العمران الأردني الغساني

المقدمة

استعرضنا في أبحاثنا السابقة من سلسلة الأردنيين الغساسنة جوانب مهمة من تاريخ وحضارة المملكة الأردنية الغسانية التي انطلقت من حوران الأردنية وتمركزت لاحقا في البلقاء. وفي هذا البحث نستكمل الحديث عن جانب مهم من جوانب الحضارة الأردنية الغسانية وهو جانب العمران.

لم يغفل الأردنيون الغساسنة عن التفنن في المعمار، فاقتبسوا الطرز البيزنطية ومزجوها مع الطرز الفارسية. وغالبا ما تركزت بناهم حول الكنائس والأديرة والمجامع الرهبانية. يتميز العمران الغساني الأردني بالفسيفساء، الفن الأردني الخالص الذي نراه جليا في الكنائس الأردنية.

أولا: المصادر الدينية

ساهمت الأديرة التي انتشرت في كل مناطق مملكة الأردنيين الغساسنة في عدة أمور أهمها “رسالة رؤساء الأديرة العرب” المكتوبة 570 ميلادي. فصحيح أن كل الأديرة كانت ذات عمران متميز، ومساحات زراعية واسعة ساهمت، بحسب الباحثين، في النهضة الزراعية والتجارية للبلاد، إلا أن الوثائق التي تركتها لنا الأديرة هي الكنز الثمين الذي سنتتبّع من خلالها طبوغرافية مملكة الأردنيين الغساسنة، وأماكن توزع الأديرة والكنائس.

وبالعودة لأهم وثيقة دينية حصلنا عليها، تُعد وثيقة رؤساء الأديرة العرب نصا دينيا يمثل جوهر الإيمان الأرثوذكسي (المونوفيزي) (خلف:2008) فالأردنيون الغساسنة كانوا مسيحيين على المذهب الذي يؤمن بالطبيعة الواحدة للمسيح وكانوا مخلصين دافعوا طوال الأربع قرون عن حريتهم في ممارسة تعاليم مذهبهم. ويُرجع مؤرخو الكنيسة الفضل للملك الأردني الحارث بن جبلة لعدم ضياع هذا المذهب.

تكمن أهمية هذه الوثيقة بكونها تحمل توقيع 137 رجل دين، أغلبهم من رتبة الأرشمندريت (رئيس دير) وعدد قليل من الشمامسة والكهنة. (خلف: 2008)

تمنحنا هذه التواقيع تأكيدا على أن الأردنيين الغساسنة عرفوا اليونانية إلى جانب السريانية والعربية. فهناك 18 قس وقعوا باليونانية و34 وقعوا بالسريانية وواحد لا يجيد الكتابة وأكثر من خمسين وقعوا بالنيابة (خلف: 2008) وكان التوقيع الشخصي يرفق باسم الدير وموقعه.

ثانيا: البناء على طول خط التجارة

خريطة الطريق العربي الغربي وهو طريق تجاري استحدثه الأردنيون الغساسنة وكانوا مسؤولين عن حمايته. المصدر:
Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

كنّا قد تناولنا في بحث منفصل عن طرق التجارة الأردنية الغسانية كيف عمل الأردنيون الغساسنة على استحداث ثلاثة طرق تجارية جديدة متفرعة عن طريق الحرير التجاري الرئيس. كانت الطرق الأردنية الثلاثة (طريق وادي السرحان – الطريق البحري – الطريق العربي) تمر بأهم المدن والحواضر الأردنية وقد دعت الحاجة حينها لبناء الأديرة على طول هذه الطرق. ونتيجة لهذا الامتداد التجاري الواسع إضافة لكون الأردنيين الغساسنة يضطلعون بمهمة حماية القوافل التجارية وتأمينها؛ اتصفت الأديرة على طول هذه الخطوط بأنه أشبه ما تكون بقلاع منيعة مسورة وأبراج عالية للمراقبة. (خلف: 2008)

ثالثا: الأديرة الغسانية

إن كانت تلك المدن والحواضر قد اندثرت آثارها اليوم فهي مذكورة في الوثيقة الرسمية التي ترجمت من السريانية إلى اللاتينية من ثم إلى العربية، ولو اختلف رسم الأسماء بشكل أو بآخر كان من السهل أن نتتبع مواقع الأديرة الأردنية الغسانية وذلك لأن كثير من المدن والقرى الأردنية لا زالت تحمل اسمها من العهد الأردني الغساني وحتى الآن. وسنستعرض تاليا أسماء الأديرة في المدن والقرى الأردنية التي وقع رؤساؤها على وثيقة “رؤساء الأديرة العرب”

طورا حرثا (دير جبل الحارث)

آثار قويلبة “أبيلا” في حرثا إحدى مدن الديكابولس الأردنية

تكريما للملك الأردني الغساني الحارث بن جبلة، سميت منطقة حرثا باسمه، أما طورا حرثا فهي الاسم السرياني لدير جبل الحارث. (خلف: 2008) ويعتقد أن هذه المدينة امتدت بشكل واسع شمالا في سهول حوران الأردنية.

وحرثا اليوم قرية في أقصى شمال الأردن وتتبع للواء بني كنانة. وتحوي واحدة من أهم مدن حلف الديكابولس الأردنية: مدينة أبيلا أو كما تسمى اليوم (قويلبة).  وبحسب الأبحاث والدراسات المستمرة على المنطقة يُعتقد بأنّ المدينة الحالية مبنية على مدينة كاملة مدفونة.

حريمايا (حوش حريمة – دير حريمايا)

سهول حريما الخضراء

تعني حريمايا الدير المقدس. وقد وقع رئيس ديرها القس جرجس على الوثيقة. وحريما اليوم قرية أردنية تبعد 10 كلم شمال مدينة إربد وتتبع للواء بني كنانة.

عقربا (دير مار اسطفانوس دير الأباتي تيطس)

عقربا المطلة على نهر اليرموك

ديرين في مدينة واحدة، فلا بد أن تكون عقربا ذات أهمية ومكانة خاصة لتحوي ديرين بحسب الوثيقة. أما اسمها “عقربا” فهي صيغة آرامية لكلمة “عقرب” العربية. (خلف: 2008) وهي اليوم إحدى قرى الكفارات في إربد تطل على نهر اليرموك وتتبع إداريا للواء بني كنانة .

حوارة (دير برج حوارة)

لافتة بلدة حوارة في إربد

وقع على الوثيقة القس مار بولس رئيس دير برجا حوارة (برج حوارة). وحوارة اليوم مدينة أردنية عامرة تبعد 4 كلم شرق مدينة إربد.

 جديراثا (دير جديراثا)

إطلالة على آثار أم قيس

جديرا أو جدارا، مدينة أم قيس الشهيرة بآثارها. جدارا إحدى مدن الديكابولس الأردنية وتقع في الشمال. تحتوي على كنيسة قديمة، وقع عن الدير فيها (يوحنا) بالنيابة عن القس مار إيليا رئيس الدير. (خلف: 2008)

كفر جوزا (دير كفر جوزا)

سهول كفر جايز الخضراء

لا توجد قرية أو مدينة تسمى حرفيا بمثل هذا الاسم ولكن من الأرجح أنه قد تم تحويره ليصبح “كفر جايز” وهي حاليا قرية من قرى شمال غرب إربد. وقد وقع بالنيابة الشماس أيوب رئيس دير كفر جوزا.

عين جرا (دير عين جرا)

يُرجح أن عين جرا هي الاسم الأصلي لعنجرة وهي بلدة أردنية تقع في لواء قصبة عجلون. وقد وقع الشماس بولس على وثيقة رؤساء الأديرة العرب بالنيابة عن الدير فيها.

دير كيفا

تحمل اسم كيفا قرية “كفر كيفيا” في إربد. وكيفا كلمة سريانية تعني الصخرة وهي اسم لبطرس الرسول. (خلف: 2008) والقرية مشتهرة بآثارها القديمة ويرجح أن الدير كان موجودا ولكنه اندثر.

أفا (أيوبا -دير أيوبا)

أفا كلمة سريانية وعند كتابتها بالعربية تقلب الفاء باء.  وتحمل “كفر يوبا” اسما قريبا معدلا عن “ايوبا”. وهي  قرية أردنية تعد من أكبر قرى إربد وتبعد عن الوسط 3 كلم. وقد وقع على الوثيقة القس نطيرو رئيس دير أيوبا.

غسانيا (دير غسانيا)

أما في سهول حوران الأردنية فيمتد تل غسان الذي سمي نسبة للغساسنة الأردنيين وفي الموقع مغاور وكهوف تعود للعصر النبطي والروماني والغساني إضافة لبقايا معاصر عنب وزيتون وبرك مياه وقنوات وآثار طرق قديمة (خلف:2008)، ولكن لا أثر للدير فيعتقد أنه تهدم بفعل عوامل الزمن واندثر ولكن آثار الموقع تدلل على أهميته. وقد وقع القس يوحنا رئيس دير غسانيا بالنيابة عن مار إيليا رئيس الدير.

بهذا نكون قد استعرضنا الأديرة المذكورة وفقا لوثيقة رؤساء الأديرة العرب السريانية. ويدل هذا الانتشار الكثيف للأديرة على أهمية المواقع التي بنيت فيها وعلى ازدهار العمران الديني لدى الأردنيين الغساسنة.

رابعا: الكنائس

كنيسة القديس سرجيوس في الجابية

الجابية عاصمة الأردنيين الغساسنة الأولى ومن المفترض أن تحوي عدة كنائس ولكن وثيقة رؤساء الأديرة العرب لم تذكر سوى كنيسة واحدة تدعى كنيسة القديس سيرجيوس أو سرجس (شهيد: 2002) وهي كنيسة بنيت لتمجيد ذكرى الشهيد القديس سرجس أو سركيس شفيع الغساسنة والذي تتوسط أيقونته الشعار الحربي للأردنيين الغساسنة.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

كنيسة بيت غسان

يصلنا ذكر هذه الكنيسة من كتابة “الإصابة في تمييز الصحابة” لكاتبه العسقلاني وفيه يذكر “ابن أرطبان” ويزيد على أن أرطبان ” هو شماس كنيسة بيت غسان” ولا تذكر مصادر أخرى هذه الكنيسة (شهيد: 2002)

كنيسة يوحنا المعمدان

يدلنا نقش ثنائي اللغة وجد في حرّان (منطقة في سهول حوران الأردنية) على وجود كنيسة بناها “شراحيل بن ظالم” لتمجيد القديس يوحنا المعمدان عام 463. ويمنحنا هذا النقش تصورا عن طبيعة الحكم لدى الغساسنة حيث من الواضح أن شراحيل كان فيلارخا (أي أميرا) غسانيا ولكنه غير مذكور خارج هذا النقش ولا في أي مصدر آخر. (شهيد: 2002)

كنيسة نجران

يذكر معجم البلدان وجود عدة مناطق تحمل اسم نجران واحدة في سهول حوران الأردنية والثانية في جنوب الجزيرة العربية. والأرجح أن الكنيسة المقصودة هي في نجران حوران الأردنية. كان أهالي نجران يعتنقون ذات المذهب المسيحي الذي يعتنقه الأردنيون الغساسنة ولذلك نشأت روابط قوية بينهما (شهيد:2002)  ذكر ياقوت الحموي  وجود “بيت” أي كنيسة في نجران وقد مدح جمال هذه الكنيسة وروعة مذبحها، فيقول هي بيعة عظيمة عامرة حسنة مبنية على العمد الرخام منمّقة بالفسيفساء وهو موضع مبارك[1]

كنائس جلق

جلق مدينة من مدن حوران الأردنية – تقع في الأراضي السورية حاليّا- وكانت بمثابة عاصمة أخرى من عواصم الأردنيين الغساسنة ويأتي ذكر كنائس جلق من شعر يزيد بن معاوية حيث يقول واصفا محبوبته بأنها تبيت في “بِيَع جمع بيعة وهي الكنيسة”  ويصفها بأن ذات قباب ويحفها الزيتون (شهيد: 2002)

نزهة حتى إذا بلغت … نزلت من جلق بيعا

في قباب وسط دسكرة … حولها الزيتون قد ينعا [2]

كنائس حوارين (إيفاريا)

حوارين قرية من قرى سهول حوران الأردنية وكانت تسمى إيفاريا. ومن المؤكد أن إيفاريا احتوت على كنيسة واحدة على الأقل بدلالة أن القس يوحنا (519) قس إيفاريا كان من أوائل القساوسة عند الأردنيين الغساسنة. كما تذكر المصادر أن المنذر ذهب لإيفاريا لافتتاح كنيسة  (شهيد: 2002)

كنيسة تل العميري

النقش اليوناني المكتشف في كنيسة موقع تل العميري

كشفت التنقيبات في موقع  تل العميري عن كنيسة أثرية تعود للعهد الغساني. موقع تل العميري أحد المواقع الأثرية الشهيرة ويقع قرب منتزه عمّان القومي في العاصمة وهو منطقة مأهولة بالبشر منذ العصر الحجري. يذكر النقش الذي تم اكتشافه أنه تم رصف مقام القديس سرجيوس ( سركيس)، شفيع الأردنيين الغساسنة بالفسيفساء، وبأن هذا العمل مهدى للملك الأردني الغساني المنذر بن الحارث. ويخلد النقش أيضا بناء الكنيسة التي تم التنقيب عن آثارها حديثا ليتم الكشف عن صحنها وخزان ماء وعدة مرفقات أخرى.

صورة جوية لكنيسة تل العميري الأردنية الغسانية

ترجمة النص عن اليونانية: “يا رب ، تقبل قربان المتبرع صاحب الكتابة ، عبدك موسيليوس و أبناءه
يا رب يسوع المسيح ، إله القديس سرجيوس ، احمي القائد بالغ التعظيم المنذر
يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك أوزيبيوس وأبناءه!
يا إله القديس سرجيوس ، بارك ابنك يوانيس مع زوجته وأولاده!
يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك عبد الله وديونيسيوس و [- – -]!
في عهد الأسقف بوليوكتوس ، المحبوب من الله ، تم رصف هذا الضريح للشهيد القديس سرجيوس بالفسيفساء بسعي من ماري ، ابن ربوس ، الكاهن الأكثر تقوى ، وجورجيوس الشماس ، وسابينوس وماريا. في شهر أبريل في وقت [..].” [3]

إشكاليات تاريخية

طرح العديد من الباحثين في علوم الآثار قضية أن الآثار والقصور الأموية تعود في الحقيقة للأردنيين الغساسنة. تم الاستدلال على هذه الفكرة بأسلوب المعمار والزخارف والرسوم التي تزين القصور. ومن المعلوم أن العادة جرت على تحويل المباني إلى اسم ودين الحاكم الجديد. فالمعابد الوثنية تم تحويلها لكنائس عند تحول الإمبراطورية الرومانية للمسيحية، والكنائس المسيحية تم تحويل الكثير منها لمساجد عند سيطرة الحكم الإسلامي عليها.

قصر المشتى أحد أهم القصور في البادية الأردنية

قصر المشتى أحد أهم القصور الصحراوية في الأردن والشهير بالواجهة المزخرفة التي قام الاحتلال العثماني بنزعها واهدائها للقيصر الألماني تماشياً مع سلوك ادارة المزرعة بتلك الحقبة المظلمة من تاريخ الأردن، ما زال هذا القصر يثير الجدل إلى الآن. فيرى المؤرخان كبرنوف ونودلكه أن القصر غساني ويعود للقرن السادس الميلادي، أما سترزغوتسكي  فيرى أنه يعود للقرن الثالث أو الرابع الميلادي، وجانسن وسيرغناك يقولان بأنه غساني أو لخمي (مناذري).

يواجه الباحثون قضية أخرى متعلقة بكل الآثار الرومانية المبنية ضمن حقبة حكم الأردنيين الغساسنة. فالمدرج الروماني والكنائس البيزنطية ككنيسة الخارطة في مادبا، كل الآثار التي بنيت على أرض الأردن في تلك الفترة تطرح سؤالا مهما. وقد ثبت أن الأردنيين بمختلف تنوعهم السكاني (القبائل الأردنية في البادية والحضر – إدوميين – أنباط – غساسنة … الخ) قد بنوا هذه المباني والآثار فلماذا ما زالت تُنسب حتى الآن إلى الرومان أو البيزنطيين والأمويين أحيانا أخرى؟

خارطة مادبا الفسيفسائية

من المتعارف عليه أن المناطق الواقعة تحت النفوذ الروماني ستتبع الأسلوب الروماني في البناء، وفي أفضل الحالات سيؤدي التلاقح الحضاري لاقتباس بعض السمات المعمارية كما هو الحال مع الخزنة في البترا المبينة على الطراز الروماني. وعلى هذا، صحيح أن المدرجات والكنائس الأردنية القديمة مبنية على الطراز الروماني إلا أنها وبكل تأكيد بنيت بأيد أردنية، وباتت تستحق استعادة هذا النسب وإعادة تدقيق الوصف والمُسمى الأثري والتاريخي لها.

الخاتمة

استعرضنا في هذا البحث المصادر التي اعتمدنا عليها في تتبع الأديرة والكنائس الأردنية الغسانية. الكثير من العمران يثبت مدى التفوق والرقي والاهتمام الكبير الذي أولاه الأردنيون الغساسنة لهذا الجانب الثقافي من حضارتهم التي امتدت لأربعة قرون.

المراجع

  • Shahid, (1995) Byzantium and the Arab in sixth century, VOL.2, Part 1, the Toponymy, monuments and historical geography, Dumbarton Oaks Research library: Washington D.C
  • خلف، تيسير، كنيسة العرب المنسية (2008) دار التكوين، دمشق: سوريا
  • واجهة قصر المشتى.. تحفة فنية أردنية في برلين، صحيفة الدستور، نوفمبر 2015

[1] ياقوت الحموي، معجم البلدان الجزء الخامس، الصفحة 270

[2]  السيوطي، تاريخ الخلفاء، الجزء الأول، ص 159

[3] حقوق الترجمة محفوظة للباحث تيسير خلف.

Scroll to top