المسار الرابع لمعارك التحرير- معارك الطفيلة

By Published On: June 1, 2016

 معارك الطفيلة في الثورة العربية الكبرى و سجل شهدائها الخالدين 

141

صورة لمدينة الطفيلة و تظهر قلعة الطفيلة من بعيد و التي تمركز فيها الأمير زيد بن الحسين بعد تطهير الطفيلة من الاحتلال العثماني

مقدمة
تحدثنا في المسار الثالث لعمليات التحرير عن استراتيجية التنظيم العسكري لقوات الثورة وأهميتها وكيف كانت مدينة الطفيلة واحدة من الأهداف التي
يحرص الاحتلال التركي وحليفاه الألماني والنمساوي على الحفاظ عليها ويعتبرونها منطقة تقع ضمن الخط الاحمر بالنسبة لهم، تتابعون في المسار الرابع توضيحا تفصيليا عن معارك الطفيلة و معركتها المشهورة باسم ( حدّ الدقيق ) و تضحيات عشائر الطفيلة تحت قيادة الأمير زيد بن الحسين في مواجهة الاحتلال التركي العثماني و حلفائه .

تمهيد

لقد شعر أهل المنطقة بوطأة الأتراك الذين اثقلوا السكان بالضرائب ، وجندوهم لأعمال السخرة والجيش ، وجمع الأخشاب ونقلها لمراكز الخط الحديدي الحجازي وبأجور زهيدة كما جردت الدولة على الطفيلة اكثر من طابور قوي ، فظهر حكم الأتراك للمنطقة واهناً وبذلك يمكن تفسير إصرار الكثيرين من أبناء المنطقة على دعم الشريف حسين والثورة العربية التي اقتربت من نفوس السكان ،و حينها اتفق أهل الطفيلة على موقف موحد واجتمعوا على ذياب العوران ليتولى إعلام الحسين بن علي بذلك ، وقد أرسل الرجل إبنه عبد السلام للأمير فيصل في في القويرة بتاريخ 4 / 12/ 1918  لكي يخبره أن أهل المنطقة يرحبون برجال الثورة العربية الكبرى ويقدمون له الولاء له .

استسلام الحامية التركية في الطفيلة

كانت حامية الطفيلة تتألف من ( 150 ) جندياً و ضابطاً تركيا ، ولكن موقف الحامية كان مرهونا بموقف أهل البلدة وجرت مفاوضات مع قائد الحامية ويدعى زكي الحلبي ويحدث الضابط صبحي العمري عن ذلك قائلا :       ” وأخيرا قرر قائد الحامية الاستسلام ، وهكذا دخلنا الطفيلة دون قتال يوم ( ١٥ ) كانون الثاني  ١٩١٨ م ، وفي يوم (16) كانون الثاني وصل الطفيلة الأمير زيد وبمعيته القائد جعفر العسكري وبرفقتهم سرية مشاة ومدفع جبلي،  ويضيف سليمان الموسى القول : « وهكذا نرى أن الثورة امتدت إلى الطفيلة عن طريق أهلها ورغبتهم في ذلك ، ولو صمم أهل الطفيلة على المقاومة وتعاونوا مع الحامية التركية لغدت مهمة قادة الثورة عسيرة للغاية ، كما أن القوة التي كانت مع الشريف ناصر لم تكن لتستطيع دخول البلدة عنوة واقتداراً. . . وقد انضم أهل الطفيلة بأسرهم إلى الشريف . . وكان ذياب العوران قد كتب للأمير فيصل يبلغه باستعداده لتسليم الطفيلة إلى أول واحد من الأشراف يصل إليها، هذا وقد بادر الأمير زيد فعيّن زكي الحلبي حاكماً إداريا للطفيلة.

الأمير زيد في الطفيلة

 ومن الجنوب قدم الامير زيد إلى البلدة ، وفي إقامته اتخذ مستقر له في خاصرة الطفيلة الجنوبية شمال نبع ماء يُسمّى ( عين حاصده ) ، وهناك بنى خيامه في أرض عشيرة البَحرات . . ويصف عبد المهدي بن محمود –أحد رجال الطفيلة – الحال في تلك الفترة . ومن مذكراته : ” ما أن وصلتنا أخبار تواجد الأمير زيد حتى عادت الذاكرة لتحملنا إلى أيام لنا مع الأمير فيصل في ديارالشام فهزتني النخوة ، وقلت لأخي إبراهيم بن محمود شيخ عشيرة البحرات؛  عليك يا أخي أن تلتقي الشريف ، وتقوم بواجب الضيافة العربية ، فالشريف في أرض عشيرتك ، واسمح لي أن أرافقك فاستجاب، ولما وصلنا المخيم رحّب بنا الأمير ولم أخبره عن علاقتي بأخيه ، حاول أخي دعوته للعشاء؛ ثم شكر أخي قائلاً : من بعد . . من بعد ؛ ” أي لاحقا ”  فأنا لا أقيم دائماً في المخيم ، الأمر يتطلب مني الحذر . . . فأنا جوال و ( راعي إشداد )، وعند المساء أقبل شيخ قرية صنفحة – محمود بن موسى الشبطات ومعه ثلاثة رجال مسلحين ، وأدركت بالحدس أن الأمير مدعو للعشاء وربما البيات في ” صنفحة “،  ذلك هو أول لقاء أشاهد فيه هذا الأمير واستطعت أن ألمح فيه أخلاقيات القائد العسكري والسياسي الفطن رغم صغر سنه ؛ ومنذ ذلك الوقت فإن أهل الطفيلة يطلقون على خاصرة المكان ( وادي زيد ) وعلى الكتف المطل عليه بـ ( الأميرية ) تخليداً للذكرى ، ومن نافلة القول فإن المنحدرات التي تطل على تلك المواقع هي ( المياسر )  وهي من دياربني عذرة تلك القبيلة العربية المشهورة

وما دام الأمير زيد جوّال فقد ذهب في إحدى الليالي إلى وادي موسى ، فهو  كما قال ( راعي إشداد) ، وهذا مصطلح تراثي وكلمة ( إشداد ) ترتبط بالجمل ، وهي تشبه في المعنى السرج للحصان؛ أي أن الأمير كان دائم التنقل على ظهر جمل وتحته الشداد ، فهو راعي إشداد دائماً ، يتنقل على ظهر راحلته .

الأتراك يحاولون استعادة الطفيلة

إن الصراع المرير على منطقة الطفيلة وبعدّة معارك من قبل القوات الألمانية والتركية من جهة وقوات الثورة من جهة أخرى يذكرنا بمعارك طبرق والعلمين شمالي افريقيا بين قوات الحلفاء وقوات المحور واختيار أجود القادة لها أيام الحرب العالمية الثانية ، و كانت الطفيلة ذات أبعاد عسكرية ممتازة على خرائط الجنرال النبي والقيادة العسكرية في لندن والقيادة التركية والألمانية في كل من استانبول وبرلين .

ولأهمية المنطقة عند العسكريين فقد قرر الأتراك إعادة احتلالها ، فهي في نظرهم تحتل مركزاً متوسطا في عقدة جبلية مرتفعة ذات مداخل و تشرف جبالها الشرقية على تجمعات جيوشهم قرب سكة الحديد شريانهم النابض . كما أنها من الغرب تطل على براح واسع جنوب البحر الميت ووادي عربة ولذلك فإن السيطرة عليها له ما  يبرره ، ورغم أن سكان الطفيلة حاولوا اختيار ذياب العوران للتكلم باسمهم كعناصر تستضيف الثورة وتساهم بها إلا إن القائد التركي جمال باشا السفاح حاول الاتصال بذياب لكي يستميله لكن أبناء ذياب وهما صالح وعبد السلام أصرا على عدم التخلي مع السكان عن القيادة العربية فاستمر الجميع في اداء دورهم وقطع الشيخ ذياب كافة خطوط الاتصال مع المحتل التركي.

وقد شعر الأتراك والألمان ان تحرير قوات الثورة للمدينة كانت ضربة شديدة لمركزهم وهيبتهم فصمموا على استعادتها ، و اختارت القيادة التركية لتأدية هذه المهمة أميرالاي – كولونيل – ” حامد فخري ” قائد قطاع عمان ، وقائد الفرقة ( ٤٨ ) بطل معارك أوروبا الشرقية كما يصفونه والملقب بـ ” فاتح بخارست ” .

احتشدت الحملة في عمان ثم اتخذت لها مسارا نحو الكرك تجر طوابيرها الثلاثة التي تضم من  المقاتلين      ( 900) وهم مشاة يتسلحون ببنادق تركية ذات رماية بعيدة، ومائة من جنود الخيالة المزودين ببنادق جيدة وسلحت التجريدة بأسلحة حديثة فتاكة مع مدفعي هاوتزر جيليين من صنع نمساوي ، و ( ٢٧ ) مدفعاً رشاشاً ورافقتهم جماعة من المتطوعين ، فأصبح العدد الكلي للحملة 1200 جندي ، فزحف حامد فخري من الكرك يوم 23 / 1 / 1918  ، واتجه جنوبا للهجوم على الطفيلة من اطرافها الشمالية ، ولم تصل أنباء هذه التجريدة إلى الأمير زيد إلا بعد أن بلغت طلائع الاحتلال التركي منطقة الحسا على هامش الطفيلة الشمالي وبدأت تصعد المرتفعات صباح يوم ٢٥ كانون الثاني .

 

معركة الطفيلة حد الدقيق 25 / 1 / 1918 م

  قبل أن يصل الأميرالاي حامد فخري قائد القوات التركية وادي الحسا أرسل تهديده لأهل الطفيلة ، و أقسم بأغلظ الأيمان أنه سيمحق البلدة – الطفيلة – وسيقلب عاليها سافلها ، ويضع السيف في رقاب أهلها الذين ساعدوا الثورة ، وأرغموا الحامية التركية على الإستسلام ، فالرجل خانته فطنته ، ودفعه غروره كبطل لمعارك أوروبا الشرقية ، وفاتح مدينة بخارست ، ويحمل على صدره نياشين وأوسمة الحرب ، أن يتحدى أهل ( جبال ) الذين يغضبهم التحدي، فأصروا على موقفهم وردوا على تحديه بتحدٍّ أمر، فاشتدت عزائمهم واتجه رجال الطفيلة  إلى مخيم الامير زيد جنوب البلدة ، ومعهم الصبيان والأطفال فى تظاهة عجيبة كما يرويها الطاعنون في السن الذين قاتلوا . ويدوّن الأمير زيد بن الحسين ما جرى في رسالة لأخيه الأمير فيصل قائلا : ” إن أهل هذه الديرة اليوم مربوطين بنا من كل وجه، والتحقوا بنا برضائهم ، وسلموا أطفالهم إلينا ، وباعو أرواحهم معنا  “.

 يقول الضابط صبحي العمري ، وهو من الذين شهدوا المعركة :

( وقد اضطرت القيادة التركية للاعتراف بأنها تقاتل جيشاً ، يعاونه شعب شجاع ، يقاتل على أرضه ودياره بشعور قومي ، وبقلوب جرّحها الأتراك وظلّت معادية لهم )

  موقف القيادة التركية بعد سقوط الحامية

 معلوم من خلال وقائع الحرب أن الطفيلة واحدة من الأهداف التي يحرص عليها الأتراك فهى منطقة تقع ضمن الخط الأحمر بالنسبة لهم خاصة في ظل موقعها الاستراتيجي و خبرة أهلها في انتاج و تصنيع مادة ملح البارود ذات الأهمية الاستراتيجية في النزاع العسكري آنذاك؛ لذا تركز الهجوم عليها لأهميتها الكبيرة .

ويذكر العماد طلاس أن سقوط الطفيلة أثار قلق الأتراك ، وصاروا يخشون أن يحدث الاتصال بين الجيش العربي في الأردن والجيش البريطاني بالقرب من بلدة مادبا، وخوفاً من أن تبادر قوات الثورة بمهاجمة الحامية التركية المحتلة في الكرك وهي مركز متصرفية ومنطقة تموين مهمة للأتراك .

وهكذا بدأ الأتراك يستعدون لتنفيذ ما يرونه وبحملة عسكرية انطلقت من عمان لإعادة احتلال الطفيلة وبقيادة الأميرالاي حامد فخري .

الحملة المهاجمة

انطلقت الحملة التركية من عمان واتجهت إلى الجنوب بواسطة القطار فوصلت إلى محطة القطرانة ، واتجهت عناصرها غربا إلى الكرك . وحامد فخري قائدها هو أركان حرب ، و يطلقون عليه في المحافل التركية ( فاتح بخارست ) عاصمة رومانيا حينما احتلتها القوات الألمانية ومعها فرقة تركية بقيادة حامد فخري ، ويحمل وساماً ألمانياً رفيعاً . وكان معه وهو يتجه إلى الطفيلة قوة متميزة من الجنود المدربين والضباط الأكفياء بأسلحة حديثة، وفي مصطلحات الأتراك العسكرية يطلق على هذ القوة ( مرتب فرقة ) أي فرقة منتخبة .

وواكب  الفرق الزاحفة على الطفيلة مفرزة من قوّات ” الجاندرمه ” في الكرك بقيادة الملازم محمد الحموي ويشير الضابط صبحي العمري إلى ” أن حامد فخري كان في الأصل قائد الفرقة ( 16 )  في الحرب العالمية الأولى ثم نقل إلى الفرقة ( 48 ) التي أرسلت إلى سوريا ليعهد لها حماية الخط الحديدي الجنوبي من عمان حتى الفريفره، وعندما اتجه إلى الطفيلة كان معه من المشاه ( 1500 ) ، ثم سرية خيالة وبطارية مدفعية ، وسريّة هندسة وسرية نقل ، ومخابرات وخبازين وسرية مقر ، وقوة من درك الكرك فيصبح المجموع ما لا يقل عن ألفين ” .

المعركة والتوثيق لها

 لم نقرأ عن معركة اختلف فيها من كتبوا عنها وفي العصر الحديث مثل هذه المعركة . وهذا ليس بخاف على من يقرأ في مراجعها حين يجد التناقض والخلط في الأحداث والمواقع والإحصائيات والتاريخ وكان من كتبوا عنها صنعوا معركة على هواهم واتفقوا على اتهام لورنس بالكذب لكنهم حذفوا ما يخصه من ضمير المتكلم وأخذوا معظم ما دونه فى أعمدته السبعة وحتى الخريطة التي رسمها للمعركة ، وهندسها من خياله ، وسيّر فيها محاور التفاف لم تكن أصلا ؛ أخذوها على أنها حقيقية.

بداية المعركة

ما أن وصل حامد فخري مشارف وادي الحسا حتى بدأ بممارسة تهديده وبواسطة مدافعه ( القدرتلي ) والتي أصابت ثلاثة مواقع في الطفيلة ، وهي :

– القذيفة الأولى وجهت لوسط بلدة الطفيلة لتعلن وصول الطوابير التركية .

– القذيفة الثانية أصابت قرية عيمة وفي جانبها الشمالي .

– القذيفة الثالة أرسلت متأخرة إلى بصيرا .

وكأن ما حدث هو إيذان بإعلان المعركة ، وبقي أهل الطفيلة في البلدة  ولم يغادروها إنما استعدوا للمواجهة بأسلحتهم ، فتشاور كبارهم لمقابلة الأمير زيد في في خاصرة الطفيلة الجنوبية يمدون له يد العون . وكانت قذائف مدافع الأتراك تلك قد انطلقت مساء ٢٤ / ١ / ١٩١٨ ومن وادي الحسا – شمال الطفيلة ، ثم ارتاحت القوات التركية المحتلة تلك الليلة في بطن الوادي، فرجالها من مجموعات المشاة جاءوا راجلين.

كذبة لورنس

وليس صحيحاً ما ذكره لورنس عن أهل الطفيلة . . . إذ يرد الأستاذ سليمان الموسى بالقول على كذب لورنس : ” ويقول لورنس أن الذعر دب في صفوف الأهلين ، وهذا غير صحيح ، لأن الأهلين كانوا منذ عصر اليوم السابق وطوال الليل يقاومون العدو بشدة ، ويحولون دون زحفه بسرعة – كما يعترف لورنس نفسه –  فكيف نوفق بين الذعر والاستعداد للفرار من جهة ، ، وبين المقاومة الجريئة من جهة أخرى ؟ ” .

 

 معسكر الأمير زيد

35

قوات الثورة العربية الكبرى تعسكر في الطفيلة

 كان قدوم الأمير زيد إلى الطفيلة من وادي موسى ، فاستقر جوار نبع ماء – عين حاصده – جنوب الطفيلة ، حيث حاجة المعسكر للماء، ورغم أن الأمير زيد قد وصل الطفيلة يوم 16/1/1918 إلا أنّه كان جوالاً، وأقام بعد ذلك فترة في وادي موسى ثم عاد إلى الطفيلة فوصله نبأ زحف القوات التركية فشعر بشيء من الحيرة حين بلغه ما روي عن ضخامة القوة الزاحفة كما يشير لذلك سليمان الموسى فبادر برسالة إلى أخيه الأمير فيصل، و في الرسالة الطارئة من الأمير زيد إلى الأمير فيصل في القويرة، ينبئ أخاه فيصل بزحف الأتراك، وطلب منه العمل على إمداده، وكانت خطته تقضي بالإنسحاب إلى وادي موسى فيما إذا لم يتمكن من صد الأتراك، أما رأي الأمير فيصل فكان أن يستعين الأمير زيد بالشيخ ذياب العوران لحشد المقاتلين، وأيضا الإغارة على السكة التي هي شريان المواصلات الرئيسي للأتراك ومصدر نقل اسلحتهم و سجنائهم من أهل المنطقة و الثوار، و بالتالي فالاستيلاء عليها سيؤثر على سير الحرب .

القوة التابعة للأمير زيد

لم تكن تلك القوة في الطفيلة كافية بحيث تستطيع أن تواجه قوة الترك  مباشرة في الميدان، فالنظاميون كلهم لا يزيد عددهم على ستين وهم – كما يقول الموسى –  جنود الرشاشات الأربع يقودهم الملازم صبحي العمري ، وجنود المدفعين الجبليين اللذين لم يكن مع كل منهما سوى ثماني طلقات ، وإثنا عشر خيالاً وعدد من المتطوعين المحليين يقدر عددهم بخمسين رجالا.

 موقف أهل الطفيلة

بعد أن تواردت أنباء الحملة التركية من وادي الحسا اجتمع شيوخ الطفيلة ومعهم ذياب العوران وعقدوا أمرهم على نصرة الثورة ، فتوجهوا إلى مخيم الأمير زيد واحتشدوا ظهر يوم  ٢٥ / كانون الثاني بعدد يزيد على الثلاثين من كبار عشائر الطفيلة وهم خيالة وتبعهم راجلون وطلبوا من الأمير أن يتجه معهم بقواته لمرتفع الطفيلة – العيص لمواجهة الترك فأكد لهم بأنه لا يستطيع أن يغامر بالمدفع أوالمدفعين وهي كل ما يملك للدفاع عن المدينة و أهلها، كما أضاف أن ذخيرة مدافعه ضئيلة جداً، غير أن رجال الطفيلة ألحوا عليه للمواجهة الفورية و القتال فتريث قليلاً في اتخاذ قراره العسكري . ويقول المؤرخ سليمان القوابعة في روايته عن صاحب المذكرات : « وحمداً لله أنه كان في دماغ أحد الرجال ( قسم الثورة ) فبادر بصوت عال ونطق ؛ .« لسان حالنا جميعاً أيها الشريف ومعنا أطفالنا و الصبيان كما تراهم ؛ نقسم بالله العظيم أن ننتظر حين تنتظر ، وأن نسير حين تسير ، وأن لا ندين للترك بطاعة ، وأن نحسن معاملة من يتكلم العربية ، وأن نجعل الاستقلال فوق حياتنا وأهلنا وأموالنا »، وزاد في الكلام رجل آخر فقال : « يا صاحب الشرافة ونزيدكم خبراً إن رجالنا المقيمين في وادي الحسا من البارحة وحتى صباح اليوم يقاتلون الترك فتوكّل على الله ».

ويضيف صاحب المذكرات كما ينقل عنه القوابعة ، وعند ذلك تهلل وجه الأمير وقد رأيته شاباً سمح الوجه في مطلع شبابه وربما لا يتجاوز السابعة عشرة؛ وعندها قال الأمير زيد : نعم..نعم..نعم ” كناية عن جاهزيته التامة للبدء في الهجوم ” ؛ فيقول صاحب المذكرات :  ( وحينها بادرت أنا والشاويش احمود الرفوع بتسجيل من تطوع، وانتظرنا ساعات حتى كثُر الرجال وكنا نخيّرهم بين متطوع حر معي أو جندي نظامي يسجله الشاويش أحمود الرفوع وهو قائد فصيل – فئة – ) وهكذا فإن قوات الأمير زادت كثيراً بمتطوعي الطفيلة والمنتسبين لجيش الثورة من البلدة وقراها.

139

قوات الثورة العربية الكبرى على إحدى مرتفعات الطفيلة أثناء عمليات تطهيرها من الاحتلال التركي و تظهر الدخان المتصاعد من البيوت جراء قصف المدفعية الألماني و النمساوي

 

أول المعركة في وادي الحسا       

كان أول لقاء للقوات التركية مع أهل الطفيلة  يوم 24/1/1918 وحتى آخر الليل في سفوح الوادي وكانت المواجهة قد فرضت على الطرفين  وهناك كما يقول سليمان الموسى « فإن المعركة فرضت نفسها فرضاً ، فرضها الأهلون المسلحون بالبنادق الذين كانوا يترصدون جنود العدو في هضاب وعرة يعرفونها شبراً شبراً فيقتلونهم ويغنمون سلاحهم، وهم لخفتهم لا يخشون ملاحقة العدو لهم، وما يجدر ذكره أن الأسلحة كانت متوفرة بين أيدي الأهلين حتى كان معظمهم – شيباً وشباباً- يحملون البنادق » .

 

الطريق إلى موقع معركة حد الدقيق

حين انطلق الأمير زيد من مخيمه جنوب الطفيلة وهو مطمئن لرجال الطفيلة الذين معه و شكلوا نسبة كبيرة فى قواته كان الوقت قد تعدّى منتصف النهار ولما واصل سيره باتجاه الشمال وتعدّى البلدة حطّ على مرتفع شمال مرتفع العيص في موقع يدعى خربة ( نوخه )  ومع وقت ميل الشمس، يقول المؤرخ منيب الماضي :  ( كانت قوات الأمير زيد النظامية قد اتخذت فى البداية مراكزها إلى الجنوب من المدينة ، ولكن بعد أن بدأ سوء تقدير الأتراك فى إدارة دفة المعركة، وفي تنسيق خططهم عادت هذه القوة – التابعة للأمير- فأتمت حركتها هذه في الساعة الثالثة بعد الظهر ، وبذلك أحكم الطوق
حول الأتراك من ثلاث جهات، وبعد أن أوقف العرب تقدّم العدو تحولوا للهجوم على جنوده بجرأة وبسالة ).

 مسار القوات التركية

أمضت هذه القوات وقتاً من ليلة 24/1/1918 في وادي الحسا وقد تعرضت للرصاص من الفلاحين في المنطقة وأهل القطعان القاطنين في المنحدرات الذين أرادوا المساهمة بإمكاناتهم في عمليات الثورة ومقاومة الاحتلال التركي، يقول المؤرخ القوابعة : ولما سألنا الرواة المقاتلين ،  كيف كنتم توجهون بنادقكم على الأتراك في العتمة ؟ ، كانت إجابتهم : ” شاهدنا الجنود حول النيران التي أوقدوها في بطن الوادي وهم يتناولون عشاءهم، ورغم ذلك أوقعوا بنا ثلاثة شهداء وبعض الجرحى وظلت الرماية بيننا على فترات، أما إصاباتنا فكان سببها نيران بنادقنا التي كشفتنا للعدو،  ولما أدركنا ذلك تنادينا للرمي خلف الصخور، وعلى أي حال كانت إصاباتنا أقل بكثير مما أصابهم ، ولمسنا ذلك بعد أيام عندما عدنا إلى مهاجعهم وشاهدنا كثرة الدماء قرب الجسر الذي سمي بجسر الشهداء ” .

ومع الفجر تحرّكت القوات التركية لتمس وادي اللعبان السفلي تاركة جبل التنور إلى يمينها ، ثم مالت غرباً لتترك وادي اللعبان فأشرفت على وادي الحسا من سفوحه الجنوبية وصعدت باتجاه الجنوب بمسارين متوازيين بعض الشيء :-

  • مسار استخدم طريق روماني مرصوف ويستعين به الخيالة والبغال التي تجر المدافع وتنقل الذخائر والأمتعة ومواد الإعاشة.
  • مسار إلى يسار المسار السابق تشوبه الوعورة وسَلَكهُ المشاة ، ويلتقي المساران قبل أن يصلا ( رجم كركا ) .

 

معركة الدقيق واحدة من صور البطولة

ما أن ابتعدت تلك القوات عن وادي الحسا بحوالي أربعة كيلومترات وفي حد الدقيق؛ حتى كانت عناصرها هدفاً للمدافعين من سكان المنطقة الذين انتشروا خلف الصخور وأكثرهم قناصة ورجال صيد يجيدون التخفي ، وظهر لهم الجنود الأتراك كأهداف واضحة مع مطلع الفجر ، وهناك في درب شديد الوعورة وفي ( فرز حد الدقيق ) أجهز الرماة على الغزاة الذين ارتبكوا لكثرة الإصابات بينهم وأخذتهم الحيرة بين إخلاء القتلى والجرحى ووعورة الطريق وعدو لهم لا يرونه ظاهراً، وفي ذلك يقول سليمان الموسى :  ” وبعد منتصف الليل بقليل بدأت القوة التركية تصعد في الجانب الجنوبي من الوادي على أمل أن تبلغ السهل عند الصباح ثم تتقدم لاحتلال البلدة . . . فى في تلك الليلة بدأت معركة الطفيلة لأن عشائر البدو والأهلين الذين يلجأون عادة إلى دفء الوادي في فصل الشتاء أخذوا ينقضون على أطراف القوة التركية الزاحفة ويوقعون بأفرادها ودوابها هجمات مفاجئة تبعث
الارتباك في الصفوف وتؤدي إلى وقوع الخسائر ».

T1

مقاتلو الثورة العربية الكبرى من فرسان ووجهاء عشائر الطفيلة

 وكان الشهداء الكثر في هذه المعركة هم من منطقة الطفيلة وحدها، وهم وحدهم من واجهوا الغزاة في هذه المعركة الصعبة وبصور من بطولة الثوّار الذين أنهكوا طوابير الترك فبدت مهزومة أصلاً.

 تناقل الناس الأخبار ، وتوافد مقاتلون آخرون عندما سمعوا بثبات سكان الوادي وتصديهم بجرأة للغزاة فأصبحت منطقة حد الدقيق ميدان معركة بحق، وأشكل الأمر على القائد حامد فخري إذ كيف يتعامل بجثث القتلى الأتراك وطوابيره يثقل عليها المدافعون، ولدرجة أنّ بعض الجثث تركت في مواقعها وقام الريفيون بدفنها في الأيام التي تلت فبدت هناك مقبرة ، أما شهداء الطفيلة فكان إخلاؤهم يتم في حينه.

 ويقول الضابط صبحي العمري : ( وكانت آخر الأخبار هي أن العدو اجتاز سيل الحسا وهو يتقدم نحونا وأن العشائر الأردنية تتلاحق لملاقاته من جميع الأطراف ) .

 

 معركة جبرونه واشتراك رجال عفرا

عندما التحم المدافعون من رجال الطفيلة مع العدو في معركة حد الدقيق وصلت أخبار القتال من سكان         ( عيون غزلان ) و ( الثمد ) إلى أهل منطقة عفرا الذين تنادوا بأسلحتهم فاتجهوا شرقاً والتحقوا بالمدافعين في نهاية المعركة، ثم تابعوا صعود القوات التركية إلى مرتفعات ( جبرونه ) يسعفهم في ذلك وعورة الأرض وشعابها وصخورها التي أعانتهم في التحصن فاستوقفوا تقدم القوات الأخرى وأوقعوا فيها عدة خسائر وإن استشهد بعض المدافعين من عفرا ؛ وبدت هذه المعركة التي يسميها البعض بـ ( معركة الدعيقة )   وكأنها طرف من معركة حد الدقيق .

وبعد أن بدأت القوات التركية تتخلص من مرتفعات وادي الحسا وأودية جبرونه وتصل إلى المناطق المتموجة فإن الرماية عليها قد خفت ولكنها لم تسلم من الخسائر، وهكذا قد يعثر المتجول بين أطراف المنطقة على بقايا عظام بشرية من جراء ما حدث وما أن وصلت الطوابير التركية إلى الأراضي السهلية في كركا وبعد رجم كركا حتى شعرت بشيء من الراحة .

رجم كركا مخيم طارئ

وهذا الرجم هو قصر روماني في الأصل، ويقوم على أرض كاشفة لجوارها، إنه بناء قديم من حجارة صوانية لحراسة ما حوله وإن ظهر اليوم على شكل كومة من حوائط مهدّمة ويعتمد في سقايته على بئر تجميع مياه الأمطار،  وهي أشبه بصهريج أرضي متسع ، واستطاع أدلاء الحملة التركية أن يرشدوا القائد إلى المكان فارتاحت الحملة هنالك لساعة وتزودت بالمياه وشربت الخيل والبغال واكتفى المشاه حيث توحدت مسارات القوات التركية، وأصبحت وجهتها جنوباً ولمسافة بضعة كيلومترات ليرى قائدها التركي كيف يواصل الطريق لاحتلال الطفيلة، وبعد ذلك وصل إلى مرتفع يسمى ارجوم النصر – الإسم الجديد للمكان بعد النصر في المعركة – ولكن المنطقة عادت إلى تعقد تضاريسها فاستعادت الرماية نشاطها ولحق الثوار قوات العدو من الخلف .

وهنا نقف عند خبر للمسارات مزعومة وما سمي ” حركات التفاف ” اختطها  لورنس في تقريره الذي بعثه إلى لندن في اليوم الثاني من معركة ارجوم النصر وأعطاها اسم ( معركة الحسا ) .

معركة ارجوم النصر ( التصفية )

يرتفع هذا المكان ( 1200 ) متر فوق مستوى سطح البحر، وهو موقع كاشف ومسيطر ، ويأخذ مشهد هضبة تسيطر على ما حولها أي على السهل المنخفض الذي يمتد أمامه نحو الجنوب حتى يصل إلى مرتفع يقابله هو خربة نوخه ، ويدعى السهل ب ( أبو الشوك ) واجتازته القوات العربية باتجاه بقايا العدو نهاية المعركة . وفي ارجو النصر الذي استقرت فيه القوات التركية يشرف على سهل يمتد جنوبا بثلاثة كيلومترات وينتهي عند مرتفع نوخه حيث مخيم الامير زيد ومعه قواته العربية ، فالقوتان متقابلتان إذاً.

 لا شك أن المكان اشترك في البطولة مع الرجال ، حيث قامت قوات من الخيالة بالتقدم نحو القوات التركية لتضرب ميسرة العدو الذي بات مسيطراً بمدافعه ورشاشاته من علٍ،  حيث حاول خيالة عشيرة الجازي التقدم باتجاه العدو لكنهم اضطروا للارتداد أمام نيران الترك ، ويقول سليمان موسى في هذا الصدد : ( أخذ الأتراك ينظمون صفوفهم على التلة، ونصبوا المدفعين والرشاشات، وأخذوا يطلقون منها القذائف،  و تراجع خيالة الجازي إلى التلة التي تعرف باسم  خربة نوخه ) .

هكذا لم يستطع أحد الطرفين أن يتقدم نحو الآخر فكل واحد منهما ومن مرتفعه يترصد الآخر وسيوقع به إصابات إذا عبر السهل الواصل بينهما ، ولكن الذي أشغل الترك بعد أن استقروا في ارجوم النصر هو أن رجال منحدرات جبرونه وحد الدقيق وعفرا لاحقوا القوات التركية وتوجهوا من خلال المنحدرات الغربية وبعضهم صعد من منحدرات اللعبان الشرقية أي تسللوا مع السفوح الوعرة من يمين وشمال قوات العدو التركية التي شاغلوها وهي تنتظر قليلاً ، فكيف ستتعامل مع مخيم قوات الثورة المقابلة لها في خربة نوخة ؟ . حاولت قوات الاحتلال التركي أن تطلق قذيفة وحيدة لتختبر قوات الثورة، فردّ عليها مقاتلو الثورة في مخيم نوخه بأول قذيفة لكن أحد العسكريين العرب طلب إيقاف الرمي فالمنظر يوحي بأن الثوار من مدافعي الطفيلة على مقربة من الجنود الأتراك فربما يتضررون، و بالتالي فالمدافع من الطرفين لم يكن لها دور فاعل حتى الآن » .

 يقول صبحي العمري : ( إن وصول البدو والفلاحين متفرقين على هذه الصورة ومجيء بعضهم من خلف العدو ومن داخل الوادي الذي كانوا يقضون فيه موسم الشتاء جعل الجيش التركى داخل حلقة كاملة الانطباق لا يمكن الشعور بها إلا من خلال ما كان ينهمر عليه من طلقات تنسكب من كل جانب الأمر الذي أخل في نظام سيره فأعاق تقدّمه وشوّش كل ما في تفكير قائده من أهداف وخطط » .

أما في مخيم الأمير فظل الترقّب سيد اللحظة وهنا يشير صبحي العمري : ( وهناك شاهدنا الأمير زيد ومن معه متسترين خلف بعض المرتفعات موجهين مناظيرهم نحو العدو، وكنا نسمع أصوات رمي البنادق تأتي من بعيد ومن اتجاهات مختلفة وتقدم جعفر العسكري إلى المحل الذي نحن فيه وقال : لاحظوا إنّ العدو توقف عن التقدم،  ويظهر أن البدو والفلاحين ضايقوه من جميع أطرافه، وهم لا يزالون يتكاثرون ) .

رجال عيمة يرفدون المدافعين

جاء المدد للمدافعين وقت الظهر من قرية عيمة وتوابعها في حينه – إضباعه وارحاب – ، وأفادنالمؤرخ القوابعة بذلك  من قاتلوا في المعركة ؛ حيث قالوا أن ( الشيخ ذياب العوران وصل عيمه واجتمع مع أهلها ثم حاول أن يزودهم بما يحتاجونه لكنهم رفضوا ، إنما استعدوا للنخوة وبعدد زاد على مائة مقاتل فاتجهوا شرقاً نحو مرتفعات وادى صافح فاستقروا في مرتفع  ( خربة السبعة ) ليقابلوا العدو شرقيهم في ارجوم النصر وعلى بعد أفقي يقارب ٣ كيلومتر، ومع هذا البعد لم تستطع بنادقهم أن تؤثر في ميمنة القوات التركية، ورغم ذلك واصلوا الرماية، وبعضهم تسربوا عبر مجادل وغيرهم سلكوا منحدرات ( اطماج والمقير ) فالتفوا خلف ميمنة الترك وصادفهم ثوّار آخرون من الطفيلة راقبوا زحف الأتراك.

T2

عدد من فرسان عشائر الطفيلة أثناء عمليات الترقب و الاستطلاع للقوات التركية الغازية

وأضاف الرواة : ” نحن كنا حزمة ، ولم نسمح لأحد أن يقودنا ، نعم توجه بعضنا قبل نهاية المعركة ، وعملوا التفاف من خلف الترك ، ومع آخر
المعركة اشتركنا في تجميع الأسرى، بعد أن جردناهم من بنادقهم ثم عدنا إلى شهدائنا في خربة السبعة، وحملناهم ليلاً ومعنا رجالنا الجرحى ، وهبطنا غرباً إلى عيمه وارحاب واضباعه،  وفي الصباح قمنا بدفن الشهداء في مقبرة عيمه ” .

 لقد كان لتواجد ثوار عيمة في خربة السبعة ومساراتهم عبر مجادل ومنحدرات مجاورة لها من شمال – اطماج والمقير – الدور الفاعل الذي اقترن بعفوية في رفد ثوار الطفيلة الذين توغلوا في صفوف العدو و ومن خلفه وميسرته وميمنته حيث تجرأوا عليه من قبل في حد الدقيق وجبرونه وعفرا واطراف كركا . وتابعوا مسير قواته؛ تساعدهم بذلك سرعة الحركة وطبيعة الأرض التى يعرفون تفاصيلها كما التحق بهم من الشرق أيضاً مقاتلون من عشائر الطفيلة من مناطق ( المشميل ) ) و ( أم أوبير ) ، واشتد القتال على العدو من من جميع الأطراف وقائد القوات التركية المعادية شعر بالضيق والارتباك . وكما قال بعض أسراه من الضبّاط  – إنه صرخ : ( لقد قضيت أربعين سنة من عمري في الجيش ولكني لم أشاهد ثوار يقاتلون كما يقال هؤلاء القوم ) .

و يقدم المؤرخ القوابعة نصا لصاحب المذكرات يورد فيه ما أكده قائد الفصيل حيث يقول :

” حاولنا أن نرسل أربعة خياله للقرى الجنوبية لاستنهاض الهمم ونحن نصعد لموقع خربة نوخه فحطّ علينا تباعاً أهل نخوة وقت اشتداد المعركة فى الوقت الذي واصل فيه رجال عيمة الضغط على ميمنة العدو”، وتوالت أحداث نهاية المعركة وقبل مغيب الشمس . . . وفي هذا الوقت أيضاً فإن أعداد المقاتلين تجمعت كروافد من قرى بصيرا وصنفحه وتوابعها وضانا، وكان في مخيم الأمير زيد عدد من اللاجئين الأرمن كما عاد إلى الطفيلة عناصر من عشائر حويطات الجازي أولهم الشيخ حمد بن جازي الحويطات والفارس متعب بن عبطان وأخوه عناد وآخرون .

 نهاية المعركة

يقول صبحي العمري : ( حين توغل المقاتلون في مواقع القوّات التركية ارتفعت أصواتهم بالتهليل وهجموا على جنود العدو فانفرط عقد الجنود وكثرت الإصابات فى المفرزة التركية ، وسرت عدوى الانفراط بصورة غريبة بين جنود المفارز الأخرى- بسبب الخوف و عدم شعورهم بشرعية وجودهم على الأرض- حتى أن الرشاشات تُركت مكانها وارتفع الصياح من الجانبين.

 فوجىء حامد فخري بما حدث، فامتطى صهوة جواده وطلب من أركان حربه ورجال قيادته أن يحملوا بنادقهم و يدخلوا الصفوف ليحاربوا مع الجنود، لكن القائد قُتل وبعد ذلك انفرط عقد القوة بأجمعها – ويضيف العمري – وقد قال أحد الضباط الأسرى أن القائد حامد فخري عندما ارتبك ، قال لمن بقربه هذه الجملة : ” هؤلاء العرب جعلوا قوانين الحرب عاليها سافلها “.

  

 من قتل القائد التركي حامد فخري ؟

ذكر بعض من قاتلوا أن الثوار الذين توغلوا في سفوح ارجوم النصر كانوا يسألون بعضهم : من منا سيفوز بقتل القائد الذي توعّدنا بسيفه ؟،  لذا كانت هناك منافسة حلّت ، فمن سيربح ويسبق غيره ؟ ومع الزحف أشهر  أحد القنّاصة نفسه للمهمة فكانت رصاصته فى عنق القائد التركي الذي سقط بلا وعي عن ظهر حصانه،  و هكذا أنهى الثورة مشروع القائد الذي أراد أن يضع سيفه في رقاب أهل الطفيلة الذين وقفوا مع الثورة، ومنهم المقاتل القناص ( حسين أحمد محمد القرعان ) الذي قتل القائد التركي حامد فخري.

 هذه هي النهاية التي أوقفت التجريدة الغازية، وكان للإرادة و الثبات الدور المهم ، وفي المرتفع الذي امتلأ بالقتلى تم تجميع الجثث بين الصخور ورجومها ، وسمي المكان ( ارجوم النصر ).

 ومما يروى أن أحد الرجال وصل جثة القائد واستل سيفه، ورجل آخر نزع ملابس حامد فخري ولبسها ، واتجه إلى الأمير زيد في نوخه.

39

عدد من مقاتلي الثورة ( فرسان عشائر الطفيلة ) بالقرب أثناء مراقبة القوات التركية الغازية

يقول صاحب كتاب لورنس والعرب : ” وأجمع الذين تحدثت إليهم أن المعركة كانت معركة شعبية أشبه ما تكون بحروب الأنصار ” . وينوه لذلك
صاحب المذكرات: ” إن معركة الأمس التى حدثت في 25  كانون الثاني من لعام 1918 م،  التقى فيها رجال ثوار وصبيان طوارئ وشباب في مطلع الرجولة يمارسون القتال بشغف، ونساء يشاركن في الحدث للضرورة، وكأن سكان البلدة وقراها وجيرانهم من العشائر البدوية يتداخلون ويلتقون معاً في صلاة غروب من شهر مبارك وفى مشهد صارم ومثير  “.

يقول الضابط صبحي العمري في أوراقه عن المعركة : ” ودب الصوت بين أهل البلدة، و ( دب الصوت ) يعني أن يصرخوا بأعلى أصواتهم يحثون الرجال للذهاب للقتال، ويكرره كل من يسمعه من رجال ونساء ، وينتقل من جماعة الأخرى، ويسيرون نحو المكان المقصود جماعة، بل كل واحد ممن يسمع الصوت يتناول سلاحه، و يأخذ أولا شيئا مما تعطيه له أمه أو زوجته من الزاد ويتوجه فورا،  واذا كان المكان غير بعيد فإن بعض النساء يتعقبن الرجال بالماء ” .

نساء الطفيلة و حرائرُها يخلين الجثث

يتطرق صاحب المذكرات لفعل النساء أيضاً في المعركة : ” وكنا نشاهد امرأة هنا تعبر الطريق ذاهبة وأخرى قادمة في مهمة، وكل واحدة تشد مدرقتها بحزام، تعين جريحا أو تنقل جثّة قريب لها، إن دور النساء أملته الضرورة و الأهمية لوجودهن، فكل رجال البلد في حومة الحدث ، وكل من رأيت يشدّ وسطه وصدره بالرصاص » .

ويشير العمري لمثل ذلك في أوراقه وهو مع الأمير زيد وجعفر العسكري ومن معهم، وهم يتوجهون للوصول إلى إقامة مخيمهم في خربة نوخه  ” واثناء الطريق مرت بنا امرأة تسوق حمارا يحمل جثتين ملفوفتين بعباءتين، تسوق الحمار وهي تئن بصوت مختنق ، ولما سألت النساء الأخريات قلن : – إنهما جثتا زوجها وأخيها قتلتهما قنبلة مدفع تركي “. وإذا استشهد مقاتلون في المعركة أو جرحوا فإن النساء المتواجدات في المعارك قد أصابهن ذلك أيضا كما سننوه له في قوائم الشهداء والجرحى.

نص من الرسالة الثامنة

رسالة من الأمير زيد إلى الأمير فيصل،  الطفيلة : ( ٢٥ / ١ / ١٩١٨ م ) .

” العدو تعرض علينا من وادي الحسا إلى أن وصل خطوط مدافعة الطفيلة، وبعد محاربة ٢٤ ساعة هجمت عليه جنودكم البواسل وكسرته شر كسره ،  الاغتنامات مدفعين من القدرتلي وسبعة رشاشات . الأسرى بلغ مقدارهم ماية جندي وخمسة ضباط . التفصيلات تردكم بعده  ” .

وهذه الرسالة  تم إبلاغها للأمير فيصل مساء يوم المعركة وقبل الإحصاء الكلي النتائج، لذلك نكتشف لاحقا أن الرقم زاد عن ذلك

 نهاية المعركة والاحتفال بالنصر

 اقتربت الشمس من المغيب والغيوم تغطي فضاء الجبال . . . وكانت لحظات الهزيمة موجعة للعدو التركي ، يقول الضابط صبحي العمري فى كتابه – لورنس كما عرفته – : ” شاهدنا الأتراك يلقون بأسلحتهم ويتراكضون والقرويون من خلفهم يقتلون من لم يلق سلاحه ويجمعون ما وصلت إليه أيديهم مما تركوه، ولم يكن أمامي شي أفعله، لأن الرمي أصبح غير ممكن ، فالقرويون قد اختلطوا بالأتراك من كل جانب وخط دفاع العدو انفرط عقده ، والبدو والقرويون يتعقبون المنهزمين من كل طرف”.

أما ما يقوله الضابط محمد علي العجلوني في كتابه – ذكريات عن الثورة العربية الكبرى  :-

” وقبل المساء أطبقت خيول العشائر ، على جنود الفرقة المهاجمة من جهاتها الأربع وأصابت حامد فخري رصاصة فى رأسه خر صريعاً على أثرها،  وتحطمت مقاومة العدو تحت ضغط المهاجمين الشديد عليه وأبيدت الفرقة إبادة تامة ولم يبق منها إلاّ تسعة وعشرون ضابطاً وما يقرب من المائتي جندي استسلموا أسرى ، وفر أفراد الدرك.  وما رواه لي البكباشي كنعان أحد الضباط الأسرى إن ما لقوه في هذه المعركة أذهلهم وهم الذين خاضوا المعارك فى كثير من الجبهات الحربية، وكانوا لا يتوقعون أن العرب يستطيعون إدارة الحركات الحربية في مثل هذه المهارة ، ومما رواه أن حامد فخري قبل مصرعه بدقائق كان يصرخ بملء صوته قائلاً : إن العرب أفسدوا نظام الحرب وأورد الضابط التركي الأسير في صدد ذلك كلمة تركية غير جديرة بالذكر يشتم بها العرب » .

لحظة الانتصار

مما يذكره صبحي العمري في نهاية المعركة : ” وبينما كنا في حالة نكاد نطير فيها من الفرح عقد جنودنا حلقة رقص وراحوا يغنون ويرقصون ” ، أما صاحب المذكرات التي عرضها المؤرخ القوابعة  فقد أورد التفاصيل بشكل أكبر قائلا :  ” بعد فرار عدد قليل من جنود وضباط العدد ومن معهم من متطوعين باتجاه الكرك، وبعد سيطرة الثوار على مخيم الترك وحراسة أسلحته الثقيلة أقبل علينا أربعة خياله يغنون وكأنهم في سباق أثار استغرابنا في مخيم نوخه وبشروا الأمير زيد بالنصر، وطلبوا منه أن يتفضل لمشاهدة الأسلحة واستلامها مع الأسرى، وفي تلك اللحظات تفاجأ الأمير ولم يجب ، بل أمعن في التفكير ثم التفت إلى جعفر العسكرى قائد قواته وإلى عبدالله الدليمي و راسم سردست، وسادت لحظة وجوم خيمت علينا في المخيم،  ثم بادر أحد الخيالة الذين قدموا بالقول : ” السيد الأمير، المعركة انتهت، وأنت في أمان ” ، وعند ذلك سأل الأمير عن المدافع التركية؛ فأجابه أحد الخيالة : ” المدافع عليها حراسها”، وكأن الأمير ظن أن الأمر فيه خدعة من العدو لاستدراج الامير ومعاونيه،  وهنا بادر القائد العسكري فوجه كلامه إلى سردست والدليمي والعمري أن استعدوا، وقد اختلوا في خيمة مع الأمير، ثم عادوا إلينا فنهض الجميع ووزع القائد العسكري القادة بين ميمنة وميسره وفي حالة تأهب ، ورافقنا حمد بن جازي وخيالته الستة وهم من الجازي أيضا، وانطلقنا جميعاً في حالة الحذر ولكن الجميع مستعد لأي مواجهة تأتي، وبادر القادة بالقول: ” أرواحنا فداء لك سمو الأمير ”  وكذلك صرخ الشيخ حمد بن جازي بالنخوة ، وما أن سرنا بضعة أمتار إلأ وأقبل علينا رجل مقاتل ينادي : ” يا أمير زيد أنت تشوفني قلعت اهدومي ، ولبست اهدوم قايد العدو-يقصد ملابس الجنرال التركي حامد فخري- ، وهذه نياشينه هدية لك يا زين الشباب ” ، هنا تورّد وجه الأمير واختلف مزاجه وأيقن أن النصر جاء في وقته.

69

مقاتلو الثورة من فرسان العشائر الأردنية  يحتفلون بانتصاراتهم في معارك الثورة العربية الكبرى

 وانضم إلى المسيرة جماعة قدموا من موقع مخيم العدو التركي، وهنا انطلقت الحناجر بالغناء وزغاريد الرجال فبدت البشائر تنهال علينا، والخيالة الذين وفدوا علينا راحوا يغنون للأمير :

يا زيد وانزل بالسهل      حنّا العباة الضافية

نعلي البيارق في اللظى    نحميها وهي الغالية

يازيد حنّا رجالك

والأمـــر بيـدك يازيد

يازيد وانزل يمّنا       بأرض الطفيلة العالية

والعهد كار إرجالنا       فى إجبالنا والبادية

يا زيد حنّا رجالك

والأمر بيدك يا زيد

142

الأمير زيد بن الحسين يتحقق من أحد مدافع canon 75mm فرنسية الصنع تابعة للقوات النمساوية والتي غنمتها قوات الثورة جراء عملية تطهير الطفيلة من القوات العثمانية و حلفائها

و هنا اطمأن الأمير فتولته حالة هياج واندفاع يسابقه خيّال ملثّم من من ثوّار الطفيلة يحمل راية انتزعها من مخيم الأمير، ورفعها على فوهة بندقيته يسبق الجميع ويخاطبه الأمير زيد قائلاً : ” هدّي يارجل “، فيردُّ الفارس الملثم على الأمير بالقصيد وهما في سباق :-

وتقُلِّ لي ” هدّي ” يا الشريف     وأنت الهويان تناديهـــا

هالراية وعينك نشريها        ونعيـــــد الهيبة وماضيها

والخيل إتصايح حاديها     لترد المحنة وراعيها

وراعيها ضايع في لحده  والقصة تسمع تاليها

وتنصاني هدي يا الشريف  والحرب تواجه صاليها

وش لك بالـــــــروح إدّاريها  لا صـار المــــــوت يباريها

وتزداد نشوة الأمير زيد وهياجه فيرد بالقصيد على ذلك الملثّم الذي يجاوره :

غــزّاز الرايه وش يقــــول       أثاري علمه بالعجل

النصر بعون الله حصل       وانحيِّ ( اجبال )[1] ومن سـأل

ومن فوق خيلٍ مَكرُمات     هويان وحادينـــي زعل

ويضيف صاحب المذكرات : واستمر المسير بنشاط عجيب والقصيد يتردد، ومن جانبي سمعت رجلاً يغني ويقول في مطلع قصيد كمن يتشفى بما حدث للعدو التركي نظير احتلاله و اجرامه بالأهالي :

والترك ما يعرفوا قول صُحبه    إلاّ بضرب السيف والدم سايل

الصعود إلى القمة

يكمل القوابعة في سرده لما نقله صاحب المذكرات عبدالمهدي بن محمود بقوله : توجهنا إلى المرتفع ومعنا رجال من الأرمن المشاركين أيضا إلا أن القادة المرافقين للأمير مازالوا متيقظين مما أسعد الأمير أيضاً، وفي قمة المرتفع حيث نهاية المعركة  وجدنا ما يدل على بقايا معركة فالجثث متناثرة وهناك بقايا أمتعة وذخيرة،  وقد وجدنا  فريقاً من الثوار أخذوا الأرض حول مرابض مدافع ورشاشات فنهضوا لاستقبالنا يرأسهم رجل ، وإذ بهم قد أعدوا أنفسهم بعد أن انتهت المعركة لحراسة الأسلحة الثقيلة، ولما حيّاهم الأمير زيد قال كبيرهم ويدعى ( أحمد عبد الله الشبيلات ) وكانوا متعبين : ” يا أمير زيد ، توكل على الله ، وهذه أمانة لك فاستلمها “، شكرهم الأمير وبدأ القادة المرافقون بتفقد المدافع وبقية الأسلحة الثقيلة ، وطلب الأمير من مرافقيه نقلها معه إلى الطفيلة كما بدأ بعض المقاتلين بتسليم الأسرى وكان الأمير زيد قد أعلن عن جائزة مادية لكل من يأتي بأسير تركي دون أن يمسه بأذى ، وتلك محاولة إنسانية مسؤولة تنم عن سمو أخلاق الأمير زيد بن الحسين طيب الله ثراهما،  إن ما أسعدني هو رؤية بعض المقاتلين الجرحى الذين واصلوا الرمي وهم يضمدون جراحهم ولم يتوقفوا عن القتال والفرح يعلو وجوههم” .

 خسائر العدو

يمكن معرفة حصيلة الخسائر التي منيت بها القوات الغازية من خلال ما أوردته رسالة الأمير فيصل إلى والده الشريف حسين في ( 6 شباط 1918 ) وعلى النحو التالي : –

  1. 400 قتيل تركي بينهم قائد الفرقة حامد فخري.
  2. عدد من الأسرى ( 320 ) بينهم 17 ضابطاً ومن جملتهم قادة الكتائب
  3. 200 من الخيل والبغال التي كانت تخص الخيالة ونقل المدافع و مواد الحرب .
  4. 22 رشاشاً ، أما صبحي العمري فإنه  يذكر العدد (28 ) رشاشا من نوع مكسيم .
  5. 2 مدفع من طراز نمساوي وخيام وآلات وهاتف ومعدات أخرى مختلفة .
144

الأمير زيد بن الحسين وعدد من الضباط يتحققون من عدد المدافع النمساوية و التركية والتي غنمتها قوات الثورة جراء عملية تطهير الطفيلة من القوات العثمانية و حلفائها

وجدير بالذكر أنه رغم اختلاف المصادر التاريخية في ذكر عدد القتلى والأسرى إلا أن الجانب التركي قلّل من تلك الأعداد ، واختصر عدد طوابيره المهاجمة إلى ( 600 ) جندي من أجل المحافظة على روح قواته المعنوية .

 العودة إلى الطفيلة وتجميع الاسرى

وبعد أن انتهت المعركة وبدأ الليل عاد الأمير زيد ومعه القادة، ومضى ليلة راحة في بيت ذياب العوران بقرب السرايا، وبجوار مدرسة بدأ تجميع الأسرى في غرف لا تخلو من ازدحام، واهتم الأمير بأمرهم وخاصة الجرحى منهم، ودفعت جوائز نقدية لكل رجل حافظ على من معه من الاسرى، وفي الصباح تم إرسالهم مع حماية خياله ليصلوا إلى الأمير فيصل ومن ثم إلى ميناء العقبة.

140

قطعان الأسرى الاتراك يقودها ضباط جيش الثورة و فرسان العشائر الأردنية بعد معركة حد الدقيق و تطهير الطفيلة من الاحتلال التركي

وفي الصباح أيضاً تعاون أهل الطفيلة والقرى المجاورة في دفن شهدائهم وبعد الصلاة عليهم في الجامع الحميدي في منحدر السرايا وفى مساجد القرى .

تجمع الارمن في الطفيلة

كانت محنة الأرمن في بلادهم موجعة إذ أصابهم القمع التركي بوحشية سجّلها التاريخ حين طلبوا من الدولة العثمانية أن تمنحهم الاستقلال، فجردت الدولة عليهم حملاتها، وقامت بتهجير بعضهم لمناطق نفوذها وخاصة لبلاد الشام، واستمرت الحملات التأديبية والتى تعرض لها الشعب الأرمني وخاصة بعد ثورته في 15/4/1915 ، التي تركزت في مدينة فان – van – وسط أرمينيا  .

وتواصل تهجير جماعات الأرمن فكان نصيب الطفيلة حمولة قطار من المهجّرين الأرمن وصل إلى الجرف،  ومن ومن جرف الدراويش نقل الأرمن على البغال والحمير إلى الطفيلة وقراها، وكانت حالتهم محزنة بسبب ظروف التهجير الصعبة، ومات بعضهم، واعتنق الإسلام آخرون بسبب المعاملة الحسنة التي تلقوها من أهل المدينة، وتزوج أهل الطفيلة منهم، وعندما حدثت معركة الطفيلة انضموا إلى قوات الثورة فيها، كما عادت عائلات أرمنية إلى دمشق ومنها إلى أرمينيا بعد الحرب العالمية الأولى.

 

 جثث القتلى الأتراك

حين تعرضت القوات التركية في وادي الحسا وفي السفوح إلى هجمات الثوار المدافعين كان العدو التركي يدفن قتلاه قدر الإمكان، وعندما اشتدت رماية الكمائن لم يستطع الغزاة دفن جميع قتلاهم، وكان الدفن متعجلاً وغير متقن، وفي مرتفع ارجوم النصر عندما أجهز الرماة على الجنود، لم يكن الظرف أو الوقت يلائم مواراة الجثث، وخاصة في نهاية المعركة حيث ظلت الجثث متناثرة، وفي اليوم التالي كما أفادنا المسنون عاد الناس – وبحس فطري – يوارون جثث الجنود بين الصخور الصوانية في المرتفع وفي قبور جماعية، واستمر الفلاحون وطوال أسبوع جماعية يوارون الجثث المتروكة و والتي خفف من تعفنها برودة الشتاء، ولكن مع الزمن وكثرة أمطار ذلك الموسم الشتوي أظهرت السيول الجثث التي غطيت بأتربة بسيطة ، وإلى هذا الوقت قد يصادف المتجول في منحدرات الحسا وتلال جبرونه وحتى كركا تناثر عظام وتكشف مقابر، في معركة صعبة تناولت أحداثها رسائل قاد الثورة .

رسالة من الأمير زيد إلى الأمير فيصل – الطفيلة : 3 شباط 1918

( اليوم وصل إلينا تقريركم ، ولكن لا يجوز إخلاء الطفيلة وإبقائها بقوة لا إسم لها ولا جسم،  ولا يمكن أن تعتمدوا سموكم على أهل الطفيلة في أمر الدفاع عن بلادهم إذا لم يكن معهم أحدنا بقوة عسكرية، ولو لم تكن كبيرة، حيث أن أهل هذه الديرة اليوم مربوطين بنا من كل وجه،  فلا يجوز أن أن نبقيهم اعتماداً عليهم في مواجهة العدو بعد أن التحقوا بنا برضائهم وسلموا أطفالهم إلينا وباعوا أرواحهم معنا، خصوصاً بعد هذه المحاربة، وربما يقولون أن الشريف خاف وشرد، وهذه تضعنا موضع الخجل أمامهم، وتكسر معنويات من التحق وسيلتحق معنا في حركتنا، لذلك أرى إن كان لا بد من جمع القوات النظامية في مركز واحد، وهي تحافظ على حدود القضاء من العدو . تشرفت بأمر مؤرخ في 15 الجاري وظهر لي أن مولاي استنسب خطتي التي قررتها لحركات جيش الطفيلة، أحوالنا لم تتبدل، العدو يحشد قوة في الكرك، ولا أعرف ما هي نواياه، ولكن الحقيقة ستظهر قريبًا، فإما أن يتمركز في الكرك أو يتعرّض علينا،  أتتنا ثلاث طيارات للعدو التركي أمس ورمت علينا قنبلتين ) .

مما قيل عن أهمية المعركة

يقول العماد مصطفى طلاس : ( رفع الاستيلاء على الطفيلة من معنويات الجيش العربى وحقق بعض آماله، وبعد ثلاثة أيام من معركة الطفيلة نظم الأمير زيد إغارة ناجحة على ميناء الكرك ( غور المزرعة ) الواقعة على شاطى البحر الميت ، إن معركة الطفيلة كانت من أقسى المعارك وأعنفها، وقد أحدثت صدمة عنيفة للمستعمرين الأتراك، وعندما حاولوا استرجاعها منيت قواتهم بهزيمة ساحقة ).

وإذا عدنا إلى ذكريات عسكريين كانوا مع الحدث فإن صبحي العمري يشير في أوراقه : ( لقد كان ظفر معركة الطفيلة الأولى التي يسميها أهل الطفيلة ( وقعة حد الدقيق ) بالنسبة للخسائر التي مني بها الأتراك في الرجال والسلاح والمهمات أكبر ظفر حصل عليه الجيش الشمالي بل جيش الثورة بأجمعه منذ قيامها ).

 إن ساحة المعركة ترامت بين وادي الحسا وشعابه الجنوبية الوعرة وأراض متموجة إلى نهاية مرتفع يطل على سهل، رافقها جبهات قتال متداخلة وكمائن وأسلحة ثقيلة، تنقلنا إلى أحداث معركة ذات وقع غير قليل لذا ” تعتبر معركة الطفيلة هذه بحق واحدة من معارك الحرب العالمية الأولى ، وهي معركة من أشد المعارك قسوة على الأتراك، فهذه هي المعركة الوحيدة التي تم فيها إبادة قوات تركية كاملة، ولقد أعطت العرب دفعاً جديداً في إعادة لتنظيم، وازداد عدد جيش الثورة، وارتفعت المعنويات العربية، وبدأوا فعلاً يعملون من أجل تحقيق أهداف هذه الثورة العربية الكبرى، ويشعرون أنهم يستطيعون تحقيق الأهداف التي من أجلها يقاتلون”

وكتب الجنرال الألمانى ليمان فون ساندرز Limman Von Sanders – عن معارك الطفيلة ووصفها بأنها اشتباكات عنيفة في كتابه ( خمسة أعوام تركية ) . أما مجلة  Times)  (Sun day  فقد تناولت المعركة بمقال واسع كتبه جوليان سايمونز Julian Simons .

وتاليا قائمة الشهداء و الجرحى من أبناء مدينة الطفيلة في معركة حد الدقيق 1918 م كما وردت في أغلب المراجع .

سجل شرف قوائم الشهداء و الجرحى في معارك الطفيلة ( معركة حد الدقيق ) 1918 م

tafila 1

tafila 2

tafila 3

المراجع :

الثورة العربية الكبرة ( معارك الطفيلة – صور من البطولة ) ، سليمان حمّاد القوابعة ، أزمنة للنشر و التوزيع ، الطبعة الأولى، 2008 .

الثورة العربية الكبرى : الموسوعة التاريخية المصورة ، البحث التاريخي والإشراف الدكتور بكر خازر المجالي ؛ فريق العمل خولة ياسين الزغلوان ، و فريق الفرس الشقراء ، مركز أرض الأردن للدراسات والنشر،2011.

التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية / بكر خازر المجالي، قاسم محمد الدروع 1995 .

الثورة العربية الكبرى : الحرب في الأردن 1917-1918 : مذكرات الأمير زيد بن الحسين / سليمان الموسى، دائرة الثقافة والفنون.

المراسلات التاريخية 1914-1918 : الثورة العربية الكبرى. المجلد الأول / أعدها وحققها وكتب حواشيها وترجم بعضها سليمان الموسى، 1973.

ذكرياتي عن الثورة العربية الكبرى، محمد علي العجلوني، مكتبة الحرية ،عمّان ، 1956 .

المعارك الأولى : الطريق إلى دمشق، صبحي العمري، أوراق الثورة العربية؛ رياض الريس للكتب والنشر، لندن، بريطانيا ؛ ليماسول، قبرص ، 1991،  ط. 1.

[1]  ( اجبال ) هو الإسم الرديف للطفيلة .