Latest articles
November 16, 2024
November 16, 2024
November 16, 2024
معان – الجردون – الكوبانية الحمراء – عنيزة
مقدمة
كان واضحا أن هدف الحلفاء هو ابقاء قوات الثورة العربية الكبرى فى المنطقة الجنوبية وأن لا تتجاوز هذه القوات منطقة الطفيلة شمالاً، وأدرك جيش الثورة و فرسان العشائر الأردنية هذا الهدف تماما، خاصة من خلال سلوك قوات الحلفاء والمدفعية الفرنسية المساندة لقوات الثورة التي كانت تحجب القذائف وتوقف القصف حين يشعر هؤلاء أن فرسان العشائر الأردنية على وشك تحقيق نصر ما.
بدأت قوات الثورة بالتحرك نحو الشمال وأخذت تتعامل مع الأهداف العسكرية ، فكانت منطقة الجردون ومحطتها من الأهداف الهامة، فرغم أن هذه المحطة صغيرة وعلى مسافة 17 كلم إلى الشمال من معان إلا أنها مهمة ووقعت فيها وحولها أربع معارك كبيرة، تاليا تفصيلها :
محطة الجردون
محطة الجردون أو( الجردانة ) تقع في سهل منبسط شمال معان بحوالي 15 كلم وهي ذات أهمية استراتيجية عظمى بالنسبة لمحطة معان، لذا فقد قررت قوات الثورة في مؤتمرها العسكري الذي ترأسه الأمير فيصل وحضره قادة الثورة و شيوخ العشائر الأردنية وعدد من المستشارين الانجليز والفرنسيين من قوات الحلفاء مهاجمة محطة الجردون وتحريرها لعزل القوات العثمانية و حلفائها من الألمان و النمساويين في معان من الشمال وقطع خطوط الامداد التي كانت تغذي قوات الاحتلال العثماني في معان من عنيزه والجردون إضافة لتحرير محطة غدير الحاج جنوب معان لنفس الغاية، وقد نجح جيش الثورة لاحقا في تحرير محطة غدير الحاج.
معركة أبو الجردون الأولى
لم تكن هذه المعركة لتكون الأولى ، لولا حصول معارك متتالية في المنطقة ذاتها حتى وصلت إلى أربع عمليات رئيسية، ولم يستطع جيش الثورة الاحتفاظ بهذه المحطة فكانت الهجمات خاطفة وتدميرية لا تستهدف السيطرة التامة لأن هذا يعني تخصيص جزء من القوات للبقاء فيها فقد كان العرب يحتاجون للقوات لحصار قوات الاحتلال العثماني في معان وتشديد القبضة عليها لتحريرها بالسرعة الممكنة حتى يمكنهم الالتحاق شمالا بقوات الثورة العربية الكبرى.
وقد ورد في أوراق البطل صبحي العمري أن المعركة قد حدثت في نيسان 1918 دون تحديد بدء المعركة ، وورد في يوميات الأمير زيد ما يلي :
10 نيسان 1918 : تعرضنا على محطة أبو الجردان وضبطناها وأسرنا 112 جنديا وغنمنا 3 رشاشات وألحقنا بالقطار العسكري تعطيلا مهما، أما مولود مخلص فيذكر في مذكراته أن الهجوم قد وقع يوم 12 نيسان .. وفي كتاب تاريخ الاردن بين الماضي والحاضر لسليمان الموسى ومنيب الماضي ذكروا أن الهجوم قد بدأ في فجر 11 نيسان 1918 بقيادة جعفر العسكري .
خطة المعركة
وقعت المعركة فوق ارض الجردون لجهة الغرب حيث تحركت القوة بكاملها من منطقة عين نجل بقيادة جعفر العسكري وفي يوم من أيام نيسان تحركت قوة الاستطلاع إلى المحطة لوضع الخطة بقيادة رشيد المدفعي وقد كانت الخطة على النحو التالي :
اتجاه الهجوم : من الغرب
الهجوم : قصف تمهيدي من المدفعية ثم تتحرك القطعات
وتاليا تفصيل المعركة كما أوردها البطل صبحي العمري :
شرعت المدفعية بالقصف ثم شرعت المشاة بالتقدم ، وتقدمت بسريتين خلف المشاة وخلف الفجوة التي بين الفوجين، وفتحت النار من أول موضع من مسافة ثمانمائة متر ، وقد أصبحنا تحت نار العدو المؤثرة ، وبعد قليل تقدمنا بقفزة أخرى إلى مسافة مائة متر اخرى وبدأت اصابات تقع في جنود المشاة المتقدمين .
وقفزنا قفزة أخرى بحيث أصبحت الرشاشات على مسافة خمسماية متر عن العدو، وتعتبر هذه المسافة في مثل هذه الأرض المنبسطة غير ملائمة للرشاش وغير معقولة ، ولكنني أردت تشجيع المشاة ، وسقط من سريتي أول جريح وأعقبه جريحان وكثرت الإصابات في المشاة ووقفت عن التقدم على مسافات متفاوته بين 200 – 300 متر وهذا يعتبر موقعا خطرا فالمسافة أصبحت قريبة للعدو بحيث أصبح بإمكان رماته ايقاع اصابات مؤثرة من هذه المسافة القصيرة .
وفي هذه الأثناء مر من جانبى ضابط اسمه عباس على حصانه هاجما على العدو ولما صار إلى جانبي صاح : ياصبحي اشهد، ولم يكد يبتعد ثلاثين مترا حتى خر صريعا وكان هذا الضابط مرافقا لجعفر العسكري . لقد وقف خط تقدم المشاة ولم يكن من الجائز أن تتقدم الرشاشات لأكثر من هذه المسافة بمثل هذه الأرض وقد أصبحت نيران رشاشاتنا متسلطة على استحكامات العدو (لأن طلقات الرشاش تكون واضحة مما تنشره من غبار )، ولما تيقنت من توقف تقدم المشاة أمرت هؤلاء الجنود بأن يتبعونى وشرعت بالتقدم بعد أن أوكلت بالرشاشات لأمر الرعيل الأول . ولما صرت في صفوف المشاة الأمامية صرنا ننخيهم (نحثهم) ونحن مستمرون في التقدم وبدأوا يتقدمون معنا .
ولما وصلنا إلى مسافة نحو ثلاثين مترا من المحطة كانت آخر قنبلة وآخر صلية رشاش تقع عليهم لأنه ونحن في مثل هذه المسافة يجب أن يقطعوا نيرانهم ولم يبق أمامنا وأمام العدو سوى القنابل اليدوية والحراب . صحت بأعلى صوتي بالتركي (سلموا أحسن ما تموتوا ) ورأيت الجنود واقفين بحالة ذهول شاكين الحراب، أما نحن فلم يكن لدينا حراب وفي تلك اللحظة شاهدت ضابطهم شاهرا سيفه يقول لجنوده تهيئوا بالحراب عندها ألقيت إحدى القنبلتين اليدويتين اللتين كانتا معي وألحقتها بالثانية، وكانت حصيلتها هذا الضابط العثماني المسكين وعدد من جنوده وعند استيلائنا على المحطة رأيته قتيلا وقرأت هويته فكان من ( جنس اللاز ) وهم غير الأتراك وبلادهم في شمال الأناضول فأمرت بدفنه .
وأعقب ذلك عدة قنابل من جنودي وخفض جنود الاتراك رؤوسهم ضمن الخندق وهم يصيحون من داخله ( تسليم ) فطلبنا اليهم أن يتركوا سلاحهم في الأرض ويرفعوا أيديهم حيث استسلموا .
لا أذكر عدد الشهداء والمجاريح الذين قدمتهم المفرزة ولكن الشهداء من سريتي كانوا ثلاثة والمجاريح سبعة .
معركة الجردون الثانية
ذكرنا أن عملية تحرير الجردان كانت تستهدف تدمير المحطة وحرمان العدو من منطقة امداد وتموين وتعزيز وإسناد خلفي من جهة الشمال ، وحتى لا تبقى قوات الثورة بلا واجب أو عمل في هذه المحطة فقد تقرر اخلاؤها ( 17 نيسان 1918 ) أي بعد حوالي أسبوع تقريبا من تحريرها وقد عاد جيش الثورة إلى القيادة الرئيسية في (اوهيدة)، لكن ترك قوات الثورة للمحطة أسرع في عودة القوات العثمانية اليها وتشغيلها بسرعة قياسية إلى الحد الذي تمكنوا فيه من توصيل قافلة مؤن إلى حاميتهم في معان وساعد ذلك فى إطالة أمد الحصار وانقاذ الحامية في معان بعد أن كانت على وشك الاستسلام.
ومهما يكن فإن قوات الثورة وعملياتها العسكرية كانت نشيطة لا تقبل البقاء مستكينة في أي حال من الأحوال وتبحث باستمرار عن العدو وتشتبك معه، وقد أدرك العثمانيون هذه الصفة فأخذوا يتجنبون الاصطدام بقوات الثورة و فرسان العشائر الأردنية حتى أخذوا يفرون من المواقع ويخلوها من تلقاء أنفسهم كما حصل في هذا الموقع .
تفاصيل معركة الجردون الثانية
يقول البطل صبحي العمري في أوراقه :
(عقب معركة معان وفي 11 أيار 1918 تقرر القيام بمهاجمة محطة الجردون للمرة الثانية، وتقرر أيضا تشكيل القوة التي سنقوم بهذا الهجوم من الفرقة الأولى من لواء الهاشمي ومدفعيته وثلاث طائرات بريطانية ومفرزتي تخريب ( تعطيل القطار العسكري ) ، كما تقرر إبقاء الفرقة الثانية في السمنات لمراقبة العدو وترصده وعهد بقيادة هذه القوة إلى رئيس أركان الجيش الشمالي نوري السعيد .
تحركت هذه القوة من من الوهيدة في صباح يوم 10 أيار 1918 ووصلنا عصرا إلى غربي الهضاب التي غرب محطة الجردونة، وبينما كانت القطعات تشغل أمكنتها فى المعسكر اصطحب قائد القوة نوري السعيد كلا من أمراء الألوية والأفواج وأمر مفارز التخريب وذهبنا إلى الهضاب المشرفة على المحطة من الجهة الغربية . وهناك ابلغنا القائد خطة الهجوم وتقضي أن يجتاز السكة الحديدية من جنوب المحطة وتترجل في الأراضي المستورة التي جنوب الجسر وتراقب الجبهة .
كما تراقب الجبهة الجنوبية كي نقاوم كل تقدم يجري من جبهات معان . تقوم سرية رشاش اللوء الهاشمي باجتياز السكة برفقة سرية الخيالة ثم تفترق عنها وتأخذ لها مواضع مناسبة في شمال الجسر الكائن جنوب المحطة لاسناد الهجوم لكلا اللوائين، واذا وقع أي تعرض من جهة الجنوب وقامت سرية الخيالة بمقاومته فإن سرية الرشاش عندئذ تسند بنيرانها تلك السرية، يقوم اللواء الثاني بالهجوم من غرب المحطة ونقوم مفارز التخريب بتعطيل خط القطار العسكري من الشمال والجنوب قبل بدء الهجوم بساعة . تسند المدفعية وثلاث طائرات هجوم اللوائين.
وقد وزعت هذه الأوامر وبلغت عن الأراضي التي سيجري عليها الهجوم كما وزع مع الأمر جدول توقيت لساعة حركة كل قطعة من نقطة الشروع . أما القوة المخمنة للعدو فهي سريتا مشاة و 4 رشاشات ومدفعان .
وقبل بزوغ الفجر تحركت كل قطعة في الوقت المعين نحو المكان المخصص لها، وفي الصباح الباكر بدأت الطائرات بالقصف كما فتحت المدفعية نيرانها على مواضع العدو وكنا نحن في مواضعنا ففتحنا نيران الرشاشات وكانت المسافة بينا وبين المحطة لا تتجاوز الثلاثمائة متر، لأن الارض كانت مساعدة لنا وتسترنا عن نظر العدو وشرع اللواءان بالتقدم من الشرق والغرب، وأصبح العدو بين نارهما بحالة حرجة وانشغل الاتراك عنا برمي مشاتنا، الأمر الذي شجعنا على التقدم لمواضع أقرب وكانت مواضع الأتراك تحت تأثير نيراننا الجانبية ومن مسافة قصيرة بحيث لا يمكن أن تخطئ الإصابة الأمر الذي جعل أي واحد منهم لا يتمكن من رفع رأسه من الخندق، وكانت مشاتنا على مسافة خمسين مترا فقط من المحطة ومعي نحو عشرين جنديا من حاملي البنادق فتقدمنا إلى المحطة والأتراك رافعي أيديهم ملقي سلاحهم وكان أول من وصل بعدنا نوري السعيد ومرافقه مع عدد من المراسلين . قلت له : يا بيك نحن قبلك، قال : نعم وضحك. لقد كان في الثورة تقليد متعارف عليه وهو الاهتمام بمعرفة من سيصل قبل غيره الى الموقع المستولى عليها وفي اعادة يرفع ذلك الضابط الى رتب أعلى .
وصلت الألوية الى المحطة وجمعت الأسرى فكانوا نحو 250 ودمرت المحطة والجسرين اللذين فى شمال وجنوب المحطة واشتركنا بتدمير الجسر الجنوبي للقطار العسكري الذي كان بقرب مواضعنا، وحوالي الظهر عدنا الى المعسكر الذي كنا فيه وفي اليوم الثاني عدنا إلى المعسكر فى الوهيدة، انني لا أذكر مقدار الخسائر التي اعطتها جميع القوة في هذه العملية انما سريتنا لم يقع فيها أية اصابة ).
الاستيلاء على جسر ابو الجردون
ويكمل البطل صبحي العمري روايته بالقول : في أحد الأيام التي كنا فيها بالوحدة جاء مراسل من المقر بكتاب يعرضه على أمراء الوحدة وفيه طلب تطوع ضابط يرسل بمهمة خطيرة، وكان معسكرنا قريب من معسكر المقر فذهبت اليه وكان في خيمة نوري السعيد بعض ضباط المقر؛ قال : ترون الجسر الذي في شمال الجردونه فقد أصلحه الأتراك و عاد القطار العسكري لمسيره، فنحن لا نريد اجراء معركة لتخريبه بل نريد أن يذهب ضابط مع عدد من الجنود ومفرزة تخريب فيباغتون حامية الجسر ويستولون عليه ويعطلونه ويعودون في الليلة نفسها، وسنرفقه بالمقدار الكافي من المتطوعين من القطعات قلت : قبلت المهمة دون متطوعين عندي جنود أهل للقيام بها؛ أطلب فقط 40 قنبلة يدوية وعشرة خراف لوليمة لسريتي بعد عودتنا. قال : ويرافقك الرئيس ( ص) قلت اذا كان هو آمر المفرزة فلا لزوم لي و اذا كنت أنا آمرها فلا لزوم له ….
وفي الصباح الباكر تحركت مع عشرين جنديا راكبا وبغلين يحملان أربعة فناطيس “ماء” وبرفقتنا مفرزة التخريب للقطار العسكري، وفي الضحى وصلنا الهضاب المشرفة على الجسر من جهته الغربية، وبعد أن وضعت الحيوانات في محل مستور خلف الهضبة بدأت الترصد بواسطة المنظار وكانت المسافة إلى الجسر نحو ستمائة متر وكان بين الجسر والهضاب مجرى سيل ناشف يتراوح عرضه بين الخمسة أمتار والعشرة ليشكل طريق تقرب مستور جيد . استمريت بتدقيق وترصيد كل حركة من حركات الحامية طيلة النهار دون أن أدع أحد يقترب مني حيث بقي الجميع عند الخيل بحالة راحة وذلك في الاحتراز من أن يشعر بنا العدو .
كانت الرؤيا جيدة بالنظر للجو وقرب المسافة وكنت ارى كل شىء واضحا حتى أنني كنت أسمع الاصوات المرتفعة وكانت خيمهم السفرية الصغيرة منصوبة تحت الجسر، وكان لهم أربعة خفراء منفردين اثنان على شمال وجنوب السكة واثنان على حافتي السيل، أحدهم في شرق السكة والثاني في غربها ومسافة الخفراء على الجسر نحو مائتي متر . وفي حوالي الظهر جاءتهم من محطة الجردونة ( ترولي ) يظهر أنها اتت لهم بطعام وماء وقبل المغرب بنحو ساعة جرى تبديل الخفراء واختصرت مسافة الخفراء عن الجسر الى نحو المائة متر فعلمت من ذلك ترتيباتهم الليلية وقررت الخطة .
و كانت الخطة التي قررتها هي أن نشرع بالحركة بعد ساعتين من الغروب، ننحدر أولا إلى ملتقى السيل بالهضبة ترافقنا مفرزة التخريب بمسافة خمسة امتار وتسير خلفنا مفرزة التخريب و عندما نصل إلى نقطة تبعد نحو مائتي متر عن المخفر الذي على الحافة الجنوبية من مجرى السيل نترك مفرزة التخريب ونبدل استقامتنا نحو الشمال الشرقي، وعندما نصبح في منتصف الزاوية المنفرجة التي بين الخفيرين الشمالي والغربي حيث يبتعدان عن بعضهما بمسافة مائتي متر تقريبا ونتجه شرقا باتجاه الجسر، وعندما نصل إلى السكة تكون بيد كل منا قنبلة يدوية جاهزة للرمي، فيرمي ثمانية منا قنابلهم إلى تحت الجسر بينما الثمانية الآخرون يجتازون السكة لجهتها الشرقية بسرعة ويلقون بقنابلهم الثمانية الأخرى إلى تحت الجسر أيضا وكل من يرمي قنبلة يتهيأ ببندقيته لمقابلة الاحتمالات المنتظرة ، وقبل الغروب جمعت جميع من سيرافقنا وافهمتهم الخطة من أعلى الهضبة وأريتهم جميع الأماكن التي ستسيرعليها وعملنا تجربة لطريقة المسير المنفرد في السبيل ، وتحركنا في الوقت الذي قررناه وسارت الأمور على أحسن ما يرام فوصلنا الجسر وألقينا القنابل وكانت المباغتة ناجحة وكاملة وسمعنا صرخات الأتراك ينادون ” تسليم تسليم ” فناديت على جنودي : قفوا مكانكم ، وناديت الأتراك بالتركية أنه لا خوف على حياتهم ان تقدموا لعندنا بعد أن يتركوا سلاحهم . واستسلموا جميعهم حتى الخفراء الذين لم يصبهم الأذى، الخفير الذي في الجنوب يظهر أنه انهزم نحو محطة أبو الجردان، لقد كان مجموعهم ضابطا وعشرين جنديا قتل منهم الضابط وثمانية جنود وهرب واحد وستة مجاريح وخمسة أسرى . وبينما كنا نجمع اسلحتهم وعتادهم أعطيت الإشارة لمفرزة التخريب بالتقدم فوضعنا خفراء حماية على شمال وجنوب السكة وباشرت المفرزة بعملها ونسف الجسر وجمعنا خفراءنا وعدنا من الطريق الذي جئنا منه، و وصلنا الوهيدة قرب الفجر .
وكنا ذكرنا سابقا أن الأتراك مثلوا بالأسير الوحيد الذي أخذوه أثناء معركة غدير الحاج واهتم الجيش بهذه المسألة وتبين من التحقيق مع الأسرى أن الذي مثل به رئيس عرفاء تركي عرف اسمه وصفاته عساه من الأسرى . وفي إحدى غارات الطيارات التركية علينا شاهدت بقرب خيمتي أسيرا تركيا تنطبق عليه تلك الصفات؛ فسألته عن اسمه فكان هو الاسم فأرسلته مع جندي إلى المقر وظهر أنه نفسه، وبعد التحقيق اعترف وجرت له محاكمة سريعة وجرى اعدامه وأرسل بذلك كتاب إلى الأتراك لإعلامهم بتنفيذ حكم الإعدام عقوبة له ).
رواية البطل محمد علي العجلوني عن هذه المعركة
يقول العجلوني عن معركة الجردون الثانية :
” والغارة على الجردون في المرة الثانية كانت في الوقت الذي كنا نلتحم فيه مع العدو في محطة معان التي سقطت جريحا فيها، وإني اذ أكتب الآن عن حوادث الجردونه انما اكتب نقلا عن مصادر وثيقة واستنادا إلى أقوال الذين ساهموا فيها من الضباط، والقوة التي زحفت اليها كانت مؤلفة من لوائين من المشاة وبطارية مدفعية ولواء من الفرسان، وكانت مهمة لواء الفرسان الترصد ومنع النجدات من محطة عنيزة شمال الجردونة، و استسلمت حامية المحطة بعد عراك دام بضع ساعات جرح خلالها قائد لواء الفرسان اسماعيل نامق .
معركة الجردون الثالثة
يذكر صبحي العمري في أوراقه أن المعركة قد وقعت في 16 أيار 1918، وهو اليوم الذي اتخذت فيه قيادة الجيش القرار بمهاجمة المحطة، وعودة الى مذكرات الامير زيد بن الحسين وفي مذكراته نطالع رسالة وجهها الأمير زيد إلى الشريف الحسين بن علي من الفقي في 21/5/1918 يذكر فيها عن هجوم قوات الثورة الثاني والثالث الجردونة ويذكر ما نصه :
(وهجمنا عليهم في المرة الثالثة و دخلنا استحكاماتهم وأخذنا مدافعهم ولكن مع مزيد الأسف بعد أن أرادوا التسليم وبالفعل سلم منهم 13 جندي، ورأوا جند الثورة متقدمة عليهم بكل بسالة وشجاعة غدروا بهم وأطلقوا عليهم القابل اليدوية ….)
السلوكيات العسكرية التركية
كان الهجوم العربي الثالث على هذه المحطة بمثابة الإزاحة الكاملة عن الستار الذي كان يغطي السلوكيات المليئة بالخسة و الغدر من قبل القوات التركية، لقد ارتفع سمو الأمير فيصل إلى مستوى الاخلاق الهاشمية عندما قرر صرف مكافأة لكل من يحضر أسيرا تركيا بدلا من قتله، ونجحت خطته ولم يعد هناك تركي أو غيره يقتل، بالمقابل فقد ظهرت في معركة الجردونة الثالثة السلوكيات التركية القذرة في التعامل مع الأسرى من خلال حادثتين :
الأولى : وهذا ما ورد فى كتاب الأوراق الأولى لصبحي العمري وفي مذكرات الأمير زيد حيث تطابقت الروايتان؛ حين قام الأتراك برفع الأعلام البيضاء استعدادا للتسليم فأوقفت قوات الثورة اطلاق النار وتقدمت من الجنود الأتراك لاستلامهم لكن المفاجأة كانت أن انهمر الأتراك بالرصاص والقنابل على جنود الثورة المتقدمين وأوقعوا فيهم الخسائر، واضطرت القوات للانسحاب من الموقع .
الثانية : وقع في أيدي الأتراك ستة جنود وجرحى كأسرى، وقام الأتراك بذبحهم ذبح الشياه وهذا أثار حفيظة قوات الثورة و فرسان العشائر الأردنية وهنا وجه الأمير فيصل بن الحسين إلى القائد التركي علي بك رسالة بهذا الخصوص ينذره فيها من تكرار هذه التصرفات من قبل قواته المخالفة لقوانين الحرب.
سير الهجوم الثالث على محطة الجردونة
رواية صبحي العمري في كتابه الأوراق الأولى
وطلع الفجر وبدأ نورالنهار وبدأت مدفعيتنا بالرمي لتخمين المسافة وايجاد الهدف وبدأت مدفعية العدو بمقابلتها ، وبدأ المشاة بالتقدم ونحن خلفهم ودخلت قطعات المشاة ضمن المسافة المؤثرة فشرعت بالرمي والتقدم ، وادخلت الرشاشات في أول موضع رمي، وكان محمود الهندي مع رعيله الأول وكان الرعيل الثاني بإمرة الملازم رضا الشاشي، وكنت قريبا من محمود الهندي حيث كانت خطوط مشاتنا تتقدم بسرعة وكأنها في سباق مع اللوء الاخر و وكنت اضطر لمجاراتهم وتبديل مواضع الرشاشات بسرعة أيضا، ونشطت مدفعية العدو ووصلت مشاتنا إلى مسافة قريبة من المحطة حتى أن قسما منها احتل مواضع العدو التي كانت في شرقها وأخذوا منهم بعض الاسرى . وكانت مواضع رشاشاتنا قد اقتربت إلى مسافة مائتي متر ؛ واللواء الغربي كان لا يزال بعيدا عن المحطة مما سبب انقسام فوجه إلى قسمين، فضعف فتمكن العدو من الاستفادة من هذا الانقسام فوجّه جميع قواه من بنادق ورشاشات ومدفعية للجهة الأخطر التي وصلت الى المحطة . ولما رأى الأتراك الخطر المحدق بهم وعناد الثوّار التجأوا إلى الحيلة فنهض جنودهم من الخنادق ورفعوا أيديهم بالتسليم فنهضت مشاتنا وبدأت تتقدم لاستلامهم، كما أن رشاشاتنا توقفت عن الرمي، فعندها بكل خسّة تلقاهم الأتراك بالقنابل اليدوية والرصاص حيث قتلوا الكثير مما اضطر الباقي للرجوع إلى الخلف ثم الانسحاب .
بدأت مشاتنا تعود واجتازت مواضعنا وأصبح من واجبنا أن نحمي انسحابهم لكن في مواضع غير مناسبة فهي قريبة جدا وفي أرض مفتوحة ومكشوفة، فإن العدو اذا ما تفرغ لنا برشاشاته وبنادقه ومدفعيته فمن المستحيل أن يترك لنا أي مجال بل سيقضي علينا لا محالة، لكننا كنا مضطرين لعدم قطع النار لحماية مشاتنا ولعدم امكاننا من الاتيان بأية حركة تحت تلك النار الكثيفة .
كنا متفقين ، محمود الهندي وأنا، على أنه إذا وقع أحدنا جريحا وتعذر سحبه الى الخلف، فإن على الآخر أن يطلق عليه الرصاص فيقتله كي لا يقع أسيرا فى يد الأتراك، إنّ مثل هذه الاتفاقات حصلت ما بين بعض الضباط بعد حادثة رئيس العرفاء الذي وقع في يد الأتراك في محطة المدورة وقطعوا رأسه ومثلوا فيه بالرصاص والحراب .
“ وفي هذه الاثناء اقترب اللواء الغربى من المحطة وخفّت عنا النيران بعض الشيء فأمرت بتبديل الموضع نحو الخلف بمائة متر وانسحب الرعيل الثاني ودخل الموضع وفتح النار، وباشر الرعيل الاول في الانسحاب وما كاد آمره محمود الهندي يبتعد عني عشرين خطوة حتى وقعت بجانبي قنبلة مدفع فأوقعتني أرضا وغمرني التراب والدخان، وما كاد الدخان ينقشع إلا ورأيت محمود الهندي حاملا بيده مسدسه يصوبه نحوي يهم بإطلاقه علي ظنا منه أنني جرحت؛ فكان يريد بذلك أن يفي بوعده بأن لا يتركني جريحا بيد الأتراك ففهمت قصده وناديت ( لست مجروحا انسحب )، فعندها استمر الانسحاب حتى دخلنا المواضع وأنا معهم، وكانت حصيلة تلك القنبلة جرح بسيط فى مؤخرة فخذي الأيسر ولو تأخرت قليلا في ندائي على محمود لكان قتلني .
كانت مسافتنا من المحطة في مواضعنا الجديدة نحو 400 متر وهي مسافة تعتبر قليلة ومهلكة في مثل هذه الارض وإن كانت مهلكة أيضا للعدو ، وكان علينا أن نبقى فى هذا الموضع لأن اللواء الغربي كان في وضع خطر أمام مواضع العدو و وجميع قوته مسلطة عليه فكنا بنيراننا نساعده بجلب قسم من نيران العدو الينا وبارباكهم وعدم اعطائهم الفرصة الكاملة لتفرغ له ولم يبق بالإمكان إعادة هجوم اللواء الشرقي لأنه قدم الكثير وفشلت حركة الاستيلاء على المحطة .
أما سرية الخيالة التي كانت بإمرة الرئيس اسماعيل نامق، فإنها ترجلت خلف المنفرجات التي في جنوب الجسر الجنوبي وتقدمت على شرق السكة نحو الشمال ولكن في هذه الأثناء أصيب اسماعيل نامق بطلقة اخترقت صدره فحملوه إلى الخلف وبقيت السرية بإمرة قائدها الملازم اشرف .
و هكذا عدنا وعسكرنا في موقع الفجيج على مسافة 4 أميال الى الجنوب من موقع اذرح وكانت خسائرنا ستة ضباط و 23 جنديا شهداء و 100 جريح، والأتراك 40 قتيلا و 18 أسيرا وأما خسائر سريتي فخمسة جرحى وشهيدان .
ومن رواية محمد علي العجلوني في مذكراته عن المعركة نورد هذه الحادثة المؤلمة التي تصور بشاعة المعركة و صعوبتها و قسوة المشاهد فيها :
” ولم تخل هذه المعركة من حادثة طريفة ، ومؤلمة جدا فقد جرح الرئيس تركي الشطي، وهو أحد قادة سراب المشاة فحمله زميله الملازم هشام الدزدارعلى كتفه وهرول به ابتغاء نجاته بالخروج من دوامة المعركة ، ولكن قنبلة مرت كالبرق فخطفت رأس هاشم الدزدار وتركت زكي الشطي محمولا على جثة بلا رأس عدة ثوان ، ثم سقط الجريح والجثة معا، وأسر زكي الشطي وأرسل إلى المستشفى في دمشق ليعالج، ثم ليعدم بعد شفائه (ولكن الله لطف به فقد دخل جيش الثورة إلى دمشق وهو لم يزل في المستشفى ).
أما نزيه الدمشقي فقد خطفت رأسه قنبلة وهو يمتطى حصانه فوصل الحصان به إلى المعسكر يحمل جثة بلا رأس ما أفزع الناس من منظره.
معر كة الجردون الرابعة
وضعت الخطة بعد القيام باستطلاع المنطقة في 20 تموز 1918 حيث تحركت مجموعة الاستطلاع من معسكر الطاحونة غرب الجردونة، أما الخطة الموضوعة فقد كانت كما يلي :
قسمت القوات إلى مجموعات قتال ثلاث بحيث تهاجم المحطة من جهاتها الجنوبية والغربية والشرقية، أما عن تفاصيل المعركة ، فنترك الحديث لصبحي العمري كما أورده في الأوراق الاولى:
وتعينت ساعة الشروع بالتقدم والمسافة التي يجب ان تكون فيها كل قوة عن العدو . وعيّرت الساعات، حيث ذهب كل قائد لقطعته واستعد للحركة وتوجه كل منهم في تلك الليلة نحو خط مسيره ووصل إلى الارض التي سيقوم منها بالهجوم في الصباح التالي، وقرر آمر قوتنا الشرقية أن يقوم لواء الهاشمي بالتقدم على يسار القوة الشرقية ومن الشرق الجنوبي للخط . لأن القوة الجنوبية ستقوم بهجومها من غرب السكة الجنوبي .
ومع بزوغ الشمس كانت جميع القوات في الأمكنة المخصصة لها منذ الليل وكان لواء الهاشمي في مواضع قريبة جدا من المحطة، لأن الارض التي هو فيها مستورة تساعد على هذا التقرب ، ولكن باقي القوات كانت فى أراض مفتوحة والقوة الشرقية كانت خلال الليل متقدمة لأكثر من اللازم ومسافتها عن العدو أقل مما يقتضيه الأمر والوضع .
ومع طلوع النهار وانكشاف الأهداف شرعت المدفعية بالرمي واعقبتها الطائرات الثلاث وشرعت ألوية المشاة بالتقدم، وبما أن اللواء الشرقي كان (كما قلنا) متقدما أكثر مما يجب فقد سبب ذلك خللا بتوحيد حركة الهجوم بين القوات الثلاث ، فالقوة الغربية بدأت بالهجوم من مكانها المعين وهي لا تزال على مسافة بعيدة من العدو، والقوة الجنوبية التي وصلت إلى منتهى الأرض المستورة وبداية الأرض المكشوفة كانت تنتظر في مكانها لتوحد هجومها مع الآخرين .
أما اللواء الرابع من القوة الشرقية الذي تقرب ليلا إلى مسافة قريبة جداً من العدو والذي باشر هجومه مبكرا، وجد أن مسافة هجومه مع القوات الاخرى اصبح 200 – 300 متر من العدو في أرض مكشوفة معرضا نفسه لتلقي نيران العدو حيث وجهت إليه جميع أفواهها النارية مستفيدة من بعد القطعات المهاجمة الأخرى، ولما رأى قائد القوة الجنوبية تحسين علي هذا الموقف أراد أن يتلافى الأمر فباشر بالتقدم قبل الموعد المقرر ولكن دون فائدة لأن العدو كان قد انزل ضربته باللواء الشرقي فقتل آمره مع عدد من ضباطه ووقع الكثير من القتلى والجرحى وتراجع على أعقابه، وعندما استدارت القوة التركية بجميع أفواهها النارية نحو القوة الجنوبية التي كانت اثناءها قد وصلت إلى مسافة قريبة ففتكت بها كما فعلت بالقوة الشرقية فجرح قائدها جرحين، وقتل الكثير من ضباطها وجنودها وجرح عدد كبير منهم فتراجعوا قليلا إلى الأراضي المستورة، كل هذا ولا تزال القوة الغربية مستمرة في التقدم ولكنها عندما وصلت إلى مسافة قريبة كان العدو العثماني قد قضى على هجوم القوات الأخرى فتفرغ لها ووقع ما وقع للقوات الأخرى فقتل آمر اللواء السيد طاهر وعدد من ضباطه وجنوده وجرح الكثيرون.
أما لواء الهاشمي فقد ترجل في الأراضي المستورة التي خلف الجسر وتمركزت الرشاشات في نهاية الأرض المستورة المشرفة على المحطة من مسافة لا تبعد عنها لأكثر من 400 متر وهو موضع جدا موافق بل ممتاز للرمي فهو مستور وقريب، وقد دخل جنود سرية الخيالة في مواضعهم إلى جناحنا الأيمن و تمدد آمر اللواء الرئيس بهجت بجانبي يلح على التقدم كما كانت تفعل القوة الشرقية، وعبثا كنت أفهمه أن هذا الموضع هو الأصلح ولا يوجد ما يوجب تقدم الرشاشات أكثر من ذلك لأنها إذا فعلت ذلك فإنها ستكون في أرض مكشوفة معرضه للنار والفناء وعدم امكانيتها من القيام بواجبها . ولما رأى تقدم اللواء الجنوبي عاد بالإصرار على التقدم . وفي الحقيقة كان يجوز له أن يتقدم بجنود الخيالة حملة البنادق ولكن تقدم الرشاشات كان خطأ ينتج عكس ما يتصوره . وأخيرا استحييت وخفت أن يظن بي الجبن فأمرت الرشاشات أن تتقدم لمواضع متقدمة رشاشة بعد الأخرى وتقدمنا نحو مئة متر واصبحنا في أرض مثل الكف وفي مسافة 300 متر ويشكلون هدفا ممتازا للمدفعية والرشاش والبنادق، وانتبه إلينا العدو وسلط علينا نيرانه من جميع الأنواع وبدأت الإصابات تتعاقب بسرعة وكان المرحوم بهجت في حينها يتمدد تسترنا نبته شيح لا يتجاوز علوها العشرة سنتمترات وكنت خلال ذلك التفت كلما اسمع حركة غير اعتيادية و التفت لتلك الجهة لأجد هناك أكثر من شهيد وجريح وكانت أكثر الاصابات قاتلة، وأثناء ذلك سمعت حركة بالرشاشة التي قربنا فرأيت عريف تلك االرشاشة وهو يقع فسألت عن اصابته أجابني أحدهم ( رأسك سالم ) كناية عن التعزية بوفاته، فتأثرت جدا على هذا العريف لأنه آخر عرفاء السرية وأشجعهم . فقال المرحوم بهجت : ( لا تتأثر لا يا صبحي كلنا بدنا نموت في سبيل وطننا )، لم يكد يكمل جملته حتى سمعته يشخر ووقع رأسه ثم بدأ ينتفض وكانت الطلقة فوق خده الأيسر وبدأ يرمي بنفسه فوقي وكأنه يقول لي لا تتركني وقد صارت ملابسي كلها دم
وكانت الطلقات تزداد من جراء حركته فأمرت اثنين بأن يأخذاه للخلف فما كادوا يبتعدون عشر خطوات حتى وقع الاثنان شهيدين ، قام اثنان من الخيالة وما كاد يبتعدان حتى وقع أيضا أحدهم شهيد والثاني جريح، وجاء جندي خامس فحمله لوحده ووصل به إلى قرب موضعنا الأول وأصيب برجله وبقوا في محلهم إلى أن عدنا ورفعناهم . فعقب ذلك لم يبق لدينا أحد يتمكن من الرمي لأن أكثر جنودنا اصبحوا بين قتيل وجريح فأمرت بالانسحاب للموضع الأول وحملنا جميعنا ضباطا وجنودا الرشاشات وبعض أدواتها وعدنا للرمي وكان وقتها اللواء الغربي يتقدم وحده ثم بدأ يتراجع ولم يبق من يستر انسحابه إلاّ نحن فقمنا وخلال ذلك سحبنا الشهداء ودفناهم وسحبنا المجاريح وأرسلناهم للمستشفى السيار وتوفي خلالها المرحوم بهجت .
وأثناء ذلك شاهدنا نوري السعيد على حصانه مع مرافقه الملازم فارس وخيال يحمل علم القادة بين خطوط الرتل الغربي يحرضهم على استئناف الهجوم، ولكن ذلك كان غير ممكن بعد أن منوا بتلك الاصابات الكثيرة . فأعطى أمر الانسحاب وبقينا في مواضعنا نرمى العدو حتى لم يبق أحد من المشاة فانسحبنا إلى معسكر في أبو اللسن وكذلك فعل آمر اللواء الاول تحسين علي، فلقد بقي في موضعه وثم انسحب بانتظام . وأثناء انسحابنا من موضعنا الثاني للموضع الأول شاهدت الملازم الثاني طه بقيق وكان آمر فصيل نقلية العتاد مجروحا في رجله ومرميا على الأرض يتلوى من الألم، فأمرت بمن يحمله شغله إلى الخلف، ولما سألته عن سبب مجيئه إلى هنا وهو آمر نقلية شغله في الخطوط الخلفية، قال لي : (جيت اتفرج ياخوي ) قلت له مازحا : وهل أعجبتك هذه الفرجة ؟ . قال : لا والله، وبقيت بعد ذلك بسنين كلما رأيته أقول له طه هل أعجبتك الفرجة، ونضحك وكان يلذ له أن يقص هذه القصة في كل مناسبة .
كانت نسبة الخسائر في هذه المعركة أكثر من جميع معارك الجيش الشمالي وقدرت خسائر الضباط بين قتيل وجريح ب 60 % وهي عالية جدا وكان الشهداء 24 ضابطا و 220 ضابط صف وجندي ماعدا الجرحى وكانت خسائر سريتي عشرة شهداء وثمانية مجاريح وكان أكثر الشهداء من أمراء الرشاشات وعرفائها وهذه أكبر خسارة منيت بها السرية بعد خسارة
معارك معان .
الأحداث التي وقعت فى معركة الجردونة
لا يمكن فصل عمليات الثورة العربية الكبرى العسكرية عن مجمل الأحداث السياسية والعسكرية فى منطقة الشرق الاوسط عامة، خاصة وأن قوات الثورة وفرسان العشائر الأردنية لم يتخلوا مطلقا عن اهدافهم العليا وكانت العمليات العسكرية وسيلة للوصول إلى الأهداف السامية .
لقد ظهرت النوايا الحقيقية للحلفاء بعد منتصف عام 1918 وتباينت ردود الفعل العربية، فقد لاحظنا ان الضباط العرب عارضوا الهجوم على قلعة الشيدية (فصوعة) باتجاه الجنوب وطالبوا بالهجوم شمالا، وذلك بعد انكشاف اتفاقية سايكس بيكو حين طلب الشريف الحسين بن علي استيضاحا من الحلفاء حول حقيقة الوضع فكانت الإجابات على شكل رسالة تطمينات .
لقد اثرت اتفاقية سايكس بيكو من خلال إثارة تساؤل في نفس الشريف الحسين بن علي الصلبة ، مطالبا بالحقوق العربية الكاملة كما هى واردة في الوعود البريطانية، وكان هذا أهم حدث رافق عملية الجردون الرابعة أما بقية الأحداث فهي عسكرية تكتيكية ومن أهمها ما يلي :
- وصول سريتي هجانة استرالية قوامها 300 جندي من السويس الى العقبة في 2 اب 1918 بقيادة بكسنون وتشكلت من (300) مقاتل معظمهم من الهجانة المصريين .
- هجوم على المحطة في قلب عمان . وتحريرها وأسر 150 جندي مع مدفعين رشاشين وتعطيل سكة حديد القطار العسكري في المنطقة ، ثم الحركة جنوبا ً في محاولة لتدمير النفق والجسور العشرة .
الكوبانية الحمراء : ( حسب رواية الشيخ هويمل النعيمات )
التقى المؤرخ الدكتور بكر خازر المجالي مع الشيخ هويمل النعيمات – رحمه الله – عام 1994 وعمره حينها حوالي 110 سنوات في بلدة بسطه إلى الغرب من معان بحوالي 20 كلم، وقد ذكر معركة الكبانية الحمراء التي شارك فيها بنفسه .
فاستذكر الراحل معركة (الكبانية الحمراء ) أو معركة التل الاحمر حيث شهد هذا التل معركة حامية بين قوات الثورة و فرسان العشائر الأردنية والأتراك، وتسمية الكوبانية الحمراء نسبة إلى كابينة القطار التي كان لونها برتقاليا ًأو أحمرًا، وكان الجنود حين يهاجمون القطار يركزون الهجوم على كابينة القيادة لتعطيل القطار العسكري العثماني واجباره على الوقوف، وقد وصف الشيخ هويمل مكان المعسكر العثماني الذي كان موجودا ً الى الغرب من قرية بسطة وبالتحديد على المرتفع 986 وهو المرتفع الأعلى في المنطقة، وحين يكون المرء فوق ذروته يشاهد معظم المناطق المحيطة بمحافظة معان وبالتحديد تلول السمنات والمطار ومحطة غدير الحاج والتل الأحمر ومحطة جرف الدراويش والطريق المؤدي إلى العقبة ووادي موسى وأيل والطيبة ويعتقد أن اختيار الأتراك لهذا المرتفع كان بسبب موقعه الاستراتيجي العسكري حيث يشكل نقطة ملاحظة واسناد لجميع المناطق المحيطة به .
أما عن شهداء (الكبانية الحمراء ) التل الأحمر فاستذكر الشيخ هويمل اسم الشهيد سالم السودي النعيمات وسليمان شتات النعيمات واللذان استشهدا في هذه المعركة .
عنيزة ( المحطة والقلعة )
عنيزة محطة تصنف ضمن المراتب الاولى من حيث التنظيم والتحصين العسكري، يسند عنيزة من الجهة الغربية وعلى بعد حوالى 300 متر قلعة عنيزة التي يعود تاريخ بنائها الى (1587) م وهي من طابقين بمدخل واحد من الجهة الشرقية بناؤها من الحجر الاسود والطين مربعة الشكل 22م×22م تقريبا يمكنها استيعاب 100 جندي والى الغرب من هذه القلعة يوجد جبل عنيزة .
عنيزة الجبل ذو القمم العشرين بارتفاع 1145 مترا وهو الأعلى عما حوله يسيطر على المنطقة السهلية وكانه يقع في مركزدائرة نصف قطرها الشمالي والجنوبي الغربي حوالي 15 كلم أما نصف قطرها الشرقي فهو مفتوح يزيد على المائة كيلومتر .
هجمات قوات الثورة ضد موقع عنيزة
كانت المنطقة ضمن اهتمام الأمير زيد بن الحسين فقد ركزت قوات الثورة على خط عنيزة الشوبك واستطاعت الحصول على موطئ قدم في المنطقة بدليل ما ورد فى رسالة من الأمير زيد إلى الأمير فيصل في 22 / 1 / 1918 يقول فيها ( وحسب الاخباريات الواردة في تثبت موقع الحديد الممدود بين الشوبك وعنيزة …)، وقد نفذت قوات الثورة عدة عمليات تعطيل وتدمير للسكة الحديدية للقطار العسكري شمال عنيزة وجنوبها إضافة إلى الاشتباك مع الأتراك في مواقع عديدة حولها كالتالي :
أ . 5 ايار 1918 تعطيل 25 قضيب سكة بين عنيزة والجردون .
ب . 11 ايار 1918 تعطيل جسر من ستة قناطر بين عنيزة والجردون .
جـ . 12 ايار 1918 هجوم على محطة الجردون وفرار القائد الالماني )ديمتري ) ومعه 30 جنديا ألمانيا و نمساويا إلى عنيزة .
د . 20 حزيران 1918 استيلاء عشيرة ( العودات ) من قبيلة الحويطات على تسعة بغال ذخيرة بين الجردونه وعنيزة (وهذا دليل على أن قلعة عنيزة كانت مستودعا للذخيرة).
وفي رسالة من جعفر العسكري إلى الأمير زيد مؤرخة في 17 شباط 1918 ورد فيها:
( من الوهيدة يهاجم مولود (مخلص) مع مدفعية صحراء وأربعة ارهاط من المشاة والمواليد والحجزة على معان وقوة الهيشة مع الشريف عبد المعين على عنيزة ولكن هذا سيكون للاشغال، ونلاحظ أن هجوم عنيزة هدفه ( الاشغال ) أي مشاغلة العدو دون الدخول باشتباك حاسم يهدف إلى السيطرة على المحطة او القلعة ) .
لذلك لم تنجح كل العمليات الموجهة ضدها ولم يخلها الاتراك إلا بعد انسحابهم من معان ذاتها ويعود ذلك إلى :
أ . قوة التحصينات التركية إضافة إلى أن القوات غير النظامية ومن التجارب العديدة تحجم عن القيام بأي عمل عسكري ضد مواقع محصنة .
ب . اعطت قيادة الثورة الأولوية الأولى ضد الحامية العثمانية الألمانية النمساوية في معان ومحطة الجردون خاصة، خلال ربيع عام 1918 ولم تتوجه أي قوات كبيرة تستهدف السيطرة على عنيزة إلاّ تلك المحاولة الطريفة والتي انتهت بمفاجأة مضحكة فعلا حين تقدمت القوات العربية ليلا وبحركة سرية باتجاه جبل عنيزة، ولكن ما أن اقتربت القوات من الجبل حتى أخذ أحد الحمير الذي يحمل فناطيس الماء بالنهيق وتبعه بقية الحمير، فانتبه الأتراك في الجبل للهجوم، فوجهوا رشاشاتهم ومدفعيتهم وأسلحتهم لاتجاه الهجوم، مما اضطرها للتراجع والغاء العملية، وقد كتب جعفر العسكري عن هذه العملية في مجلة عسكرية عراقية وهي المرجع الوحيد الذي يتحدث عن هذه العملية .
المراجع :
- الثورة العربية الكبرى : الموسوعة التاريخية المصورة ، البحث التاريخي والإشراف الدكتور بكر خازر المجالي ؛ فريق العمل فريق الفرس الشقراء ، مركز أرض الأردن للدراسات والنشر،2011 .
- التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية / بكر خازر المجالي، قاسم محمد الدروع 1995 .
- الثورة العربية الكبرى : الحرب في الأردن 1917-1918 : مذكرات الأمير زيد / سليمان موسى، دائرة الثقافة والفنون.
- المراسلات التاريخية 1914-1918 : الثورة العربية الكبرى. المجلد الأول / أعدها وحققها وكتب حواشيها وترجم بعضها سليمان الموسى ، 1973.
- المعارك الأولى : الطريق إلى دمشق، صبحي العمري، رياض الريس للكتب والنشر، 1991.
- ذكرياتي عن الثورة العربية الكبرى، محمد علي العجلوني، مكتبة الحرية ،عمّان ، 1956 .
- أوراق الثورة العربية، صبحي العمري، رياض الريس للكتب والنشر، 1991.