الدين عند الأردنيين الغساسنة: المسيحية كثقافة وحضارة غسانية

By Published On: September 17, 2018

مقدمة

تحّدثنا في بحثنا  السابق “الدين عند الأردنيين الغساسنة: مدخل عام” عن الحالة الدينية السائدة في الأردن وما حولها. وعن الثلاث طوائف مسيحية التي تشاركت الوجود ككيانات دينية وسياسية منفصلة. فالغساسنة مونوفيزيون والبيزنطيون ميافيزيون أما المناذرة فاعتنقوا النسطورية. ورغم أننا ربطنا في البحث الأول الدين بالأحداث والمجريات السياسية كان لا بد لنا من وقفة على الآثار الاجتماعية والحضارية للمسيحية عند الأردنيين الغساسنة.

مسيحية الغساسنة

في القرون الميلادية الأولى، كانت الإمبراطورية الرومانية تمارس اضطهادها الديني على المؤمنين بالمسيحية عدا عن الظلم والاستبداد ومحاولات فرض الولاية والسيطرة بالقوة. في تلك الأثناء خرجت من رحم الصحراء الأردنية الشرقية الملكة ماوية، قادت القبائل الأردنية وأغارت على الحاميات الرومانية في الأردن ولبنان وسورية وفلسطين وحتى مصر. أرعبت قوة الملكة وجيوشها الأردنية القوات الرومانية فاضطروا لعقد صلح معها.

تصوير كنسي للملكة الأردنية المحاربة ماوية

اعتنقت الملكة المحاربة المسيحية على يد القديس يعقوب البرادعي وكانت أولى شروطها أن يتولى القديس البرادعي أسقفية القبائل الأردنية وتلاه صديقه القديس ثيودور وتولى الجزء الغربي من الأردن بالتعاون مع الأردنيين الغساسنة. سرعان ما انتشر المذهب اليعقوبي (نسبة ليعقوب البرادعي) في المنطقة فاعتنق المذهب معظم الأردنيين في سهول حوران الأردنية والبلقاء وما حولها.  تمسك الغساسنة بشدة بهذا المذهب ودافعوا عنه بغيرة وإباء أمام محاولات الإمبراطورية البيزنطية لتحويلهم عنه.

صورة للقس البرادعي الذي عينته الملكة ماوية وكان مسؤولا عن المذهب المونوفيزي في الشرق

يورد الباحث تيسير خلف ترجمة لرسالة بعثها الملك الغساني الحارث بن جبلة إلى القديس يعقوب البرادعي يناقش فيها آخر انتصاراته :

رسالة البطريق الأمجد “الحارث بن جبلة ” للقديس يعقوب البرادعي

أود أن أعلمكم يا صاحب الغبطة أن الله والقديسة مريم باركا سفري وغمراني بنعمة النجاح في ما عزمت عليه من أعمال، وعندما كنت استعد لمغادرة العاصمة حدثني الأسقف مار بولس رئيس الدير الكبير(الأرشمندريت) بالأمر الذي سبق أن ناقشه معك، والذي كتب بخصوصه إليك. وقال لي إنه أرسل لك ثلاث رسائل بهذا الشأن، وأود أن أخبر غبطتكم أنه إذا لم تستطيعوا إرسال الرسائل والأشخاص المكلفين بتنفيذ ما أمرتم به، أو إذا منعتكم الظروف من الحضور إلينا، بإمكانكم إرسال الرجال المعنيين محملين بالرسائل، وأطلب من الله أن يساعدني على إنجاز الأمور حسب إرادته، ولهذا يجب اختيار الأشخاص المؤهلين لهذه المهمة”[1].

وتتوضح العلاقة القوية بين القديس البرادعي وأهم ملوك الأردنيين الغساسنة الحارث بن جبلة في هذه الرسالة. إذن، من عند الملكة الأردنية ماوية بدأت الحكاية ولكن في ذات الوقت الذي كانت الملكة ماوية تغذ الخُطا بشجاعة نحو القوات الرومانية، وُجد قديسون آخرون، كانوا ملهمين وحاضرين في الوجدان الغساني كرموز دينية لا تُنسى.

وقد كانت الممالك المسيحية الثلاث (الغسانية الأردنية والمناذرية والنجرانية) تتبارى في تكريس جهودها للحفاظ على مذاهبها ونظامها الكنسي وكان الأردنيون الغساسنة يتصدرون المقدمة حيث أن المناذرة اعتنقوا المسيحية في وقت متأخر من القرن السادس ميلادي بينما كانت نجران مدينة صغيرة معرضة لتهديد مستمر ممّن حولها حتى الوقت الذي انضوت فيه تحت الراية الغسانية.

التعاليم والطقوس

امتاز الأردنيون الغساسنة بإحساسهم الديني الحار، فتعج المصادر والتقاويم الكنسية باحتفالاتهم وأعيادهم وأيام صومهم. كان الغساسنة يعظمون الصيام إذ صاموا الصيام الكبير(أربعين يوما) إضافة لأيام العذراء مريم. ويذكر الأب قاشا في كتابه “صفحات من تاريخ المسيحيين العرب قبل الإسلام” أن الكنائس كثرت في بلاد الغساسنة وأن صوت أجراس الكنائس كان يتردد في كل مكان وعليه يورد بعض الأشعار التي تغنى فيها الأدباء بصوت نواقيس كنائس بلاد غسان:

حنت قلوصي بها والليل مطرق

بعد الهدوّ[2] وشاقتها النواقيسُ[3]

ومما ذكر في الشعر العربي القديم عن احتفالات الأردنيين المسيحيين بعيد الفصح قول حسان بن ثابت:

قد دنا الفصح فالولائد ينظمن

سراعا أكلة المرجــان

يتبارين في الدعاء إلى الله

وكل الدعاء للشيطان  (أي كل الدعاء واللعنات على الشيطان )

 ذلك معنى لآل جفنة[4] في الدير

وحق تصرّف الأزمان

صلوات المسيح في ذلك الدير

دعاء القسيس والرهبان[5]

وفي عيد الشعانين[6] الذي كانوا يسمونه “يوم السباسب[7]” أنشد النابغة الذبياني واصفا الأردنيين الغساسنة أثناء احتفالهم:

رقاق النعال طيب حجزاتهم

يحيون بالريحان يوم السباسب

ومن الأعياد الأخرى التي تذكرها كتب التاريخ القديمة، عيد “السُبّار” وهو عيد تبشير جبريل (ع ) للسيدة مريم (ع) بحملها بالمسيح (ع). وعيد “القلنداس” وهو عيد الأسبوع الأول بعد ولادة السيد المسيح (ع). وعيد “الدِنح” وهو عيد ظهور السيد المسيح (ع) لبني إسرائيل. وعيد “السُلاق” وهو يوم تسلق المسيح إلى السماء.

ومن شدة اهتمام الأردنيين الغساسنة بهذه الأعياد الدينية كانوا يحيكون لها ملابسا خاصة. فعرف عندهم ثوب ” الإضريح” وهو ثوب من قماش خاص مصنوع من صوف الماعز يلون باللونين الأحمر أو الأصفر (قاشا: 2005)

الرهبنة عند الغساسنة

كان النظام الكنسي الذي أسّسه وحافظ عليه الغساسنة نظاما يتماشى مع الأسس العامة للديانة المسيحية. فقد أنشأوا كما أسلفنا الأديرة والكنائس وكان الراهب يعيش حياته محتذيا بالمسيح (ع) ويهبها لفعل الخيرات والعبادة.

ولا تختلف التقاليد التي اتبعها مسيحيو الأردن من الغساسنة عن التي يتبعها مسيحو اليوم. فقد تولّى الراهب أو الأسقف تقاليد الاعتراف، وحفلات العماد والزواج والتكريسات الدينية والقداس.

كما اهتم الأردنيون الغساسنة ببناء الأديرة والبِيَع (جمع البِيعة وهي الكنيسة) ليس فقط في الأردن وسوريا إنما وصلوا إلى مصر. فيذكر أنهم عقب انتصارهم على المناذرة عام 554 أعادوا بناء كنيسة سانت كاترين الواقعة على جبل في سيناء.

صورة حديثة لدير سانت كاترين في سيناء، والدير مبني على أنقاض كنيسة جددها الأردنيون الغاسسنة واعتنوا بها

عرف الرهبان الغساسنة عدة أنماط سكنية، ظل بعضها صامدا على أرض وطننا الأردن حتى الآن. يعدُّ البرج أو “الأسطوانة” من أبرز المباني الدينية عند الرهبان الأردنيين الغساسنة. يحوي موقع أم الرصاص الأثري أقدم برج من هذا النوع، وهو الوحيد الذي صمد رغم الزلازل التي ألمّت بالمنطقة. في تلك الفترة انتشرت ظاهرة التعبد عبر الخلوة والانقطاع عن الأمور الدنيوية وقد بني البرج لخدمة هذا الهدف فهو في تجمع كنسي محاط بحصن وبارتفاع 15 متر. وكان القديس سمعان العمودي هو من بدأ هذه الطريقة في الرهبنة وسميت فيما بعد الرهبنة العمودية.

البرج أو الأسطوانة الباقية في مجمع كنائس أم الرصاص في الأردن

ومن المباني الدينية الأخرى التي اشتهرت هي “الأُكيراح” وهي مبان لاحتفال الرهبان بالأعياد الدينية. وهنالك “التامور أو التأمور” وهو مبنى منعزل للتعبد. و”الدير” و”الصرح” و”الركح” و”الصومعة” “والطربال” و”العُمر” و”القلاية” و”القوس” و”الكرح” و”الناموس” وقد ذكرت كل هذه المباني ذكرا في الأدبيات القديمة دون الوصول لآثار حقيقية ملموسة لها. (شيخو: 2011)

القديسون والأساقفة

منذ القدم، ترسخت في نفوس أبناء الأردن الحرية والصمود وقول كلمة الحق أمام الظلم والطغيان. في سيرة القديسين والشهداء المسيحيين الأردنيين الغساسنة أمثلة لا تضاهى. فهنالك شهداء وادي فينان وشهداء فيلادلفيا يوليانوس وإفبولوس وملكامون وغيرهم. ومن البترا نجد تمجيدا للقديس أثينوجينوس وأمه الناسكة ذامياني والقديس بولس أسقف رايثو، البترا. والقديس زكا الشماس وهو من أم قيس. والقديس بطرس من بيت راس والقديس جراسيموس الأردني. لا يمكن لنا أن نلمّ بكل شهداء الأردن في العصر الغساني الذي شهد اضطهادا دينيا واسع المدى، ولكننا نمجد بالطبع ذكرى هؤلاء الشهداء بوصفهم شهداء وطن، ومدافعين أصيلين عن حرية الرأي والاعتقاد المنسجمة بالفطرة مع جوهر الروح الأردنية.

القديس جراسيموس الأردني

تذكر المصادر التاريخية العديد من القديسين والأساقفة بتفصيل أكبر متناولة حياتهم ومساهماتهم وقصصهم. وفيما يلي استعراض لأهم القديسين في عهد الأردنيين الغساسنة.

القديس إليان العمّاني 

تصوير للقديس إيليان العمّاني

من فيلادلفيا انطلقت تمجيدات القديس الأردني إيليان العمّاني الذي استشهد بعد رفضه تقديم القربان للإله خرونس في جرش. كان للقديس العمّاني دكان قرب كنيسة جرش يحيك فيها الثياب وعندما بدأ الإمبراطور ماكسيموس (245- 313) بجمع الناس لاضطهادهم وإجبارهم على تقديم القرابين كان القديس من ضمنهم ورفض ذلك فقيّدوه، وتذكر الروايات الدينية عدة معجزات على تحرر القديس من قيوده وعلى نطق الوثن أمامه. استشهد القديس في الثامن والعشرين من تشرين الثاني حافرا اسمه في سجل شهداء الأردن المبجّلين. [8]

 

القديسان زينون وزيناس

(القديسان زينون وزيناس، من رسم جداري في كنيسة الراعي الصالح في مركز سيدة السلام، عمان، الأردن)

في عهد الإمبراطور ميكسيمانوس الذي أمعن في الاضطهاد الديني وفي منطقة زيزياء جنوب عمان، وقف زينون أمام ظلم الإمبراطور وإجباره للشعب على الوثنية. أما زيناس فهو خادم وتلميذ زينون وقد عذبا بطريقة وحشية ونالا “إكليل الشهادة والخلود” سويا. سطر القديسان مثالا في القوة والصمود يحتذي به الأردنيون حتى اليوم. [9]

تصوير آخر للقديسين زينون وزيناس

الأسقف  ثيودور (540-570)

الأسقف ثيودور هو أحد الأساقفة الأكثر شهرة، فقد تولى أسقفية المملكة الغسانية في أوج ازدهارها في عهد الحارث بن جبلة. كان الأسقف ثيودور صديقا للقديس يعقوب البرادعي الذي ولته الملكة الأردنية ماوية على مسيحيي البادية الأردنية وما حولها. بشّر ثيودور بالمذهب اليعقوبي المونوفيزي وكان يبعث بالرسائل إلى شيوخ وملوك الحواضر والمدن الأخرى. وكان ملتزما بحضور المجامع الدينية الكنسية للتوفيق بين المذاهب المسيحية ، كما لعب دورا حاسما في حركة الثالوثية التي حاربت المذاهب التي ترفض الطبيعة الإلهية للمسيح.

ناقشت العديد من الكتب السريانية اللاتينية والآرامية حياة الأسقف ثيودور بشيء كبير من التفصيل ومؤخرا ترجمت بعض الرسائل التي كتبها هو أو كتبت له نقلا عن السريانية والآرامية، وتعد الرسالة التي بعثها الملك الغساني الحارث بن جبلة إلى القس يعقوب البرادعي من أهم الرسائل التي تذكر حكمة ومكانة القس ثيودور:

وفي هذه المناسبة، أبلغ غبطتكم عن موضوع آخر، وهو أن طيّب الذكر ثيودور بابا الإسكندرية تفضّل وتحدث معي حول موضوع مار بولس رئيس الدير الكبير (الأرشمندريت)، فكنت في غاية السرور، و حمدت الله فقد تحدثت معه وجهاً لوجه واستفدت منه كثيراً، وبتنفيذي للأمور التي أمرتموني بها، أرجو أن أكون أهلاً لصلواته” [10]

القديسان سركيس وباخوس

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

على الشعار الحربي للقوات الغسانية نرى أيقونة رجل محاط بهالة نورانية؛ إنها أيقونة القديس سركيس أو سرجيوس. في القرن الثالث ولد القديسان سركيس وباخوس. في ذلك الوقت كانت الاضطرابات الدينية تسود المنطقة، المسيحية لا زالت دينا حديث الانتشار والإمبراطورية الرومانية تقوم بتعذيب معتنقيه بصورة بشعة ووحشية.

أيقونة قديمة للقديسين سركيس وباخوس وفي المنتصف ترتسم صورة المسيح- المصدر: وكيبيديا

أما القديسان فكانا في الجيش عندما امتنعا عن تقديم الأضاحي والقرابين للإله مركوري (المشتري) تبعا للتقاليد الوثنية في الإمبراطورية الرومانية وعندها اكتشف قائد الجيش اعتناقهما للمسيحية فعذبهما طويلا بغية جعلهما يرتدان عن المسيحية ولكنهما صمدا. استشهد القديس باخوس  في البداية وظل القديس سركيس يتعرض للاضطهاد حتى عرف القائد الروماني بأنه لن يرتد مهما فعل فقطع رأسه في مدينة الرصافة في العراق.

أيقونة تخيلية لمشهد استشهاد القديسين على يد القوات الرومانية- المصدر: موقع بطريركية أنطاكية

بنيت أول كنيسة لتكريم ذكراهما في سهول حوران الأردنية في مدينة الجابية عاصمة الغساسنة الأولى. وبنيت كنيسة أخرى في مدينة بُصرى في القرن السادس ميلادي. كذلك كنيسة أم الرصاص التي تسمى “كنيسة التوأم” لأنها كنيستين في كنيسة واحدة وقد بنيت في عهد الغساسنة في القرن السادس ميلادي تحديدا عام 586.

كنيسة القديس سرجيوس أو سركيس المبنية على أنقاض كنيسة غسانية قديمة. تحوي الكنيسة أقدم خارطة فسيفساء في العالم للأردن وفلسطين- أم الرصاص الأردن

 

ومن الكنائس الأردنية القديمة التي كرست للشفيع كنيسة أثرية في تل العميري، قرب منتزه عمّان القومي في العاصمة. وتل العميري منطقة مأهولة بالبشر منذ العصر الحجري، يذكر النقش اليوناني المكتشف هناك أنه تم رصف مقام القديس  سرجيوس (سركيس)، شفيع الأردنيين الغساسنة، بالفسيفساء وبأن هذا العمل مُهدى للملك الأردني الغساني المنذر بن الحارث. ويخلد النقش أيضا بناء الكنيسة التي تم التنقيب عن آثارها حديثا ليتم الكشف عن صحنها وخزان ماء وعدة مرفقات أخرى.

النقش اليوناني المكتشف في كنيسة موقع تل العميري

ترجمة النص عن اليونانية: “يا رب، تقبل قربان المتبرع صاحب الكتابة ، عبدك موسيليوس و أبناءه
يا رب يسوع المسيح ، إله القديس سرجيوس ، احمي القائد بالغ التعظيم المنذر
يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك أوزيبيوس وأبناءه!
يا إله القديس سرجيوس ، بارك ابنك يوانيس مع زوجته وأولاده!
يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك عبد الله وديونيسيوس و [- – -]!
في عهد الأسقف بوليوكتوس ، المحبوب من الله ، تم رصف هذا الضريح للشهيد القديس سرجيوس بالفسيفساء بسعي من ماري، ابن ربوس، الكاهن الأكثر تقوى، وجورجيوس الشماس، وسابينوس وماريا. في شهر أبريل في وقت [..].”

صورة جوية لموقع تل العميري الأثري

عظّم الأردنيون الغساسنة القديس سركيس كثيرا ووضعوا أيقونته على شعارهم الحربي. مثّل القديس الشهيد بالنسبة لهم “شفيعا” دينيا واستعانوا بذكراه للصمود أمام أعدائهم في الحروب. وتذكر المصادر التاريخية التي كتبها القساوسة باللاتينية أو السريانية أن ملوك الغساسنة وحتى المناذرة والفرس احترموا قبر الشهيد سركيس وكانوا يلتزمون بحضور القداسات والاحتفالات الدينية. ويقول الشاعر جرير واصفا ارتباط الأردنيين الغساسنة بذكرى القديس الشهيد:

يستنصرون بمار سرجيس وابنه

بعد الصليب ومالهم من ناصرِ[11]

لعب قبر القديس الشهيد في الرُّصافة دورا هاما في التاريخ السياسي الغساني. فعندما بدأت العلاقات الغسانية البيزنطية تأخذ منحى سيئا عقب موت الملك الغساني الحارث وتولي ابنه المنذر، كان قبر القديس المكان الذي اختاره المنذر الغساني لقبول طلب الصلح الذي قدمه البيزنطيون في القرن السادس.

القديسان قزمان ودميان

قصة القديسان قزمان ودميان إحدى القصص المؤثرة التي ظلت محفورة في ذاكرة الأردني الغساني. فقد ربتهما أمها ثاؤذتي الشهيدة على حب الخير فأصبحا طبيبان يعالجان الفقراء والمحتاجين بالمجان. استشهدا هما وأختيهما وأمهما على يد الإمبراطور دقلديانوس وكانت أول كنيسة تمجد لذكرى هذين الطبيبين في جرش، سنأتي على ذكر قصة القديسين لاحقا بشيء من التفصيل في فصل المرأة الغسانية والدين لأن ذكر القديسين اقترن دوما بقصة والدتهما الشهيدة ثاؤذتي.

إطلالة على كنيسة القديسين

القديس ( جاورجيوس ) 

القديس جرجس ( جاورجيوس ) رمز مسيحي مشهور حول العالم ولكن قصته لم تكن لتنطلق للعالمية لولا التمجيد الذي حظي به عند الأردنيين الغساسنة. يشابه في صفاته “الخضر” وله عدة كنائس ومقامات تنتشر في السلط وماحص ومادبا والكرك. لقصته وقع جميل ومؤثر في النفس فهو إحدى الشخصيات التي لاقت مصيرا مؤلما من العذاب والاضطهاد لأجل الدين. بصمود القديس جرجس أو “الخضر” آمن الكثيرون بالمسيحية ابتداءً بالعامة وصولا إلى زوجة الإمبراطور دقلديانوس نفسه.

رسم لاتيني للقديس جاورجيوس – الخضر

يحتفي الأردنيون في البلقاء (عاصمة الأردنيين الغساسنة) وما حولهما بالقديس جرجس أو جاورجيوس الذي منح الخلود عندما أنطق الوثن في المعبد  وقال بحسب المرويات ” لست أنا الإلهة الذي تعبد” وقد قتله الإمبراطور على إثر هذه المعجزة.

واجهة كنيسة الخضر في السلط

اهتم الأردنيون الغساسنة قديما في القديس جاورجيوس وكان حاضرا في أدبياتهم وأشعارهم وقد استمر الأردنيون حتى اليوم بتمجيده. بنيت لذكراه كنيسة السلط في القرن السابع عشر، وسمي على إثرها شارع الخضر الشهير في السلط إضافة لحي الخضر. أما في مأدبا، فبنيت كنيسة الخارطة في القرن التاسع عشر على أنقاض كنيسة غسانية قديمة تحوي أقدم وأكبر خارطة فسيفسائية في الأردن وفلسطين، بينما تحوي بلدة ماحص في محافظة البلقاء على مقام مسيحي إسلامي مشترك للخضر.

كنيسة الخارطة في مادبا

 

الفنون المسيحية الغسانية

إنه من المنصف أن نصف الحضارة الغسانية بأنها حضارة “فنيّة” فقد غلف الفن كل جوانب حياة الإنسان الأردني الغساني. وإن استطلعنا الكنائس التي بنيت في عهد الغساسنة نجدها على قدر عال من الجمال. ومن المؤكد أن هذه الكنائس التي تحوي خرائط  فسيفسائية عظيمة حوت تصاوير وأيقونات ملوّنة للقديسين والشهداء قد بنيت كلها بأيدي الحرفيين الفنيين الغساسنة الذين أبدعوا في هذه الفنون.

جزء من خارطة فسيفساء كنيسة القديس جورجيوس ويظهر فيها نهر الأردن

المرأة الغسانية والدين

آمن الغساسنة بالمسيحية وكانوا مخلصين لمذهبهم، فكما ناقشنا في بداية البحث، اعتنقوا المذهب المونوفيزي بتأثير من الملكة الأردنية ماوية التي فعلت الكثير لتثبيت هذا المذهب في المشرق. كانت صورة السيدة مريم العذراء تَمثُل دوما أمام كل امرأة غسانية. فالسيدة مريم مثلت بالنسبة إليهن الصورة الكاملة للمرأة الأم التي تكافح وترعى الجميع.

امتد تأثير السيدة مريم ومن بعدها الملكة ماوية إلى الملكات الغسانيات تحديدا فبنين العديد من الأديرة. كما تسمين باسمها ونسبن أولادهن لها فنرى أن اسم والدة أحد ملوك الغساسنة الحارث بن جبلة تسمى “مارية” وهو أحد أسماء السيدة مريم. (شهيد: 2009)

صورة للسيدة مريم العذراء التي ألهمت شخصيتها النساء الغسانيات

الشهيدات الغسانيات

عظّمت الملكات الغسانيات سيرة الشهيدات اللواتي قضين نحبهن وهن متمسكات بدينهن أمام الاضطهاد. عام  520 ميلادي قُتلت حوال 100 امرأة من نجران التي كانت تابعة آنذاك لحكم مملكة كندة ومن ثم لحكم الغساسنة، فآوت الملكات الغسانيات النساء المهاجرات من نجران وكانت من أهمهن امرأة تدعى “رُحُم أو روهوم” ذكرت كثيرا كقائدة روحية وملهمة لشعراء الغساسنة (شهيد: 2009)

تصوير كنسي للثاؤذتي وعائلتها، الذين خلدوا في الذاكرة لتمسكهم وإخلاصهم لدينهم

تُعد قصة الشهيدة ثاؤذوتي وبناتها انسيموس وابرابيوس ولانديوس إضافة لابنيها الطبيبين قزمان ودميان من القصص المؤثرة للغاية. كانت ثاؤذوتي امرأة طيبة القلب ربّت أبناءها على أن يكونوا مخلصين للمسيحية. دفعت بابنيها قزمان ودميان لتعلم الطب وعلاج المرضى المحتاجين والمساكين بالمجان أما بناتها الثلاث فسلكن طريق الرهبنة ووهبن حياتهن للكنيسة. عندما ارتد الإمبراطور دقلديانوس عن المسيحية بدأ بتعذيب الأهالي المسيحيين بطريقة وحشية وكانت ثاؤذتي وعائلتها من الذين خضعوا طويلا للاضطهاد الديني.

 وقفت  ثاؤذتي بشجاعة أمام الإمبراطور نفسه ونهرته عن أفعاله فقطع الإمبراطور رأس ثاؤذتي ولم يجرؤ أحدهم على الاقتراب حتى صرخ ابنها القديس قزمان وقال: يا أهل المدينة أليس فيكم أحد ذو رحمة ليستر جسد هذه العجوز الأرملة؟ فقاموا ودفنوها. وغضب الإمبراطور من ذلك فأعدم باقي عائلتها. وبحسب الروايات المسيحية نالت هي وأبناؤها إكليل الحياة وصُوِّرت وهي ترتديه في الكنائس والأيقونات كما بنيت أكبر وأقدم كنيسة تمجد ذكرى ابنيها القديسين قزمان ودميان في جرش.

المرأة والحج

كان المجتمع الغساني بأكمله يمتلئُ حماسا عند موسم الحج. شاركت المرأة بطقوس الحج الدينية بشكل أكبر حتى من الذكور. يذكر الأصفهاني اسم أميرة غسانية تدعى ليلى كانت ترعى الحجاج وتساعدهم وتؤمن لهم المأوى والطعام. وقد تمتعت المرأة الغسانية بحرية تنقُّل كبيرة وواسعة وذمة مالية مستقلة ساعدتها على الإنفاق على رحلتها أو على مساعدة الحجيج الآخرين.

اكتسبت المرأة الغسّانية صفة “الحاجّة” وكانت من تمتلك هذا اللقب تحظى باحترام كبير. اقترن هذا اللقب بداية بصفية بنت ثعلبة وهي غسانية أعطت “حق الجوار” أي الأمان  للأميرة هند بنت النعمان آخر أميرة من سلالة المناذرة وكانت تدين هي الأخرى بالمسيحية. وصفت صفية بنت ثعلبة بالحاجة أو الحجيجة (صيغة تحبب وتصغير) وكانت شاعرة مُجيدة، حتى أن الأبيات الشعرية التي أنشدتها في حادثة إعطاء الأمان للأميرة هند لا زالت موجودة تشهد لها على حسن الخلق:

أحيوا الجِوار فقد أماتته معا

كل الأعارب يا بني شيبان

ما العُذر قد لفٌت ثيابي حرةٌ

مغروسةٌ في الدرٍّ والمرجان

بنت الملوك ذوي الممالك والعُلى

ذاتُ الحِجال وصفوة النعمان

كان الغساسنة مؤمنين مخلصين يهتمون للغاية بتقويم الأعياد المسيحية. ارتبطت المرأة الغسانية روحيا بأعياد السيدة مريم العذراء[12]. في سجلات الكنيسة  يكاد يغيب ذكر الذكور في أغلب ما يتعلق بهذه الأيام وتنفرد النساء الغسانيات بالتجهيز لتلك الأيام المقدسة.

لم تقتصر حياة الرهبنة على الرهبان، إنما كانت النساء الغسانيات أكثر ميلا لهذه الحياة. “التأسي بالمسيح” كان أسلوب حياة تتخذه الراهبات فينقطعن عن الملذات ويهبن حياتهن لأعمال الخير والعبادة.

وقد تغنى الشاعر امرؤ القيس الذي يُنسب إلى الغساسنة عن طريق والدته[13] “بالرواهب – الراهبات” وقد ذُكرن أيضا في شعر حسّان بن ثابت. وكان التنظيم الذي تتبعه رهبنة النساء الغسانيات يقسم للراهبات العاديات وللراهبة الأم التي تسمى “حَيجمانة أو هَيجمانة”

الخاتمة

تنقّلنا في هذا البحث من التعاليم والطقوس المسيحية عند الأردنيين الغساسنة إلى أهم الشخصيات الدينية من أساقفة وقديسين واستعرضنا مكان المرأة من خارطة المسيحية الغسانية.  أضواء عيد الميلاد في الأردن تُضاء كل عام، وكنيسة القديس جورجيوس في السلط ومأدبا ما زالت شموعها تشهد لسيرة المسيحية التي بدأها الأردنيون الغساسنة في القرن الأول للميلاد.

المراجع والمصادر

  • Shahid, (1995) Byzantium and the Arab in sixth century, VOL.1, Part 2, the ecclesiastical history, Dumbarton Oaks Research library: Washington D.C
  • E. Shahid (1996) Byzantium and Arab in the sixth century, Vol1. Dumbarton Oaks Washington D.C
  • اليسوعي، ل.( 2011) الآداب النصرانية قبل الإسلام،(ط2) دار المشرق: بيروت
  • قاشا. س (2005) صفحات في تاريخ المسيحيين العرب قبل الإسلام، (ط1) لبنان: بيروت، منشورات المكتبة البوليسية، سلسة الكنائس المسيحية الشرقية
  • أبحاث إرث الأردن، المرأة الغسانية

[1] من مقال منشور للباحث تيسير خلف على موقع مفكر حر: https://mufakerhur.org/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%AC%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%B1%D8%AB-%D8%A8%D9%86-%D8%AC%D8%A8%D9%84%D8%A9-%D9%84%D9%84/

[2] بعد الهدو أي عند السحر فمن عادة الرهبان أن يدقوا أجراس الكنائس قبل طلوع الفجر

[3] قاشا (2005) صفحات من تاريخ المسيحين العرب قبل الإسلام، ص270

[4] آل جفنة اسم آخر من أسماء آل غسان نسبة لجدهم جفنة. وجفنة تعني صاحب الطبق الكبير دلالة على شدة الكرم والجود

[5] المصدر السابق ص272

[6] عيد الشعانين هو عيد مسيحي يوافق الأحد قبل عيد الفصح وهو عيد دخول المسيح لبيت المقدس. وسمي شعانين نسبة لتحية الأهالي للمسيح حيث كانوا يقولون “هوشعنا” المصدر السابق.

[7] السباسب هي أوراق سعف النخيل التي أمسكها سكان بيت المقدس لتحية المسيح عند دخوله. المصدر السابق

[8] المصدر: http://noursatjordan.com/news-details.php?id=47339

[9] المصدر: http://www.orthonews.org/ar/node/2751?page=4

[10] من مقال منشور للباحث تيسير خلف على موقع مفكر حر: https://mufakerhur.org/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%AC%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%B1%D8%AB-%D8%A8%D9%86-%D8%AC%D8%A8%D9%84%D8%A9-%D9%84%D9%84/

[11] المصدر السابق. ص275

[12] للمزيد انظر: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AF_%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B0%D8%B1%D8%A7%D8%A1

[13] كان النسب قديما إلى الأم في نظام اجتماعي يسمى بالنظام الأمومي.