استخراج القار عند الأردنيين الأنباط

تمهيد

عُرفت المملكة الأردنية النبطية بإزدهارها صناعيا ويعزى سبب ازدهار الإنتاج الصناعي فيها إلى تـوفر المواد الخام والخبرة الكافية والضرورية لاستغلال المصادر وتلبية الحاجات، ويبدو أن هناك صـناعات معينة طورت بشكل لافت على أيدي الأردنيين الأنباط حتى أن الممارسين لها كانوا قادرين على تزويـد حاجـات المجتمع المحلي وكذلك تصدير البضائع إلى العالم الخارجي، وكانت هذه حالة صـناعة القار وصناعات أخرى رائدة.

إنتاج القار عند الأردنيين الأنباط

 يبدو أن المملكة الأردنية النبطية كانت أكثر شهرة وانتشارا في استخراجها وصناعتها وتصديرها للقار دونا عن باقي المنتجات والسلع، وكانت هذه السلع جميعها تنقل بواسطة الطرق البرية والبحرية عبر الأراضي والمنافذ البحرية لمملكة الأردنيين الأنباط التي كانت مجهزة بالأبنية لخدمة حاجات القوافل والسفن.
ويعد البحر الميت المصدر الأساسي والمهم في إنتاج مادة القار (الإسفلت) في الشرق، فقد ذكر ديودور أن الأردنيين الأنباط كانوا يأخذونه من البحر بكميات كبيرة تتراوح ما بين عشرة آلاف إلى ثلاثين ألف قدم مكعب في السنة، وقد صُدّر القار من الأردن إلى مصر تحديدا في فترة مبكرة بين عام (3900 – 200 ق.م) وذلك قبل إستعمال القار في التحنيط.

ومن المشهور أن البحر الميت يتحلّى بخصائص شديدة الغرابة من بينها إطلاق (‏الاسفلت)‏ الذي تطفو كتل منه على السطح من وقت الى آخر؛ ففي سنة ١٩٠٥،‏ افادت المجلة الدورية عالَم الكتاب المقدس‏ (‏بالانكليزية)‏ أن البحر الميت لفظ على الشاطئ عام ١٨٣٤ قطعة من الحُمر تزن حوالي ٧٠٠‏,٢ كلغ.‏ وهذه المادة هي «أول منتَج نفطي استخدمه البشر»،‏ حسبما تذكر مجلة عالم ارامكو السعودية في عددها الصادر في تشرين الثاني (‏نوفمبر)‏/‏كانون الاول (‏ديسمبر)‏ ١٩٨٤.‏

وقد ساد اعتقاد عند البعض ان القار ( الاسفلت ) يطفو على السطح بفعل الزلازل التي تتسبب بانفصال قطع كبيرة منه عن قعر البحر.‏ ولكن المرجّح الآن أن الاسفلت ينفذ من الطيات الاختراقية أو الصدوع ويصل إلى قعر البحر حيث يلتصق بالصخور المكوَّنة من ترسبات ملحية.‏ وعند ذوبان هذه الصخور،‏ تطفو كتل الإسفلت على سطح المياه.‏

فيما تشكل القار في البحر الميت كنتيجة لترسب المواد العضوية على طول الحواف القارية في الشرق الأدنى القديم، واستخدم بشكل واسع منذ الألفية الرابعة ق.م.

ويبدو أن براعة الأردنيين الأنباط في استخراج القار منذ القرن الرابع ق.م، والفوائد الاقتصادية العائدة عليهم من استخراجه وتصديره قد جلبت لهم العداء وفتحت شهوة الكثيرين للسيطرة على هذا المنتج ومصادره، ويتضح ذلك من خلال الحرب التي حصلت بين الأردنيين الأنباط والسلوقيين. عندما حاول السلوقيون إنتزاع السيطرة من الأردنيين الأنباط على إستغلال القار أثناء حملة ديميتروس الفاشلة ضد الأردنيين الأنباط، حيث عاد ديميتروس السلوقي من إحدى جولاته إلى انتيغونوس وأخبره عن البحر الميت وعن القار وعن عوائده الاقتصادية والتجارية المهمة التي يحقهها الأردنيون الأنباط من خلاله، وحينها أمر انتيغونوس على الفور بتجهيز القوارب ومهاجمة المملكة الأردنية النبطية  في ذلك المكان وجمع القار وتركه في مكان خاص. وعند وصول الأخبار للقيادة الأردنية النبطية أبحر حوالي 6000 من الجنود الأنباط لملاقاة الجنود السلوقيين وقتلوا معظمهم وهرب انتيغونوس .

يشيرهذا الحدث بالضرورة إلى أهمية القار عند الأردنيين الأنباط وتمسكهم بالحفاظ على سيادتهم على مصادر انتاجه، وتكاد تكون هذه الحرب، الحرب البحرية الوحيدة المذكورة في تاريخ المملكة الأردنية النبطية.

طريقة استخراج القار من البحر الميت 

وصف ديودورس البحر الميت، بأنه بحيرة ضخمة، كانت تنتج القار بوفرة، ومن هذا القار كان الأردنيون الأنباط يحصلون على أموال طائلة نظير انتاجه وتصديره . وكان طول هذه البحيرة حوالي 500 ستاد والاستاد هو وحدة قياس رومانية قديمة تساوي 6.7 قدم إنجليزي وعرضه 60 استاد والمياه فيه ذات رائحة كريهة وطعمه مر ولا تعيش فيه الأسماك.

كما ذكر سترابو في كتابه الجغرافيا، أن البحر الميت كان به وفرة من القار، والتي تبدو علـى شكل فقاعات كالماء الذي يغلي من وسط الجزء الأعمق به، بالإضافة إلى ذلك فإن القـار كان يصعد بكميات كبيرة من البخار القائم غير المرئي للعين والذي يلوث النحاس والفضة وكل شيء لامع حتى الذهـب.

labrea_tarbubble
فقاعات القار

بينما يذكر ديودورس بأن القار كان ينبثق من مركز البحر الميت كل عام عبر كتلة ضخمة منه تمتد على مسافة أكثر من 3 بلثرات وهو مقياس قديم أيضا، وعندما يحدث هذا فإن الأردنيين الأنباط عادة ما يسمون التدفق الضخم بالثور والتدفق الأصغر باسم العجل، وذلك لأن القار يطفوا على سطح البحيرة ومن ينظر إليه من مسافة بعيدة يراه على هذه الشاكلة.

من جهتهم يشير كل من بلـيني وتـاكتوس إلى استغلال القار من البحر الميت ويذكر تاكتوس في كتابه التاريخ، بحـيرة ضخمة في حجمها وفي موسم معين من السنة تقذف القار، والـذي اكتسـب السـكان المجاورون له خبرة في جمعه.

الواضح أيضا أن الأردنيين الأنباط كانوا يعرفون بانبثاق القـار قبل أن يحدث بعشرين يوماً، لأنه من مسافة استادات معينة حول البحيرة تكـون هناك رائحة تحملها الريح وتصل إليهم، وهذه الرائحة – أي رائحة القار – تجعل كل قطعة نحاس أو ذهب أو فضة في الموقع تفقد لمعانها الخاصة بها.

يقـول ديودورس إن الأنباط استعملوا الأطواف بدلاً من القوارب لجمع القار، وهذه الأطواف كانت تبنى من القصب على هذه الأطواف ثلاث رجال يبحرون فقط، إثنان يتولان التوجيه والقيادة مستخدمين المجاديف والثالث يحمل قوساً لحمايتهم من أي هجوم محتمل مـن الجهـة الأخرى للبحر، وعندما يصلون إلى القار فإنهم يقذفون عليه بالفؤوس كأنه صخرة رقيقـة يقطعونه إلى قطع ويحملونه على الأطواف ومن ثم  يبحرون عائدين. وكان الأردنيون الأنباط يبيعوا القار إلى المصريين الفراعنة الذين استخدموه في عملية التحنيط كما استُخدم في صناعة المنتجـات العطرية .

ويذكر جوسفيوس في كتابه الحرب اليهودية البحـر  الميت والقار، أن الإمبراطور الروماني أتى لاستكشافه، كما يذكر أن معظم أنحاء البحر الميت تلقي قطعا أو كتلاً سوداء من القار والتي تطفو على السـطح، وشـكلها  وحجمها تشبه الثيران مقطوعة الرؤوس. والعمال على البحيرة يقومون بالإمساك بالكتل وسحبها إلى القوارب ثم عندما يملؤونها، لا يكون من السهل أن يفكوا هذه الحمولة بسبب طبيعة القار الغروية واللزجة بحيث يتعلق بالقارب ويحتاج لأمر لعملية معقدة .

bitumen
انبثاق القار عبر الأرض

استعمالات  القار

استعمل القار منذ سـنة ٤٠٠٠ م .ق في مجالات مختلفة منها :

  • وصل الشفرات الصـوانية.
  • التحنيط .
  • صناعة الأدوية .
  • صقل أواني النحاس والبرونز لجعلها مقاومة للمياه.
  • منع تسرّب الماء الى القوارب وكمادة طاردة للحشرات.
  • في عملية البناء كبديل عن الإسمنت، حيث كان يستخدم مع الطوب المخبوز والحجارة الصغيرة، وكان يستخدم أيضاً في بـلاد الرافدين القديمة في بناء الطرق إلى مدى محدود خاصة في الطرق الـتي تصـل إلى المعابـد والقصور الملكية . وكان يسـتخدم كمـادة رابطـة بـين بلاطـات الأرصـفة لهـذه الطرق، واستخدم أيضا لسد شقوق السقوف.
  • في الزراعـة، اذ يحتوي القـار على مادة الكبريت.
  • في الطقـوس الدينيـة بحيث حوّل المصريون الفراعنة القار إلى تمائم توضع مع المومياء لغرض طرد العدو مـن القبر. وكذلك كان المصريون الفراعنة يستعملونه في صناعة المجوهرات التقليديـة وفي تلـوين المعادن، واستخدم في أغلاف الأكفان الجلدية.

يتضح لنا ختاما براعة العقل الاقتصادي عند الأردنيين الأنباط اذ استغلوا القـار بشكل أساسي وفعّال في ميزانهم التجاري ومنظمومتهم الاقتصادية وبما يخدم أغراضهم التجارية وعلاقات الجوار، ويلبي على وجه الخصوص ازدياد الطلب الاقليمي في حينه على القار واحتياجات الأسواق المصرية.

المراجع

  • الضلاعين ، مروان، الإنتاج الصناعي في مملكة الانباط ، بحث منشور.
  • ابوالحمام،عزام(2009)، الأنباط تاريخ وحضارة،(ط1)،عمان: دار أسامة للنشر والتوزيع.
  • عباس، احسان(1987)، تاريخ دولة الأنباط،(ط1)،عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع.
Scroll to top