مقدمة

تزخر جراسا جوهرة مدن الديكابولس الأردنية بالكثير من الآثار والتي تدلنا على أهم المظاهر الحضارية. وربما تكون أكثر مدن الديكابولس دراسة وبحثا وقد انصب عليها اهتمام حملات التنقيبات والحفريات. في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابولس الأردنية سنطلع على أهم معالم الحضارة في جراسا كاقتصادها وتجارتها وآثارها.

الاقتصاد في جراسا

اعتمد اقتصاد مدن الديكابولس الأردنية بشكل عام على الزراعة والصناعات المرتبطة بها تحت مظلة الاقتصاد الزراعي. وأتاحت الطرق التجارية التي استحدثها الأردنيون الغساسنة متفرعة من طريق الحرير القديم على جعل مدن الديكابولس الأردنية مراكز تجارية متخصصة في منتجات مميزة، كزيت الزيتون الذي اشتهرت فيه أبيلا (حرثا) أو تجارة الحيوانات المدجنة الذي اشتهرت فيه بيلا (طبقة فحل). ولكن تمتعت جراسا بمكانة مميزة لكونها تقع في قلب خريطة مدن الديكابولس الأردنية.

العلاقات التجارية مع الأردنيين الأنباط

 في نهاية القرن الأول قبل الميلاد بدأت المملكة الأردنية النبطية بالاتساع  حتى وصلت دمشق، فصارت بوسطرا (بصرى) مدينة نبطية وظلت جراسا (جرش) على مكانتها كمدينة ديكابولس أردنية مرموقة ولكنها تأثرت كثيرا بالثقافة الأردنية النبطية بفعل حركة التجارة العالمية التي قادها أجدادنا الأردنيون الأنباط في العالم القديم عبر ما سمي بطريق الملوك[1] وبالرومانية سمي  “طريق مارس”.

شهدت المملكة الأردنية النبطية في عهد الملك الأردني النبطي الحارث الرابع 9 ق.م – 41 م أشد حالات اتساع نفوذها السياسي والتجاري. حيث اعتمدت مدينة جراسا على النقد النبطي خصوصا الذي يعود لحقبة الحارث الرابع وقد وحجت الكثير من العملات النقدية خلال حملات التنقيب إضافة للعديد من المنتجات النبطية كالفخار النبطي ونرى أيضا تأثر جراسا بمعتقدات الأنباط الدينية وأنظمة الري والهندسة المعمارية. (شهاب: 1989)

لم يتغير الحال التجاري عندما سقطت المملكة الأردنية النبطية بعد حصار اقتصادي طويل عام 106 ميلادي فقد أعاد الإمبراطور تراجان تقسيم الطرق التجارية وجعل مركزها مدينة جراسا وكانت تابعة إلى ما سمي “الولاية العربية البترائية- بترايا أرابيا” ( العقيلي: 1973)

خريطة توضح خطوط التجارة الأردنية النبطية ومدى توسعها

أما في عهد الأردنيين الغساسنة (القرن 2-6 ميلادي) فقد شهدت مدن الديكابولس نهضة تجارية لا مثيل لها. وصارت المنتجات الزراعية والصناعية الأردنية تجوب أنحاء العالم القديم بفضل الشبكة التجارية المحكمة التي استحدثها الأردنيون الغساسنة كفروع عن طريق الحرير القديم. إضافة للمراكز التجارية وخطوط الطرق فقد عرف الأردنيون الغساسنة بأنهم حماة القوافل فقد كانت مهمتهم تأمين القوافل التجارية القادمة والذاهبة من مدن الديكابولس الأردنية إلى أنحاء العالم.

خريطة الطريق العربي الغربي وهو طريق تجاري استحدثه الأردنيون الغساسنة وكانوا مسؤولين عن حمايته. المصدر:
Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

الزراعة

 تحيط غابات عجلون بمدينة جراسا وقد وصفها العديد من الرحالة كجنة خضراء تحيط بها عيون الماء ويتخللها نهر متدفق لقب “بنهر الذهب” وقد ذكره ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان بأنه متدفق وغزير ويدير عدة طواحين. إضافة للنهر في جراسا عدة ينابيع طبيعية غزيرة كعين القيروان وعين البركتين واستخدمت الأولى للشرب والثانية للري. وقد أسس الأردنيون في جراسا نظاما مائيا يغذي المدينة وكان يستخدم لري كل البساتين حول المركز وقد خلصت دراسة أجرتها دائرة الآثار الأردنية عام 1982 إلى مخطط شبكة المياه والري والمجاري.

تتمتع جراسا بتربة خصبة للغاية كحال أغلب مدن الديكابولس الأردنية. وقد عزز توافر المياه والتربة الخصبة إضافة لإتقان الأردنيين لأسس الزراعة وأساليبها على جعل جراسا من أهم المدن الزراعية الأردنية التي تنتشر فيها كروم العنب والزيتون ونستدل على وجود معاصر الزيتون والنبيذ الحجرية المكتملة والتي تعد من المعاصر الأكبر حجما في الأردن.

من بقايا معاصر الزيتون في جراسا- حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

مخطط وبناء المدينة

 يتسم تخطيط مدن الديكابولس الأردنية بالتنظيم وبعناصر أساسية لا غنى عنها في كل مدينة. فلكل مدينة بوابة وسور عظيم وسبيل حوريات ومسارح (مدرجات) وشارعين رئيسين (كاردو) ( وديكيمانوس)، وتتابين التفاصيل الأخرى. ولكن في مدينة جراسا يختلف الأمر قليلا فقد تحكمت العوامل الجغرافية والطبيعية في بناء المدينة وتوسعها وأهم هذه العوامل هو وجود النهر الذي يقطع جراسا إلى جزأين غربي وشرقي وتقع أغلب المدينة الأثرية في الجزء الغربي إلا أن توسعها كان أمرا يتبع للحقبة التي تقع فيها.

مخطط المدينة الأثرية وقوس النصر وملعب الخيل إلى اليسار من المخطط

يمكننا تقسيم الطرز المعمارية وتوسع المدينة بحسب أهم الحقب التي مرت عليها. وسنبدأ من الحقبة البطلمية فكما أسلفنا وقعت جراسا تحت حكم السلالة البطلمية[2] في القرن الثالث قبل الميلاد. وبمقارنة جراسا بأختها فيلادلفيا نجد بعض الفروق في اعتبار جراسا حامية عسكرية بنيت فيها قلعة على الهضبة الغربية الجنوبية حيث يقع المدرج الجنوبي ومعبد زيوس. وتختلف هذه القلعة في تخطيطها عن القلاع العسكرية التي بنيت في فيلادلفيا أو جدارا. وفي تلك الفترة بني للمدينة أيضا سور عظيم فيه أبراج للمراقبة وتتميز هذه الأسوار بأنها تسير بشكل مستقيم ومن ثم تنحرف على شكل زاوية حادة وفي كل زاوية برج مراقبة وللسور بوابة واحدة تقع على الجهة الشرقية.  وتبلغ المساخة الداخلة ضمن هذا السور 147 ألف متر مربع. (شهاب: 1989)

جزء من سور المدينة الأثرية- حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

في القرن الثاني قبل الميلاد حتى القرن الأول دخلت المدينة في الحقبة السلوقية  وتمثلت أهم معالمها المعمارية ببناء سور دفاعي بطول خمسة كيلومترات وبعرض مترين لثلاثة أمتار. إضافة لذلك، شهدت هذه الحقبة تطور العلاقات التجارية مع الأردنيين الأنباط مما ساهم في تلاقح الأساليب المعمارية وتطويرها؛ فبنيت عدة بوابات للمدينة.  ففي السور الدفاعي أربعة بوابات رئيسة تم تغيير وإعادة بناء بعضها عند دخول المدينة الحقبة الرومانية، إلا أن البوابة الشمالية الغربية التي بنيت  76-75 ميلادي هي البوابة الوحيدة التي لم يتم تغييرها. (شهاب: 1989)

البوابة الشمالية – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

أما البوابات الأخرى فقد تأثرت كما أسلفنا بدخول الحقبة الرومانية في القرن الأول الميلادي. فالبوابة الشمالية قد أعيد بناؤها عام 115 ميلادي وذلك لحل مشكلة تقاطع شارعين رئيسيين الأول هو طريق تراجان القادم من بيلا (طبقة فحل) والثاني شارع الكاردو في المدينة. والبوابة الجنوبية الضخمة التي تتفرد بثلاثة مداخل قد أعيد بناؤها على فترات مختلفة وصولا إلى العصر الإسلامي.

تقع  البوابة الشمالية عند النهاية العليا لشاعر الكاردو  وهي على امتداد طريق بيلا (طبقة فحل) التجاري. فيها ممر واسع به جانبان أضيق قليلا وعلى الممر من الأعلى وجد النقش الذي يؤرخ لسنة إنشائها وهي أعرض قليلا من البوابة الجنوبية التي وجدت في حالة دمار بعد اكتشاف غرفة الحارس. البوابة الجنوبية مشابهة لقوس النصر ولكن أصغر حجما وهي مثله تحوي على أربعة أعمدة. (شهاب: 1989)

زودت البوابات بمداخل من نوعين الأول هو الدرجات للاستخدام البشري والثاني هو المنحدر لاستخدام الحيوانات والعربات. وقد اكتشفت بوابة أخرى من الجهة الشرقية أثناء شق طريق وهي مغلقة بالحجارة ولكنها جعلت الباحثين يعيدون النظر بتخطيط المدينة حيث اقترح بعضهم وجود شارعين آخرين رئيسيين وبهذا تصبح جراسا مدينة الديكابولس المتفردة التي تحوي أربعة شوارع رئيسة تقسم المدينة إلى مستطيلات تتراوح أبعادها بين الخمسين والمائة متر على مساحة خمس دونمات (شهاب: 1989)

المباني الأثرية

 كانت جراسا مدينة شديدة الازدهار وقد تجلى ازدهارها الحضاري بعظمة تخطيطها وبنائها وفي ما يلي أهم آثار المدينة :

قوس النصر 

إن قوس النصر هو أول ما يراه القادم من فيلادلفيا إلى جراسا وهو بناء ضخم وجميل بني على شرف الإمبراطور الروماني أدريان  129-130 ميلادي. .”  ولأنه يشرف على عمان ولأنه بني تخليدا للإمبراطور أدريانوس لقب قوس النصر (بوابة عمان) و(بوابة أدريان).

صورة لقوس أدريان أو بوابة عمان

 ونقش على قوس النصر “تخليدا للإمبراطور ادريانوس، أغسطس، الكاهن الأعظم أبي الوطن، ولسعادة وسلامة أسرته. إنها مدينة أنطاكية الواقعة على سيل كريزوراس، جرش بتوصية من فلافيوس أغربيا تتقدم هذه البوابة مع  تمثال النصر”

 يتكون البناء من مدخل كبير مقوس في الوسط ومدخلان جانبيان وفوق القوس الكبير وضع تمثال الإمبراطور أدريان ممتطيا عربة بأربعة خيول. وفي الواجهة أربعة أعمدة مزدانة بأكاليل الخرشوف والقوسان الصغيران فيهما حنايا لوضع التماثيل. (شهاب: 1989)

ملعب الخيل (هيبودروم)

 يقع ملعب الخيل على يسار قوس النصر ويمتد على شكل مستطيل طوله 160 متر وعرضه 65 متر وكان يحيط بالملعب جدار سمكه 5 متر. من المرجح أن هذا الملعب قد بني في القرن الثاني الميلادي بعد بناء قوس النصر. يعد هذا الملعب مرفقا ترفيهيا مهما حيث كانت تدار فيه ألعاب سباق الخيل والعربات. والجدير بالذكر أنه قد طرأ عليه بعض التغيرات عند الغزو الفارسي 614 ميلادي حيث عثر على ثغرات خاصة بلعبة الصولجان الفارسية. (العقيلي: 1973)

إطلالة على ملعب الخيل

للملعب مدرجات شمالية وغربية للمتفرجين وهي قائمة على أقبية كبيرة تشبه نظام بناء المسارح والمدرجات المغلقة. والأغلب أن هذه الأقبية استخدمت كإسطبلات للخيل. (العقيلي: 1973)

سبيل الحوريات

يعد سبيل الحوريات مبناً مشتركاً نجده في كل مدن الديكابولس الأردنية وهو دليل واضح على الرخاء والرفاه الاجتماعي. في جراسا، يتألف السبيل من طابقين وهو عبارة عن هيكل لعذارى الماء (النمفيوم) ويعد حمام جراسا متميزا من ناحية الزخارف والمعمار فتتدفق الماء من أفواه الأسود المنحوتة إلى المصارف تحتها إلى أن يمتلئ الحوض. وسبيل الحوريات مزود بشبكة تصريف مياه متميزة مكونة من قنوات فرعية تصب في أخرى رئيسية وأخرى أكبر تصل مدن الديكابولس الأردنية ببعضها. (العقيلي: 1973)

سبيل الحوريات المؤلف من طابقين والمزين بأجمل الزخارف

هيكل أرتميس

 تشتهر أرتميس بكونها آلهة الصيد وآلهة المدينة الأعظم وحاميتها. وبني هيكلها لتكريمها. يقع الهيكل في الجانب الغربي الشمالي من المدينة ويعتبر من أعظم آثار جراسا على الإطلاق. بني الهيكل في منتصف القرن الثاني الميلادي. (العقيلي: 1973)

تبلغ أبعاد الهيكل 40 متر طولا، 22.5 متر عرضا و4.5 ارتفاعا وقد بني على عدد كبير من الأقبية وهو مطل على أغلب المدينة الأثرية وقريب من البوابة الشمالية والبوابة الشمالية الغربية ومن القرب منه بنيت عدة حمامات لا زالت بعض بقاياها موجودة. كان للهيكل حرمة فلا يدخله سوى الكهنة. (العقيلي: 1973)

إطلالة على هيكل أرتميس – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

يعد هيكل أرتميس رائعة معمارية قل مثيلها في المدن التي بنيت على الطراز الروماني في العالم أجمع. فهو مبني على طراز الممرات والساحات ويبدأ نظام الممرات شرق سيل جراسا ب300 متر ويشكل الممر شارعا بطول 38.7 متر وعرض 11 متر يتقاطع مع الشارع الرئيسي ويصنع ساحة على شكل شبه منحرف. وللهيكل بوابة عظيمة يبلغ ارتفاع جدارها 14 متر ويمتد لمسافة 120 متر. وإلى الداخل توجد بوابة بديعة ثلاثية مزدانة بالأعمدة والزخارف النباتية وبعد البوابة تأتي الساحة الداخلية تليها عدة درجات ومن ثم الهيكل. يخلّف هذا النظام من تقاطع الممرات والساحات شارعا مقدسا وآخر للاحتفالات ويعد استغلالا رائعا للمساحات بهدف خلق حالة من الشعور بالرهبة والخشوع. (شهاب: 1989)

معبد زيوس

 زيوس هو كبير آلهة الأولمب اليونانية وهو سيد البرق والصواعق ويلقب بأب الآلهة والبشر وانتشرت عبادته في مدن الديكابولس التي خضعت للتأثيرات اليونانية لفترات طويلة.

معبد زيوس – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

  يقع معبد (هيكل) زيوس شرقي المسرح الجنوبي وأعمدته متساقطة في نفس الموقع وبعض من جدرانه لا يزال قائما. والمثير في هذا المعبد هو الأقبية الضخمة التي أُنشئت لرفع مستوى ساحة المعبد والتي استخدمت كمخازن للأدوات. (العقيلي: 1973)

وقد ذكر المسؤول عن حملة تنقيبات البعثة الفرنسية في ثمانينات القرن الماضي الباحث “جاك سين” أن أبرز ما اكتشفته البعثة هو أن بناء المعبد قد تم على يد وتحت إشراف واحد من أبناء جراسا بالاعتماد على الكتابة اليونانية التي وجدت في ساحة المعبد. (شهاب: 1989)

الساحة (الفورم)

تقع الساحة البيضاوية في مكان منخفض بين الهضبتين الشرقية والجنوبية الغربية وهي من أكثر المعالم الأثرية شهرة. تبلغ  أبعادها 80 × 90 مترا وهي مبلطة بالحجر الكلسي الأملس ويحيط بها 55 عمود. أما من ناحية تخطيط المدينة فهي تقع في نهاية الشارع الرئيسي في الجهة الجنوبية من المدينة الأثرية. (شهاب: 1989)

الساحة البيضاوية المحاطة بالأعمدة

يطلق عليها عدة أسماء (الفورم) باليونانية وساحة الندوة حيث كانت ملتقى اجتماعي وثقافي وسياسي. وهي تشهد على ازدهار جراسا في القرن الأول الميلادي. (شهاب: 1989) وفي الذاكرة الشعبية كانت تلقب الساحة “السحاجّة” للاعتقاد السائد بأن الله أنزل غضبه على أهل المدينة عندما كانوا يعدون لسهرة “الدحية والسحجة” فحولهم لأعمدة.

 شوارع الأعمدة

شارع الديكمانوس الفرعي والذي يتقاطع مع الكاردو

من الساحة البيضاوية  باستقامة حتى البوابة الشمالية، يبلغ طول الشارع الرئيس 600 متر وهو شارع مزدان بالأعمدة على جانبيه ( العقيلي: 1973) وتختلف الأعمدة في طرازها فمن الجانب الشمالي هي على الطراز الأيوني الذي يتميز بصغر قطر العمود نسبيا وتاجه البسيط أما من الجانب الجنوبي فتتبع الأعمدة الطراز الكورنثي وهي أعمدة بتاج مزخرف بزخارف نباتية وورود.  في شارع الكاردو قرابة الألف عمود ومن هنا أخذت جراسا لقبها “مدينة الألف عمود”

تصميم العمود الأيوني حيث يكون رفيعا وبنهاية ملتفة
نهاية العمود الكورنثي المزين بالزخارف النباتية

يتقاطع الشارع الرئيسي بشارعين متقاطعين آخرين. لا زال الشارع الفرعي الممتد من الشرق إلى الغرب ظاهرا بينما اختفت آثار الشارع  الفرعي الجنوبي. ومن المثير أن نجد في هذه الطرق آثار باقية للعربات وقنوات تجميع وتصريف المياه. ( العقيلي: 1973)

شارع الألف عمود

 

عمارة الكنائس

كما ناقشنا في البحث الأول عن مدينة جراسا ازدهرت المسيحية في  المدينة ولقت فيها تربة روحية خصبة وقد أسفر هذا عن إبداع غير مسبوق في مجال عمران الكنائس. حتى الآن، اكتشفت 15 كنيسة مسجلة ولكن الباحثين يرجحون أن المدينة حوت عددا أكبر وربما يكون هنالك المزيد من الكنائس المطمورة تحت الأنقاض.

 تتسم عمارة الكنائس بطابع جمالي يؤرخ لحقبة كان فيها الإنسان الأردني على قدر عال من الإبداع. أغلب الكنائس في جراسا تتبع طراز البازليكا أي الكنيسة المستطيلة وغالبا ما ترصف بالفسيفساء الجميلة الملونة والمزدانة بالزخارف النباتية والحيوانية إضافة إلى  الأعمدة والنوافير والغرف المرفقة. ( العقيلي: 1973)

من الزخارف النباتية على الجدران

وفي الحقيقة،  تمثلت الحركة العمرانية في جراسا بل في مدن الديكابولس الأردنية ببناء الكنائس ذات الطراز المعماري المميز. ونذكر من هذه الكنائس كنيسة القديس ثيودور التي تقع بجانب البركة المقدسة وكنيسة يوحنا وكنيسة القديس جورج وكنيسة الشهيدان قزمان ودميان (كوزموس ودميانوس) وكنيسة القديسين بطرس وبولس وآخر ما بني من الكنائس كانت كنيسة المطران جينيسوس. ( العقيلي: 1973) وهناك أيضا كنيسة الرسل والشهداء والكنيسة ذات الرواق وكنيسة بروكوبيوس وكنيسة إلياس وماري وسورح إضافة لكنيس يهودي حول إلى كنيسة عام 531 ميلادي. (شهاب: 1989)

كنيسة الكاتدرائية إحدى أقدم الكنائس في مدن الديكابولس

من الجدير بالذكر أنه في القرون الميلادية الأولى وخصوصا بعدما اعتنق الإمبراطور أوغسطين  المسيحية وأعلن أن دين الإمبراطورية هو الدين المسيحي بدأت مدن الديكابولس الأردنية باعتناق المسيحية وتحولت المسيحية من دين جديد مضطهد إلى دين الأغلبية وقضت الحاجة بتحويل المعابد الوثنية إلى كنائس. ففي فيلادلفيا (عمان) حُول هيكل فينوس إلى كنيسة وكذلك كان الحال في جراسا حيث تحول معبد ديونيسيوس إله الخمر إلى كاتدرائية وأقام الأردنيون بجانبه معبدا لمريم العذراء والملاكيين جبرائيل وميكائيل ويصعب تحديد عمر الكنيسة ولكن يرجح المؤرخون أنها لا تتعدى القرن الرابع الميلادي. (شهاب: 1989)

كنيسة القديس ثيودور واحدة من الكنائس المهمة في جراسا- حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

عمارة المسارح

 عاشت مدن الديكابولس الأردنية رفاهاً ورخاءً اقتصاديا واجتماعيا، وتساعدنا الآثار التي وجدت في مدن الديكابولس على اكتشاف ماهية معالم الحضارة الأردنية. تنتشر المسارح التي بنيت في الحقبة الكلاسيكية في الأردن وقد بلغ عددها 13 مسرحا 3 منها في جراسا: المسرح الجنوبي، والمسرح الشمالي، ومسرح البركتين. (العقيلي: 1973)

يشيع استخدام لفظة “مدرج” بدلا من المسرح، ولكن المدرج في الحقيقة جزء من المسرح. تبدو المسارح متشابهة في مدن الديكابولس الأردنية ولكن مع بعض التدقيق تظهر لنا اختلافات جوهرية فالمسارح التي بنيت في الحقبة اليونانية تكون مفتوحة السقف ولكن تلك التي بنيت في الحقبة الرومانية والبيزنطية تكون مغلقة بسقف خشبي أو واق من الشمس وهي معدة لتمثيل المسرحيات لا للمصارعة مع الحيوانات. (العقيلي: 1973)

كانت المسارح تبنى على سفوح الجبال أو تقتطع من الجبال وذلك لتجنب حوادث الانهيارات كحادثة انهيار المسرح الخشبي في أثينا 500 ق.م. ومن ثم تطور أسلوب البناء ليصبح البناء على “حجر الزاوية” وهو نمط معماري يقوم على تأسيس نظام من الأقبية والعقود لتتحمل مباني قد يصل ارتفاعها لأربعة طوابق. ويشمل هذا البناء على مداخل داخلية لممثلين وخشبة مسرح ومكان مخصص لأوركسترا ونوافير جانبية لتلطيف الجو أثناء العرض المسرحي. (العقيلي: 1973)

المسرح الجنوبي أكبر المسارح التي بنيت في مدن الديكابولس الأردنية

وبالعودة إلى مسارح جرش الثلاثة، بني المسرح الجنوبي وهو أكبر المسارح في الأردن في القرن الأول ميلادي  وتحديدا 81-98 ميلادي في عهد الإمبراطور روميتان ويؤكد هذا كتابة يونانية طويلة على الصف الأول وهي تؤرخ لتقديم ضابط نبطي تمثالا للنصر عقب الثورة على اليهود عام 70 ميلادي ويبلغ ثمن هذا التمثال ثلاثة آلاف دراخما. ويقع  المسرح قرب معبد زيوس. (العقيلي: 1973)

المسرح الشمالي

أما مسرح البركتين فهو يقع قرب البركتين على بعد 1200 متر شمال البوابة الشمالية. والبركتين عبارة عن نبع ماء غزير يسقي البساتين المحيطة وسمي بالبركتين لأنه يتكون من حوضين. اكتشف هذا المسرح المستكشف الألماني شوماخر. واكتشف بعض النقوش التي تعود للقرن السادس الميلادي أن احتفالا وثنيا يسمى “عيد ماء يوماس” كان يقام في هذا المسرح وكان المسيحيون لا يتقبلون هذا النوع من الأعياد ورغم ذلك ظل هذا العيد حتى وقت متأخر كالقرن السادس الميلادي. (العقيلي: 1973)

حوض البركتين – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود
المسرح الاحتفالي في موقع البركتين – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

المدافن واللقى الأثرية

خلال عمليات التنقيب التي أجرتها دائرة الآثار الأردنية عام 1985 اكتشفت العديد من الآثار التي تعود للحقب المتعددة التي مرت على المدينة. فقد اكتشف مدفن على الطراز الروماني يقع غرب البوابة الشمالية خارج سور المدينة. وهو مبني من الحجارة على طراز القناطر ويؤرخ للقرن الثاني الميلادي. (شهاب: 1989)

وكشفت تنقيبات عام 1984 عن غرفة ويتوسطها تماثيل بشرية رخامية بأسماء يونانية ويقع هذا الموقع شرقي المدينة الأثرية. كما اكتشف مفتش آثار جرش لعام 1967 السيد سليمان دعنه فسيفساء في استراحة جرش. وقادته الصدفة لاكتشاف غرف متعددة  مرصوفة بالفسيفساء الجميلة ولها أقواس وقناطر. أسفرت  التنقيبات عن العديد من اللقى الأثرية كسراج فخاري مميز عليه رسوم لأسماك وصليب وتدل الأسماك على فكرة “المسيح ابن الله” وهي رمز كان يستخدمه المسيحيون الأوائل  زمن اضطهاد الأباطرة الرومان لمعتنقي الديانة المسيحية وقد استمر استخدام هذا الرمز حتى يومنا هذا.

إطلالة على المدينة الأثرية

 ووجد فنجان وعدة عملات  ورأس تمثال وقبر مرسوم عليه بالدهان الأحمر صليب وقد أرخ الموقع لنهاية القرن الرابع 396 ميلادي. أسفرت التنقيبات الكشف عن قناة خاصة للمياه في هذه الغرف ومكان مخصص لوضع العلف للدواب وجداران مكتوب عليهما (أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمدا رسول الله)  ويدل هذا على استمرار استخدام هذه المساكن والمدافن في العصور الإسلامية.  (شهاب: 1989)

تتوالى المفاجآت الأثرية في جراسا حيث اكتشفت بقرب مخيم سوف كنيسة بيزنطية مزدانة برسوم نباتية وحيوانية ونقوش يونانية. إضافة لاكتشاف العديد من المنازل التي تعود للعصور الإسلامية واكتشاف شوارع داخلية فرعية بطول ستة أمتار ونصف وعلى جانبيها بقايا منازل تحوي الكثير من الخزفيات والفخار والعملات. إضافة لاكتشاف واجهة لمبنى ضخم يبلغ عرضه خمسين مترا ويقع خلف الشارع المعمد في منتصف المسافة الواقعة بين المصلبة الجنوبية والساحة  البيضاوية المعمدة. على جانبي المبنى شارعان بعرض ستة أمتار ونصف. واكتشفت أرضية فسيفسائية هندسية بجانب هذا المبنى أيضا. (شهاب: 1989)

صورة جوية لواحد من مواقع المدافن المكتشفة. حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

وأثناء عملية شق شبكة الصرف الصحي في جرش عام 1981 اكتشف أيضا مدفن  يحوي حجرتان  في كل حجرة ثلاثة نواويس (توابيت حجرية) وفي الغرفة الثانية عامودين عند المدخل وحجر لعصر الزيتون في المنتصف حيث يرجح استخدام الحجر كمعصرة قبل تحويلها إلى مدفن. والمدفن مرصوف بالحجارة الكلسية والتوابيت لها شناكل حديدية عبث بها من قبل اللصوص فكانت مفتوحة. واحتوى كل تابوت على عدة هياكل وعملة برونزية تعود لأوائل القرن الرابع ميلادي. عثر في هذا المدفن على عدد كبير من اللقى الأثرية كمعطرة زجاجية وفخاريات ملونة بالأحمر والوردي وجرار للخمر وسرج فخارية.

اكتشف أيضا مدفن روماني عام 1985 شرق قوس النصر ووجدت فيه هياكل عظمية لإناث وطفلة صغيرة ووجدت في التوابيت عدة حلي ذهبية وجرار فخارية للخمر والحبوب وأخرى زجاجية ويعود المدفن للقرن الثاني الميلادي. واكتشف في نفس العام مدفن جماعي يعود للقرنين الأول والثاني الميلادي بجثث مدفونة بالأرض دون توابيت إضافة لعدد من الجرار الفخارية والزجاجية.

الخاتمة

  استعرضنا في الجزء الثاني من بحثنا عن جراسا اقتصادها ومعمارها الذي يعد الأكثر تميزا من بين مدن الديكابولس الأردنية. تستقطب جراسا ملايين السياح سنويا، راغبين بالاستمتاع بالحضارة الأردنية.

المراجع

  • شهاب، أسامة (1989) جرش تاريخها وحضاراتها. دار البشير للنشر: عمان، الأردن
  • العقيلي، رشيد (1973) المسارح في مدينة جرش الأثرية، منشورات دائرة الثقافة والفنون الأردنية: عمان، الأردن
  • جراسا والديكابولس، موسوعة التراث غير المادي، موقع وزارة الثقافة الأردنية
  • مجلي،عبد المجيد (1982) نظام المياه والمجاري في مدينة جرش الكلاسيكية، حوليات دائرة الآثار الأردنية

[1] طريق الملوك أو الطريق السلطاني كما كان يسمى في العصور الإسلامية ظل مستخدما حتى نهايات الاحتلال العثماني وكان يربط العقبة بروما.

[2] البطالمة هم عائله من أصل مقدونى نزحت على مصر بعد وفاة الإسكندر الأكبر سنة 323 ق. م ، حيث تولى أحد قادة جيش الإسكندر الأكبر وهو “بطليموس” حكم مصر للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A9

مدن الديكابولس الأردنية : جراسا جوهرة الديكابولس الأردنية – الجزء الثاني

 مقدمة

من شمال الأردن الزاخر في الحضارات، ومنذ العصور القديمة التي كان الإنسان الأردني الأول يخطو خطواته من البدائية إلى الحضارة والمدنية، تأتينا مدينة بيلا، أو طبقة فحل كما يسميها الأردنيون اليوم، لتكشف لنا عن أصالة هذه الأرض، وعن حضارة تضرب جذروها في التاريخ. في سلسلة مدن الديكابولس الأردنية، سنستعرض مدينة بيلا، كمثال آخر على ازدهار الحضارة الأردنية الغسانية بشكل خاص.

ما قبل بيلا: موجز تاريخي

أثبتت الدراسات بأن بيلا قد سكنت منذ العصر الحجري القديم (Smith: 1987) ويجعلها هذا التاريخ العريق محط أنظار العلماء والباحثين حيث أجرت جامعة سيدني وجامعة ووستر التنقيبات في المدينة على مدار 22 عام وأثبتت دراستهما أن بيلا كانت مأهولة من أكثر من نصف مليون عام. وقد رسمت أبحاث الجامعتين خطا زمنيا لتاريخ المدينة:

  • مساكن من العصر الحجري الحديث (حوالي 6000 سنة قبل الميلاد)
  • مجمعات تخزين فترة العصر الحجري (حوالي 4200 قبل الميلاد)
  • منصات دفاعية من العصر البرونزي المبكر (حوالي 3200 قبل الميلاد)
  • أسوار طينية ضخمة من العصر البرونزي المتوسط (حوالي 1800 قبل الميلاد)
  • معابد العصر البرونزي الأوسط والمتأخر والمساكن الفخمة (حوالي 1800-1200 قبل الميلاد)
  • إقامة المحافظين المصريين[1] في العصر البرونزي المتأخر مع ألواح من الطين (حوالي 1350 قبل الميلاد)
باحثة من جامعة سيدني أثناء عملية تنقيب على أرضية معبد يعود للعصر البرونزي الوسيط (2000 سنة قبل الميلاد) . المصدر: موقع المعبد الكنعاني/ نتائج تنقيبات جامعة سيدني
إطلالة على المعبد الكنعاني، حيث أسس في مدخل المعبد عام 1600 قبل الميلاد وأضيفت المرافق الأخرى كالجدران وقدس الأقداس في فترات مختلفة. المصدر: موقع المعبد الكنعاني/ نتائج تنقيبات جامعة سيدني.

ومنذ العصر البرونزي المتأخر وصولا إلى غزو الإسكندر الأكبر للمشرق بأكمله عام 333 ق.م كانت المدينة مهجورة. وصلت التأثيرات الهلنستية للمدينة في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد.  وبين عام 323-31 ق.م. تحولت بيلا إلى مركز تجاري حيوي يذكر كثيرا في المصادر التاريخية الهلنستية وكإحدى اهم مدن الديكابولس التي سنأتي عليها بمزيد من التفصيل في الفصل القادم من هذا البحث.  وللأسف فإن هذا الازدهار لم يدم كثيرا، فقد قام الملك الحشموني ألكسندر جننيوس بحملة تدمير وإبادة لأبيلا عام 80 ق.م. وذلك لأن أهالي المدينة رفضوا بقوة ارتداء الزي اليهودي أو التحول لليهودية وفقا لما أرخه الأسقف يوسابيوس[2] أحد أهم مراجع التاريخ التوراتي والمسيحي.

صورة للملك الحشموني ألكسندر جننيوس الذي دمر أبيلا عام 80 قبل الميلاد لعدم خضوعها له

حلف الديكابولس

انطلقت فكرة الديكابولس في الحقبة الهلنستية لغايات تنظيمية سياسية، ومن ثم اكتسبت أهمية عسكرية عام 64 ق.م.  عندما اتخذها الإمبراطور الروماني بومبي كحُصن دفاعية في المشرق. تعني “ديكا” العشر أما بوليس  فتعني “المدن” ومجتمعة تعني مدن الحلف العشرة. ضمت المدن العشر في البداية (جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى) ) وكما نرى ثمان منها أردنية ثابتة، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) وبيت راس.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية ثابتة

وكما نرى فقد كانت بيلا من المدن العشرة الأساسية، التي تقع أغلبها في الأردن. ورغم الدمار الذي ألحقه الملك الحشموني بالمدينة إلا أنها استعادت مكانتها كمدينة ديكابولس، حظيت باستقلال وحكم ذاتي، وازداد تعداد السكان فيها كثيرا. وسرعان ما اتخذت موقعا متميزا أكثر عندما استغلها الأردنيون الغساسنة كحلقة وصل بين مدينتي الديكابولس في سورية (دمشق وبوسطرا -بصرى) وبين مدن الديكابولس الأردنية الثمانية الأخرى وحتى مدينة سيكثوبوليس (بيسان) الفسلطينية. إضافة إلى ذلك، فقد كانت قريبة لعاصمتي الأردنيين الغساسنة جلق والجابية في سهل حوران قبل أن يتخذوا من البلقاء عاصمة دائمة لهم.

الموقع والتسمية

تقع بيلا في وادي الأردن على بعد 5 كلم شرق نهر الأردن، وتتبع إداريا للواء الأغوار الشمالية. تبعد نصف ساعة عن مدينة إربد. ولأن المدينة واقعة في وادي الأردن فهي تتصف قليلا بالوعورة وتنخفض عن سطح البحر بمقدار 50 متر  وهذا ربما من أهم الأسباب التي جعلت الحضارات تهتم بالمدينة قرنا بعد قرن، إنه الموقع الاستراتيجي، فالمدينة مُقامة على ممر ضيق على وادي نهر الأردن وتقابلها مدينة سيكثوبوليس (بيسان) في فلسطين. تعطي هذه الممرات الضيقة بين أوديتها خاصية دفاعية ممتازة كان ولا بد للجيوش استغلالها.

أما تسميتها (بيلا) فجاءت إكراما من الإسكندر الأكبر الذي وجدها مهجورة منذ العصر البرونزي المتأخر وأعاد لها مكانتها وسميت بيلا نسبة لمسقط رأسه. أما اسمها “طبقة فحل” فهو أقدم بكثير من بيلا، ويعود للعصرين البرونزي المبكر (3000-2500 ق.م) من الكلمة “pihil” حيث يقابل الحرف p الصوت (ف) ويرجح أن pihil   تعني حيوانا منقرضا من فصيلة الأحصنة يدعى equid  ويشبه هذا الحيوان الحمار الوحشي. وهو من أولى الحيوانات التي تم تدجينها لخدمة الإنسان في العصور القديمة وكانت الأردن موطنا له لآلاف السنين. (Smith: 1987) ولأن المدينة كانت مركزا تجاريا مهما لبيع هذا النوع من الحيوانات التصق الاسم بها وتم نحت الاسم فيما بعد ليصبح فحل.

حيوان equid المنقرض الذي اشتهرت فيه مدينة بيلا

التجارة في بيلا

كما أسلفنا، حظيت بيلا بمكانة تجارية مرموقة نتيجة لموقعها الاستراتيجي كمدينة واقعة في وادي الأردن. كشفت لنا التنقيبات الأثرية عن هذه الأهمية التجارية المتميزة عن طريق اكتشاف الكثير من المنتجات غير المحلية وغير المتواجدة في طبيعة المدينة. (Smith: 1987) فمثلا وجد العلماء والباحثون  حجر الزبرجد البركاني البيضاوي المسطح ذي اللون الزيتوني وهو حجر لا يتواجد في محيط  ثلاثين كيلو حول المدينة (Smith: 1987) ويمتلك هذا الحجر خطوطا متداخلة ومتوازية وهو نمط لا نجده سوى في الحضارة السومرية. كما كشفت التنقيبات عن وجود حجر البازلت وهو بالتأكيد قد تم جلبه من مدن أخرى غالبا ما تكون جدارا (أم قيس) الشهيرة بحجر البازلت الأسود.

إطلالة على آثار أم قيس الشهيرة بحجرها البازلتي الأسود

وكما نقاشنا في الفصل السابق أصلا اسم “فحل” الذي تبين أنه يعود للعصر البرونزي المبكر نتيجة لاشتهار المدينة ببيع حيوان يتبع لفصيلة الحصان. وبذلك لا عجب أن تذكر البرديات المكتشفة أن بيلا اشتهرت بالصناعات الخشبية خصوصا المرتبطة بالحصان كالأسرجة وقد ساعدت الطبيعة المميزة للمدينة على تطوير هذا القطاع حيث كانت التلال المحيطة ببيلا كثيفة الأشجار(Smith: 1987)

وتذكر العديد من المصادر التاريخية السريانية والمصرية أن المدينة اشتهرت بالصناعات المحلية، كالزجاج والسيراميك ذي الجودة العالية، والصناديق والمعدات الحديدية والبرونزية(Smith: 1987). وللأسف، فقط توقفت هذه الصناعات عندما تم تدمير المدينة 80 ق.م. على يد الملك الحشموني. وعند دخولها في الحقبة الهلنستية عندما أعاد الإسكندر الأكبر بناءها دخلت أيضا حقبة جديدة في تجارتها.

وعلى غرار التنقيبات التي كشفت عن تواجد منتجات غير محلية في بيلا تعود للعصور القديمة وجدت الكثير من المقتنيات التي تعود للحقبة الهلنستية والرومانية. فقد وجدت عدة منتجات يونانية الصنع كالفخار والسيراميك، كما وجدت فخارات مميزة لحفظ النبيذ وأخرى للسمك. ومن آسيا الصغرى، وجدت أطباق صغيرة منبسطة. أما من مصر وإسبانيا وإيطاليا، فقد اكتشفت قوارير “جاروم” والجاروم هو مستخلص من نبات له ذات الاسم يستخدم في تتبيل الأسماك وفي ذلك الوقت لم يكن من الممكن جلبه سوى من مصر أو إسبانيا أو إيطاليا. (Smith: 1987)

قارورة جارووم من مدينية بومبي الإيطالية

ومن كل هذه المقتنيات المكتشفة، نستنتج أن المدينة احتلت مكانة مهمة كحلقة وصل تجارية في العالم القديم وذلك لتعدد الصناعات المكتشفة فيها وغناها وتعدد مصادرها. عند دخول المدينة في الحقبة الرومانية استمرت كمركز تجاري مهم في القرنين الأول والثاني الميلادي إلا أن الإمبراطورية الرومانية اعتمدت على تكثيف حضورها العسكري في المنطقة بسبب نشوب الحروب المتكرر مع الفرس أو القبائل الأردنية التي كانت ترفض فرض الولاية بالقوة. ولهذا فقد تحولت المدينة من مركز تجاري لما يشبه الثكنة العسكرية على طريق جراسا (جرش) وتم منع عبور الأحصنة والجمال التي كانت تستخدم لنقل البضائع وهذا ما أدى لتضاؤل حركة التجارة شيئا فشيئا. (Smith: 1987)

 وقد شهدت المدينة عودة إلى الحيوية التجارية مرة أخرى عند دخولها ضمن حكومة الأردنيين الغساسنة التي تأسست في القرن الثاني  الميلادي واستمرت حتى القرن السادس الميلادي. وفي هذه الفترة شهدت المدينة تنظيما أكبر ورفاهً نراه في البيوت الكبيرة التي بنيت، واتسمت بتنظيم مدني وديني كبير متمثلا في الكنائس التي بنيت. (Smith: 1987) ولوقوعها على خط التجارة الذي استحدثه  الأردنيون الغساسنة عبر ميناء يافا – تكريت – قبرص  من المؤكد أن بيلا عادت مركزا تجاريا من جديد.

البُعد الديني

لبيلا بُعد ديني قديم وتاريخي للغاية، فقد شهدت المدينة ظهور الممارسات الدينية القديمة إضافة لإقامة معبد كنعاني ضخم عام 1600 ق.م. وتحوي المدينة عدة مدافن قديمة تدلنا على وجود قيم ومعتقدات دينية متعلقة بالحياة الآخرة.

باحثة من جامعة سيدني تجد فخارة أثرية يقدر عمرها بثلاثة آلاف عام في تنقيبات المعبد الكنعاني عام 1999، وكانت الفخارات تستخدم لسكب الطعام، حيث ينزل الطعام من الفتحة السفلى كهدية من الإله. المصدر: موقع المعبد الكنعاني/ نتائج تنقيبات جامعة سيدني

 

لكن البُعد الديني الذي يهمنا في بيلا بوصفها واحدة من مدن الديكابولس التي رعاها الغساسنة هو ما روي عنها في كتب التأريخ الكنسي. فبحسب ما ذكره المؤرخ أوزيبيوس قيصرية أو (يوسابيوس) فقد لجأ أتباع المسيح الأوائل إلى بيلا هربا من الاضطهاد الروماني وذلك قبل أن يدمر الرومان مدينة “أورشاليم- القدس” عام 70 ميلادي. ولكن التنقيبات التي أجراها الباحث ستيفن بروك، المسؤول عن حملة التنقيبات الأكبر في بيلا، لم تسفر عن أي شيء يخص القرن الميلادي الأول، فلا مساكن ولا قبور عائدة لتلك الحقبة، وحتى المدافن الرومانية والكنيسة الغربية قد بنيا في وقت لاحق.

وبالرغم من ذلك، تعد بيلا إحدى المدن التي لا تزال تتمتع ببعد ديني وروحاني ويعتقد بحصول عدة معجزات فيها وهي على خارطة الحج المسيحي.

الآثار

الكنيسة الغربية

لفتت الكنيسة أنظار الرحالة والمستكشفين منذ القرن التاسع عشر فوصفها الرحالة إيربي والرحالة إنجليز والرحالة روبنسون وشوماخر وغيرهم، وبدأت التنقيبات فيها عام 1967 من جامعة ووستر واستكملت دائرة الآثار الأردنية تنقيباتها وترميمها فيما بعد.

منظر عام للكنيسة، المصدر: حوليات دائرة الآثار الأردنية 2009

تقع الكنيسة في الجزء الغربي من مدينة بيلا، وتعد واحدة من أكبر التجمعات الكنسية في شمال الأردن. والغالب أنها بنيت 527-565 ميلادي في عهد الأردنيين الغساسنة الذين اهتموا ببناء المجمعات الكنسية الضخمة في الأردن.

إحدى العملات الرومانية التي وجدت في محيط الكنيسة، وتؤرخ للقرن الثالت الميلادي. المصدر: حوليات دائرة الآثار 2009

تبلغ أبعاد الكنيسة 36×25 متر وتتخذ طراز البازيليكا (شكل الكنيسة المستطيل) هي مزينة ببلاط ملون وأرضيات فسيفسائية وأروقة، تتنوع الزخارف الفسيفسائية فيها بين الأشكال الهندسية وأشكال الحيوانات والنباتات إضافة لدخول عنصر الزجاج في صناعة الفسيفساء.

مخطط الكنيسة العام. المصدر حوليات دائرة الآثار الأردنية 2009
من فسيفساء الكنيسة، ويظهر رسم لثور. المصدر حوليات دائرة الآثار 2009

وجد في الجزء الشمالي من الكنيسة تابوت يحوي هيكلا بشريا يعود لعام 655 ميلادي ويرجع أن يكون للكاهن. تحوي الكنيسة عدة مرافق أخرى كفرن للخبز وأروقة مزدانة بأعمدة وخزان ماء مهدم بفعل الزلازل. ومن المثير للانتباه وجود عدة مرافق أخرى كغرف مبنية وأفران خبز وفخارات  ومراود للكحل وغيرها تعود للقرن الثامن أي العهد الأموي، ودون تغيير في هوية الكنيسة أي أنها لم تحول لمسجد بل ظلت كنيسة محتفظة بأهميتها ومركزيتها في شمال الأردن.

الأرضية المبلطة في الكنيسة، المصدر حوليات دائرة الآثار 2009
فرن للخبز أحد مرافق الكنيسة. المصدر: حوليات دائرة الآثار 2009

المدرج (الأوديون)

يقع الأوديون في مجرى وادي الجرم في بيلا، وهو مدرج صغير نسبيا وملحق به ساحة مستطيلة تحولت فيما بعد لكنيسة. بجانب المدرج توجد بقايا حمام (سبيل حوريات). عانى المدرج من عدة عوامل ساهمت في تهدمه، حيث يعتقد العلماء بأنه استخدم كمسكن مع إضافة بعض الغرف الجانبية أواخر القرن السادس ميلادي، ومن ثم تم تحويله إلى مكب نفايات. كانت التنقيبات صعبة للغاية بسبب تدفق الينابيع الكثيف من كل جانب وبسبب سرقة أحجار المدرج واستخدامها في بناء مبان أخرى.

إطلالة على المدرج من أعلى وادي الجرم. المصدر حوليات دائرة الآثار 2009
بقايا المدرج من زاوية أخرى. المصدر: حوليات دائرة الآثار الأردنية 2009
مخطط المدرج الأوديون، وتظهر الغرف المضافة إلى اليسار. المصدر: حوليات دائرة الآثار 2009

المدافن

اكتشف مدفنين أثريين في التلة المقابلة للموقع الأثري، وتشتهر هذه التل بكونها “تلة المدافن الأثرية” أثناء عملية توسيع الطريق تكشف مدفنان أثريان. المدافن صغيرة تتراوح أبعادها بين 2.5×2.5 متر تحوي عدة توابيت. في المدفن الأول ثلاثة توابيت يحوي كل منها على هيكل عظمي واحد وبعض الأساور البرونزية والنحاسية والأجراس وكذلك المدفن الثاني الذي فاق الأول بالمقتنيات حيث اكتشف عدد كبير من السرج الفخارية المميزة. يرجح العلماء بأن هذه المدافن تعود للقرنين الثاني والثالث ميلادي، وهي دلالة على الرخاء والرفاه الاقتصادي.

مخطط المدفن الأول وغالبا ما تتشابه المدافن التي تعود لتلك الحقبة في تخطيطها. المصدر: حوليات دائرة الآثار 2009
من السرج الفخارية التي وجدت في المدافن، المصدر: حوليات دائرة الآثار 2009

الخاتمة

في عهد الأردنيين الغساسنة ازدهرت مدن الديكابولس الأردنية وانتعش اقتصادها وحظيت بتنظيم اجتماعي وديني وسياسي قل مثيله، ولم تكن بيلا بعيدة عن هذا الازدهار بل مثالا له لا زلنا نتلمس آثاره حتى يومنا هذا.

المراجع العربية:

  • د. إسماعيل ملحم، النتائج الأولية للتنقيبات الأثرية في طبقة فحل 2007-2008، حوليات دائرة الآثار الأردنية 2009
  • د. حكمت الطعاني، التنقيب عن مدفنين أثريين في طبقة فحل 1995،حوليات دائرة الآثار الأردنية 1995
  • طبقة فحل من أهم وأكبر المواقع الأثرية في المنطقة، مقال منشور على صحيفة الدستور

المراجع الأجنبية:

[1] امتد حكم الحضارة المصرية إلى الأردن، عبر الحروب التي شنتها ضد الهلنستيين، وكانت الأراضي الأردنية تارة تقع تحت سيطرة الهلنستيين وتارة أخرى تحت سيطرة السلالة الحاكمة في مصر ومنها البطلمية التي كانت تعين محافظين على المدن التي تقع تحت ولايتها.

[2] (حوالي ٢٦٤ – حوالي ٣٤٠) ، الأسقف ومؤرخ الكنيسة ؛ المعروفة باسم أوزيبيوس قيصرية. إن تاريخه الكنسي هو المصدر الرئيسي لتاريخ المسيحية (خاصة في الكنيسة الشرقية) من عصر الرسل حتى عام 324.

مدن الديكابولس الأردنية : بيلا المدينة التي جلبت تجارة العالم لها

المقدمة

يلمع اسم جرش عندما نذكر التاريخ الأردني العريق لكونها تحتضن مدينة أثرية كاملة يمكن للمرء أن يتجول فيها ويرى أسواقها ومدرجاتها وحماماتها، ولكن الآثار والحجارة لا تخبر قصة مدينة جراسا الأردنية، هذه القصة التي تسلب الألباب، وتجعل المرء يتوق لذلك الوقت التي كانت جراسا مدينة الحضارة الأولى في المشرق.

الموقع والطبوغرافية

تقع جراسا (جرش)  شمال المملكة الأردنية وتبعد عن فيلادلفيا (عمان)  45 كلم وهي على ارتفاع  650 م عن سطح البحر. وهي جغرافيا تقع بين سهول حوران الأردنية وبين جبال البلقاء وتحيط بها غابات عجلون الكثيفة غربا وشمالا. أما المدينة الأثرية جراسا فهي تقع في واد بين جبال جلعاد الأردنية على هضبة منخفضة. (عقيلي: 1973) يشق الوادي محافظة جرش من الشمال إلى الجنوب ويقسمها إلى قسمين شرقي وغربي وتقع أغلب المدينة الأثرية غرب هذا الجدول.

 مصادر المياه في المدينة على سيل جرش  الذي كان يسمى “نهر الذهب” وعيون الماء الطبيعية كعين البركتين (2 كلم شمال جراسا) وعين القيروان التي يشرب منها أهالي المدينة،(عقيلي: 1973)  إلا أن الأردنيين عبر العصور قاموا بتطوير نظم مائية وآبار وقنوات تساعدهم على تخطي حالات الجفاف.

تمتد في جراسا غابات كثيفة وبساتين وكروم للعنب والزيتون وصفها الرحالة والمستشرقون في كتبهم. وقد ساعدت هذه العوامل الطبيعية على ازدهار مدينة جرش عبر العصور.

اكتشاف جراسا

 بدأ توثيق آثار جرش من بدايات القرن التاسع عشر 1806 حين قام الرحالة الألماني سيتزن بزيارة الأردن واستكشاف المدن الأثرية التي غلفها النسيان لقرون. تبعه الرحالة والمستكشف السويسري “بيركهارت” عام 1812 ومن ثم المستكشف الإنجليزي بكنجهام عام 1825. أما أشهر المستكشفين فكان  الألماني شوماخر الذي تردد على جرش مرات عدة مسجلا آثارها وتعد ملاحظاته وبحوثه مؤسسة البحث الآثاري في مدينة جراسا. وكان للباحث والمستكشف بوختشين فضل كبير في تسجيل وتحليل النقوش والكتابات  الأثرية أيضا. (عقيلي: 1973)

قامت فيما بعد دائرة الآثار بعدة حملات للتنقيب والصيانة والترميم حتى انكشف تاريخ جراسا الثري.

المستكشف الألماني غوتليب شوماخر

التسميات والألقاب

سميت جرش بعدة أسماء وألقاب عبر التاريخ. وقد ذكرها ياقوت الحموي في مصنفه “معجم البلدان” : ( كانت جرش في الماضي عظيمة وحصينة ولكنها اليوم مهدمة تماما.. وهي تعرف اليوم بحمى جرش أو قلعة جرش) وهنالك عدة افتراضات لأصل اسم جرش فبعضهم يعيدها للجرجاشيين وهم قبائل حيثية[1]. ويقول بعض الباحثين بأن الكلمة ذات أصل آرامي يمكن أن تعني “الطحن” وأنها في الآرامية “جرشون”. بينما يفترض باحثون آخرون بعودتها إلى أصل كنعاني بمعنى “الغرس والغراس”  وأما الرأي الأشهر فهو أن أصل جرش كلمة يونانية (جراسا)  جرى تعريبها وقد أطلق السلوقيون اسم جراسا على المدينة عندما انضمت لولايتهم عام 200 ق.م. (شهاب: 1989)

دعيت جرش بعدة ألقاب أهمها “أنطاكية على نهر الذهب” أنطاكية نسبة إلى الإمبراطور أنطونيوس ونهر الذهب المقصود هو سيل جرش. (شهاب: 1989)

مطل على نهر الذهب في جرش

جراسا عبر التاريخ

إن جرش مدينة لا يمكن اختزال تاريخها، فعندما ظن الباحثون بأنهم اكتشفوا كل ما يمكن اكتشافه عن المدينة ظهرت أمامهم المزيد من المكتشفات التي أرجعت تاريخ المدينة 7500 سنة قبل الميلاد.

اكتشف الباحثون عدة قرى زراعية مثل قرية تل أبو الصوان وهي من القرى الزراعية الكبيرة في المنطقة وتعود ل 7500 ق.م. كما اكتشفت كهوف تعود للعصر البرونزي 2500 سنة ق.م. شمال شرق المدينة؛ وبقايا خربة تعود لأواخر العصر الحجري القديم وأوائل العصر الحجري الحديث 4000 سنة ق.م. واكتشفت قرية أخرى تقع شمال وادي جرش وتعود للعصر الحديدي 1000 سنة ق.م.

كانت جرش مطمعا للحضارات القديمة فاحتلها الآشوريون عام 745 ق.م. في عهد الملك تجلات بلاسر ومن ثم خضعت للحكم المصري في عهد بسامتيك الثاني عام 590 ق.م ولكن البابليين سرعان ما شنوا حربا على السلالة المصرية وسيطروا على جرش بقيادة نبوخذ نصر عام 586 ق.م.

وبعد انهيار المملكة البابلية على يد الملك الفارسي قورش عام 539 ق.م. انضوت جرش تحت لواء إربد في الحكم الفارسي الذي لم ينتهِ إلا باجتياح الإمبراطور الاسكندر المقدوني عام 333 ق.م. للمشرق وإنهاء الوجود الفارسي فيه. ومن هنا بدأت حكاية جراسا كمدينة لامعة في الحقبة الكلاسيكية (الهلنستية والرومانية والبيزنطية).

عثر على نقش يعود لعهد الإمبراطور كومودوس تؤكد وجود استيطان مقدوني لكبار القادة والجنود في التلة الشرقية للساحة البيضاوية في المدينة الأثرية. بعد وفاة الإسكندر المقدوني قسمت البلاد التي كانت تحت ولايته بين السلوقيين والبطالمة.[2] وكانت جراسا وفيلادلفيا إحدى أهم المدن التي اهتم البطالمة بها خصوصا في عهد بطليموس فيلادلفيوس (285-246 ق.م) الذي منح فيلادلفيا اسمه الدال على الحب الأخوي وجعل من جراسا مدينة  مهمة.

عملة ذهبية وجدت في فيلادلفا منقوش عليها وجه بطليموس فيلادلفيوس

ولكن حكم البطالمة لم يدم كثيرا فعام 200 ق.م. قام السلوقيون بأخذها من يد البطالمة وأطلقوا عليها لقب جراسا، حتى عام 86 ق.م قام الكسندر جننيوس الملك الحشموني اليهودي بعدما انتصر على الجلعاديين والمؤابيين بمهاجمة القبائل الأردنية التي تسكن البادية الشمالية الشرقية وكان شيخها يدعى “عباد” انهزم الملك أمامه في المعركة التي دارت رحاها على ضفاف نهر اليرموك ولكنه عاد وحشد جيشا كبيرا واحتل جراسا وأمر بتدميرها كما فعل مع بيلا (طبقة فحل) لعدم خضوع أهلها للزي الرسمي اليهودي أو الدين اليهودي. (شهاب: 1989) وقبل أن يموت ألكسندر كان قد بنى قلعة ماخيروس (مكاور) التي بجوار مادبا ليمنع امتداد النفوذ الأردني النبطي من أن يصل شمال الأردن. وكان غزو المملكة الحشمونية اليهودية دمارا على الأردنيين في مدن الديكابولس فكما أسلفنا دمرت المدن وفقدت استقلالها (شهاب: 1989)

صورة للملك الحشموني ألكسندر جننيوس الذي دمر أبيلا وجراسا عام 80 قبل الميلاد لعدم خضوعها له.

جراسا كجوهرة الديكابولس

ابتكرت الحضارة الهلنستية فكرة المدن – الدول الحرة، حيث يكون لكل مدينة استقلالها وحكمها الذاتي وارتباطها التجاري مع غيرها من المدن. في عام 46 ق.م. قام الإمبراطور الروماني بومبي بإعادة تدشين هذا الحلف والتي كانت ثمان منها أردنية ثابتة. وكان الغرض الرئيسي من الحلف هو غرض عسكري دفاعي. وقد جاء ذكر هذه المدن في كتاب “التاريخ الطبيعي” الذي أنجزه المؤرخ الروماني بيليني عام 77 ميلادي.

تعني “ديكا” العشر أما بوليس  فتعني “المدن” ومجتمعة تعني مجتمعة “مدن الحلف العشرة”. ضمت المدن العشر في البداية (جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى))  وكما نرى ثمان منها أردنية ثابتة، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) وبيت راس وقد طالت قائمة المدن العشرة لتصل إلى ثماني عشرة مدينة كانت أغلبها على أرض الأردن.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية

كانت جراسا إحدى أهم مدن الديكابولس الرئيسة وقد تعرضت لحملات الغزو مرارا، ولكونها في قلب خريطة مدن الديكابولس فقد ازدهرت التجارة فيها وشهدت تطورا كبيرا على مستوى العلم والدين وهذا ما سنناقشه في الفصلين التاليين من هذا البحث.

الريادة في العلم والهندسة

بدأ تأسيس جراسا كمدينة ديكابولس في القرن الأول ما قبل الميلاد وتابعت ازدهارها في العلم والمعمار والدين لتصل فيه إلى مراتب رفيعة في القرنين الثاني والثالث الميلادي. ومن أهم أعلام مدينة جراسا في تلك الفترة العالم والرياضياتي “نيكوماخوس الجيراسي Nicomachus of Gerasa) Νικόμαχος)” الذي ولد في جراسا في منتصف القرن الثاني الميلادي.

يذكر الدكتور يوسف رشيد زريقات مدير مركز دراسات العهد القديم في بحثه في تاريخ جرش القديم عن نيكوماخوس الجيراسي:

“كانت كتبه مؤثرة بشكل واسع في علماء الرياضيات اللاحقين أمثال إيمابلوخوس [3]Iamblichus والعالميين اسكليبيوس Asclepius وفيليبينوس [4]Philoponus ويعد الخطيب والأديب والفنان لوسيان [5]Lucian أحد المعجبين به الذين استخدموا اسمه كأحد شخصياتهم في خطاباته الشهيرة في روما وأشاروا إليه بوضوح كأحد مشاهير الرياضيات في عصره بقوله: “إنك تحسب الأرقام مثلما يحسب نيكوماخوس” [6]

كان نيكوماخوس الجيراسي سباقا لكثير من العلماء اليونان والرومان أمثال نيمنيوس Numenius [7]وإدوراس Eudorus[8] وهما من علماء نظرية فيثاغورس الذين لم يكتبوا مصنفات علمية مكتملة؛ كتب نيكوماخوس الجراسي أربعة مصنفات علمية ظل منهما اثنان موجودان حتى اليوم.

كتابه الأول “مقدمة في علم الرياضيات” وقد شرح فيه النظرية الفيثاغورية وأهميتها في عالم الرياضيات والعلوم. ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية لوسيوس أبوليوس [9]Lucius Apuleius

وفقدت ترجمته فقام العالم أنسيوس Ancius بإعادة ترجمته في القرن الخامس ميلادي وتم اعتماده كمنهج تدريسي حتى عصر النهضة الأوروبية أي لأكثر من ألف عام. احتوى الكتاب على بعد فلسفي مهم، فقد عد نيكوماخوس الجيراسي علم الرياضيات الفاصل بين البعد الروحي والبعد العقلاني للعالم. احتوى الكتاب على أسس نظرية الأرقام الأولية وأبكر جداول الضرب المكتوبة بالعربية. وكان كتابه هذا أحد أهم الكتب التي جرت ترجمتها إلى العربية مرات عديدة في العصور الإسلامية الوسيطة.

لنيكوماخوس الجراسي كتاب آخر بعنوان “كتيب الأصوات” وشرح فيه نظرية الأصوات عند فيثاغورس ونظريات الموسيقى عند أرسطو. وقد اعتمد على صدفة مع عدد من المطارق الحديدية في دراسته وتأليفه لهذا الكتاب.

وله كتاب آخر تحت عنوان “مقدمة في الرياضيات” ويدور حول الخصائص الروحية للأرقام ولم يتبق منه للأسف سوى بضعة رسائل. وهناك كتاب “حياة فيثاغورس” الذي لم يصلنا سوى ذكره من الكتب الأخرى التي اعتمدته كمرجع عن حياة فيثاغورس.

الدين في جراسا

إن تتبع الدين ومظاهر الدين أحد أهم الوسائل التي تقيس حضارة وثقافة أي شعب. ويشكل الدين ركيزة أساسية في المجتمع الأردني في جراسا في عهد الديكابولس، فقد كانت مركزا دينيا في المرحلتين الأساسيتين اللاتي مرت فيهما: الوثنية والمسيحية.

مرحلة الوثنية

تمتد المرحلة الوثنية من عصور ما قبل التاريخ وصولا إلى القرن الأول الميلادي.  حيث يقول (ك. كوندر) بأن عبادة الحجارة والرجوم الصخرية كانت العبادة الأكثر شيوعا في جراسا في عصور ما قبل التاريخ والعصور الحجرية الأولى. وقد اعتمد كوندر على وجود الكثير من الرجوم الحجرية في جراسا وفي سوف وكفر خل وغيرها من القرى المجاورة (شهاب: 1989)

أما في العصور الكلاسيكية، كانت الوثنية في جراسا خليطا من الآلهة اليونانية (آلهة الأولمب) والآلهة الرومانية بسبب تعاقب الحضارتين عليها. فشاعت عبادة جوبيتر إله السماء وميركوري إله التجارة والسفر ونبتون إله البحر وفينوس آلهة الحب والجمال وباخوس إله الخمر وهم من الآلهة الرومانية وعبدت أرتميس الآلهة اليونانية الأهم على الإطلاق فهي ابنة زيوس كبير آلهة الأولمب وراعية الأطفال وسيدة الصيد والبرية وقد بني لها في جراسا معبد فريد من نوعه.

في الفترة المتأخرة من حكم الإمبراطورية شاعت عبادة الأباطرة الرومان فبني هيكل هرقل في جبل القلعة في فيلادلفيا (عمان). ورغم ظهور المملكة اليهودية الحشمونية واليهودية المكابية في المشرق إلا أن مدن الديكابولس الأردنية لم تَمِل إلى اليهودية، وكانت مدنهم تميل دوما للطابع الهلنستي والروماني في الدين ومختلف مظاهر الحضارة. وتذكر  المصادر التاريخية محاولات الملك الحشموني اليهودي الكسندر  السيطرة بالقوة على مدن الديكابولس الأردنية وفرض الهوية اليهودية بالزي والدين ولكن محاولاته لم تنجح فعمل على تدمير المدن في الفترة الممتدة بين 80-84 ق.م. حتى جاء الإمبراطور بومبي عام 64 ق.م وأعاد إحياء وإعمار مدن الديكابولس مخلصا إياها من اضطهاد الحشمونيين.

مرحلة المسيحية

مع بزوغ المسيحية من المشرق، بدأت مدن الديكابولس الأردنية باعتناقها منذ القرن الأول الميلادي تدريجيا حتى أصبحت مدنا مسيحية بشكل كامل. ويذكر الكتاب المقدس المدن العشرة عدة مرات ففي إنجيل متى 4:25 (تبعته جموع كثيرة من الجليل والعشر مدن وأورشاليم واليهودية وعبر الأردن[10]) وفي الكتاب المقدس قصص كثيرة عن جولات المسيح ومعجزاته في مدن الديكابولس كمعجزة إدخال الأرواح الشريرة في أجساد الخنازير ومعجزة شفاء المجنون وغيرها.

ترافق انتشار المسيحية مع صعود نجم الأردنيين الغساسنة الذين شكلوا حكومة مركزية تجمع مدن الديكابولس الأردنية الحرة تحت ظل حكومة مركزية تتكفل بحفظ طرق التجارة والتنقل وتحمي الأردنيين المسيحيين من اضطهاد الإمبراطورية الرومانية وقد اعتنق الغساسنة المسيحية بإخلاص وكانوا من أشد المدافعين عنها فيما تلا من القرون.

مع انتشار المسيحية واعتناق المزيد لها، بدأت الإمبراطورية الرومانية بتطبيق سياسة الاضطهاد الديني على كل معتنقي الديانة الجديدة. وقد قدمت الأردن آلاف الشهداء الذين حاربوا من أجل حرية العقيدة وما زال ذكرهم خالدا حتى الآن مثل  القديس جراسيموس الأردني والقديسان زينون وزيناس والقديس إليان العماني والقديسان قزمان ودميان الذين بنيت لهما كنيسة كبيرة في جرش. وقد وجد ما يدعم صمود الأردنيين المسيحيين في جراسا مثل وجود عدد من الرسوم على الفخار كرسم السمك الذي يعد رمزا وضعه المسيحيون الأوائل ليعني “المسيح ابن الله” وقد وجد في مدفن في جراسا  سراج فخاري يحمل هذا الرمز ويعد سراجا متفردا لم يكتشف الباحثون مثله حتى الآن. (شهاب: 1989)

القديس جراسيموس الأردني
(القديسان زينون وزيناس، من رسم جداري في كنيسة الراعي الصالح في مركز سيدة السلام، عمان، الأردن)

واستمر الحال على ما هو عليه حتى عام منتصف القرن الرابع ميلادي حيث أمر الإمبراطور قسطنطين باعتماد الدين المسيحي دينا رسميا للإمبراطورية البيزنطية. [11]كان للأردنيين الغساسنة دور كبير في حفظ أمان  مدن الديكابولس الأردنية عبر استغلال العلاقات السياسية التي ربطتهم مع الأباطرة الرومان أمثال الإمبراطور جوستنيان والإمبراطورة ثيودورا في القرن الخامس الميلادي الذي شهد أقصى حالات الرخاء والأمان في جراسا وسائر مدن الديكابولس الأردنية.

الإمبراطور الروماني جستنيان الذي أعجب بقوة المرأة الغسانية فسمى ابنة أخيه أرابيا

ازدهرت في عهد الأردنيين الغساسنة عمارة الكنائس والأديرة وتم تحويل العديد من المعابد الوثنية في المدينة إلى كنائس فمعبد باخوس- ديونيسيوس  إله الخمر  تحول في القرن الرابع الميلادي  ليكون أول كاتدرائية في المدينة ومن أقدم الكنائس في الأردن. وقد بنيت العديد من الكنائس فيما بعد، ويمكننا من النصوص التاريخية معرفة أن مطران جراسا أكسرسيوس والمطران بلاكوس  قد مثلا الأردنيين المسيحيين في جراسا في المجامع الدينية المسكونية[12] التي عقدت في القرن الرابع والخامس الميلادي.

 وسنناقش في الجزء الثاني من بحث جراسا العمران والكنائس الكثيرة التي بنيت تكريما لذكرى القديسين والكهنة والشهداء.

الخاتمة

تعرضت جراسا للعديد من حملات الغزو فعام 300 ميلاي غزاها الساسانيون ولكن الإمبراطور ديوكليسيان حرك جيشا وحررها وأعاد إعمارها. وعام 614 ميلادي، غزاها الفرس ودمروها ولكن أعيد إعمارها، كما تعرضت لزلزال في منتصف القرن الثامن. ورغم ذلك أثبتت جراسا جوهرة الديكابوليس الأردنية حبها وتمسكها بالحياة فهي لا زالت إلى اليوم ماثلة أمامنا بحضارتها العريقة.

المراجع

  • شهاب، أسامة (1989) جرش تاريخها وحضاراتها. دار البشير للنشر: عمان، الأردن
  • العقيلي، رشيد (1973) المسارح في مدينة جرش الأثرية، منشورات دائرة الثقافة والفنون الأردنية: عمان، الأردن
  • جراسا والديكابولس، موسوعة التراث غير المادي، موقع وزارة الثقافة الأردنية
  • الجغرافيا التاريخية لمدينة جرش، ، موسوعة التراث غير المادي، موقع وزارة الثقافة الأردنية
  • موسوعة جرش المعرفية، إصدارات بلدية جرش
  • الموقع الجغرافي لمدينة جرش موسوعة التراث غير المادي، موقع وزارة الثقافة الأردنية
  • جرش في عصور ما قبل التاريخ، موسوعة التراث غير المادي، موقع وزارة الثقافة الأردنية
  • في القافلة المنسية، تاريخ وأعلام الأردن، نيكوماخوس الجراسي، صحيفة البنك الاستثماري
  • نيكماخوس الجراسي عالم الرياضات والفيلسوف الجرشي الذي أشغل العالم القديم بعلمه وفلسفته، (2015) مقال منشور على موقع زاد الأردن

[1] الحيثيون شعوب هندو أوروبية سكنت المشرق 3000 عام قبل الميلاد في نفس فترة الحضارة السومرية. للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D9%8A%D8%AB%D9%8A%D9%88%D9%86

[2] البطالمة هم عائله من أصل مقدونى نزحت على مصر بعد وفاة الإسكندر الأكبر سنة 323 ق. م ، حيث تولى أحد قادة جيش الإسكندر الأكبر وهو “بطليموس” حكم مصر للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A9

[3] فيلسوف وعالم من مواليد قنسرين في سوريا ولد في منتصف القرن الثالث للمزيد انظر https://en.wikipedia.org/wiki/Iamblichus

[4] من علماء القرن السادس الميلادي للمزيد انظر https://en.wikipedia.org/wiki/Asclepius_of_Tralles

[5] كاتب وفنان اشتهر بالخطابة وهو من مواليد القرن الثاني الميلادي. للمزيد انظر https://en.wikipedia.org/wiki/Lucian

[6] نشر هذا النص في موسوعة جرش المعرفية – وزارة الثقافة. في صحيفة عمون الإلكترونية https://www.ammonnews.net/article/435824 وفي صحيفة زاد الأردن http://www.jordanzad.com/index.php?page=article&id=221469

[7] فيلسوف إغريقي عاش في سوريا في القرن الثاني الميلادي. للمزيد انظر https://en.wikipedia.org/wiki/Numenius_of_Apamea

[8] عالم يوناني عاش في الإسكندرية ودرس نظرية فيثاغورس وكان مهتما بفلسفة أفلاطون https://en.wikipedia.org/wiki/Eudorus_of_Alexandria

[9] كاتب وشاعر ومترجم وفيلسوف أفلاطوني ولد في منتصف القرن الثاني للمزيد انظر https://en.wikipedia.org/wiki/Apuleius

[10] يشار دوما في الكتاب المقدس لأرض الأردن بـ (عبر الأردن) أي ما وراء نهر الأردن

[11] يعد عام 324 ميلادي عاما فارقا حيث تم نقل عاصمة الإمبراطورية الرومانية من نيقوميديا إلى بيزنطة (القسطنطينية) وتم اعتماد المسيحية كدين رسمي للإمبراطورية، وبهذا تكون الإمبراطورية الرومانية قد انتقلت من المرحلة الرومانية إلى البيزنطية أو ما يسمى الإمبراطورية الرومانية الشرقية. للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B2%D9%86%D8%B7%D9%8A%D8%A9

[12] هي  سبع مجامع دينية مسيحية هدفت لإقرار العقيدة المسيحية وأدت لانفصال الكنيسة السريانية والأرثوذكسية المشرقية عن الكاثوليكية البيزنطية.  للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%83%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A8%D8%B9%D8%A9

مدن الديكابولس الأردنية : جراسا جوهرة الديكابولس الأردنية- الجزء الأول

مقدمة

أبيلا (حرثا)، المدينة التي أضاء زيتها قناديل روما، إحدى مدن الديكابولس الأردنية الثمانية وواحدة من أهم المراكز التجارية والزراعية في العالم القديم. في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابولس سنسلط الضوء على مدينة أبيلا في الحقبة الكلاسيكية ونناقش جوانب تطورها وازدهارها في زمن الأردنيين الغساسنة الذي اعتنوا أيما اعتناء بمدن الديكابولس الأردنية.

الموقع والطبوغرافيا

تقع أبيلا شمال الأردن على الحدود الأردنية السورية، وتتبع إداريا لبلدية الكفارات، لواء بني كنانة. تبعد  18 كيلو عن مدينة إربد. يحد المدينة من الشمال نهر اليرموك (5 كلم) وهو أحد أهم مصادر المياه بالنسبة لها. ترتفع أبيلا 440 متر عن سطح البحر. تتألف المدينة من ثلاثة مناطق وهي أم العمد وتل أبيلا، ووادي أبيلا (القويلبة). (Khries: 2010) فهي متنوعة التضاريس ما بين السهل المنبسط والتل الخفيف والوادي، مما أكسبها مزيدا من الأفضلية في الزراعة والحصاد المائي.

إطلالة على وادي أبيلا وتل أبيلا حيث تنتشر أشجار الزيتون المعمرة

التسمية

أبيلا هو الاسم الروماني لمدينة حرثا وقد جرى استخدامه بالعربية على حاله دون تغيير. أما الاسم أبيلا فهو تحوير للاسم العبري (تل أبيل /هابيل) والذي يعني التدفق الدائم أو مجرى المياه أو القناة المائية وهذا يوافق الطبيعة الطبوغرافية لأبيلا التي تمتلك مصدر مياهها الطبيعي والمتجدد: عين القويلبة؛ والتي يأتي اسمها من الكلمة العربية “القليب” وتعني البئر و”قويلب” تصغير البئر.  ولهذا يرجح  المستكشف جلوك أن تكون مدينة أبيلا هي موطن نبوءة النبي إيليا المذكور في العهد القديم وذلك لأنها تطابق المواصفات المذكورة في العهد. وربما يمنحنا هذا تصورا عن المكانة التي حظيت بها هذه المدينة في العصور السالفة. [1]

أما الاسم الحالي (حرثا) فهناك نظريتان الأولى أنه عربي من الجذر (حرث) ويعني قلب التربة لتجهيزها للزراعة وهو يناسب طبيعة المدينة وما اشتهرت به من إنتاج زراعي وفير.[2] وترجح نظرية أخرى أنه اسم سرياني يعني “ديار الحارث” والحارث هو أشهر ملوك الأردنيين الغساسنة.

أبيلا عبر التاريخ

كانت المدينة مأهولة بالسكان منذ العصر الحجري القديم (2 مليون سنة-12 ألف سنة ق.م) بتعداد سكان بسيط حتى العصر النحاسي (3300- 4250 ق.م.) بعدها بدأ التعداد السكاني بالزيادة في العصور البرونزية والحديدية ولكنه عاد للانخفاض. أما لاحقا فتشير المصادر التاريخية والنقوش أن عدد سكان أبيلا كان كبيرا جدا في العصور البيزنطية وهذا يوافق مكانة المدينة التجارية والصناعية في العهد الغساني. (Khries: 2010) ظلت أبيلا مأهولة وبكثافة عالية حتى في العصور الإسلامية، خصوصا الأموية والعباسية ولكنها هجرت تماما في العصر الفاطمي والأيوبي والمملوكي، وجاء الاحتلال العثماني فظلت مهجورة أيضا نتيجة لسياسات الاحتلال الغاشمة، في فترات لاحقة صار أغلب سكانها من البدو الأردنيين، أما في الوقت الحاضر فهي قرية صغيرة.

كان أول من اكتشف مدينة أبيلا الأثرية هو المكتشف الألماني سيتزن وهو مكتشف مدينة جراسا (جرش) أيضا. في الخامس والعشرين من شباط عام 1806 وصل سيتزن إلى تل أبيل (تل أبيلا) وكانت المدينة في حالة دمار كبيرة.  تعاقبت حملات الاستكشاف والتنقيب عن الآثار في أبيلا، فعام 1879 زار المدينة المستشكف ميرل وكتب عنها في كتابه “شرق الأردن”، وعام 1888 زارها المستكشف شوماخر ووثقها في مقالاته العلمية. في القرن العشرين بدأت دائرة الآثار تنقيباتها عام 1959، ومن ثم بدأت حملات التنقيبات من الجامعات العالمية كجامعة  لويس الأمريكية. ظلت الحملات التنقيبية تتوالى حتى عام 2004 وأسفر عنها اكتشاف المدينة الأثرية بأكملها. (Khries: 2010)

حلف الديكابولس

انطلقت فكرة الديكابولس في الحقبة الهلنستية لغايات تنظيمية سياسية، ومن ثم اكتسبت أهمية عسكرية عام 64 ق.م.  عندما اتخذها الإمبراطور الروماني بومبي كحصن دفاعية في المشرق. تعني “ديكا” العشر أما بوليس  فتعني “المدن” ومجتمعة تعني مدن الحلف العشرة. ضمت المدن العشر في البداية (جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى))  وكما نرى ثمان منها أردنية ثابتة، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) وبيت راس.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية

في زمن الأردنيين الغساسنة، تدعمت فكرة المدن العشرة ذات الاستقلال والحكم الذاتي بينما كان الغساسنة يشكلون حكومة مركزية بين تلك المدن. لاقت هذه المدن اهتماما بالغا من قبل الأردنيين الغساسنة، فأصبحت مراكز تجارية على طول خطوط القوافل في الطرق التجارية القديمة وتلك الطرق التي استحدثوها هم بذكائهم وحنكتهم.

الزراعة في أبيلا

 أجريت الكثير من الاختبارات على تربة أبيلا، ولم تظهر النتائج تغيرا في المناخ. أما العينات النباتية فقد اشتملت بشكل أساسي على الزيتون والقمح والدخن والعنب والعدس والكزبرة (Mare: 1984).

 علميا، تصنف تربة حوض اليرموك بأنها من نوع “تيرا روسّا Terra Rossa” وتتصف بالكتلة الكبيرة والقدرة الاستيعابية العالية للماء مما يسمح لها بأن تكون شديدة الخصوبة حتى في فترات جفاف الصيف. غالبا ما تكون تربة تيرا روسا خصبة بالرغم من فقر المصادر المعدنية ويصنفها الباحث (fisher: 1971) والباحث (Bender: 1974) بأنها التربة الأكثر ملائمة لزراعة الزيتون والمحاصيل. وهي كما لاحظ الباحثون، التربة الأكثر تواجدا في أراضي مدن الديكابولس. أما النوع الثاني من التربة فهي تربة “رندزينا Rendzina” وهي تربة جافة خفيفة أقرب للون الأصفر ولها قدرة استيعابية عالية للماء وخصوبة ممتازة وغالبا ما يفضلها المزارعون الأردنيون لكونها هشة وخفيفة للحراثة. (Orni and Efrat:1973)

وتوافرت مصادر الماء بشكل طبيعي ومتجدد وكان أهمها عين القويلبة التي تقع على بعد حوالي كيلومتر واحد إلى الجنوب من الموقع الأثري للمدينة. ويتدفق تيارها إلى الشمال ثم يتحول إلى الشمال الغربي قليلاً، ويصب في نهر اليرموك وفي النهاية إلى نهر الأردن. [3] إضافة لاستخدام الوادي كسد طبيعي لأغراض الحصاد المائي.

خريطة تقسم المواقع الأثرية في أبيلا ويظهر فيها التل والوادي (khries: 2010)

ساهمت كل هذه العوامل الطبيعية إضافة لذكاء وحنكة الأردنيين الغساسنة في التجارة إلى جعل مدن الديكابولس عامة ومدينة أبيلا خاصة مركزا تجاريا وزراعيا مهما في المنطقة لدرجة أنها سميت “قنديل روما”. بحسب المصادر التاريخية، كانت أبيلا مركزا لصناعة زيت الزيتون وتجارته، فلم تكن فقط تشتهر بجودة زيتها إلا أنها كانت مركزا تبعث إليه المدن إنتاجها من الزيت ليتم تصديره إلى روما. [4]

ظلت أبيلا تشتهر بكونها من يضيء زيتها روما حتى وقتنا الحاضر حيث تساهم بشكل كبير في مجمل إنتاجية لواء بني كنانة في إربد والذي بلغ 19 ألف طن في عام 2015. وقد أوردها عدد من المؤرخين في كتبهم فيقول المؤرخ العربي ابن خرداذبة: ( من كور الأردن طبرية… كورة آبل الزيت)

وذكرها أيضا الحازمي فقال (ناحية من كور الأردن ، ويذكر ياقوت الحموي في كتابه ( معجم البلدان) أن “آبل الزيت هي القويلبة / حرثا التي تقع بالأردن على مشارف طبريا”، ويذكر المؤرِّخ مصطفى مراد الدبَّـاغ أنها تقع في لواء إربد بالأردن واطلق عليها اسم (آبل الزيت) لجودة الزيت الذي تنتجه كروم أشجار الزيتون التي تـُغطي أراضيها. [5]

آثار أبيلا

بنيت أبيلا على غرار مدن الديكابولس الأردنية الأخرى أمثال فيلادلفيا (عمان) وجراسا (جرش) فهي تتكون من شارعين رئيسيين (كاردو وديكيمانوس) ومدرجات وساحة عامة وأضرحة وكنائس.  إضافة لثلاث قنوات للماء تغذي المدينة ويسمى هذا الطراز المعمار “هيبودامي”. أما المسح الذي أجراه الباحثون على النظام الهيدروليكي والجوفي فقد كان صادما حيث أن النظام المائي للمدينة بالغ في التعقيد والسعة. [6] وللأسف فقد دمر زلزال 749 م. الكثير من معالم المدينة ومبانيها.

مخطط عام لأبيلا يظهر فيها الشارعان الرئيسان (Khries: 2010)

الكنائس

أزالت التنقيبات اللثام عن أكثر من كنيسة أربعة منها تندرج تحت نمط البازيليكا المعماري وهو طراز معماري خاص بكنائس تلك الحقبة يتميز ببناء مستطيل.

كنيسة أم العمد: اكتشفت كنيسة أم العمد في منطقة أم العمد في أبيلا وقد بنيت في القرن السادس ميلادي، وهي كنيسة على طراز البازليكا بأبعاد 20×34 متر، وفيها ثلاثة ممرات، وهي محاطة بالأعمدة الكورنثية (المبنية على الطراز الروماني) تشبه كنيسة أم العمد كنيستي القيامة والمهد في فلسطين. حيث تتكون من صالة وسطى بعرض 10 متر ويفصل صفان في كل منهما 12 صف، أما الهيكل فهو من ثلاثة محاريب نصف دائرية متجاورة. وللكنيسة ثلاثة أبواب وشرفة  تشير بعض الدلائل أن الكنيسة كانت من طابقين. وفي الكنيسة أرضية فسيفسائية بديعة ذات أشكال هندسية ويرجح أن الجدار الشرقي كان مزدانا بالفسيفساء أيضا. (قاقيش: 2007)

كنيسة التلة: وهي كنيسة مستطيلة تتكون من صالة وسطى وجناحين ولها ثلاثة محاريب، بنيت الكنيسة  من الحجرين الكلسي والبازلتي. وقد كان البناء مسقوفا بدلالة آلاف قطع القرميد التي وجدت على الأرض. وقد عثر على بقايا بناء قديم قد يكون معبدا رومانيا. رصفت الأرضية بحجارة بازلتية سوداء وكلسية بيضاء قصت بشكل هندسي، يرجح بناء الكنيسة في القرن السادس ميلادي (قاقيش: 2007)

عينة من فسيفساء أبيلا المكتشف بالكنائس (Khries:2010)

كنيسة المجمع المدني: الكنيسة مستطيلة بأبعاد 30.50×17.20 متر ولها جناحان شمالي وجنوبي ويقسمها من الداخل صفان من الأعمدة. الكنيسة كبيرة وبها عدة مرفقات كثلاثة محاريب ومدخل مهيب وأدراج وغرف وحمام ومدافن أضيفت في القرنين السادس والسابع الميلادي. وما يميزها وجود كرسي الأسقف بارتفاع 1.40 متر، كما وجدت فيها منحوتات عديدة وزخارف كالصليب وزهرة التوليب والأكباش وصولا إلى فسيفساء زجاجية وعدد وافر من المسكوكات والفخاريات. (قاقيش: 2007)

الكنيسة الغربية:  قياسات البناء 32.40×19.80 متر والكنيسة مستطيلة فيها جناحين شمالي وجنوبي، عثر فيها على قرميد دلالة على كونها مسقوفة كما عثرت التنقيبات على فسيفساء زجاجية تصور الحيوانات والنباتات وجدران مكسوة بطبقتين من الجص ويرجح بناؤها في القرن الخامس أو السادس ميلادي. (قاقيش: 2007)

الكنيسة الشرقية: تتراوح أبعاد بناء الكنيسة 15.60×14.90 متر وفيها صالة وسطى وجناحين كالكنائس السابقة. ولها باحة واسعة وبركة سداسية الشكل. الحجارة التي بنيت منها الكنيسة متقنة الصنع ومشذبة بشكل جيد، كما أن الجدران متقنة ومغطاة بالجص. الأرضيات مكسوة بالرخام. كما عثر على كرسي للأسقف يعلو عدة درجات. كما عثر على بقايا لمنبر الأسقف إضافة لفسيفساء زجاجية، يرجح أن الكنيسة قد بنيت نهايات القرن الخامس الميلادي. (قاقيش: 2007)

كنيسة الوادي وتظهر الأعمدة الكورنثية (Khries: 2010)

كنيسة (المنطقة DD): تقع الكنيسة في الوادي على الجهة الجنوبية من تل أبيلا، وهي مستطيلة بثلاثة محاريب وتشبه في تخطيطها الكنائس السابقة، من المرجح أن حجارتها استخدمت في بناء كنيسة أخرى وأفضل ما وجد فيها هو المصابيح الزجاجية التي كانت تعلق لإضاءة الكنيسة. (قاقيش: 2007)

سبيل الحوريات

اكتشفت بقايا سبيل حوريات في أبيلا، وسبيل الحوريات هو مزيج بين الجمنازيوم (القاعة الرياضية) والحمام الساخن ويستخدم لأغراض الترفيه والاستجمام وهو مبنى متواجد في تخطيط أغلب مدن الديكابولس الأردنية. لسبيل الحوريات في أبيلا حوض مائي أسفله يستخدم للتخزين وهو متصل بقناة مائية يعتقد العلماء بأنها متصلة بقناة أخرى رئيسة. (Khries: 2010)

إحدى القنوات المائية التي تتصل بسبيل الحوريات (Khries: 2010)

المدافن

بسبب تعاقب الحضارات على أبيلا، وجدت العديد من المدافن التي تعود لحقب مختلفة، ولكن أهمها تلك التي تعود للحقب الكلاسيكية خصوصا الرومانية والبيزنطية. اكتشفت أكثر من 25 مقبرة تعود لتلك الفترة، وكلها تتبع ذات الطراز “الفريكسو” أو التصوير الجصي الذي يستخدم فيها الجص لتشكيل زخارف ورسوم. تتباين الزخارف والرسوم بين التصويرات البشرية والحيوانية والنباتية والأشكال الهندسية. (Khries: 2010)

الخاتمة

استعرضنا في هذا البحث أبيلا، مدينة الديكابولس المميزة التي تشتهر إلى الآن بزيتها عالي الجودة. كان للمدينة تاريخ طويل من الاستيطان البشري منذ العصور الحجرية وحتى يومنا هذا. تخبرنا آثار مدينة أبيلا أنها كانت مدينة عظيمة الشأن رغم الزلزال الذي دمر معالمها ورغم الهجران التي عانت منها لقرون.

المراجع العربية

المراجع الأجنبية

  • Luke. B. (2008), soils and land in the Decapolis region-
  • Shahid, I. (2009) Social History Vol2, Part 2 Dumbarton Oaks, Harvard University. –
  • Jhon Brown University, Abila Archeological Project –
  • Khries, N. (2010) Geoenviromnetal Evaluation in Abila Archeological site (Um Al Amad basilica) master Thiess in Applied and environmental geology, Aristotle University.

[1] المصدر السابق نفسه.

[2] انظر  معجم المعاني https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%AD%D8%B1%D8%AB%D8%A7/

[3] المصدر: مشروع تنقيبات جامعة جون براون الأثرية في أبيلا، للمزيد انظر Jhon Brown University, Abila Archeological Project

[4] للمزيد راجع بحث قنديل روما على موقع إرث الأردن http://jordanheritage.jo/1725-2/

[5] المصدر السابق نفسه.

[6] المصدر السابق نفسه.

مدن الديكابولس الأردنية : أبيلا المدينة التي أضاء زيتها قناديل روما

صورة لتل ذيبان الأثري عاصمة مملكة مؤاب الأردنية- جريدة الغد-محمد أبو غوش

مقدمة

على أطراف حفرة الانهدام، في منطقة شهدت الكثير من الكوارث الطبيعية، ولم ينقطع التواجد البشري فيها على مر القرون، شيَّد أجدادنا الأردنيون المؤابيون حضارتهم الضخمة، التي وصلنا أثرها شفوياً ومادياً، ورغم انعدام وجود مدينة أثرية متكاملة العناصر تعود لأجدادنا الأردنيين المؤابيين، وهو أمر طبيعي، ومع التقصير في الحفريات الأثرية إلا أننا من خلال هذا البحث سنحاول إلقاء الضوء على بعض الآثار التي وجدت والتي تعود إلى المملكة الأردنية المؤابية، وهي تنقسم إلى عدة أشكال، ليكون هذا البحث جزءاً من السلسلة البحثية التي تدرس الأردن في عهد ممالكه الثلاث (المملكة الأردنية الأدومية، المملكة الأردنية المؤابية، المملكة الأردنية العمونية).

الآثار العمرانية

جبل نبو
  • المنازل

وجد المنقبون الآثاريون العديد من أسوار المدن في مواقع مختلفة تعود للمملكة الأردنية المؤابية، ووجدوا داخل حدود هذه الأسوار بيوت ذات مخططات متشابهة، وهي في أغلبها منازل تتكون من ساحة داخلية محاطة بعدة غرف، بعضها مبني من الحجارة، وبعضها من الطين اللبن، واستخدمت مواد للقصارة مثل الشيد، كما وجدت مبنية مباشرة على الأرض وفي أحيان أخرى رصفت الأرضية بحجارة أو بالملاط، وانتشرت هذه البقايا الأثرية في عدة مواقع منها: (جبل نبو، أدر، بالوع، عراعر، الكرك، ذيبان، مادبا، خربة المدينة).

  • المعابد

عثرت الحفريات الأثرية في منطقة ذيبان (التي كانت عاصمة للمملكة الأردنية المؤابية لفترة طويلة) على بقايا مبنى ضخم، وجدت به بقايا مباخر، الأمر الذي يدل على كونه معبداً، ويرجح أنه المعبد الذي أمر ببنائه الملك الأردني المؤابي ميشع.

  • التحصينات

انتشرت التحصينات الأردنية المؤابية بشكل واسع داخل حدود المملكة، ولكنها تركزت بشكل قوي في المناطق الشرقية منها مثل موقع الثمد، حيث يبدو أن هذه التحصينات كانت قد بنيت في مواجهة القبائل البدوية القادمة من الصحراء إلى الشرق من المملكة الأردنية المؤابية، وتكونت هذه التحصينات من عدة أبراج تشكل قلعة بشكل عام، واستخدمت في بناء هذه القلاع الحجارة البازلتية السوداء الموجودة بكثرة في البادية الأردنية المؤابية، بينما صنعت البوابات من الحجارة الكلسية البيضاء، فيما عثر على عدد من تاجيات الأعمدة التي تعود إلى المملكة الأردنية المؤابية، ويُذكر أن الفرنجة استخدموا هذه التاجيات في بناء قلعة الكرك.

الفخار

وجدت بقايا فخار مؤابي في عدة مواقع منها: (الكرك، جبل نيبو، ذيبان، وغيرها)، وتنوعت الأواني الفخارية الأردنية المؤابية بين الزبادي العميقة ذات الأرجل الثلاثة، والأباريق الكبيرة والصغيرة، وكانت معظم هذه الأواني مزخرفة بأشرطة عريضة تفصل بينها مثلثات، كما وجدت قارورة غريبة الشكل تشبه الجزرة ويُعتقد أنها من التأثيرات الآشورية.

وبعيداً عن الأواني الفخارية فقد عثرت الحفريات الأثرية على دمىً فخارية تعود للملكة الأردنية المؤابية، وجاءت هذه الدمى على عدة أشكال.

  • دمى إلهة الخصوبة

كانت الدمى الفخارية التي تمثل إلهة الخصوبة الأردنية المؤابية (عشتر-كموش) تصنع على شكل إمرأة على صدرها شعار مقدس، ذات أذان كبيرة، و ذقن مدببة، بوجنات بارزة، وفم منفرج قليلاً، عيونها منفرجة  ومستديرة، مرتفعة الحواجب، ويتدلى من الرأس بعض خصل من الشعر، وانتشرت هذه الدمى في عدة مناطق داخل المملكة الأردنية المؤابية، مثل خربة موسى، وخربة المدينة، ووادي الثمد، وبالوعة.

  • دمى على شكل رجال

عثرت حفرية أثرية في خربة المدينة، أحد المواقع التي تعود للملكة الأردنية المؤابية بالقرب من الكرك على دمى فخارية على شكل رجل، ويعتقد أنها تمثل ملكاً أو إلهاً أردنياً مؤابياً، وقد وجد تشابه كبيرة بينها وبين تماثيل تعود لملوك أردنيين عمونيين وجدت في ربة عمون – عمان.

  • دمى على شكل حيوانات
تماثيل أردنية مؤابية

عثر على الكثير من الدمى الفخارية الأردنية المؤابية على شكل حيوانات، منها ما هو على شكل حصان، ومنها على شكل رأس كبش، كما وجدت دمية على شكل وعل مكسور القرون بعلامات لجام تنزل من قرونه المكسورة إلى رقبته.

المدافن

وجدت أغلب المدافن الأردنية المؤابية في منطقة ذيبان وجبل نبو، حيث كانت هذه المدافن محفورة بالصخر يتقدمها دكة، كما وجدت بعض المدافن بمداخل مقوية، يتقدمها درجات تصل إلى حجرة الدفن الرئيسية المقسمة لعدة حجر غير متناسقة، بالإضافة إلى ما يشبه المقاعد العامة، مع حجرة دفن كبيرة عامة تتوسط باقي الحجرات.

الآثار الكتابية

مسلة ميشع
Henri Sivonen from Helsinki, Finland – Mesha Stele
aka. the Moabite Stone (2007-05-19T14-10-19.jpg)
  • مسلة ميشع

مسلة ميشع هي حجر بازلتي أسود على شكل قوس، يبلغ ارتفاع المسلة 124 سم، وعرضها 71 سم، حيث خلّد الملك الأردني المؤابي ميشع انتصاراته وإنجازاته عبر 34 سطراً في إعادة بناء الدولة، وتعمير المدن، وإنشاء المعابد، وعملية الإصلاح الزراعي التي قادها عقب انتصاره على العبرانيين وطردهم من مملكته، ومطاردتهم والاستيلاء على جزء من أراضيهم، وقد استفاد الباحثون من هذه المسلّة في عدة حقول، منها دراسة الحالة السياسية والاجتماعية في المنطقة في تلك الفترة، ودراسة اللغة الأردنية المؤابية وتراكيبها بالإضافة للخط الأردني المؤابي.

  • مسلة الملك كموشيت

الملك كموشيت هو ملك أردني مؤابي، وهو والد الملك الأردني المؤابي ميشع، ولقد وجدت الحفريات الأثرية جزءًا من مسلة حجرية تعود له، تحمل أربعة سطور، في حين لم يتم العثور على باقي المسلة بعد.

  • قطع حجرية من ذيبان

وجد الباحثون في تل ذيبان قطعاً حجرية بازلتية متناثرة تحمل كتابات بالخط الأردني المؤابي، واعتقد الدارسون في بداية الأمر أن هذه القطع ما هي إلا شظايا من مسلة الملك الأردني المؤابي ميشع، إلا أن تحليل الكتابة أثبت عدم صحة هذه النظرية، وأن هذه القطع الحجرية تعود لنص مختلف تماماً يعود للقرن التاسع قبل الميلاد، واستطاعوا قراءة أول ستة حروف وهي (اسوح بنت كمش)، ويعتقد بأن هذه الحجارة جزء من نص يوثق الإنجازات المعمارية لبعض الملوك الأردنيين المؤابيين، وتعتبر هذه الحجارة بالإضافة إلى مسلة الملك الأردني المؤابي ميشع ومسلة والده كموشيت دليلاً على انتشار عادة توثيق الملوك الأردنيين المؤابيين لإنجازاتهم كتابياً على مسلات حجرية، ونأمل أن تجد الحفريات الأثرية القادمة المزيد من هذه الآثار الكتابية.

  1.           قير مؤاب (الكرك)
الكرك 1900 مدخل مدينة الكرك عبر نفق يؤدي الى القلعة وسورها الممتد حول المدينة وهو نفق يعتقد بأنه يعود لحقبة المملكة المؤابية الأردنية

بنى أجدادنا الأردنيون المؤابيون عاصمتهم الأولى قير مؤاب على حافة هضبة الكرك التي ترتفع عن سطح البحر 950م، في منطقة محصنة طبيعيا يصعب الوصول إليها، فيما أبدعوا بتحويل هذه المنطقة القاسية التضاريس، مدينة حضارية، ينعم أهلها بالرفاهية والأمان، حيث شق أجدادنا المؤابيون الصخور، وحفروا الأنفاق لجر المياه إلى المدينة، بعد أن قاموا بتحصين المدينة من الجنوب والجنوب الشرقي عن طريق حفر خندق ضخم يصعب اختراقه، وتقوم قلعة الكرك الآن على أنقاض هذه المدينة.

2. ذيبان (ديبون)

تقع ذيبان العاصمة الثانية للمملكة الأردنية المؤابية في محافظ مادبا شمال وادي الموجب وشرق البحر الميت، لا يوجد الكثير من الآثار الأردنية المؤابية في ذيبان، كونها كانت كثيفة السكان في مختلف العصور الأمر الذي طمس العديد من البقايا الآثارية الأردنية المؤابية، والجدير بالذكر أن مسلة الملك الأردني المؤابي ميشع وجدت في ذيبان.

3. الربة ( ربة مؤاب)

مدينة مؤابية عرفت عبر التاريخ بربة مؤاب، تقع جنوب لواء القصر في محافظة الكرك، وهي بلدة غنية بالآثار التي تعود لمختلف العصور، وتملك الربة أهمية دفاعية استراتيجية كونها تشرف على وادي الموجب والبحر الميت، كما يمر منها الطريق التجاري الملوكي، كما كانت الربة من أهم المدن الزراعية كونها تقع في سهل ممتد وخصب التربة.

4. خربة مدينة الراس

وهي خربة أثرية تقع على قمة معزولة من جميع الجهات جنوب غرب مدينة الكرك، وتعتبر حصنا من سلسلة حصون تحمي الهضبة المؤابية من الجهة الجنوبية الغربية.

5. مديبع 

عثر على بقايا حصن أردني مؤابي في هذا الموقع يشرف على منطقة محيا، ويعد من الحصون التي تحرس الحدود الشرقية للملكة الأردنية المؤابية.

6. المسناه

موقع اثري شمال شرق الربة، ويتميز هذا الموقع أنه استمر معمورا بنفس الطريقة من العصر الحديدي حتى العصر البيزنطي دون انقطاع.

7. خربة بالوعة

تقع خربة بالوعة شمالي محافظة الكرك، وتحتوي على قلعة أردنية مؤابية تحمي الطريق الملوكي المار بوادي الموجب (أرنون)، وعثر فيها على لوحة بالوعة الشهيرة.

8. قصر أبو الخرق

قصر أو قلعة مبنية من الحجارة في منطقة قاحلة على الحدود الشرقية للملكة الأردنية المؤابية، لحماية الحدود الشرقية للبلاد، كما عثر في محيطها على عدة آبار.

9. مادبا (ميدبا)

وهي مدينة مادبا الحالية، وهي أحد أهم المدن الأردنية المؤابية، حيث ورد ذكرها في مسلة ميشع، وقد تعرضت الآثار المؤابية فيها للتخريب منذ مُدد طويلة، إلا أنها ما زالت تحتفظ باسمها الأردني المؤابي، كما وجد فيها العديد من القبور التي تعود إلى عصر مملكة مؤاب الأردنية.

10. خربة التلساح (التلساه)

هي أحد أهم المناطق الزراعية منذ العصور البرونزية، وتقع إلى الجنوب الشرقي من الكرك، وقد وجد المنقبون في الحقول الزراعية الواسعة الممتدة حولها العديد من الكسر الفخارية العائدة إلى المملكة الأردنية المؤابية وتعتبر هذه المدينة من المدن التي لا تحتاج إلى تحصينات ضخمة كونها تقع في وسط البلاد بعيدا عن أي خطر خارجي.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن و اثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية ) ، دار ورد ، عمان .
  2. A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين، د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان
  3. أبحاث إرث الأردن، الملك الأردني المؤابي ميشع
  4. أبحاث إرث الأردن، نشأة مملكة مؤاب الأردنية

المملكة الأردنية المؤابية – الآثار

رسم تصويري للملك الأردني النبطي الحارث الثالث

مقدمة

  نشأت المملكة الأردنية النبطية في القرن الرابع  قبل الميلاد حيث ذكرهم ديودورو الصقلي، ولكنهم بدأول التوطن في المنطقة منذ القرن السادس قبل الميلاد، ليفرضوا نفوذهم السياسي على المملكة الأردنية الأدومية، حيث لا يمكن الفصل بين الوجود النبطي والأدومي في نهايات عمر المملكة الأردنية الأدومية، واتخذ الأردنيون الأنباط من السلع (البتراء) عاصمة لهم سيطروا منها على قطاع واسع من المنطقة، وامتد نفوذهم من مركز وجودهم، وموئل نشأتهم ليشمل البلقاء، وحوران وشمالي الحجاز، كما فرضوا سيطرتهم على ميناء غزة، ولكن في سنوات نشأتهم الأولى كان تمركز الأردنيين الأنباط في البوادي الجنوبية وعلى حواف حفرة الانهدام من الجنوب الشرقي، في بيئة شبه جافة ذات مناسيب هطول مطري منخفض، إلى جانب شح في المسطحات المائية السطحية، الأمر الذي يعتبر منافياً للطابع العام لنشوء الحضارات، حيث كانت الحضارات القديمة بشكل عام تنشأ حول المسطحات المائية من بحيرات وأنهار وغيرها، إلا أن الأردنيين الأنباط استطاعوا بناء حضارتهم العظيمة رغم الظروف البيئية القاسية والتس استطاعوا التغلب عليها بحلول هندسية مبتكرة(احسان:1987).

تشير شواهد أثرية عديدة على وجود الزيتون وزراعته بالإضافة لكونه عنصراً غذائيا ذو أهمية في الحياة النبطية (السلامين:2016)، حيث سوف نقوم في هذا البحث بتوضيح هذه الشواهد، التي تتركز حول هندسة المياه التي وظفت في سبيل الزراعة، وطرق استصلاح الأراضي وزراعتها بالزيتون وغيره من المزروعات الرئيسية، كما سنقوم بشرح آلية عصر الزيتون وأبرز معاصر الزيتون النبطية المكتشفة.

الهندسة المائية النبطية والزيتون

2

استطاع الأردنيين الأنباط كما ذكر في المقدمة التغلب على الطابع البيئي الذي يميل إلى الجفاف في قلب دولتهم ومركزها في جنوب الأردن، حيث استطاعوا الحفاظ على عاصمتهم ومركزها في نفس المنطقة رغم توسعهم في مناطق ذات وفرة مائية، بسبب عبقريتهم في الهندسة المائية وايجاد الحلول الفعالة للتغلب على شح المياه، لا لتأمين حاجتهم الطبيعية من مياه فقط، بل توفير كميات مياه كافية للتوسع بالإنتاج الزراعي المكثف، والحفاظ على أمنهم المائي الذي كان أحد أهم أسباب صمودهم في وجه العديد من محاولات القضاء على نفوذهم واحتلال عاصمتهم على مدى عقود طويلة (المحيسن:2002).

  حافظ الأردنيون الأنباط على مركز دولتهم الذي نشأت منه ورفضوا نقل مركزها إلى المناطق التي توسعوا إليها، لذلك قام المهندسون بالأنباط بتطوير أنظمة حفظ ونقل للماء، وأنظمة ري أتاحت لهم الحفاظ على أمنهم المائي والغذائي في مواجهة أي محاولة لقطع الامداد عنهم (احسان:1987).

تنوعت النماذج التي استخدمها الأردنيون الأنباط لتخزين المياه حسب الموقع الجغرافي ومصادر المياه المتوافرة به، حيث اعتمدوا نموذج (قلاع المياه) وهي خزانات مائية ضخمة الحجم ذات قدرة استيعابية كبيرة تتجاوز الألف متر مكعب،  في محيط عاصمتهم البتراء، حيث شيدت هذه الخزانات على ارتفاع 1100 متر فوق سطح البحر، لترتفع عن حوض مياه البتراء، لتحقق انسياب طبيعي للمياه من الخزانات عبر القنوات (المحيسن:2002).

فيما استغل الأنباط مياه العيون التي تجري في فصل الشتاء ومدوا منها أقنية باتجاه خزانات متوسطة أو صغيرة الحجم، ليتم حفظ هذه المياه لاستخدامها في فصل الصيف حين تجف عيون المياه، بالإضافة للعديد من خزانات جمع مياه الأمطار مختلفة الأشكال والأحجام، ذات أنظمة تصفية للمياه من الشوائب والأتربة وغيرها.

ولم يكتفي الأنباط بالخزانات المبنية لحفظ المياه، بل برعوا أيضاً بحفر آبار لجمع مياه الأمطار في الصخور الكلسية لحفظ المياه ومنعها من التسرب في طبقات الأرض.

أما في مجال الوقاية وتوظيف الطبيعة فقد أنشأ الأنباط البرك المائية عند ملتقيات الأودية والسيول، بالإضافة لبنائهم المتقن للسدود المائية في المواقع المعرضة لخطر الفيضانات.

استطاع الأنباط عبر هذه التقنيات الخاصة بتجميع المياه الاستعادة عن مسطحات المياه الطبيعية التي نشأت حولها الحضارات القديمة، حيث وفرت لهم هذه التقنيات كميات مهولة من المياه التي طوروا لاستثمارها شبكة معقدة من القنوات التي توصل مياهها للتجمعات السكنية، وللوحدات الزراعية من حقول ومصاطب وغيرها.

تشير بعض الآراء المختصة بأن هذا النظام المائي المعقد سواءً بالتخزين أو بالنقل، وخصوصاً نظام قنوات المياه الزراعية، إلى أن الأنباط استثمروا المتاح لهم من الطبيع بأكثر الطرق كفاءة وفعالية، واذا ما نظرنا إلى المواقع في قلب المملكة النبطية نجدها مواقع عرف بها الزيتون منذ العصور الحجرية مثل وادي رم، ومرتفعات مؤاب وغيرها، ولكون زراعة الزيتون تعتبر زراعة بعلية بشكل رئيسي فإن استثمار الأراضي المرتفعة والوعرة بها أمر مؤكد، حيث تساعد أشجار الزيتون على تماسك التربة وعدم انجرافها، فيما تستطيع الأرضي الجبلية الوعرة والصخرية على حفظ كميات جيدة من مياه الأمطار داخلها مما يرفع من كمية محصول الزيتون وكرمة العنب التي زرعت بكثافة في هذه المناطق كما ترفع من جودة هذا المحصول  (المحيسن:2002).

زراعة الزيتون لدى الأنباط

لقد مارس الأنباط الزراعة بشكل مكثف، حيث لم يمارسوا الزراعة كوسيلة لسد احتياجاتهم الغذائية فقط، بل كانت منتجاتهم الزراعية عنصراً أساسيا في تجارتهم، لذلك قام الأنباط باعتماد نظم زراعية مختلفة، كل نظام يتناسب وطبيعة الأرض المزروعة، وكان يتم اختيار المحاصيل بناء على عدة عوامل، منها نوعية الأرض، توافر المياه، وغيرها من العوامل وصولاً لأعلى نسبة انتاج بأقل مدخلات انتاجية ممكنة.

ولا تقتصر أهمية الزراعة لدى الأنباط على دورها الاقتصادي من حيث الأمن الغذائي والتجارة بالمنتجات الزراعية، بل رسخت أهمية النشاط الزراعي في وجدان الأردنيين الأنباط عقدياً، حيث كرست المعابد، وقدمت القرابين النباتية، كما كان للآلهة النبطية ارتباطات بالزراعة ومواسهما مثل الإله بعل إله المطر والصواعق، والآلهة الأنثوية التي ترمز للخصب كاللات والعزى، كما ارتبطت الأعياد الدينية بمواسم البذار و الحصاد (احسان:1987).

Dushara
الإله ذو الشرى حاملا قطف العنب

نستطيع تتبع وجود الزيتون في المملكة النبطية عبر تتبعنا لمعاصر الزيتون، أو بقايا أشجار الزيتون وبذور الزيتون، حيث وجد آثار لمعصرة زيتون بالقرب من البتراء وثبت وجود مساحات من الأراضي زرعت بأشجار الزيتون في محيط البتراء(rawashdeh:2016)، كما انتشرت معاصر الزيتون النبطية في منطقة وادي موسى ومرتفعات الشراة، ووادي عربة، وهضبة مؤاب، وبطبيعة الحال فإن امتداد النفوذ النبطي حتى حوران المشهورة بزراعة الزيتون على مر التاريخ، يؤكد أن الزيتون وزيته منتجات نبطية أساسية، ويأتي زيت الزيتون إلى جانب زيت السمسم كأهم الزيوت المستخدمة عذائياً ولأغراض الإنارة لدى الأنباط.

زرع الزيتون إلى جانب كرمة العنب على المرتفعات الجبلية كما ذكرنا سابقاً، حيث وظف الأردنيون الأنباط، طبيعة شجر الزيتون الذي لا يحتاج إلى رعاية مستمرة على مدار العام كما لا يحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، ويعتمد بشكل عام على مياه الأمطار في الموسم المطري، وقام الأنباط بتقسيم الأراضي الجبلية على شكل مصاطب، باستخدام الحجارة والسناسل الحجرية التي تستخدم حتى يومنا هذا، أولاً لسهولة تمهيد كل مصطبة على حدى وتنظيفها من الحجارة والأعشاب والضارة، تمهيداً لزراعتها، ثم لزيادة منسوب مياه الأمطار المحتجزة في التربة لتصل لها جذور الأشجار على مدار العام، تصبح كل مصطبة بمثابة قطعة أرض سهلية وبهذا تم التغلب على وعورة هذه الأراضي، على جانب آخر استغلت مساحات أراض صحراوية في زراعة أشجار الزيتون، خصوصا في وادي عربة حيث كان يتم ري هذه المساحات الزراعية من مياه الأمطار المخزنة، ولأن الزيتون لا يحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، كان يستعاض عن فرق الهطولات المطرية بين المناطق الجلية والمناطق الصحروية، بالري بكميات بسيطة من المياه المخزنة من الأمطار، أو من مياه الينابيع (احسان:1987).

عصر الزيتون

                                       رسم توضيحي لآلية عصر الزيتون

تطورت آلية عصر الزيتون في الأردن منذ العصر الحديدي، في عصر الممالك الأردنية الثلاث (المملكة الأردنية العمونية، المملكة الأردنية الأدومية، المملكة الأردنية المؤابية)، حيث تم توظيف الخصائص البيئية للمنطقة بأنجع الطرق لضمان الحصول على أنقى مستوى ممكن من زيت الزيتون.

تبدأ عملية العصر عادة بجمع ثمار الزيتون المقطوفة وفصلها عن الأوراق والأغصان، ومن ثم يبدأ غسل الثمار تمهيداً لهرسها، وبعد ذلك يوضع الزيتون في حوض حجري كبير ُيصنع عادة من الحجر الصلب كالحجارة الجيرية، ويحتوي هذا الحوض على حجرين أسطوانيين للهرس متصلين ببعضهما البعض بواسطة عامود خشبي، حيث يساعد هذا العمود على تحريك الحجرين الأسطوانيين لعصر الزيتون الموجود في الحوض، ويتم هرس الزيتون، ومن ثم يتم وضع الزيتون المهروس داخل كيس، ويتم كبسه فوق مكبس وضع في أسفله حوض لتجميع الزيت الذي ينتج عن عملية الكبس (احسان:1987) .

أهم معاصر الزيتون النبطية

  • معصرة خربة النوافلة

بيّنت الحفريات التي أجرتها خيرية عمرو في خربة النوافلة في وادي موسى أن هذه المنطقة قد شهدت استيطاناً بشرياً مكثفاً خلال الفترة النبطية بدءاً من القرن الأول ق.م فصاعداً، إذ تم العثور على العديد من البقايا الأثرية هناك، وشملت بقايا منشآت مائية، وبقايا معصرة زيتون تعود للقرن الأول قبل الميلاد، إضافة إلى معصرة تعود للعصرين الأيوبي والمملوكي، ولكن بقايا المعصرة النبطية غير واضحة المعالم، ولم يتم نشر أية معلومات مفصلة عنها.

  • معصرة البد في وادي موسى
صورة لبقايا معصرة زيتون البد

البد في الإرث الأردني المحكي هو حجر هرس الزيتون، وقد َكشف مشروع الصرف الصحي الذي ُنفذ في وادي موسى عن بقايا معصرة نبطية تعود إلى نهاية القرن الأول الميلادي.
عثر عليها في منطقة البد في وسط وادي موسى، وبقايا هذه المعصرة معروضة حالياً أمام مركز زوار البتراء، وهي منحوتة من الحجر الجيري، والأجزاء المتبقية منها حوض هرس مزود ببروز دائري في وسطه، وبقايا حجارة هرس أسطوانية الشكل متساوية الأحجام، ووزنة حجرية واحدة غير منتظمة الشكل.

  • معصرة خربة الذريح الأولى

تقع هذه المعصرة في المنطقة السكنية جنوب معبد خربة الذريح في محافظة الطفيلة، وقد تم تأريخها إلى القرن الأول الميلادي، وتبلغ أبعادها 7 و 12م، يقع مدخلها في وسط الجدار الشرقي، وقد تم الكشف عن حجرة مستطيلة الشكل أبعادها 5 و 9 م جنوب مجمع الهرس حيث يبدو أنها كانت تستخدم للتخزين، وتتألف المعصرة من أحواض هرس، وحجارة هرس أسطوانية، ومكابس تتكون من مصطبة هرس وأوزان.

  • معصرة خربة الذريح الثانية

تقع هذه المعصرة جنوب قصر الدير خربة الذريح في محافظة الطفيلة، وقد تم تأريخها إلى القرنين الأول والثاني الميلاديين، وتبلغ أبعادها 13.60و8.60 م، ويقع مدخلها في وسط الجدار الغربي، وتتألف من حوض هرس دائري، ومكبس يتألف من منصة هرس وأوزان، إضافة إلى أحواض تجميع، وحوض غسيل.

  • معصرة وادي عربة
معصرة زيتون نبطية عثر عليها في وادي عربة

عثر على معصرة في وادي عربة في منطقة موا القديمة، حيث كشف عنها في القلعة، ومعظم اللقيات الأثرية التي وجدت مصاحبة لها تعود للفترة النبطية، وتحديداً للفترة ما بين القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي وبالإضافة إلى ذلك، عثر في منطقة بيضا على معالم صخرية دائرية يبدو أنها كانت مرتبطة باستخراج الزيت وعصر الزيتون، ولكن تأريخها غير محدد بشكلٍ دقيق، وربما استخدمت خلال فترات زمنية مختلفة.

الخاتمة

دار جدل واسع بين مجموعات من الباحثين والدارسين للحضارة الأردنية النبطية حول زيت الزيتون، حيث أن مجموعة من الباحثين رأوا أن الأنباط لم يستخدموا زيت الزيتون بشكل مكثف، ولم يقوموا بزراعته، إلا أن الحفريات الأثرية المتقدمة كشفت عن وجود معاصر زيتون نبطية موزعة على كامل امتداد الأراضي الخاضعة للنفوذ النبطي، كما أن مناطق النفوذ النبطية من جنوب الأردن حتى حوران تعتبر من أهم مناطق إنتاج الزيتون تاريخياً.

جميع الشواهد التي سقناها في البحث تؤكد على أهمية الزيتون في الحضارة الأردنية النبطية، وأن الأنباط استمروا في مسيرة إنتاج الزيتون وارثينها عن من سبقهم من الأردنيين، ليستمر الإسهام الأردني في مسيرة تطور الزيتون وانتاجه، من شجرة برية كانت تستخدم ثمارها لأغراض طقوسية تعبدية في العصور الحجرية الأولى، إلى أحد أهم عناصر المائدة حول العالم اليوم.

المراجع

  • السلامين، زياد، قراءات استهلاك وإنتاج الطعام والشراب في المملكة النبطية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، المملكة السعودية،2016.
  • المحيسن ، زيدون ، هندسة المياه والري عند العرب الأنباط ، بيت الأنباط ، الطبعة الأولى ، 2002 ، (البتراء – الأردن).
  • عباس ، إحسان ،  تاريخ دولة الأنباط ،الطبعة الأولى ، 1987 ، (بيروت – لبنان)
  • المحيسن ، زيدون ، الحضارة النبطية ، وزارة الثقافة ، الطبعة الأولى ، 2009 ، (عمان – الأردن).
  • الحموري ، خالد ، مملكة الأنباط : دراسة في الأحوال الإجتماعية والإقتصادية ، الطبعة الأولى ، 2002 ، بيت الأنباط ، (البتراء – الأردن).

المراجع باللغة الإنجليزية

Rawshdeh saeb, published article, jordan times, Archaeologist highlights Nabataean heritage in agriculture, wine making, 2016

http://www.jordantimes.com/news/local/archaeologist-highlights-nabataean-heritage-agriculture-wine-making

الزيتون في المملكة الأردنية النبطية الجزء الأول- الإنتاج

اطلالة على مدينة الكرك – 1918

مقدمة

برع أجدادنا الأردنيون الأوائل منذ فجر التاريخ بإدارة علاقاتهم الخارجية على أحسن وجه، كيف لا وقد اعتمد نشاطهم الاقتصادي بشكل رئيس على التجارة منذ أن بدؤوا بإنتاج ما يفيض عن حاجتهم من سلع في مرحلة المدن الدول، واستمر الأمر كذلك مع نشأة الممالك الأردنية الثلاث (المملكة الأردنية الأدومية، المملكة الأردنية المؤابية، المملكة الأردنية العمونية)، وعلى سبر شقيقاتها سارت المملكة الأردنية المؤابية، تمارس فنون الدبلوماسية تارة، وتخوض الحروب تارة أخرى، بما تقتضيه مصالحهم السيادية، وما يحفظ كرامتهم الوطنية أيضاً، لينتزع أجدادنا الأردنيون المؤابيون مكانتهم العالية علو جبال مؤاب على سلم التاريخ والحضارة.

المملكة الأردنية المؤابية تنهض باحتواء الآخر

بدأ أجدادنا الأردنيون المؤابيون ببلورة حسهم الوطني في المرحلة الانتقالية بين عصر الدولة المدينة وعصر الممالك الأردنية الثلاث الرئيسية (المملكة الأردنية الأدومية، المملكة الأردنية المؤابية، المملكة الأردنية العمونية)، حيث بدأت القبائل الأردنية الرابضة على الحدود الشرقية لجبال مؤاب والتي كانت تجمعها علاقة وثيقة مع المدن الأردنية في ذلك الوقت بالتوغل في عمق جبال مؤاب وبمحاذاة ساحل البحر الميت الشرقي، لتنتقل من حالة البداوة إلى الفلاحة والتمدن، وهم الذين اكتسبوا خبرة حضارية من احتكاكهم بالقوافل التجارية التي كانوا يحمونها، وباحتكاكهم بأشقائهم سكان القرى والمدن الأردنية في ذلك الوقت، وحين بدأت هذه القبائل بالتأطر سياسياً واجهت سكان المنطقة آنذاك والذين يدعون في المصادر التاريخية بالإميين، ولكن العقلية السياسية التي كانت تسيطر على الزعامة السياسية لدى أجدادنا الأردنيين المؤابيين كانت عقلية الاحتواء والامتزاج الثقافي الحضاري، حيث أن زعيم الإميين في نهاية الأمر سلم السلطة للملك الأردني المؤابي في ذلك الوقت سلمياً، وتسلم الملك المؤابي سلطاته هذه وفق التقاليد الإمية كما تظهر لوحة بالوعة وهي لوحة مرسومة على حجر وجدت في منطقة خربة البالوعة شمال الكرك، وعليها رسم توضيحي لمراسم انتقال السلطة، لتخط هذه البداية تاريخ المملكة الأردنية المؤابية كاملاً، حيث استطاعوا دائماً التأثير بمحيطهم، كما استطاعوا الإفادة ممن يحتكون بهم عبر الجوار أو التجارة أو حتى الحروب.

حجر بالوعة – متحف الآثار الأردني في عمان، حقوق الملكية محفوظة لموقع www.researchgate.net

 

خربة بالوعة – حقوق الملكية محفوظة henkbos.com

المملكة الأردنية المؤابية والممالك الأمورية شمال الموجب

احتكت المملكة الأردنية المؤابية في بداية نشأتها بالممالك الأمورية شمال نهر الموجب (أرنون)، ووقعت صدامات بين الطرفين إلا أن أجدادنا الأردنيين المؤابيين استطاعوا تثبيت حدودهم إلى الشمال من نهر الموجب (أرنون)  إلى أن هزمت هذه الممالك على يد القبائل العبرانية.

وادي الموجب 1900 نهاية القرن التاسع عشر شمال الكرك وعرف بنهر ارنون وتم ذكره في مسلة ميشع الملك المؤابي الأردني قبل الميلاد

المملكة الأردنية المؤابية وشقيقاتها

جمعت الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، عمون، مؤاب) علاقات متينة، حيث توحدت المصالح غالب الأحيان، بالإضافة إلى تقارب شعوب هذه الممالك والتداخل الجغرافي فيما بينها، إلا أن العلاقة بين المملكة الأردنية العمونية والمملكة الأردنية المؤابية كانت الأكثر تميزاً، حيث التداخل الجغرافي كبير جداً، وتقارب الشعبين مع التطابق في توقيت وظروف نشأة هذه الممالك. وتذكر المصادر التاريخية أن الأردنيين العمونيين والأردنيين المؤابيين هم أبناء عمومة، وكان الحلف القائم بين المملكتين حلفاً منعقداً بصفة دائمة، بينما كانت تنشب بعض الخلافات أحياناً وهي قليلة جداً على مر تاريخ هذه الممالك بين الأردنيين المؤابيين والأردنيين العمونيين من جهة، والأردنيين الأدوميين من جهة أخرى، ولكن هذه الممالك الأردنية الثلاث كانت دائماً في مواجهة ذات الأخطار الخارجية، كما أن المملكة الأردنية المؤابية كانت حلقة الوصل بين المملكة الأردنية العمونية من جهة، والمملكة الأردنية الأدومية من جهة، ولا شك أن من أهم الشواهد على هذه العلاقات المتينة هو استغلال الأردنيين الأدوميين لانتصار أشقائهم الأردنيين المؤابيين بقيادة الملك الأردني المؤابي ميشع على العبرانيين، وانقضاضهم بدورهم عليهم والسيطرة على مساحات واسعة من أراضيهم.

المملكة الأردنية المؤابية والعبرانيين

وادي الحسا الحد الجنوبي للمملكة الأردنية المؤابية-inthetravellab.com

مرّت العلاقات بين أجدادنا الأردنيين المؤابيين وبين العبرانيين بتذبذب واسع، ولكنها كانت عدائية منذ البداية وعلى الأغلب الأعم، حيث تذكر المصادر التاريخية أن المملكة الأردنية المؤابية رفضت كشقيقاتها أن تمر القبائل العبرانية بأراضيها عند قدومهم إلى المنطقة، منذ ذلك الوقت ضمرت القبائل العبرانية الكيد للمملكة الأردنية المؤابية، ولم يهتم أجدادنا الأردنيون المؤابيون بهذا الأمر لثقتهم بقوتهم العسكرية، إلا أن العبرانيين استطاعوا الانتصار على الأردنيين المؤابيين في مواقع، كما انهزموا أمامهم في مواقع أكثر، واتسمت انتصارات العبرانيين على أجدادنا الأردنيين المؤابيين باستخدامهم للغدر ونقض العهود والانقلاب على المواثيق والأعراف حيث اغتالوا الملك الأردني المؤابي عجلون عند يأسهم من الانتصار على جيوشه، كما خانوا الجَميل الذي قدمه الأردنيون المؤابيون والعمونيون للملك داوود حيث استضافوه وقاموا بحمايته ووالده ووالدته أثناء صراعه مع شاؤول إلا أنه لمّا ثبت له الأمر وانتصر على أعدائه الداخليين من القبائل العبرانية قام بالتنّكر للجميل ومهاجمة المملكتين الأردنية المؤابية والعمونية على حين غرة، واستمر هذا الصراع يشتد ويهدأ إلى أن جاء الملك الأردني ميشع وقام بانتصاره الساحق على العبرانيين حضارياً وعسكرياً.

المملكة الأردنية المؤابية والأشوريين

لم تختلف طبيعة العلاقة بين أجدادنا الأردنيين المؤابيين مع الأشوريين في جوهرها عن علاقة أشقائهم في المملكة الأردنية العمونية والمملكة الأردنية الأدومية، حيث أن الطريق التجاري الملوكي كان يمر بالممالك الأردنية الثلاث، وكانت المصلحة متبادلة بين الأردنيين من جهة وبين الأشوريين من جهة أخرى في الحفاظ على نمط من العلاقات الودية لتنشيط النشاط التجاري الضروري للطرفين، وقد ذُكر العديد من الملوك الأردنيين المؤابيين مثل سلمانو وكموشو نادبي وكموش اللات،  في السجلات والحوليات الأشورية، سواءً كحلفاء بالحروب أو بتقديم الهدايا للبلاط الآشوري، ولكن هذا لم يمنع أن يثور أجدادنا الأردنيون المؤابيون في وجه الأشوريين مع جيرانهم وأشقائهم إذا ما تمادى الآشوريون ومسوا كرامتهم الوطنية، ومن مظاهر التبادل الحضاري بين الأردنيين المؤابيين والآشوريين، تشابه طرق إنشاء المدافن بالإضافة إلى استخدام ذات النمط الإنشائي في بناء القلاع والتحصينات.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي) 2006 (، تاريخ الأردن و اثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية ) ، دار ورد ، عمان .
  2.  A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان
  3. أبحاث إرث الأردن، نشأة مملكة مؤاب الأردنية
  4. أبحاث إرث الأردن، مدخل عام لنشأة الدولة الوطنية في الأردن القديم

.

المملكة الأردنية المؤابية- العلاقات الخارجية

شاطئ البحر الميت الشمالي 1862

مقدمة

اتسمت المملكة الأردنية المؤابية بكثرة صراعها مع جوارها حسب بعض المؤرخين، وخصوصاً العبرانيين، إلا أن هذه السمة سمةٌ اعتباطية فيها الكثير من التعميم وتستند إلى بعض الحروب والصراعات التي خاضها أجدادنا الأردنيون المؤابيون، تناست هذه القراءة أن نشأة هذه المملكة الأردنية اعتمدت بالأساس على قدرتها العالية على صهر المكونات المختلفة في ثقافتها، وأنها نشأت أيضا في لحظة تاريخية كان بإمكان أجدادنا الأردنيين المؤابيين أن يلغوا كامل ثقافة ووجود الإميين الذين استطاعوا انتزاع النفوذ منهم، لكنهم آثروا الاندماج واحترام الوجود الإيمي، وعلى الرغم من ذلك فإن أكثر الملوك الأردنيين شهرة والذين وصلتنا أخبارهم ارتبطت أسماؤهم بصراعات وحروب كان لا مفر منها في ذلك الوقت، وفي بحثنا هذا سنحاول استعراض سيرة موجزة لأبرز الملوك الأردنيين المؤابيين وما استطعنا الوصول إليه من معلومات عن فترة حكمهم.

الملك الأردني المؤابي بالاق

وادي الموجب 1900 نهاية القرن التاسع عشر شمال الكرك وعرف بنهر ارنون وتم ذكره في مسلة ميشع الملك المؤابي الأردني قبل الميلاد (2)

حكم الملك الأردني المؤابي بالاق مع بداية استقرار القبائل العبرانية في المنطقة، ويرد اسمه في المصادر التاريخية على أنه بالاق بن صفور ملك المؤابيين، الأمر الذي يؤكد عراقة النظام السياسي الذي بناه الأردنيون المؤابيون في تلك المرحلة، على عكس ما تناقض به المصادر التاريخية نفسها حين تقول أن نشأة المملكة الأردنية المؤابية تزامنت مع وجود العبرانيين في المنطقة.

تذكر المصادر التاريخية أنه عند استقرار بعض القبائل العبرانية بالقرب من عربوت مؤاب وهي المنطقة المحاذية لوادي الأردن من شمال البحر الميت حتى وادي نمرين، قام أجدادنا الأردنيون المؤابيون بدعوة العبرانيين على ولائم ذبحت قرابيناً للآلهة الأردنية المؤابية فلبّى العبرانيون دعوتهم وشاركوا في الطقوس التعبدية للآلهة الأردنية المؤابية، وشربوا نبيذ العنب الذي صنعه الأردنيون المؤابيون، ووصل بهم الأمر أن سجدوا للآلهة الأردنية المؤابية، هذا الفعل ولد حقداً مستمراً لدى العبرانيين، حيث اتخذوا أناشيد السخرية التي كان يطلقها شعب المملكة الأمورية شمال وادي الموجب في مواجهة الأردنيين المؤابيين، وبدأ كهنتهم بإطلاق اللعنات على الشعب الأردني المؤابي، وقد كان هذا كله استثماراً للدين في الحرب السياسية وغطاءً على أطماعهم في الأراضي الأردنية الواقعة شمالي وادي الموجب (أرنون).

تنبه الملك الأردني المؤابي بالاق إلى جدية المسألة مبكرا، فأرسل في طلب الكاهن الأردني المؤابي الأكبر بلعام ليرد اللعنات على العبرانيين، إلا أن الكاهن بلعام استطاع تقدير الموقف، وتوازن القوى بين الأردنيين المؤابيين وبين العبرانيين المنتشين بنصرهم، فلم يقم برد اللعنات مما يحمل رسالة واضحة للملك الأردني المؤابي بالاق بعدم التهور والاشتباك مع العبرانيين والعمل على تعظيم قوة الأردنيين المؤابيين وانتظار الوقت المناسب، وهذا ما فعله الملك بالاق، واستطاع الحفاظ على السلم في المنطقة لما يقارب الجيلين من بعده.

الملك الأردني المؤابي عجلون

بعد سنوات من حالة التوازن الحذر التي عمت المنطقة، استطاع الأردنيون المؤابيون بقيادة الملك الأردني المؤابي عجلون اعادة سيطرتهم الكاملة على أراضيهم الواقعة إلى الشمال من وادي الموجب (أرنون)، والمسماة عربوت مؤاب، وعقب ذلك استطاع الملك الأردني المؤابي عجلون استثمار الحالة السياسية القائمة وتشكيل حلف يجمع الأردنيين المؤابيين والأردنيين العمونيين والعماليق، حيث أن الأردنيين العمونيين هم بطبيعة الحال حلفاء أبناء عمومتهم الأردنيين المؤابيين، فيما استطاع الملك عجلون استغلال طموح العماليق في العودة إلى أراضيهم بالإضافة لكراهيتهم للعبرانيين، وتوظيفها في تشكيل هذا الحلف الذي استطاع الدخول في عمق أراضي العبرانيين، وفرض السيطرة على أجزاء مهمة منها.

عندما استقر الأمر للملك الأردني المؤابي عجلون، وثبت نفوذه على بشكل كامل على الأراضي التي اجتاحها، قام بفرض الجزية على القبائل العبرانية القاطنة تحت سلطته، واستطاع أخذ الجزية منهم لمدة ثمانية عشر عاماً، في ذلك الوقت كانت إحدى القبائل العبرانية الخاضعة للسلطة الأردنية المؤابية وهي قبيلة بنيامين قد ضاقت ذرعاً بالحال القائم، ولكنهم جبنوا عن المواجهة المباشرة مع الملك الأردني المؤابي عجلون.

رتب أحد زعماء قبيلة بنيامين، وهو أهود البنياميني أمر اغتيال الملك الأردني المؤابي عجلون، حيث زار الملك في معسكره أثناء حملة تفقدية للمناطق الواقعة تحت نفوذه لتقديم الجزية والهدايا، حيث قدمها ثم انصرف ليحاول بث الطمأنينة في قلب الملك وحاشيته، ثم ما لبث أن عاد مدعياً أنه يحمل نبوءة حول الحروب التي سيخوضها الملك عجلون، بالإضافة إلى معلومات عن أعداءه، وطلب أن يجتمع بالملك وحيداً ونتيجة للمقدمات المطمئنة، ولاستبعاد الملك وحاشيته أن يتجرأ العبرانيون على إثارة غضب الأردنيين المؤابيين، فقد وافقوا على أن يجتمع بنيامين بالملك وحيداً، وحينها استطاع بنيامين أن يغتال الملك عجلون ويلوذ بالفرار، واستغل العبرانيون حالة الفوضى القائمة لدى الأردنيين المؤابيين عقب مقتل ملكهم، واستطاعوا الخروج عن السيطرة المؤابية، فيما حاولوا التوغل داخل الأراضي الأردنية المؤابية ولكنهم لم يفلحوا.

الملك الأردني المؤابي كموشيت

قلعة الكرك إبان ثورة الكرك حبث وجد حجر كموشيت

المعلومات الواردة عن الملك الأردني المؤابي كموشيت معلومات ضئيلة، حيث وجدت في إحدى الحفريات الأثرية في محيط قلعة الكرك (قير مؤاب) قطعة حجرية متشظية عن مسلة كتب فيها أربعة أسطر تحمل اسم الملك الأردني المؤابي كموشيت، ويعتقد أن هذه المسلة توثق إنجازات الملك العمرانية، والجدير بالذكر أن الملك كموشيت هو والد الملك الأردني المؤابي ميشع.

الملك الأردني المؤابي ميشع

مسلة ميشع
Henri Sivonen from Helsinki, Finland – Mesha Stele
aka. the Moabite Stone (2007-05-19T14-10-19.jpg)

تعرض أجدادنا الأردنيون المؤابيون  قبيل تولي الملك الأردني المؤابي ميشع لحالة من الضعف، استطاع  العبرانيون خلالها فرض سيطرتهم على المنطقة، إلى أن استطاع ميشع استثمار الروح الوطنية الرافضة للخضوع لدى أجدادنا الأردنيين المؤابيين، وقاد ثورة عظيمة استطاع خلالها تحطيم النفوذ العبراني وملاحقتهم داخل حدودهم وفرض السيطرة المؤابية على أجزاء واسعة من أراضي مملكة يهوذا، الأمر الذي أعطى دافعاً لأجدادنا الأردنيين الأدوميين والأردنيين العمونيين للانقضاض على مملكتي يهوذا واسرائيل.

ولم تتوقف إنجازات الملك الأردني المؤابي ميشع على الانتصار في الحروب بل إن انجازاته الحضارية كانت أكثر أهمية، حيث أطلق ثورة زراعية تهدف إلى تنظيم النشاط الزراعي وتضخيم مخرجاته، جنباً إلى جنب مع نشاط عمراني ضخم، حيث عمّر المدن والقرى المخربة، وأنشأ مدناً حديثة، كما قام ببناء معابد للإله الأردني المؤابي كموش، وقام أيضاً بتوثيق تجربته في نقش على مسلة حجرية تعتبر ذات أهمية تاريخية كبيرة بالإضافة إلى المصداقية لتغطية تلك المرحلة الهامة من تاريخ الإقليم التي تعرضت لكثير من الاختلاق والتشويه.

المراجع

  1. A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين، د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان
  2. أبحاث إرث الأردن، الملك الأردني المؤابي ميشع
  3. أبحاث إرث الأردن، المملكة الأردنية المؤابية – مراحل القوة والضعف

المملكة الأردنية المؤابية – الملوك

Scroll to top