10006641_10152650005808066_260096800_n

فراس خليفات

شاهدت فيلم ذيب أخيراً بعد انتظار طويل. من منحى سينمائي هنالك الكثيرين من أصحاب الاختصاص الذين أثنوا على الفيلم وناقشوا نقاط قوته صورياً وصوتياً وتمثيلاً وغيرها من الأمور فالمشاهد يأسر بسكينة الحياة البدوية وأهمية اليقظة لكل صوت ودلالاته مهما صغر. ومن هنا أجد نفسي ملزماً بنقل ما ضج به الفيلم عبر أغلب مراحل سكونه, فالفيلم أقرب لصرخة وجدان الأمة الأردنية الأولى منذ ولادتها منذراً بدبيب الحياة في جسد هذه الدولة والأمة. الواقع الحالي أن جسد هذه الدولة والأمة الأردنية منذ ولادتها وهي ساكنة لا تعبر عما يدور بخلجها, صامتةً على مضض حتى ابتدأت بهذا الجيل وكان هذا الفيلم صرختها الأولى.

فهذا الواقع الحالي من فجوة بالمحتوى التاريخي تنعكس بالعديد من الأمور وتترك الباب مفتوحاً أمام الجهود المنظمة من مستشرقين أجانب وعرب ومحليين لطمس شرعية الدولة والأمة بالوجود خاصة بحقبة مثل حقبة الثورة العربية الكبرى والتي تجري وقائعها بخلفية الفيلم. هذه الحقبة تعتبر من الحقب المعطية للشرعية كما يعرفها بيير نورا في أعظم كتاب علم اجتماع بالقرن العشرين “حقول الذاكرة”, فحقبة كهذه لو فتحت لأوضحت كيف أن الأردنيين أتت الثورة العربية الكبرى لتكون ببساطة “الكبرى” تكليلاً وبناءً واستكمالاً لعشرات من ثوراتهم الصغرى ابتداءً من عام 1625, وأن هذا الوطن عندما اختطت حدوده فان أجدادنا وعكس ما يحلو للبعض ترويجه قد رفضوه ولكن من منحى أنه كان يجب أن يحتوي على القنيطرة وبصرى شمالاً ولو أن مؤتمر أم قيس أو السلط ضم ممثلين عن الأردنيين من الشرق والجنوب لوجدنا أن المطالبة كانت لتشمل وادي السرحان والجوف شرقاً وجنوب العقبة ومعان الى تبوك جنوباً.

الفيلم ولأول مرة يعرض حقبة تشكل الدولة الأردنية. هي حقبة اجتر تجيرمها وطمسها عبر التسعة عقود مذ تاريخها عبر أبواق العديد من المنافسين الاقليميين من حولنا فكافة آيدلوجيات الاقليم البائدة ومن كل اتجاهات الخارطة سعت وبشكل ممنهج لتجريم أحقية الوجود الأردني. ترافق هذا مع ضعف في صناعة المحتوى التاريخي وتفسيره لعدة أسباب أهمها تدرج الأجيال الأردنية من الفقر المدقع عند زوال الاحتلال العثماني والسعي عندها للكفاف, مروراً بحقبة عسكرة الشعب لخوض الحروب الاقليمية وترسيخ أسس الدولة, وانتهاءً بالسعي وراء ردم الفجوة الاقتصادية وقصد التعليم المدر للدخل, حتى وصلنا لهذا الجيل (غير المأدلج منه) الذي امتلك من الترف الاقتصادي ولأول مرة أن يخوض غمار العلوم الانسانية والفنون. لذا فان الجهد المنظم لتجريم أحقية الوجود الأردني الذي انتزع وينتزع انتزاعاً عبر نضال طويل ترفق مع ضعف بالاعلام والمناهج لاظهاره وانصافه ليترك الوعي المجتمعي المحلي حتى مقتنعاً بعدم وجود شرعية له ويا له من واقع غريب.

عموماً, الفيلم بالنهاية كان فيلماً تشويقياً يهدف بالأول والأخير أن يقدم تسلية للمشاهد ولم يكن فيلم بروبوجاندا ذا رسالة واضحة وبطبيعة الحال فلهذا نجح. الأفلام هي احدى الأدوات لتفسير الماضي واعطائه قيم جمالية وتاريخية واجتماعية أو ثقافية فيصبح إرثاً ايجابياً يسد حاجة في الوقت الراهن. أردنياً تأتي أهمية الفيلم بأنه يتطرق لحقبة لا يوجد لها أي محتوى بالوعي العام المجتمعي علماً بأنها احدى أهم الحقب اذ فجوة محتواها ينعكس بغياب شرعية الدولة والشعب وتركه عرضة لخزعبلات الآيدلوجيات المختلفة بالمنطقة التي لم تتعب من تحوير الحقائق وتهميش التاريخ حتى صدقها وللأسف أغلب الأردنيون لنعيش في طلاسم من الوعي تعتقد أن هذا الوطن خلق بالصدفة ولأداء وظيفة مخونة فقط لا غير, مغيبين 300 عام من الثورات الصغرى ضد المحتل العثماني الذي استلم الأردن وبها كليات جراحة وفلك وأنظمة اتصال وزراعة وري متطورة ليتركها بعد 400 عام وليس له أثر بها غير المخافر حيث تنفذ أحكام الاعدام.

لكن, ليست وظيفة فيلم واحد أن يعالج كافة الشوائب المتجنية على تاريخ هذا الوطن ومن غير الواقعي انتظار فيلم واحد ليسد فجوة لم يتم تعبأتها خلال 94 عام, لكن الفيلم مهم جداً لأنه الأول الذي نقل لسان حال الأردنيين الذين للتو بدأوا بالالتفات الى انصاف تاريخهم وشرعية دولتهم ووجودهم كأمة وحتى لا ندخل في نقاش بيزنطي غير مثمر فان الكلمة التقنية nation لا يقابلها كلمة شعب وانما كلمة أمة, وان كان ذلك يغيظ بعض أصحاب الآيدلوجيات البائدة لأمم متخيلة فهذا مقصود, فبعضنا لا يؤمن الا بأمة أردنية من منحى تقني ومن منحى خيار شخصي حتى لو لم يتوافق مع التعريفات الخاطئة تقنياً أو مع الدستور الذي يعد الأردنيين “جزء” من الأمتين العربية والاسلامية. عموماً, فان الفيلم انما هو انعكاس لبحث الجيل الحالي عن أجوبة ويعكسها حالة الحيرة التي يعيشها الطفل ذيب وهو يخوض في غمار تلك الحقبة ويحاول أن يصيغ منها فهماً. الطفل ذيب هنا يرمز بالنسبة لي الى هذا الجيل الأردني الذي ولأول مرة ابتدأ بالبحث عن ذاته مع تطبيقه إرث غني من العادات تتعبه كما الطفل ذيب الحفاظ عليها وسط تغير آخرين من بني جلدته واجرام العديدين من غيرها وهم يتلاعبون بمصيره ويطمسون وجوده وشرعيته لا بل ويهددونها. فالجيل الحالي هو أول جيل من غير المأدلجين مسبقاً الذي امتلك الترف الاقتصادي لدراسة العلوم الانسانية والفنون.

بما أن هذه المراجعة للفيلم سيتلقون “طخ” غير متعمق فسأعرف أن الجيل هذا مكون من كافة المكونات الثقافية ولكن المفصلي ها هنا أن القائمين على هذا الفيلم ومن شتى المنابت والأصول غير مأدلجين ولذا فان جهدهم وهو الأول بمعالجة التاريخ كان بلا قناعات مسبقة وبكل موضوعية حتى أنه وفي بعض الأحيان ترى أنه خجل في زيادة التعمق في بعض الأمور بتلك الحقبة وهذا طبيعي لأول فيلم يتطرق للحقبة ومن هنا أنحني اجلالاً لشجاعتهم رغم كل الصعاب وأهمها عدم تمويل الفيلم من قبل الجهات الموجودة لمعالجة الفجوات المجتمعية الراهنة والتي على رأسها فجوة الشرعية للدولة والأمة. فان شرعية وجود الدولة والأمة والتاريخ المشرع لها هو ملك جميع المشتركين بهذه الشرعية من شتى الثقافات والهويات الفرعية الغنية.

عموماً, وعلى سبيل المثال, يعرض الفيلم وجود حامية عثمانية وفي مشهد سابق يناقش أبطال الفيلم وجود قطاع الطرق فيأتي تفسير أحد قطاع الطرق للسبب الذي أوصلهم للوصول لهذا الفعل المُجَرَم حتى من قبل قطاع الطرق أنفسهم فيقول بأنه وأجداده كانوا يأجرون الابل للحجاج حتى قدوم “الحمار الحديدي” أو القطار الذي قضى على قوتهم الذي استمر عبر آلاف السنين حتى قبل ظهور الاسلام فالحج الى مكة يمتد الى آلاف السنين وقد رافقه بكل هذه الفترة تأجير للركايب عبر الصحراء الأردنية من نفس القبائل الأردنية المستمرة حتى يومنا. هنا نرى الخجل بالتركيز على انصاف أنسفنا وربما هذا عين الصواب لأول فيلم قبل التطرق بموضوعية لكل ما تحمله الحقبة التي دعت الأردنيين للثورة على واقعها وتحمل ابادات عرقية في سبيل ذلك فان ال562 شهيد في هية الكرك يمثلون واحد من كل 28 نسمة كانوا موجودين وهذا بتعريف الأمم المتحدة يتعدى تعريف مذبحة ليصبح موقع ابادة عرقية.

الفيلم علامة فارقة كأول فيلم يمثل وجدان الجيل الحالي غير المسموم بشوائب آيدلوجية مجرمة لوجوده ومخونة لها وسعى بموضوعية فنية راقية أن يعكس حالة الوجدان المجتمعي الأردني وحاجته بانصاف تاريخه وشرعية وجوده عبر معالجة الحقبة الأهم بتاريخه الحديث. كأول من يفتح الباب قد قام الفيلم بعمل عظيم ورائع بمعالجة التاريخ وتفسيره ويبقى الأمل معقوداً على كافة صانعي المحتوى للتعمق بالحقبة وانصافنا فيها فقط لا غير. وحتى لا أكون مجحفاً فان الفيلم خاض بإرث الحياة اليومية والموروث القيمي عند الأردنيين ويستحق باهتمامه بتفاصيل اللهجة والألعاب واللباس والطعام ومفاهيم الدخالة وممارسات تعقب الأثر والاسترشاد بالنجوم وغيرها العلامة الكاملة من منحى علم اجتماع والعلامة الكاملة من منحى سينمائي كمشاهد بسيط تلذذت بها. نهايةً, فان ما حققه هذا الفيلم بعيداً عن كل هذا الانجاز العالمي سينمائياً, والمحلي كمقدمة لمعالجة وتفسير التاريخ وحتوى الشرعية, فان هذا الفيلم وبما لا يدع مجال للشك قد أنسن البدوي الأردني ونجح في جعل الجميع يتعاطف مع شخصيات الفيلم البدوية كبشر بعد عقود من تجريم ثقافتهم والصاق شتى الفظائع السلبية بها.

فيلم “ذيب” مقدمة لسد فجوة التاريخ المشرع لوجود الدولة والأمة

ebraheem-ghraibeh

ابراهيم الغرايبة

القراءة تبعت الكتابة. ولم تكن الكتابة في بدايتها لأجل الشعر والفلسفة والعلم، ولكن لتنظيم العمليات التجارية؛ وذلك عندما اكتشف الآراميون أنه يمكنهم أن ينشئوا موارد إضافية بنقل السلع من مكان إلى آخر ومبادلتها بأخرى، أو بتطوير الأغذية والمواد المتاحة إلى سلع أخرى ذات قيمة مضافة (الصناعات الغذائية وأساليب تخزينها ومعالجتها والنسيج والصباغة والدواء..)، أو بإنتاج تقنيات جديدة تطور الأعمال اليدوية (السيوف والعربات والسفن الكبيرة وتدجين الجمل..). وقد نشأت حول هذه الموارد مدن وحضارات، وجدت أهميتها ومواردها بالدواوين، وأنظمة إدارية وتشريعية تحتاج إلى كتابة وتوثيق. ثم أنشأت الوفرة مجالا للشعر والفلسفة والعلم.

كانت القراءة الشائعة تتم بصوت مسموع. وقد تعجب القادة والجنود المحيطون بالإسكندر كيف يقرأ بصمت! ويصاحبها في أحيان كثيرة المشي. وبالطبع، ما تزال القراءة بصوت مسموع والمشي يساعدان أكثر على التفكير والتركيز. ويقال: من يفكر كثيرا يجب أن يمشي كثيرا.

وقد تميز العرب والصينيون في العصور الوسطى بحب الكتب والقراءة والمكتبات والولع بها. وفي التاريخ العربي أخبار وقصص كثيرة، طريفة وعجيبة، في عادات القراءة التي تحولت من عادة نخبوية، إلى اتجاه اجتماعي شعبي جارف. وقُدرت متاجر الكتب والنسخ “الوراقة” في بغداد في القرن الرابع الهجري، بحوالي مائة. وكانت تنافسها قرطبة؛ مدينة العلم والشعر، حتى قيل إن في كل بيت في قرطبة شاعرا!

وقد أدى تطوير صناعة الورق في القرن التاسع الميلادي إلى ثورة معرفية. فقد كانت الكتابة قبل ذلك على الجلود (الرقّ) والبردي والطين والحجارة والخشب والعظام والنحاس والمعادن؛ وهي بالطبع عملية معقدة ومكلفة جدا. فالكتب التي كانت غالبا ألواحا أو لفائف من الجلد، تحتاج إلى موارد عظيمة وجهود كبيرة. لنتخيل، مثلا، كتاب الفلاحة النبطية الذي ألفه في القرن الثاني الميلادي قثامى الكسداني، وقال عنه حفيده، بعد ثمانمائة سنة؛ ابن وحشية الكسداني، إن الكتاب عبارة عن ألف وخمسمائة صفحة أو لوح من الجلد، كل صفحة مستقلة بذاتها. وفي القرآن وصف للكتب السماوية بأنها “وكتاب مسطور في رقّ منشور” أو “صحف إبراهيم وموسى” أو “ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة”.

وكان الطبيب الروماني آنتيلوس، في القرن الثاني الميلادي، يعتقد أن من لا يحفظ الأشعار عن ظهر قلب، وإنما يرجع إلى الكتب، لا يستطيع التخلص من العصارات السامة الموجودة في جسمه إلا بمجهود كبير، وبواسطة تعرق فوق العادة؛ في حين أن الناس المتمرنين على التخزين في الذاكرة، يطردون هذه العصارات السامة عبر الزفير.

القراءة بصوت مرتفع، والقراءة بصمت، والقدرة على تخزين المفردات؛ كل هذه قدرات مدهشة تعلمناها بطريقة لا يمكن تفسيرها.

الغد

القراءة: من التجارة إلى التشكيل الاجتماعي

11162078_1638355806397851_9216414799347690553_n

مقال منشور بصحيفة الغد بتاريخ 31122007 لأحمد الرواشدة يداعب فيه فكرة الإرث الخاص بالعقبة نعيد نشره للتحفيز على الحفاظ على حفاير النخيل بالعقبة لقيمها التاريخية والاجتماعية والجمالية وكإرث بيئي وكمنظر طبيعي من الإرث الوطني, ولارتباطها بإرث الأنشطة كفلكلور روائي وثقافي.

أحمد الرواشدة

حين كانت العقبة قرية صغيرة تغفو على شاطئ البحر الأحمر منذ ثلاثة آلاف عام، عُرف النخيل مصدرا لصناعة بسطها وسلالها، ومن لحائها جدلت حبال قوارب الصيادين في رحلتهم نحو صيدهم في عباب الأحمر، وإذا كان للعقبة، ما تفتخر به، من بحرها وشاطئها وفنادقها ومرجانها وأسماكها، فإن نخيلها أيضا، مصدر حب أهلها وفخرهم، فهو طعام برهم.

شجرة النخيل هي توأم مدينة العقبة التي ولدت معها، فهي من أقدم شجر المدينة، وواحدة من معالم تراثها وكانت رأسمال اقتصاد سكانها، إضافة إلى ما تجود به رحلات صياديها اليومية في غزوات البحر.
تعود علاقة أهل العقبة وارتباطهم بالنخل وزراعته إلى عهود سحيقة، ومنذ ثلاثة آلاف عام تقريبا، بحسب مؤرخين وباحثين، وكشفت الحفريات الأثرية في”تل الخليفي” غرب المدينة عن وجود أجزاء من حبال مصنوعة من نسيج النخيل تدل على استخدامها في صناعة قوارب الصيد، وبعد انتقال المدينة من موقعها الغربي إلى الشرق “موقعها الحالي” نقل أهالي العقبة نخيلهم إلى هناك فقاموا بزراعته على الشاطئ الشرقي من ساحل البحر.

يقول احد المسنين في العقبة إن “النخلة تحتل مكانا مميزا في تراث أهل المدينة، فهي الشجرة التي يستطيبون ثمرها ومنها يصنعون بسطهم، وهي طعام وفاكهة البر بالنسبة لهم، ترفد ما يجود به بحرهم وماؤهم”.
ويرى الباحث في تراث العقبة عبدالله المنزلاوي أن “النخلة جزء من حياة العقباوي، وهي مع البحر تشكل أساس حياته كلها”، ويضيف أن أهل المدينة لم يكتفوا بزراعتها في بساتينهم، التي كانوا يسمونها “الحفيرة”، بل زرعوها في وسط بيوتهم.

ويضيف “احتلت النخلة مكانتها في قلوب مواطني المدينة، فأطلقوا عليها أفضل أسماء النساء، فنادوها بليلى، وصبحة، وزهرة، وسلمى”، وهكذا بحسب المنزلاوي لم تكن النخلة مجرد زينة في بيت العقباويين، وشوارعهم بل احتلت مكانا في المنزل، ويزيد الباحث الذي أرخ للمدينة وتاريخها “انك لا تكاد ترى زاوية إلا وفيها النخلة أو بعضا منها”، ويستدرك قائلا “ولم لا؟، فهي ظل البدوي قديما في ترحاله، ورطبه الجنية في إقامته، وهي المتاع والأثاث والرياش، فمن سعفها صنع سلال طعامه، وأدوات صيده، ومتاعه، ومن سعفها بنى بيته وعريشه”.

وبحسب مواطنين في المدينة، فإن العقباويين يتفننون في تخزين التمر والرطب، ويحفظ أهل المدينة تمرهم بكبسه ووضعه في السلال و(المراجين) ليكون مؤونة لشتائهم، وتتعدد الصناعات المستخرجة من التمر، فمنه العجوة والتي تخلط بالزعتر والتوابل والسمن والزبد، كما ويصنع منه أيضا الدبس والمعقود والكعك وغيرها من ألوان الأطعمة والحلويات.
ويحفل تراث العقبة بقصص عن النخل ومدى تعلق سكانها به ورعايتهم وإكرامهم لها، حتى أصبح تعلقهم بالنخل جزءا من التراث المحكي في المدينة، حيث يتداول الناس هنا رواياتهم عن فلان؛ الذي لم تثمر نخلته منذ رحيله عن الدنيا، او عن تلك التي لم تصبر على فراق صاحبها فرحلت عن الدنيا برحيله. على ان سقوط النخلة بفعل الرياح أو ظروف أخرى، ليس نهاية مطافها بالنسبة للعقباوي، فإذا ما مالت النخلة، أو سقطت يسارع صاحبها فيحملها إلى بيته، فيعالجها ويغرسها لتحيا من جديد. ويتداول مسنون في العقبة مواساة الناس بعضهم بعضا بوفاة نخلة، وينتظر (العقباوي) التمر من نخلته كما ينتظر المولود، فإذا ما بدت الثمار بالظهور أسرع إليها فقلمها ولقحها بالطلع واعتنى بها حتى ينضج تمرها، ويتحول موسم جني التمر في الصيف إلى عيد وعرس فولكلوري، حيث يعد أهالي العقبة العدة لهذا اليوم ويتجهزون له قبل أيام من قدومه، وإذا ما أشرقت شمس ذلك اليوم خرج الجميع إلى حفائرهم واصطحبوا النساء والأولاد والطعام والسلال، فيتسلق الرجال النخيل وتنشغل النساء بإعداد الطعام ويتراكض الأطفال في الحقول فرحين بهذا العيد، وبعد قطف التمر يتم تجميعه على الحصر، ثم فرزه حسب نوعه وحالته وبعد ذلك يتم تقسيمه على الورثة والشركاء حسب التقاليد المتعارف عليها، وبعد تقسيم التمر يحمل كل واحد نصيبه في سلاله ثم يتفقد جيرانه وأصدقاءه وأقرباءه ممن لا يملكون نخيلا فيدفع إليهم جزءا من نصيبه ثم يتهادون ويتبادلون التمر بينهم، وقد يستمر موسم القطاف عدة أيام، وبعد ذلك تبدأ مرحلة الفرز والتصنيع والتخزين.

ولم يكن موسم القطاف هذا يقتصر على (العقباوية) فقط بل كان يتعداهم إلى جيرانهم من اهل البادية، فهم شركاء أهالي العقبة في النخل، وفي موسم القطاف يتوافد البدو من الصحارى والبوادي المجاورة فيجتمعون في العقبة ويضربون خيامهم وسط المدينة في (سيح أبو سلامة) وهي ساحة وسط النخيل والمنازل، ويوقدون الضيوف نيرانهم ويجتمع أهالي العقبة معهم ويستضيفونهم لعدة أيام، يحيون خلالها ليالي الصيف بالرقص والغناء والسامر والدحية والرفيحي والعزف على الربابة والسمسمية فيتحول موسم قطاف البلح إلى عرس فلكلوري رائع، ويمثل موسم جني التمر مناسبة لاهل العقبة وجيرانهم، للتجارة والبيع، يأتي البدوي بسمنه وماشيته وصوفه فيبيعها لأهالي العقبة ويشتري بأثمانها القماش والأرز والطحين وغيره، كما كانت تعقد في هذا الموسم التقليدي الصفقات التجارية فيفك الراهن رهنه ويبيع البدوي جزءا من بضاعته. وفي الموسم تبرم العهود، وتوثق، وتعقد جلسات الصلح وتسوى الخلافات وتطيب الخواطر، وبعد قطاف البلح يتقاسم الشركاء نصيبهم حسب ما يتفقون عليه فيحمل البدوي تمره ويطوي خيمته ويطفئ ناره وينطلق عائدا إلى مضاربه منهيا بذلك هذا العرس الفلكلوري الجميل، على أمل العودة في العام التالي.

أحب الصياد (العقباوي) النخلة فهي أنيسته في سفره، ففي رحلة صيده تكون البداية من تحتها، يترك جزءا من طعامه ومتاعه تحتها، يحمل بعضه الآخر من تمر وحبال وسلال، وهي آخر ما يودعه من أهله عند ذهابه لرحلة صيده، حيث يجلس تحتها فيجمع متاعه وشباكه استعدادا للصيد، وإذا ما انطلق بسفينته كانت بوصلته في عرض البحر، وإذا ما عاد من صيده، ينزل تحتها متخففا من أعباء، رحلة صيد طويلة.

ولأهالي العقبة مواقف وقصص تراثية مع النخلة يتوارثونها عبر أجيالهم، ومن هذه التراثيات أن تجد (العقباوي) يحدث نخله أو يداعبه، خصوصا عندما يحرث الأرض أو يسقي الزرع، فتراه يغني ويتغزل بنخلته كأنها فتاة أحلامه، ومن أطرف ما روي في تراث أهالي العقبة عن ذلك أنه عندما لا تثمر النخلة لسنوات متوالية يقوم صاحب النخلة بالاتفاق مع أقرانه بتخويف نخلته وحثها على الإثمار بطريقة طريفة حيث يجتمع أقرانه حول النخلة فيأتي صاحبها من بعيد يحمل في يده سيفا فيشهره وينطلق مسرعا نحو النخلة وهو يصيح بصوت عال ويقول “سأقطع هذه النخلة ولن أبقي لها قلبا ولا سعفا ولا جذرا”، فيتراكض أقرانه نحوه ويبعدونه عن النخلة ويدفعونه عنها ويسألونه: لماذا تريد قطع نخلتك؟ فيقول: إنها لم تثمر منذ كذا وكذا ثم يندفع نحوها من جديد وهو يتوعدها ويهددها ويقول “ذروني أقطعها وأتخلص منها”، فيمنعه أقرانه ويقف أحدهم فيقول بصوت عال: أنا أكفلها لك وأتعهد لك عنها بأنها ستثمر في العام القادم وإن لم تثمر فاقطعها وارمها في البحر، فيسكن غضب صاحبها ويتركها. ليأتي في العام التالي وقد أثمرت.

نخيل العقبة: قصص وذكريات محملة بعبق التراث وجودة الثمار

Scroll to top