centuries’, in eds. Eugene Rogan and Tariq Tell, Village, Steppe and State. The Social Origins of Modern Jordan. London and New York:
  • British Academic Press: 1–31. P23
  • زين العابدين ابن اياس الحنفي، بدائع الزهور في وقائع الدهور، القاهرة، الجزء 4، صفحة 94
  • Johns, Jeremy (1995), ‘The Longue Durée: state and settlement strategies in southern Transjordan across the Islamic centuries’, in eds. Eugene Rogan and Tariq Tell, Village, Steppe and State. The Social Origins of Modern Jordan. London and New York:
  • British Academic Press: 1–31. P94
  • Marcus Millwright, Karak in the Middle Islamic Period (1100-1650), Boston, 2008. P.48
  • زين العابدين ابن اياس الحنفي، بدائع الزهور في وقائع الدهور، القاهرة، الجزء 3، صفحة 433
  • Laoust, Henri (1952), trans. and ed., Les Gouverneurs de Damas sous les Mamlouks et les premiers Ottomans (658–1156)(excerpts from works of Ibn ?ūlūn and Ibn Juma?ā). Damascus: Institut Français de Damas. P.124
  • تاريخ جبل نابلس والبلقاء، احسان النمر، 1938، دمشق صفحة 15
  • Marcus Millwright, Karak in the Middle Islamic Period (1100-1650), Boston, 2008. P.48
  • زين العابدين ابن اياس الحنفي، بدائع الزهور في وقائع الدهور، القاهرة، الجزء 3، صفحة 382-83
  • Laoust, Henri (1952), trans. and ed., Les Gouverneurs de Damas sous les Mamlouks et les premiers Ottomans (658–1156)(excerpts from works of Ibn ?ūlūn and Ibn Juma?ā). Damascus: Institut Français de Damas. Pp.151-59, 171-74.
  • تاريخ جبل نابلس والبلقاء، احسان النمر، 1938، دمشق صفحة 25
  • تاريخ جبل نابلس والبلقاء، احسان النمر، 1938، دمشق صفحة 61
  • Marcus Millwright, Karak in the Middle Islamic Period (1100-1650), Boston, 2008. P.256
  • مخطوطة تحت النشر لتاريخ عشائر السردية، تأليف و إعداد المؤرخ د. كليب الفواز ، ص ( 8-16 ) – ( 33- 50)، 2016.
  • بحث مؤسسة ارث الأردن (الأردن بالحقبة الإسلامية المتأخرة – الجزء الأول: 1389م-1656م ) للاطلاع على البحث انقر هنا .
  • بحث تاريخي موجز منشور بعنوان (ثورات وانتفاضات الاردن عبر العصور ) ، المؤرخ الدكتور محمد المناصير ، 2011 .