مقدمة

تستلقي على مدّ البصر بثيابها السوداء التي تفيض سؤدداً ومجداً، تلك البادية التي كانت حاضنة للتاريخ، وكتاباً اسودّت صفحاته بنقوشات تركها أجدادنا الأردنيون كعلامات تهدينا إليهم، وحجارة حفظت الأمانة فخبأت نقوشاتهم حتى وصلتنا رسائلهم الساحرة بخطوط قديمة رغم أننا لم نعتدها، إلا أنها حقا تشبهنا، في الحرّة الأردنية لا تدع سحر المنظر يأخذك بعيدا عن سحر الحضارة التي حفظتها في نقوشها ورسوماتها، ارفع بصرك عن حجارتها السوداء لتلتقي عيناك جبل قرمة، الذي احتضن ما يزيد على 5000 نقش قديم محمّل برسائل أجدادنا الأردنيين.

الموقع والتسمية

يقع جبل قرمة على بعد 30 كم شرق مدينة الأزرق في حرة راجب، والحرة هي صخور بازلتية سوداء قديمة جداً، تكونت نتيجة نشاط بركاني في المنطقة، وعدة اندفاعات بركانية، وتشير الدراسات الجيولوجية إلى أن المنطقة تشكلت إثر ستة اندفاعات جيولوجية، كونت في أحد أطوارها معظم الصخور البازلتية في شرق الأردن، باندفاع بازلتي يبلغ سمكه 25 متراً أو أكثر، ويرجع إلى الفترة ما بين الميوسين – البلايستوسين.

وترجع تسمية جبل قرمة إلى شبهه بقرمية الحطب، أي الحطب الثخين الذي يستخدم للتدفئة، ولأنه يظهر من مسافات بعيدة، ثم عمم ذلك ليطلق على جميع الجبال المحيطة به فسميت جبال قرمة.

جبل قرمة والحرة الأردنية – مشروع جبل قرمة

البيئة والمناخ

يمتاز مناخ الحرة الأردنية وجبل قرمة، بأنه جافّ بنسبة هطول قليلة جدا، ولكن الطبيعة البازلتية للمنطقة تحولها إلى مخازن جوفية ممتازة للمياه، فتنبثق حول جبل قرمة العيون المائية في الوادي المجاور له، وادي راجل الذي يمتاز بعمقه ويحتوي كثيرا من الغدران التي كانت تحفظ المياه من فصل الشتاء لغاية الفصل الثاني من العام.

تشير كثير من الدراسات الآثارية إلى أن منطقة الحرة الأردنية كانت منطقة خصبة، مليئة بالتنوعات الحيوانية والنباتية وهذا يدل على أن أجدادنا الأردنيين القدماء تمكنوا من استغلال الصحراء بمناخها القاسي، وتحويلها إلى بيئة منتجة.

ورغم المناخ السائد وطبقة الصخور البازلتية التي تغطي أرض الحرة، إلا أنها تحتوي على كثير من الأعشاب العطرية والرعوية والنباتات البرية التي تمتاز بفوائدها العلاجية كالحنظل والكراث والمحروت (الجزر البري) والبابونج والجعدة والصبر والخبيزة.

مقابر حجرية قديمة

اكتشفت المسوحات الأثرية التي أجريت ضمن “مشروع المناطق الأثرية في جبل قرمة” مقابر حجرية يرجع تاريخها إلى أكثر من 4000 عام، وهي حوالي 50 مجموعة من الركام الصخري والمدافن، التي تشير بشكل واضح إلى أن المنطقة كانت مأهولة بالسكان قديما، وإن كانت وعورتها حالياً لا تسمح لأعداد كثيرة من السكان بالاستقرار فيها.

تغطى كثير من المقابر بأكوام من الحجارة تدعي “كيرنز”، وتظهر في المواقع المجاورة للجبل بعض المقابر البرجية التي كان يعتقد في البداية أنها تدل على المكانة العالية، لكن كثرتها وانتشارها ينفي هذه الفرضية، ويلاحظ أن بعض القبور قد بنيت بحجارة تزن أكثر من 300 كلغ، يعتقد أنها عائدة في تاريخها إلى أواخر الألفية الأولى قبل الميلاد.

مقابر حجرية – غدي نيوز

النقوش الصفوية

من أثمن الكشوفات الأثرية وأكثرها قيمة اكتشاف النقوش الصفوية، وهي نقوش قديمة ترجع إلى أحد فروع اللغة العربية الشمالية القديمة التي تشير الدراسات انها كتبت بنسخة متأخرة من الخط النبطي ويرجح أن تكون تطورت عن النطبية، وتنتشر هذه النقوش في البادية الشمالية الأردنية بكثرة كون معظمها يعود لفترة الأردنيين الغساسنة، وتقدم معطيات وملامح حضارتهم، وتسمى بالكتابات الصفوية نسبة إلى منطقة الصفا وهي منطقة تمتد من البادية الشمالية الأردنية إلى حوران الأردنية وصولاًُ لدمشق التي كانت لفترات متقطعة جزء من امتداد الممالك والحضارات الأردنية القديمة.

وقد بدأ الاهتمام بهذه النقوش منذ عام 1858 حيث لفت الرحالة البريطاني جراهام الأنظار إلى بعض النقوش التي نسخها ونشرها في كتابه الذي يصف فيه رحلته، وتتابعت الرحلات الاستكشافية بعدها، وبدأت العملية الاستكشافية تصبح أكثر تنظيما في ثمانينات القرن الماضي، حتى وصل عدد النقوش المكتشفة في جبل قرمة حتى الآن إلى ما يقارب 5000 نقش.

تتضمن معظم هذه النقوش وصف يوميات الأردنيين القدماء في تلك المنطقة، كما أن هناك بعض الرسومات لحيوانات أليفة كثيرة كالغزلان والخيول، وفي ذلك إشارة إلى الكائنات التي كانت تعيش في البادية الشمالية قديما، وتحتوي هذه النقوشات على ذكر لكثير من الأعلام التي لا يزال الأردنيون يتسمون بها حتى الآن دون وعي لانتقال هذه الأسماء إلينا عبر تراكمية متوارثة من أجدادنا الأوائل.

وتضعنا هذه النقوش أمام مسارات جديدة وتحولات كبيرة في المعرفة المتوارثة التي تفيد بأن اللغة العربية قد بدأت وانتشرت من الحجاز، فنرى النقوش الصفوية غيرت هذه الوجهة فأعادت أصل اللغة العربية إلى القرن الرابع أو الثاني قبل الميلاد، كما أرجعت أصلها المكاني إلى البادية الشمالية الأردنية التي كانت منطلق اللغة إلى الحجاز وشبه الجزيرة العربية.

نقوشات صفوية – مشروع جبل قرمة

خاتمة

ما تزال البادية الشمالية الأردنية تفيض بنقوشها ورسوماتها التي تحمل الكثير من الحقائق الغائبة والمجهولة لمدة طويلة، وما يزال الأردنيون يمتلكون كنزاً مكوناً من آلاف النقوش التي احتضنها جبل قرمة، بإمكانها أن تغير تصور العالم عن الماضي، وأن ترسم بالتأكيد شكلاً آخر مشرقاً للمستقبل الأردني.

المصادر والمراجع

 حسن، يحيى (1987): كتابات صفوية في جبل قرمة، دراسات المجلد 14 العدد 10، الجامعة الأردنية

الروسان، عاطف (2007): الحرة الأردنية الصفاوي، وزارة الثقافة

عابد، عبد القادر (2000): جيولوجية الأردن وبيئته ومناخه، منشورات نقابة الجيولوجيين الأردنيين.

بحث إرث الأردن : من النبطية إلى العربية

غدي نيوز  اكتشاف مقابر حجرية أثرية  تم نشره في 16 تموز 2017 تم الاطلاع عليه في 3 آب 2019  

جبل قرمة

Scroll to top