من رحم الأرض الأردنية ، تفاصيل ودلالات اكتشاف بقايا خبز عمره أكثر من 14 ألف سنة
Latest articles
December 22, 2024
December 22, 2024
December 22, 2024
تداولت وسائل الإعلام العالمية خلال اليومين الماضيين خبر الدراسة البحثية المثيرة للاهتمام والتي قام بها خمسة باحثين من جامعة كوبنهاجن وخرجت على العالم بمعلومات مفاجِئة، ستضطر الجميع لإعادة النظر في التصور المعهود عن تسلسل تطور المجتمعات الإنسانية، حيث كان الاعتقاد السائد طيلة فترة ما قبل نشر هذه الدراسة أن الإنسانية انتقلت من حياة الصيد إلى الاستقرار الزراعي، بينما تثبت الدراسة قيام الأردنيين النطوفيين بطحن الحبوب وعجنها وتخميرها وخبزها على الأرض الأردنية قبل 14.400 سنة، وذلك بعد تنقيبات علمية في موقع “الشبيقة” الأثري استمرت لعدة سنوات من البحث والتحاليل، وكانت نتيجتها صادمة حتى للباحثين أنفسهم الذين صرحوا لوسائل الإعلام أن آخر ما كانوا يتوقعون وجوده في هذا المكان هو الخبز، بهذا العمر الممتد لآلاف السنوات.
ويعتبر الخبز من المنتجات الأساسية والأكثر استهلاكا في العالم، وقبل هذا الاكتشاف كان الباحثون وعلماء الآثار يعتقدون بأن أقدم دليل على الخبز يعود إلى تسعة آلاف و100 عام، في تركيا، وهو الاعتقاد الذي ثبت عدم دقته مع ظهور الدراسة الجديدة، التي أثبتت بالدليل القاطع أن الخبز هو جزء من إسهام الأردنيين القدماء بالإرث الإنساني خلال فترة الحضارة الأردنية النطوفية [1] ، والتي امتدت خلال الفترة من 5-10 آلاف سنة قبل الميلاد وهي حضارة قديمة جداً ومزدهرة بقدر قدمها حيث عرفت تدجين الحيوانات والزراعة والصيد وكان أهلها الأردنيين القدماء من أوائل من بنوا المقابر لدفن موتاهم.
هذه الدراسة والدلائل ليست الأولى من نوعها على إسهامات الأردنيين القدماء وعبر العصور في الإرث الإنساني، فالبحوث والدراسات حول حضارات نهر الزرقاء أثبتت أن منطقة عين غزال شهدت أول مجتمعات زراعية في العالم يعود تاريخها لحوالي 10 آلاف عام ، بما يشكل نموذجاً كاملاً على استقرار الناس في القرى الزراعية وبناءهم بيوتاً حجرية كاملةً وذات غرف متعددة، الى جانب أول معادلة كيميائية تمكنوا خلالها من صناعة تماثيل من الجبس ، ونظراً لأهمية تسليط الضوء على هذا النوع من الإنجازات ، قمنا في إرث الأردن بترجمة الدراسة الجديدة عن العثور على بقايا الخبز وإعدادها لكم في هذا التقرير لإجابة استفسارات القرّاء والمهتمين.
تفاصيل الدراسة
موقع الشبيقة الأثري هو موقع يؤرخ للحضارة النطوفية، يقع في الجزء الشرقي من الصحراء الأردنية والتي تعرف بالصحراء السوداء نظراً لانتشار صخور البازلت الأسود فيها، وقد تم اكتشاف الموقع لأول مرة على يد الباحث أليسون بيتس عام 1990 وكانت حملة التنقيب الثانية للموقع بإشراف من جامعة كوبنهاجن بين عامي 2012 -2015.
يتكون موقع الشبيقة من بُنى حجرية متراكبة، وكان هذا النمط من البناء سائداً في العصور الحجرية التي امتازت بنمط معيشي يعتمد على الصيد كمصدر لانتاج الغذاء، وتنتقل الجماعات من مكان لآخر وعند استقرارها لفترة في موقع ما تبني مواقدا في الأرض وبيوتا منخفضة عن سطح الأرض. أما ما يميز الشبيقة فكونها تحوي على موقدين متراكبين.
الموقد الأول كبير الحجم وأقدم من الآخر، مبني من حجارة المنطقة البازلتية بطريقة متقنة جعلته يصمد آلاف السنين وهو دائري الشكل بقطر متر واحد تقريبا وبحجارة ملساء. أما الموقد الثاني فأصغر حجماً وتم بناؤه فوق الموقد الأول، وإلى جانب بقايا الخبز وجد الباحثون في هذين الموقدين وما حولهما عظام غزلان وأرانب وبقايا نباتات إضافة للكثير من الأدوات الحجرية.
اعتمد الباحثون على تقنية التنقيب والمعالجة لمحتويات الموقدين. وبعد فتح طبقة قدرها نصف متر تقريبا وجد الباحثون أكثر من 65 ألف بقايا لنباتات (غير شجرية) محفوظة بشكل مذهل. تنتمي هذه النباتات لخمسة وتسعين فصيلة نباتية مختلفة، 50 ألف درنة من هذه الدرنات تنتمي لفصيلة نباتات مائية.
أما باقي ما تبقى من العينات التي وجدت فكانت تنتمي لفصيلة الصليبيات [2] وفصيلة البقل (البقوليات) والتي تتفرع للعدس والحمص والشعير وغيرها إضافة للشوفان. وكلها فصائل تزخر الأرض الأردنية بها حتى يومنا هذا. وبعد تحليل أعمق كذلك وجد الباحثون 642 بقايا لحم ضأن ميكروسكوبية بطول 2 ملم.
الخبز الصحّي بأيد نطوفية على أرض أردنية
إن عملية توثيق واكتشاف الخبز عبر الدراسة الآثارية والتنقيب ليس بالأمر المباشر والسهل على الإطلاق. فعملية تصنيع الخبز نفسها تنطوي على عدة مراحل؛ فبعد خلط دقيق الحبوب مع الماء تترك العجين لترتاح أو لتتخمّر ومن ثم يبدأ تشكيلها على شكل أرغفة رفيعة وخبزها بالموقد الحجري. وقد تنوعت العينات التي جمعها الباحثون وكان الأمر بحاجة لدراسة عميقة لعينات يصل عددها إلى 65 ألف عينة من موقع واحد !
كانت الطريقة التي اتبعها الباحثون لتحديد ما إذا كانت تلك العينات هي خبز أم لا هي مراجعة العمليات التي يمر بها الدقيق ليتحول الى خبز، فنجد أن عملية التخمير تشكل في العجين فقاعات هواء نتيجة تفاعل المكونات مع بعضها وحالما يخبز العجين تتحول هذه الفقاعات المنفصلة لقنوات مفتوحة على بعضها البعض تعمل على رفع العجين وانضاجه، وبدراسة القطع والعينات التي وجدها الباحثون استطاعوا تصنيف الفقاعات للشكلين المفترض الحصول عليهما عند المرور بعمليتي التخمير والخَبز: الفقاعات المنفصلة وقنوات الهواء التي ترفع العجين عند الخَبز.
لماذا لم تتحلل البقايا ؟
من بين الكم الهائل من العينات صنف الباحثون 24 بقايا كخبز، 22 منها وجد في الموقد الأول القديم واثنان منها في الموقد الثاني الحديث في موقع الشبيقة الأردني، وكانت عالمة الآثار، أمايا آرانز أوتيغي، وزملائها من جامعة كوبنهاغن، قد اكتشفوا هذه البقايا الصغيرة المتفحمة وهو الأمر الذي ساهم في حفظ هذه البقايا من التحلل، وقالت أمايا آرانز أوتيغي لمجلة نيوزويك: “إن تلك البقايا كانت أشبه بما يمكن أن تجده متفحّمًا في حمّاصة الخبز في المنزل. وهي أجزاء مزججة وذات مسامات لها لون أسود، بلغ طولها إنش تقريبًا”، ومع أن “مظهرها غير مشجع كثيرًا”، كما تقول أوتيغي، إلا أنها قد وفرت للعلماء معلومات مهمة قد يستحيل العثور عليها في مكان آخر”.
ما تفسير وجود هذه البقايا ومدلولاتها الاجتماعية ؟
يفسر بعض الباحثين وجود الخبز إضافة للجعة في المجتمعات الإنسانية القديمة كحالة من الترف والرفاهية وبارتباطه بالولائم الاجتماعية أو الطقوس الخاصة. فعندما نجمع الخبز والجعة ولحم الضأن أو الغزلان والأرانب على مائدة واحد في عصر الإنسان الصائد نستنتج أنه لا بد لهذه الأمور أن ترتبط بمناسبة خاصة، ولكن العلماء لم يكونوا متأكدين تمامًا من هذه الفرضية، حيث علّقت الباحثة أوتيغي أننا: “نحتاج إلى المزيد من الأدلة لتقييم الدور الذي كان للمنتجات التي تعتمد على محاصيل الحبوب، مثل الخبز، خلال العصر النطوفي، وما إذا كانت مثل هذه المنتجات عنصرًا ثابتًا ويتناولها الناس بشكل معتاد، أم أنها كانت منتجات فاخرة توجد في مناسبات خاصّة وحسب”، مضيفةً: “نأمل أن نكتشف ذلك في المستقبل القريب”.
كما تشير االاكتشافات الجديدة إلى مستوى تطور المعرفة الانسانية في الحضارة النطوفية، فعملية انتاج الخبز تتضمن: زراعة الحبوب وحصادها أو التقاطها في حال كانت برية، ومعرفة بالنباتات الصالحة للأكل وغير الضارة، ثم طحنها ومزجها وعجنها، ولاحقاً خبزها، وهذه عملية زراعية صناعية تتطلب وجود أدوات خاصة بتلك العمليات وهي ذات الأدوات التي تم العثور عليها في الموقع البحثي، وهذا يعطي انطباعاً واضحاً عن انتاجية الانسان الأردني في العصور القديمة وقدرته على العمل والاكتشاف وتطويع المواد والظروف المحيطة لمساعدته على البقاء، كما يفتح الباب للتساؤل فيما لو كانت المناطق الصحراوية الحالية مناطق زراعية خصبة في ذلك الوقت، بشكل يساعد السكان على طحن الحبوب بتلك الكميات الولائمية واستخدامها كعنصر أساسي في الغذاء اليومي والمناسبات والطقوس.
المراجع:
- Ramsy and others, Archeological evidence reveals the origins od bread, 14.400 years ago in northeastern Jordan, University of Copenhagen, PIANS Articles.
[1] الثقافة أو الحضارة النطوفية، ثقافة امتدت 5-10 آلاف سنة قبل الميلاد وهي حضارة رائدة عرفت تدجين الحيوانات والزراعة والصيد وكانوا من أوائل من بنوا مقابر لدفن موتاهم.
[2] فصيلة نباتية شهيرة على أرض الأردن تمتاز نباتاتها بساق رفيعة وأوراق تشكل شكلا صليبيا وتسمى بعائلة الخردل يتفرع منها أكثر من 3000 صنف كالقرنبيط والملفوف والفجل وحب الرشاد وبعض النباتات المائية الأخرى.