مقدمة

تعتبر الجفرا من الألوان الغنائية المنتشرة في الأردن وتحديدًا في شماله، ضمن انتشارها في المناطق المجاورة بصفة عامّة، وكغيرها من الأنماط الغنائية الشعبيّة فإن الأمثلة عليها كثيرة ومتنوّعة بما يعكس اختلاف وكثرة المواضيع والمناسبات والمزاجات الإنسانيّة التي يخضع لها الشعر الغنائي الشعبيّ.

التسمية

لتفسير اسم جفرا روايات متعددة تختلف من منطقة لأخرى، ولكن المصادر البحثيّة تشير إلى أن الجفرا هي الشاه الصغيرة “السْخَلَة،الصْخَلَة”، التي تمتاز بقامتها المشدودة وحركتها الرشيقة وسلوكها الوادع والودود، وتبدأ أغلب الجفراويات بالحديث عن الجفرا “السْخَلَة” كنوعٍ من تشبيه الحبيبة بصفاتها، وعليه؛ فإن مبدأ الجفرا من حيث الأساس هو الغزل والحب، وإن تنوّعت موضوعاتها لاحقًا أسوةً ببقيّة أنماط الغناء الشعبيّ.

السمات الأدائية

تؤدى الجفراويات، ككثيرٍ من أنماط الغناء الشعبيّ على رأسها الدلعونا، كأغانٍ مرافقة للرقصات، ويُعتبر إيقاع وروح الجفرا أقرب إلى الدبكات من الرقصات الأخرى، وعلى تنوّع ألحانها تتنوّع أنماط الدبكات التي ترافقها الجفرا بالغناء والعزف على إحدى الآلات النفخية المتوفّرة، كاليرغول أو المجوز.

تشترك معظم أبيات الجفرا في الوزن الموسيقي مع لحن “ع اليادي اليادي”، وهو ما يفسّر الكثير من تشابه الأبيات رغم اختلاف الألحان بين النمطين الغنائيين. ويتكون البناء الشعري للجفرا من بيتين رئيسيين، في كل بيت شطرتان – الصدر والعجز -، تنتهي الشطرات الثلاث الأولى بنفس القافية، فيما تختلف الأخيرة عن سابقاتها الثلاث، وهو ما يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ الدلعونا والعتابا، ولتوضيح ذلك نورد المثال التالي :

جفرا وهيه يا الربع  وطلعت ع السطوحي .. والشعر على الكتف من الهوا يلوحي

أنا حلّفتك بالله وبسرّي لا تبوحي .. احنا اللي ربينا سوا بالحارة الغربيّة

وتشتهر الجفراويات بافتتاحيات معيّنة منها :

جفرا وهيه يا الربع :

جفرا وهيه يا الربع وتصيح دِلّوني .. غشيمة بنوم الحظن يا ناس دِلّوني

وان كان عليّي ذنب بالبير دَلّوني .. واقطعوا بيّا الحبل ما هو جزا ليّا

يا ريمتن :

يا ريمتن تحدرت من فوق الجبالِ .. والعين سودا كحلة من جرّ الميالي

ما اريد منه شغل بس يقعد قبالي .. بايدي لاجيبله الخبز واجيبله الميّة

يما مويل الهوا :

يُما مويل الهوا يُما مواليّي .. جسر الحديد انقطع من دوس رجليّي

مشوار مشيتو الصبح ومشيتو عصرية .. يا حباب لا ترحلوا ظلّوا حواليّي

فيما من الممكن أن تبدأ جفراويات أخرى بمطالع غير محددة، مثل :

من يوم غاب الولف تبدّلت أحوالي .. صار الربيع خريف يا طويل الليالي

تهيألي الشتا بالصيف مدري شو جرالي .. حتى طيور الفلا تترحّم عليّا

https://www.youtube.com/watch?v=4QH7ynTzo1Q

الجفرا في الأغاني الأردنية المعاصرة

اشتهرت في القرن العشرين حركة استعادة الألحان الشعبيّة وإعادة تقديمها في قوالب وموضوعات مختلفة، ضمن توازيع موسيقيّة حديثة بوجود الآلات الموسيقيّة والإشراف التقني من المختصين، وقاد هذه الحركة نخبة من رجالات الوطن على رأسهم الشهيد وصفي التل والمشير حابس المجالي، ومعهم لفيف من الشعراء والملحنين والمغنيين الروّاد الأوائل الذين التقت تطلعاتهم بالإرادة السياسيّة ووجهة نظر الدولة العميقة للفنون ودورها في شحذ الهمم وتكوين الهوية الوطنية الجامعة، فأبدعوا في انتاج العديد من الأعمال الإذاعية والتلفزيونية التي سافرت من استديوهات عمّان إلى أصقاع الدنيا على أنها التعريف الجمالي لكل ما هو أردني في القرن العشرين.

ومن الجيل الثاني الذين عاصروا هذه التجربة، الشاعر حبيب الزيودي، الذي وعندما أراد استذكار الشهيد وصفي التل في مطلع القرن الواحد والعشرين، كتب قصيدته الشهيرة التي جاءت على نمط الجفرا ولحنها المعروف، وهي :

رفّن رفوف الحجل رفٍّ ورا رفي .. خيلٍ أصايل لفن صفٍّ ورا صفّي

وأقول يا صويحبي يكفي عتب يكفي .. يا مهدّبات الهدب غنّن على وصفي

المراجع

  • الزعبي، احمد شريف، الأغاني الشعبيّة الأردنيّة، 2015، منشورات وزارة الثقافة، عمّان، الأردن.
  • حجاب، نمر حسن، الأغنية الشعبيّة في عمّان، 2003، موسوعة عمّان التراثية (5)، منشورات أمانة عمّان الكبرى، عمّان، الأردن.

قالب الجفرا الغنائي

مقدمة

اهتم الأردنيّون منذ فجر تاريخهم بالزراعة وطقوسها، فعلى أرضهم ظهر أول منجلٍ في التاريخ قبل عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، وهو رمز الحصاد ومحاصيل الخير التي تجود بها الأرض، وفي البادية الشماليّة الشرقيّة عثر الباحثون على بقايا خبز قمح تعود لأربعة عشر ألف عام قبل الميلاد. وظلت التقاليد الزراعيّة وطقوسها تنتقل من جيل إلى جيل عبر أجيالٍ من الأردنيين الذين حافظوا على هذه التقاليد واهتمّوا بها اهتمامًا جعل لها حيّزًا في المرويات والأمثال والقصص الشعبيّة، بالإضافة إلى حيّزٍ فنيٍّ وجماليٍّ في إرثهم الموسيقي.

طقوس استجلاب المطر (الغيث)

تبدأ السنة الزراعيّة بانتظار موسم المطر، الذي يحيّي الأرض ويوفّر أهم العناصر للشروع بكامل مراحل الزراعة، وعليه؛ فإن طقس “أم الغيث” هو من أبرز الطقوس الإيمانيّة التي استنّها الأردنيّون لاستجلاب المطر والخير من السماء، و”أم الغيث” هي شخصية معنوية يؤمن الأردنيون بأنها ترمز للمطر والغيث، لذا فهم يغنّون لها طلبًا للمطر. وتختلف طقوس الغيث من منطقة لأخرى اختلافاتٍ طفيفةٍ، إلا أنها عامل مشترك بين جميع الأردنيين تاريخيًا. ويُقال لمن يغنّين لأم الغيث أو يقمن بطقوسها “الغيّاثات”، ومن جملة الأغاني التي تُقال لها :

يمّ الغيث غيثينا .. ملّي الجرة واسقينا

يمّ الغيث غيثينا .. خبز وزيت طعمينا

راعينا حسن الاقرع .. طول الليل وهو يزرع

يزرع قمحنا القصري .. تـ نملّي خوابينا

يمّ الغيث غيثينا .. بلّي شويشة راعينا

راعينا شرد عنّا .. وبدّو جدايل حنّا

يمّ الغيث يا حدرج .. تخلّي سيلها يدرج

يمّ الغيث غيثينا .. ومن ميّاتك اسقينا

يمّ الغيث غيثينا .. واسقي حلال راعينا

يمّ الغيث غيثينا .. بلّي زريع راعينا

راعينا أكل الجلّة .. وحسبها خبز ملّة

يمّ الغيث يا دايم .. بلّي زريعنا النايم

 بلّي زريع أبو جابر .. هاللّي ع الكرم دايم

يمّ الغيث غيثينا .. بلّي زريع راعينا

راعينا حسن الأقرع .. ما يشبع ولا يقنع

يا الله الغيث يا الله الغيث .. واحرقتنا شمس الصيف

يا الله الغيث يا ربّي .. تسقي زريعنا الغربي

يا الله مطر يا الله رشاش .. يا الله عرايس ببلاش

يا الله الغيث يا رحمن .. تسقي زريعنا العطشان

يا الله الغيث يا ربي .. خبز يقرقد في عبّي

شتّي وزيدي بيتنا حديدي .. عمنا عطالله ورزقنا على الله

أما طقوس أم الغيث، فهي أن تقوم نساء القرية بحمل عصاة عليها ثوب إمرأة، ويرفعونها ويطوفون فيها داخل الأزقة والأحياء، ويغنّون أغاني أم الغيث، وتكون صفة الطواف أن يبدأ موكب أم الغيث من الشرق إلى الغرب، ثم إلى الشمال، ثم إلى الجنوب، على أن ينتهي الطواف عند بيت رجلٍ كريمٍ أو “صاحب بخت”، استبشارًا بحظّه بأن يُستجاب لطلبهم، فيستقبلهن صاحب البيت بإطلاق البارود ترحيبًا بأم الغيث، ثم يذبح ذبيحة لها، وتقول المرويات الشفهية أنه ساعة “ما يفجّ الدم” من الذبيحة، تكون ساعة مباركة وفي أغلب الأحيان يهطل الشتاء ولفترات طويلة. وفي بعض الأحيان يقوم بطقوس أم الغيث مجموعة من الأطفال، يجمعون من كل البيوت مواد غذائيّة ويعطونها لصاحب البيت الذي تقع عنده أم الغيث بعد رميها عشوائيًا، فيقوم بعمل وليمة جماعية لكل الأهالي في بيته. وخلال جمع المواد الغذائية للوليمة يغني الأطفال لسيدات البيوت :

أم “فلان” يا أميرة .. يا لابسة التقصيرة

بحياة عيسى وموسى .. لا تبخلي علينا

كانت هذه الطقوس تقام في معظم البوادي والقرى والمدن الأردنية، وفي بعضها يُطاف بأم الغيث حتى تصل إلى مقام مبارك، كمقام الخضر في السلط أو ماحص أو الكرك (شفيع البوادي الأردنيّة) أو مقام أبي الدرداء في قرية سوم/إربد، فعلى سبيل المثال كانت النساء السلطيات يغنين :

يا الخظر جيتك زايرة .. وأنا بأموري حايرة

كل القرايا فلّحت .. وقريتنا ظلّت بايرة

مجموعة من نساء قرية السماكيّة في الكرك يقمن طقوس استسقاء شبيهة بطقوس أم الغيث عام 2014، المصدر : موقع أبونا

وفي بعض المناطق الشمالية كانت النساء تضع قطعة قماش على عود قصب، ويُسمّى “الشرشوح”، وتحمله إحداهن وتسير في مقدمة مجموعتين تقومان بترديد المغايثة على شكل حوار :

ياربنا يا ربنا واحنا صغار شو ذنبنا

طلبنا خبز من امنا ضربتنا على يدنا

ياربي تبل الشرشوح واحنا تحتك وين نروح؟

ويستمر الموكب بمسيره، وعند مروره بكل بيت فعلى أصحابه أن يرشوا على الشرشوح قليلاً من الماء، وينتهي الموكب في ساحة المسجد الذي يكون ممتلئًا بالعجائز اللاتي يطحنّ الرحى طحنًا وهميًا دون حبوب، ويستقبلن الموكب بالغناء لأم الغيث :

راحت أم الغيث تجيب رعود .. ما اجت وان الزرع طول القاعود

راحت أم الغيث تجيب امطار .. ما اجت وان الزرع طول الاشجار

وعندما تمطر يغنّي الأردنيون عمومًا :

نقّطت نقّطت .. عين الراعي دوّدت

والرّاعي بده عشب .. قاعد صافن ع الدرب

التنبؤات الجوية

طوّر الأردنيون عبر تاريخهم الحضاري الطويل والمتسلسل غير المنقطع، تجربتهم في معرفة أحوال الطقس والمناخ، والتنبؤ بالأوضاع الجوية وانعكاسها على الزراعة، من خلال عدة مؤشرات انتبهوا لها وحفظوها وراقبوها وتأكدوا من دقّتها، ولتسهيل نقل هذه المعارف الطبيعية والخبرات التي حصدها الانسان الاردني نتيجة احتكاكه وتفاعله مع الطبيعة على مدى آلاف السنوات بشكل مباشر، فقد حوّلها إلى أمثال وأغانٍ سهلة الحفظ والترديد.

كان الأردنيون يعرفون مسبقًا طبيعة الموسم المطري من مراقبة سلوك الطيور، ومن أقوالهم التي تلخّص حالات مختلفة :

  • بسنة الشنّير احفر البير : أي في السنة التي يظهر فيها طائر الشنّير، يمكن للشخص أن يحفر بيره استعدادًا لاستقبال موسمٍ مطريٍّ مبشّر.
  • بسنة الزرزور احرث البور : أي في السنة التي يظهر فيها طائر الزرزور، فإن الأرض البور يمكن حراثتها والاستفادة منها.
  • بسنة الحمام تغطّى ونام : أي في السنة التي يظهر فيها الحمام بكثرة، فإن المقولة الشعبية تنصح المزراع بأن لا يفارق فراشه، لأنه لا فائدة من الموسم.
  • بسنة القطا بيع الوطا : أي في السنة التي يظهر فيها طير القطا، يُنصح ببيع “الوطاة” أي الأرض، لعدم جدوى الزراعة فيها.

أغاني الحراثة

تعتبر الحراثة من المهن الشاقة، وهي تتم من خلال الاستعانة بالحيوانات، كثورين أو حمارين أو بغلٍ. ومن أغاني الحراثة ما يغنيه الحرّاث على بغله داعيًا إياه للحذر في الحراثة من الدخول في أراضي الجيران، من باب الأمانة، مع بعض الغزل الذي يحتل مساحته في غناء الأردنيين الشعبيّ، بصفة شبه دائمة، وهي من قالب الدلعونا :

أقطع بالحدّ وأقطع بالحدّي .. خطبت الحلوة وما حدا قدّي

بالله يا بنيّة تيجي لعندي .. سلطة بندورة وملح الليمونا

ومن أغاني الحراثين أيضًا :

كل الحراثين حلّت .. عيني على فدّانه

يا سكته من فضّة .. غزلان بثيران

**

قوّمني من سروة ليل .. من الصبح مع نجم سهيل

ويلي من الصقعة يا ويل .. يا ويلي من الحورة

مرّة أعبي ومرة أبذر .. وأبذر ورا البقرة

أغاني الحصاد

تعتبر الحصيدة ذروة النشاط الزراعي اجتماعيًا في الأردن، فهي اللحظة التي ينتظرها الناس منذ الشتاء، ويشارك فيها كل شخص مقتدر، وهي مرحلة شديدة القسوة، إذ تكون خلال فترات الحر، لذا فإن السلوك الإنساني في استخدام الأغاني للتخفيف من وطأة العمل، نجده في فترات الحصيدة في أوجه. ومن أغاني الحصادين الشهيرة ما قيل في المنجل، أداة الحصاد ورفيقه :

منجلي يا من جلاه .. رايح للصايغ جلاه

ما جلاه إلا بعلبة .. ريت هالعلبة عزاه

منجلي يابو الخراخش .. منجلي بالزرع طافش

أحصد وألوّي عليه .. وانده الجمّال ليه

منجلي بولاد رن .. ما بقي لك غير سن

من بعد الأربع سنون .. ما بقي لك غير سن

ومن أغاني الحصادين أيضًا :

زرع شيخة وما عليه .. وادمجه وألوي عليه

زرع شيخة ما يبات .. يا ولاد النايمات

يوم اسمعت الزغاريت .. كنت عيان وبريت

يا بنية يلي بالبيت .. شوفيني كنّي ذليت

جابوها واجت تنجرّ .. جابوها بشوب وحرّ

زرعنا للحلوة شكارة .. والرقم ثلاث صاعات

راح الطلال يطل .. لاقاهن قذل بنات

حصدناهن وغمرناهن .. سوّن ثلاث تلّات

درسناهن وذرّيناهن .. وعبّيناهن بشوالات

جبنا جمال الحوارنة .. مع جمال الحويطات

أولهن خش المدينة .. وتاليهن ع البيدر بات

**

تلولح بالمنجل ودوّر .. وارمي للزينات غمور

هات مروّة هات مروّة .. والعزيمة بدها قوّة

بدها ساعد بدها قوّة .. سبعك يل ما بيك مروّة

ومن الأغاني التي يغنيها الحصادون لمعاودة شحذ الهمم وتجديد النشاط بعد الدخول في حالة التعب والكسل :

لاحصد في أيديّ الثنتين .. من خوف الغلا والدّين

لاحصد في أيديّ العشرة .. من خوف أبيع البقرة

حنتوري يم الدربين .. يا خي خذلي مكاتيبي

وسلم سلم ع الغالي .. مع جيرة الجنايبي

يا شباب ارموا المطوح .. العنب والتين روّح

والشباب اللي تراهم .. وافتح القادم وراهم

ومن الحوارات الغنائية الجميلة والظريفة بين الحصادين وكبيرهم “المعلّم” :

الحصادين : يا معلّم لا تخاف .. حصيدة ع بو نظاف

المعلم : والنبي صلّوا عليه .. ألف صلى الله عليه

الحصادين : يا معلم حلّنا .. لـ انقيقب كلنا

المعلم : لن قيقبتوا كلكوا .. والعصاة بتلمّكوا

والعصاة عصاة لوز .. كل هواة بتحوز حوز

وفي الحوارية السابقة نجد روح الفكاهة والمزاح بين الحصادين والمسؤول عنهم، ما يشير إلى روح المساواة وإقصاء قيم العبودية والاستغلال، أو الطبقية التي تمنع صغار العمّال أن يمازحوا كبيرهم.

أغاني الرّجاد

تأتي عملية الرّجاد بعد الحصيدة فورًا، ويقوم بها الأطفال أو الشباب الصغار، وتشمل تحميل القش (المحصول) على ظهور الجمال بواسطة الشبكات، أو على ظهور البغال والحمير بواسطة القادم، ولا يقل الشقاء في هذه العملية عن غيرها من عمليات الحصاد والحراث، ومن أغاني الرّجاد :

وانت يا جمّالنا .. يا شيّال حمالنا

وانت يا جمّال وانت .. يلي عينك عين البنت

لا تخلّي غمورنا .. وانقلها لدورنا

وشاركنا بسرورنا .. قوم يا شوق البنات

أغاني الدراس

يقوم بعملية الدراس غالبًا من قام بالرجاد، وتشمل عملية الدراس دق غمور القمح التي تم جمعها وجرزها على شكل ربطات مضغوطة، يتم طحنها بواسطة أداة ثقيلة، حتى يتسنى لحبوب القمح الخروج من السنابل، ومن أغاني الدراسين :

هب الهوا يا ياسين .. يا عذاب الدراسين

يا عذابي انا معهم .. ما للقوم تطالعهم

تطالعهم وتباريهم .. وتشلّع طواقيهم

ويردد الدراسون أثناء عملية الدراس :

لا كاب الدور لموه .. لمه ما هو علي

لمه ع الشواعبية .. والشواعبية ثلاثة

واحد روح على الدار .. تاني قيل بالفية

ثالث قرصته حية .. قرصته حية ومات

وابكن عليه يا بنات .. ابحشوا له وغمقوا له

وبعده عيونه مبحلقات

وعندما يقوم الدراسين بعملية التذرية، وهي أن يقوم الشواعبي (الذي يستخدم الشاعوب)، بتذرية (نثر) الكوم المدروس عاليًا بواسطة الشاعوب، آخذًا بعين الاعتبار اتجاه الهواء، ومع تكرار نثر الكوم في الهواء ينفصل إلى كومين، حيث تترسب حبوب القمح في الأسفل بسبب وزنها الأثقل من وزن القش الفارغ الذي يحمله الهواء ليكوّن كوم آخر يتم استخدامه كتبن، ويقال عند عملية التذرية :

يا مذارية صفوا النية .. الواحد منكو يسوى مية

هب الهوا يا ذاري .. كيلة بلا مصاري

هب الهوا يا ذاري .. يا عذاب المكاري

هب الهوا يا ياسين .. يا عذاب الدرّاسين

المراجع

  • العمد، هاني، أغانينا الشعبيّة في الضفّة الشرقيّة من الأردن، 1968، دائرة الثقافة والفنون، وزارة الثقافة والإعلام، عمّان، الأردن.
  • الزعبي، أحمد شريف، الأغاني الشعبيّة الأردنيّة، 2015، وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، الأردن.
  • مقابلات ميدانيّة مع السيّدة آمنة محمد مناور أبو الغنم أجراها فريق عمل إرث الأردن، 2017، عمّان، الأردن.

الطقوس الزراعيّة في الإرث الموسيقي الأردني

مقدّمة

تتبعنا في الأبحاث الماضية من حقل إرث الاستقلال كيف تجاوز الاحتلال العثماني الأردن من حساب سلاطينه في شؤون البناء والتنمية، واستمرار سياسته في الحكم بالوكالة التي اعتمدت على نهب خيرات البلاد وسرقة قمح حوران وتحطيم غابات السلط والشوبك والطفيلة ووادي موسى وفرض الضرائب الجائرة على الأردنيين وجلب أبنائهم للتجنيد الإجباري لخوض حروبهم التوسعية والقمعية للشعوب الثائرة وقد استمر انشغال المحتل العثماني المستمر بتوطيد عاصمته في الأناضول، ثم انشغل بتوسيع احتلاله للشعوب والدول، بينما تركت بلادنا مهملة من حكم غير شرعي، بل وافرغت من كل عناصر التطور ومسبباته، وجلبت أموالها وغيراتها وأيديها العاملة إلى العاصمة العثمانية لتطويرها على حساب الأردن والأردنيين.

والدارس لحقبة التحرر من المحتل العثماني والراصد للثورات الأردنية الصغرى يدرك كيف كانت الحكومة العثمانية تتصرف في حكم البلاد، إذ أناطت مسؤولية أمن المنطقة بشيوخ العشائر الأردنية ولم تستخدم حامياتها وسجونها إلا لقمع الثائرين من الأردنيين الأحرار، وجعلت لغة الترهيب والقمع والإبادة العرقية الممنهجة لغتها الأساسية في التعامل مع العشائر والقبائل إذ سيّرت الحملات العسكرية من جنودها المرتزقة واحدة تلو الأخرى وبلا هوادة أو انقطاع، بينما أشاعت في أحيان كثير سياسة “فرّق تسد” بين القبائل الأردنية، حتى لا تتوحد كتيار استقلالي تحرري من المحتل العثماني فتشكّل قوة خطيرة يصعب مواجهتها وهو ما كان في الثورة العربية الكبرى، واستمرارا لمسلسل الخسّة والغدر المعروف عن العثمانيين وسلاطينهم فقد استخدموا الحيل وأخذ الرهائن للضغط على العشائر الأردنية وفرسانها وشيوخها تارةً وتارات أخرى عبر الإعدام على المشانق والاغتيال بالسُّم وهو أشهر عاداتهم في التعامل مع شيوخ العشائر الأردنية كما فعلوا مع الشيخ البطل الشهيد قدر المجالي.

قبيلة الحويطات الأردنية والاحتلال العثماني ( علاقة متأزمة )

  لم تسجل ذاكرة الأردنيين وروايتهم الشفوية ولا حتى كتب المؤرخين والمستشرقين أدنى حد من العلاقة المعقولة بين العشائر الأردنية والمحتل العثماني، ليست هذه العلاقة بالطبع بمختلفة أو حاملة لأي تمايز عن تلك التي جمعت الاحتلال العثماني مع أي قبيلة أو عشيرة أوحاضرة من الحواضر الأردنية على حدّ سواء، ويمكن لنا أن نقرأ شكلها ومضمونها بلغة الأرقام للتدليل على حقيقتها، إذ شهدت الأراضي الأردنية منذ اللحظات الأولى لاحتلال العثمانيين للمنطقة عددا واسعا من الثورات يتجاوز الـ 53 ثورة صغرى مما تم تدوينه وتوثيقه، وقد استعرضنا عددا كبيرا منها في حقل الثورات الأردنية الصغرى، وفي ذات السياق وعلى ذات الحال لم تكن حال العلاقة بين قبيلة الحويطات الأردنية والمحتل العثماني بالأفضل على الاطلاق . إذ لم تشهد العلاقة أي زيارات رسمية أو شبه رسمية، ولم تذهب وفود من قبيلة الحويطات وشيوخها إلى الحكومة التركية في أي مناسبة اطلاقا . ما عدا تلك الوفود المشكلة لاستقبال قوافل الحج لرفادتها واستلام الأموال من أمراء الحج العثمانيين مقابل توفير خدمات الحماية والضيافة لقوافل الحج العثمانية.

ومن الواضح أن الاتصال الوحيد الذي يذكر ـ كما تقدم ـ هو في باب أخذ المستحقات المالية في موعدها، من باب أنه حق واجب على الحكومة العثمانية لهذه العشائر، بدليل أن العشائر الأردنية كانت تثور فورا إذا أحسّت بأي تلاعب من قبل الولاة العثمانيين في أمر هذه المستحقات إذ عادة ما كان أمراء الحج العثمانيين يسرقونها لجيوبهم ويسيّروا حملات القمع للعشائر الأردنية ليمتنعوا عن دفع حقوقها المالية.

وكانت قبيلة الحويطات الأردنية كما هو حال باقي القبائل والعشائر الأردنية تعتبر أرضها ملك ارادتها ولا تدين للمحتل العثماني بطاعة أو ولاء، كما لم تخضع للاحتلال العثماني، ورفضت على وجه الدوام الانصياع لرغبته بتجنيد أبنائها حتى لو كان الأمر بالإكراه والإجبار، بينما يتضح الموقف العام لقبيلة الحويطات الأردنية تجاه العثمانيين عندما أمدّت قوات الثورة العربية الكبرى بالمال والسلاح والرجال والأرواح وقدّمت فيالق من الفرسان والمحاربين والشهداء .

الشيوخ التسعة

وكما هو ديدن المحتل العثماني في الغدر والخسّة وحالما شعر بأن النفس التحرري الاستقلالي قد بدأ بالاشتعال بشكل متزايد، خطّط الوالي العثماني في دمشق لوأد الحركة في مكانها، وحبكت الخطة أن يقوم باستدعاء شيوخ الحويطات التسعة واعدامهم مرّة وحدة بعيدا عن أهلهم وقبيلتهم ومنعا لقيام ثورة سريعة ومباشرة ضد المحتّل العثماني تكلفه جميع حامياته العسكرية في المنطقة، ومن هنا أوهم الوالي العثماني في دمشق كبار شيوخ قبيلة الحويطات التسعة أنه يرغب في حضور شيوخ قبيلة الحويطات الأردنية لاستلام مستحقات القبيلة المالية، وقد رشّحت عشائر الحويطات كبارها لهذه المهمة كالعادة، وتحضّر شيوخ عشائر النجادات والجازي والتوايهه والزوايدة والمراعية والسليمانيين والعمران والسعيدين والرشايده لهذه المهمّة، ورغم التردّد الكبير من قبلهم وشعورهم بأن مكيدة ما يتم تدبيرها من المحتّل العثماني، إلا أن اخلاصهم للقبيلة وشعورهم بالمسؤولية تجاه تأمين رزق أبنائها في ظل انقطاع موارد التنمية الأخرى أجبرهم على الذهاب وتلبية رغبة المحتل العثماني، وما أن وصلوا مقر الوالي العثماني حتى أمر باعتقالهم جميعا وقطع رؤوسهم، في استمرار لمسلسل الظلم العثماني ولا انسانية ولاته وسلاطينه.

 وقد ظن المحتّل العثماني أنه بارتكابه لهذه المجزرة الرهيبة ورفضه تسليم جثامين الشيوخ التسعة لقبيلة الحويطات ، سيخيف شيوخهم وفرسانهم فلا يقومون بأي تمرد في المستقبل، لكن الجواب كان قادما لا محالة.

 

( الغدر ) درب المحتل العثماني

وفي مؤامرة عثمانية أخرى في القرن التاسع عشر، ولتأديب قبيلة الحويطات وقمع النفس الثوري المشتعل في صدور أبنائها ولتصاعد المطالب المنادية بالاستقلال وضرورة دفع المبالغ الواجب دفعها لقاء حماية قوافل الحج العثمانية خاصة بعد أن ازدادت حالات التلاعب بأمر الصرة من قبل الوالي العثماني في دمشق ورغبته الخاصة بتغيير طريق الحج عن مناطق القبائل الأردنية التي اعتمدت في رزقها على خدمة الحجاج وحمايتهم ، وفي ذات الوقت الذي فرض فيه المحتل العثماني ضريبة جديدة على المواشي.

ولقمع الثورة في مهدها احتجز الوالي العثماني ثلاثة شيوخ من قبيلة الحويطات الأردنية هم الشيخ سالم بن نجاد ومعه اثنين من شيوخ عشيرة المطالقة من قبيلة الحويطات وتم سجنهم لفترة طويلة بعد أن تم استدراجهم بالحيلة والخديعة. كان الشيخ سالم بن نجاد أكبرهم سنا، وقد دبر الشيخ البطل ابن نجاد خطة لتهريب كل من الشيخين الآخرين، بعد ان أقنعهما بأن يسيرا إلى قبيلة الحويطات والعشائر الأردنية الحليفة لها كقبيلة بني عطية في البادية الأردنية الجنوبية ليحرضوهم على الاستمرار في إعلان الثورة ضد الاحتلال العثماني، وقطع طريق امداد الجيش العثماني الذي يمر بالمنطقة، ومهاجمة كافة الحاميات والقلاع والسجون العثمانية فيها .

ومن ثم شهدت العلاقة بين قبيلة الحويطات والاحتلال العثماني العديد من المواجهات المباشرة والدامية، وخاصة بعد تأسيس لواء الكرك عام 1892. إذ تُظهر وثيقة من وثائق (ميرزا وصفي )[1] عام 1893م رفض قبيلة الحويطات عموما وعشيرة الجازي بقيادة الشيخ عرار بن جازي تحديدا دفع الرسوم الضريبية المفروضة على الأغنام و الأبل.

كتاب من متصرف معان إلى رفعت بكباشي البوليس ميرزا وصفي حول رفض قبيلة الحويطات دفع الضرائب بالعثمانية؛ حقوق النشر محفوظة لدى دائرة المكتبة الوطنية
كتاب من متصرف معان إلى رفعت بكباشي البوليس ميرزا وصفي حول رفض قبيلة الحويطات دفع الضرائب – منقولة للعربية؛ حقوق النشر محفوظة لدى دائرة المكتبة الوطنية

وفي عام 1894 وبعد امتداد سلطة الاحتلال العثماني نحو معان والمناطق التي يمتدّ فيها نفوذ وانتشار قبيلة الحويطات، رفض شيوخ عشيرة الحويطات وعلى رأسهم الشيخ عرار بن جازي أن يتنازلوا عن أي شكل من أشكال السيادة والحكم الذاتي للحكومة العثمانية وقام الشيخ عرار بن جازي – وكردٍّ مباشر وصريح على الرفض المطلق للاحتلال العثماني – بشن هجوم سريع ومباغت على القوة العسكرية العثمانية في معان، واستطاع فرسان عشيرة الحويطات قتل عددا من جنودها، قام الاحتلال العثماني بعدها على الفور بمطاردة الشيخ عرار بن جازي والقبض عليه بالخديعة وسجنه في سجن الكرك، وأفرج عنه بعد عامين بعد ضغط متواصل من شيوخ ووجهاء العشائر الأردنية وفرسان قبيلة الحويطات[2].

من اليمين : الشيخ البطل عرار بن جازي ( أبو حمد ) وأخيه الشيخ الفارس عبطان بن جازي (عبطان الخيل )، الصورة من مجموعة المستشرقة البريطانية جرتروود بيل في رحلتها الى منطقة البادية الاردنية ، عام 1868

قامت سلطة الاحتلال العثماني بمحاولة جديدة لإجبار قبيلة الحويطات على دفع ضرائب سنتين مقدما، وأرسلت سرية عسكرية لجمعها، فأبى الفارس البطل الشيخ عودة أبو تايه الدفع فقام جنديان عثمانيان برميه بالرصاص غدرا فلم يصيباه، فردّ عليهما بالمثل وقتلهما بينما فرّ باقي الجنود العثمانيين خوفا من ذات المصير[3].

ثورة الحويطات 1898

كانت حادثة أسر الشيخ سالم بن نجاد وأبناء عمومته من شيوخ المطالقة  قد ألهبت النّار في نفوس فرسان قبيلة الحويطات، وما أن وصل شيوخ عشيرة المطالقة إلى مضارب القبيلة بعد هروبهم من السجن بفضل الخطة المحكمة للشيخ ابن نجاد، سارع هؤلاء ببث دعوة الشيخ السجين إلى شيوخ القبيلة وحلفائها، واشتعل طلب الثأر في صدورهم ، فانطلقت الثورة عام 1898 حيث عمدت قبيلة الحويطات إلى الثورة ضد العثمانيين، وأعلنت نيتها الاستقلال المطلق عن الدولة العثمانية، نظرا لاستفحال حالة التهميش للمنطقة وغياب جهود التنمية والبناء وإدارة المنطقة بعقلية المزرعة عبر جمع الضرائب دون مردود أو مقابل ومن ثم امتناع الدولة العثمانية عن دفع حقوق القبيلة المالية لقاء حمايتها لقافلة الحج الشامي وتأمينها باحتياجاتها في الخانات والقلاع المتوزعة في مناطق انتشار ونفوذ الحويطات، بالإضافة لقيام الدولة العثمانية بمد خط سكة القطار العسكري العثماني والذي وجد أصلا لقمع ثورات الأردنيين وإحكام السيطرة والقبضة على المدن الأردنية ومن ثم جمع الضرائب وفرض التجنيد الاجباري بالسرعة التي يريدها الباب العالي وظهر الأثر الاقتصادي السلبي بشكل واضح وصارخ على مصالح قبيلة والعشائر الأردنية المقيمة قرب طرق الحج، والتي كانت تعتمد بالمطلق على الضرائب والأموال التي تجنيها لقاء حماية قافلة الحج الشامي[4]، في الأراضي الممتدة من معان إلى تبوك في ظل غياب أي مورد آخر للرزق مع تضخم حالة التهميش العثماني وحكم المنطقة بالوكالة.

أعلن فرسان الحويطات وشيوخهم الحرب على العثمانيين ورفعوا راية الاستقلال عن حكم المحتل العثماني، وقد هوجمت كافة الحاميات العثمانية بضراوة وشجاعة منقطعة النظير، وقطع طرق إمداد الجيش العثماني في الجنوب، ودبّ الرعب في صدور الجنود العثمانيين وقادتهم، فأرسلوا للوالي يطلبون النجدة، فأرسل الوالي العثماني في دمشق جيشا كبيرا لبث الرعب في قلوب الأردنيين، لكن قبيلة الحويطات وحلفائها من العشائر الأردنية لم تخش قوة الجيش العثماني، واستمرت في ثورتها بمواجهة الجيش العثماني الجرّار الذي هزم من قبل فرسان العشائر الأردنية على أعتاب البادية النبطية الأردنية التي قهرته لمرّات عدة.

و بعد فترة وجيزة اصطدمت عشيرة أبو تايه مع قوة عثمانية مكوّنة من عشرة فرسان بقيادة قائمة حامية الاحتلال العثماني في الكرك سليمان آغا، ولمّا حاولت القوة العسكريّة العثمانية أخذ الإبل المرافق لعدد من فرسان العشيرة، أسرع فارس شاب من عشيرة أبو تايه راكبا فرسه يتبعه فارسان من العشيرة وتوغلوا بين القوة العسكرية العثمانية وأفرغ بندقيته على القوة فوقع أحد الجنود العثمانيين صريعا، وامعانا في الرد على البطش العثماني ضرب الفارس الحويطي بأخمص بندقيته رأس قائد القوة العسكرية  العثمانية سليمان آغا فأسقطه من حصانه على الأرض وأخذه أسيرّا، وعلى إثر بطولة فرسان الحويطات فرّ جنود الحامية العثمانية إلى مدينة الكرك ليحتموا في قلعتها، ودون أن يستطيعوا سرقة أي رأس من إبل الحويطات، تاركين أحد الجنود العثمانيين غارقا في دمه، وقائدهم أسيرا، أخذت هذه القصة تنتشر بين فرسان العشائر الأردنية كالنار في الهشيم مشعلة الرّغبة بالخلاص من هذا المحتل.

وعندما شعر الوالي العثماني أن الأمور تخرج عن سيطرته بشكل متسارع على نحو لا يمكن معه استيعاب ثورة الحويطات ومع وصول الأخبار إليه بانتشار الثورة كالنار في الهشيم في صفوف العشائر الأردنية القريبة من الحويطات، وتحت الضغط الشديد أمر بالإفراج الفوري عن الشيخ سالم بن نجاد واضطر مجبرا للتخلي عن رغبته بإعدامه حتى لا تمتد الثورة أكثر، واستطاعت قبيلة الحويطات بإسناد من فرسان العشائر الأردنية أن تحصد النصر وتفرض شروطها على المحتل العثماني المنهزم أمام سنابك خيلها.

الحويطات وثورة الكرك 1910

تكررت محاولات قبيلة الحويطات الانفصال عن الدولة العثمانية منذ عام 1898 عبر ثورتها العارمة وصولا إلى مشاركة فرسانها بعد سنتين من ثورة الحويطات في ثورات الشوبك عامي 1900 و 1905، ومن ثم مشاركتهم بفعالية في ثورة الكرك ( الهيّة ) عام 1910.

و إبان ثورة الكرك عام 1910 شاركة قبيلة الحويطات مشاركة فاعلة في الهجوم على محطات سكة القطار العسكري العثماني والحاميات العثمانية في معان والشوبك وغيرها من المواقع وذلك نصرة لإخوانهم من عشائر الكرك ولتضييق الخناق على العثمانيين ومنعهم من إمداد الحامية العثمانية المهاجمة للكرك، إذ تورد جريدة المقتبس، تقريرا مفصلا للهجمات التي قام بها شيوخ الحويطات خلال هذه الثورة، حيث تورد كيف توّجه الفارس البطل عبد القادر بن صالح المجالي إلى قبيلة الحويطات في منطقة الجفر، وضافوه في مضاربهم مدة ثلاثة أيام حسب أعراف الضيافة عند العشائر الأردنية، ومن ثمّ اتّفق مع شيوخ عشيرة الحويطات على إعلان الثورة في الكرك وتم التخطيط عسكريا على دور العشائر الأردنية فيها ودور قبيلة الحويطات على وجه الخصوص، ولمّا انطلقت الثورة بقيادة الشيخ البطل قدر المجالي ووصل الخبر إلى الحويطات قاد الشيوخ الأبطال محمد بن دحيلان أبو تايه، وزعل بن مطلق أبو تايه، وعودة بن زعل أبو تايه هجوما واسعا على الحامية العسكرية العثمانية في معان، بينما هجم الشيخ البطل محمد بن عرار الجازي وعدد من فرسان عشيرة الجازي على مأموري معان ( مكاتب الإدارة العثمانية )، كما هاجموا محطة التلغراف العثماني في ضانا لقطع خطوط التواصل العسكري مع حامية الكرك، وباغتوا المحطة البحرية العثمانية في العقبة، في ذات الأثناء هجم الشيخ البطل حمد بن عرار الجازي وعدد من فرسان عشيرة الجازي على سكة القطار العسكري العثماني وعدد من محطاته، بينما هجم الشيخ البطل سحيمان الجازي وعدد من الفرسان، على مكتب جابي الضرائب العثماني ( كامل أفندي ) والسرية العسكرية العثمانية المرافقة له في الشوبك، بينما هاجم الفرسان عرسان بن ذياب ومفلح أبو ركيبة وعدد من فرسان الحويطات على عدة محطات للقطار العسكري العثماني وأحرقوها، وهاجم الفرسان جراد بن حرب العودات ونهار صباح العودات الحامية العسكرية العثمانية في الطفيلة.

الفرصة الحاسمة

شعرت قبائل الحويطات بشيوخها وفرسانها ونشمياتها بقرب فرصة الخلاص النهائي من المحتل العثماني لما تسامعوا بأنباء الثورة العربية الكبرى، فانضموا لصفوفها وقاد شيوخها وعقداء الخيل فيها الصفوف الأولى لقوات الثورة العربية الكبرى حتى تكللت الجهود بتحرير الأردن وتطهيره نهائيا من الاحتلال العثماني.

    

المراجع

  1. النجادات، نايف محمد، الحويطات ودورهم في الثورة العربية الكبرى، عمان، 1989م.
  2. بيك، فريدرك، تاريخ شرقي الأردن و قبائلها ، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان ، 2004 .
  3. الشرعة، ابراهيم ، موقف القبائل البدوية من قافلة الحج الشامي و الخط الحديدي الحجازي ، الدارة ، العدد 4 ، 1426 هــ .
  4. دائرة المكتبة الوطنية،  الوثائق الخاصة، مجموعة ميرزا وصفي .

[1] مجموعة ميرزا وصفي، وثيقة رقم م و 1/21/1. تاريخ 8/10/1310 هــ

[2]  فريدرك بيك ، تاريخ شرقي الأردن و قبائلها ، ص 231.

[3] المرجع السابق،  ص 232.

[4] الشرعة ،ابراهيم ، موقف القبائل البدوية من قافلة الحج الشامي و الخط الحديدي الحجازي، ص :65-35.

ثورة الحويطات 1898

مقدمة

هل فكرت يوما كيف تتكلم؟ لا أعني كيف يدخل الهواء لرئتيك وبين دخوله وخروجه وبمساعدة فمك وشفتيك تنطق الأصوات التي تكون كلمات وبلحظات ولا وعي تكون جملا تعبر فيها عن حاجاتك ورغباتك ومشاعرك، إنها اللغة! المعجزة التي نقلت البشر إلى مرحلتهم الأكثر تقدما وتحضرا. واللهجة هي اللغة الأم التي يتلقنها الفرد من أمه وهي تهدهده قبل النوم، تلك التي تنطق بها دون جهد يذكر.
قد نظن بأن اللهجة هي أمر لا تحكمه الطبيعة، ولا يخضع لقواعد كقواعد النحو والصرف في اللغة العربية الفصحى؛ ولكن الأبحاث العلمية في اللغويات (علم يبحث في اللغة عند استخدامها) تثبت لنا عكس ذلك. هذه المعجزة التي يمتلكها الجميع دون استثناء تمتلك قواعدها الخاصة. ترصد لنا أبحاث اللغويات أيضا التغيرات التي تلمّ باللهجة.
كان الأردن وما زال ثروة لغوية صب الباحثون اهتمامهم عليها، منذ عشرات العقود والأبحاث المتخصصة تدرس الصفات اللغوية للهجة الأردنية، تربطها بالعوامل المجتمعية، تقارن مراحلها وتطورها وتجيب على أسئلتنا الملحة عن إرثنا اللغوي الغني.
استكمالا لرسالة إرث الأردن، سنقدم قراءة في واحد من أهم البحوث التي تناولت تطور اللهجة الأردنية الحديثة في القرن العشرين. تقدم الباحثة الأردنية إنعام الور المحاضرة في جامعة إسكس البريطانية بالتعاون مع الباحث هيرن برونو استقصاء مثيرا للاهتمام عن “دورة حياة صوت (ق) في الأردن”
ينطق (ج – جيم غير معطشة ) حينا و (أ) حينا آخر وبما قد سمعنا هذا الصوت وهو ينطق (ق) أو (ك). تتعدد طرق نطق هذا الصوت بحسب المنطقة وهذا ما يجعله مميزا جدا كعلامة فارقة لتمييز اللهجات المناطقية. يعد هذا الصوت من أكثر الأصوات دراسة في اللهجات العربية وقد أولاه الباحثون اهتماما خاصا ولكن دراسته في الأردن خاصة لا زالت تعاني من فجوات، فكيف احتلت ال(أ) مكان ال(ج) في اللهجة الأردنية؟ هذا التغير الملحوظ جدا يعزا لعوامل اجتماعية عدة سنناقشها في هذا البحث.
في الفصول القادمة سنستعرض أهم محاور دراسة الور وبرونو بالتركيز على صوت (ق) في لهجة عمان الحديثة ولهجات الأدن الشعبية.

صوت (ق) وحالاته

كما أسلفنا يتميز هذا الصوت بتقلبه وتعدد حالات فتارة يلفظ كهمزة وتارة أخرى يلفظ (ج) أو (ك). ويستخدم هذا الصوت كمميز صارخ وواضح بين اللهجات المشرقية. فاللبنانية والسورية تلفظانه همزة بينما يلفظ (ج) جنوب سورية والأردن وجنوب فلسطين. أما الضفة الغربية فيلفظه الفلسطينيون همزة أو كافا بحسب السكنى (ريفية أو مدنية). في حالات أخرى يستعير المتكلمون ألفاظا تحمل صوتا (ق) مختلفا عن الصوت الأصلي في لهجتهم لدواع عدة. في تلك الحالات لا يكون الصوت متغيرا، حيث يلتزم المتحدثون بنطق الصوت كما هو في لهجتهم وهذا ما لا ينطبق في الحالة التي شهدتها اللهجة الأردنية في القرن العشرين.
لو أصغينا جيدا لوجدنا أن صوت (ق) أمر مختلف بالنسبة للهجة الأردنية فهو ينطق (ج) مثل (gلاية، gلتلك، gميص) وينطق همزة مثل (ألاية وألتلك، أميص) والجدير بالذكر بأن نطق (ق) كالكاف كان موجودا أيضا بحسب دراسة الباحث عبد الجواد للهجة الأردنية عام 1981، فكان القادمون من الضفة الغربية ينطقونها ولكنها سرعان ما تراجعت واختفت على حساب اللفظين الشائعين اليوم (الهمزة و ج).

سلط 1900 اطلالة خلابة على عراقة مدينة السلط الأردنية وتفوق سكانها على الظروف الجائرة

عبر احتكاك الأردنيين مع اللاجئين والنازحين من الضفة الغربية ممن ينطقون صوت ال (ق) همزة دخل هذا اللفظ إلى اللهجة الأردنية في عمان تحديدا بوصفه متغيرا جديدا. وبحسب الدراسات فإن انتشار صوت الهمزة كان أفقيا وعاموديا حيث تبناه العديد من الأردنيين وتشير الدراسات التي أجررتها الور عام 2002 على اللهجة الأردنية بأن التحول التام من الجيم غير المعطشة إلى الهمزة قد اكتمل تماما عند الشابات الأردنيات اللاتي تربين في بيئة ناطقة بال (ج) حيث يستعملن الهمزة بشكل مستمر. إذن، كيف نتج هذا الوضع اللغوي؟ ما هي أسبابه وما هي محدداته؟

صوت (ق) في اللهجات الأردنية الشعبية

لقد صنفت السجلات اللغوية (أطلس بيرغستراسر 1915) الأردنيين كناطقين ل (ج – جيم غير معطشة) وقد دعمت هذه السجلات أبحاث أخرى أجريت عام 1987 على السلط وعجلون والكرك وبعض المشاركين في هذه الدراسة كانوا من مواليد عام 1897! ولهذا يمكننا بكل ثقة أن نؤكد حقيقة أن اللهجة الأردنية هي لهجة تنطق صوت (ق) (ج) حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي مع عدد قليل ( ثلاثة نساء من أصل 40) نطقن صوت (ق) كهمزة في السلط وهذا التغير في حديث النساء يؤكد فكرة أن التغير في لفظ صوت (ق) في اللهجة الأردنية قد دشنته النساء.

الأمر المثير الآخر هو أن بدايات هذا التغير كان بعيدا عن عمان، في السلط وفي عجلون. أما الجنوب (الكرك) فلم تكن الهمزة خيارا مطروحا. إن هذه الفكرة تتوافق وتاريخ مدينة عمان، ففي ثلاثينات القرن الماضي لم يكن تعداد سكان مدينة عمان يتجاوز العشر آلاف نسمة بينما سكان السلط كانوا قد بلغوا ثلاثة أضعاف هذا الرقم. وكانت التركيبة السكانية لمدينة عمان تتكون الشراكسة الذين يبلغون نصف التعداد ( وكانوا يتحدثون بلغتهم الأصلية الأديغية) والباقي خليط من الأردنيين القادمين من السلط والمدن الأردنية الأخرى ومن نابلس ومن سورية.

عمان 1922 سيدة تقوم بتحضير اللبن “خض السعن” في وادي السير

تضاعف عدد سكان مدينة عمان في الأربعينات عقب النكبة عام 1948 وعاود التضاعف عقب النكسة عام 1967. ومنذ تلك الفترة حتى اندلاع حرب الخليج في بداية التسعينات كانت المدينة تعيش جوا من الاستقرار السكاني. استقبلت عمان لاجئين جدد من الكويت والعراق.
في دراسة أجرتها الباحثة إنعام الور عام 1997 على تطور لهجة السلط، أخذت عينات من الشباب السلطي في العشرينات من عمرهم، بواقع أربعة أفراد من الإناث وأربعة من الذكور. لم يتغير لفظ (ق) عند الذكور وأظهروا استمرارية في نطق هذا الصوت كما هو في اللهجة المحلية الأردنية. أما الإناث الأربع فقد أظهرن تغيرا في نطق هذا الصوت إلى الهمزة وهذا ما يدل على انتشار هذا النطق في عموم المجتمع.
أما آخر بحث في هذا الخصوص فكان الذي بدأه الباحث برونو عام 2005 على لهجة كبار السلط والفحيص (الأقرب إلى عمان) وقد هدفت الدراسة لوضع وصف للهجة المحلية الأصلية للمدينة. ولم تجد الدراسة أي تغير في لفظ صوت (ق) حيث نطقها الجميع في 15 ساعة من التسجيل (ج) كما هي في اللهجة المحلية. وهذا يثبت بأن ظاهرة التغير هي حديثة نسبيا ناتجة عن تفاعل فئات المجتمع الأردني بغيرهم.

مجتمع مدينة عمان واللهجة

على عكس السلط، فإن مجتمع عمان مختلف عن المجتمع المتماسك في السلط والذي أبقى على لهجته متوارثة إلى حد ما. عمان أو ربة عمون عاصمة العمونيين أو فيلادلفيا المدينة الرومانية، هجرت لفترة كبيرة بين القرنين السابع إلى العشرين تقريبا. وعندما أعلنت المدينة كعاصمة لإمارة شرق الأردن كان يسكنها الشراكسة القادمون من القوقاز عام 1876 والذين ظلوا يتحدثون لغتهم الأديغية إلى عقود لاحقة. ولم تؤثر لغتهم الأديغية أو إرثهم الثقافي على تكوين اللهجة الحديثة في عمان.
من المهم معرفة المكونات السكانية وخلفياتهم الثقافية، إن هذا يشبه معرفه الأنهار الصغيرة والجداول التي تصب في النهر الأم. يمكننا إذن تقسيم سكان مدينة عمان الحديثة بحسب المنطقة إلى مجموعتين: الأردنيون القادمون من القرى والبلدات الأردنية الصغيرة والذين يتحدثون اللهجة الأردنية. والمجموعة الثانية هم القادمون من فلسطين. وتقسم المجموعة الثانية إلى مجموعتين. الأولى هي الذين سكنوا الأردن في أوائل القرن العشرين وربما قبله والثانية هم اللاجئون والنازحون القادمون عقب الحروب العربية الإسرائيلية. تظهر اللهجة الفلسطينية فرقا كبيرا بين اللهجة البدوية واللهجة الريفية (الفلاحية) واللهجة المدنية ونستطيع إيجاد الثلاث لهجات في عمان اليوم.

بيوت الشركس ف عمان في القرن التاسع عشر

بغياب مجتمع ثابت في عمان، لم يكن للمدينة لهجة أم وحتى الثمانينات اتصفت لهجة عمان بافتقارها للهجة متسقة. عام 1998 أجرت الباحثة الور بحثا على ثلاثة عشر خصيصة لغوية وأظهرت النتائج بأن اللهجة بدأت أكثر تركيزا. خلق التلاقح بين اللهجة الأردنية واللهجة المدنية الفلسطينية.

البحث في لهجة عمان

لدراسة اللهجة المتشكلة حديثا في عمان أجرت الباحثة إنعام الور بحثا تضمن الأجيال الثلاثة في عمان من أربعة عائلات، اثنتان منهما تعود أصولهما إلى السلط والأخيرتان من نابلس. حيث تشكل المدينتين 97% من أصول سكان مدينة عمان. وسنستعرض فيما يلي بشكل أكثر تفصيلا هذا البحث وعينة الدراسة.
الجيل الأول:
تكونت العينة في الجيل الأول من ثمانية متحدثين. هذا الجيل كان قد وصل لمدينة عمان كبالغين وأظهرت نتائج تحليل حديثهم لالتزامهم بلهجتهم الأم كما أظهروا ميلا للrudimentary levelling وهي ظاهرة تعني استيعاب ودمج وخلط لهجات معينة.
الجيل الثاني:
تكونت عينة الجيل الثاني من ثمانية متحدثين. وهذا الجيل إما ولد في المدينة أو وصل إليها طفلا صغيرا. وأظهرت نتائج التحليل لهجة مختلطة غير ممنهجة واختلافات كثيرة نتيجة خليط المدخلات من اللهجتين الأردنية والفلسطينية المدنية.

الجيل الثالث:
تكونت هذه العينة من أربعة عشر متحدثا، لقد تقلص الاختلاط الذي وجد في حديث الجيل الثاني. وكانت لهجتهم منظمة في نسق لغوي متسق.

صوت (ق) في عمان

كما أوضحنا آنفا فإن الصوتين الرئيسيين والمتغيرين في لهجة عمان هما الهمزة وال (ج)، تتميز الهمزة بكونها مشتركة وشائعة في كثير من المناطق المشرقية فهي منطوقة في لبنان وسوريا وفلسطين ومقارنة مع ال (ج) في أقل شيوعا وتعد محلية أكثر.
لقد حافظ الجيل الأول في الدراسة التي استعرضناها على اللهجة الأم. فلم يتأثر لفظه لصوت القاف إلى حد ما ولكن ترافق حفاظه على وجود بعض المفردات التي تخالف اللهجة الأصلية. فقد نطق الرجال الفلسطينيون (الذين تنطق لهجتهم الأم بالهمزة) ال (ج ) فقالوا (جالو ولاجينا gallo / lagena ) والاختلاف الآخر وجد لدى النساء الأردنيات اللواتي لفظن بعض الكلمات بالهمزة ( بتسوءي- ئيمي)
أكد تحليل الجيل الثاني على ما كان في الجيل الأول. فقد استمر الجيل بالنطق كما في اللهجة الأصلية على أن الرجال الفلسطينيين والنساء الأردنيات تابعوا تغيير لهجتهم. صار الرجال الفلسطينيون ينطقون أكثر بال (ج) والنساء الأردنيات ينطقن أكثر بالهمزة.
أما الجيل الثالث فقد ظهرت عوامل أخرى على السطح وهي التأثير الاثني والمخاطب. ولخصت الدراسة هذه التأثيرات والعوامل فيما يلي:

• تتحدث الإناث جميعهن بغض النظر عن خلفياتهن بالهمزة، وهذا دلالة على استمرار التغير والتلاقح الحاصل بين اللهجتين في أجيال سابقة.

• أما الذكور فقد أظهروا أنماطا أكثر تعقيدا. فعندما يتحدث الذكر إلى أشخاص من نفس مجموعته الأثنية فإنه سيلتزم بلهجة مجموعته الإثنية. أما عند الحديث مع الإناث فرادى أو مجموعات فإنهم جميعا يستخدمون الهمزة. أما عند الحديث مع مجموعة (كلها ذكور) من خلفيات مختلفة فإنهم جميعا يتحدثون بال (ج)
ومن خلال هذا التحليل نستنتج بأن هنالك عوامل أخرى نظمت هذا التلاقح بين اللهجتين وهي اللهجة الأم للمتحدث، الجنس والسياق.

تحليل النتائج

اعتمادا على النتائج التي خلصت إليها الدراسات العديدة وآخرها دراسة الباحثة إنعام الور والباحث هيرن برونو، تطرح عدة أسئلة نفسها. ما الذي أدى بالنساء إلى اعتماد الهمزة؟ وما الذي دفع بالذكور إلى اعتماد لفظ (ج) عبر الأجيال المتعددة؟
لقد ولدت نساء الجيل الثاني اللاتي أظهرن ميلا كبيرا إلى لفظ الهمزة بين 1938-1948 وكانت الأردن وقتها تعيش تأخرا نسبيا مقارنة بالدول العربية المجاورة. فلم تكن المعاهد والجامعات للاستكمال الدراسات العليا قد بنيت على عكس دمشق وبيروت والقاهرة وحيفا وكلها أماكن ناطقة بالهمزة. وقد شهدت هذه الفترة حركة ابتعاث الأردنيين والأردنيات لاستكمال الدراسات العليا في تلك الدول. من ناحية لغوية-اجتماعية ارتبطت الهمزة بالتمدن والتحضر والتقدم العلمي. فمن المفترض أن يجذب هذا الأسلوب في الحديث الرجال والنساء على حد سواء فلماذا نر النساء وحدهن من يمارسن هذا التغير من اللهجة الأم الناطقة بال (ج) إلى اللهجة الناطقة بالهمزة؟ يفسر الباحثان هذا بوضع المرأة في المجتمع في تلك الفترة، حيث كانت مشاركة المرأة الاقتصادية والسياسية معدومة كما كانت المرأة تعتبر في الوضع الأضعف مقارنة بالرجل. ومن هنا دعتها الحاجة إلى تمثل رموز القوة واللغة أهمها.
وتفسيرا لما سبق نقتبس من البحث العلمي المنشور للباحثين: “محرومة من القوة ومن المشاركة في الحياة العامة، اضطرت النساء في عمان لتمثل رموز القوة والتأثير عن طريق تبني طريقة حديث معينة. وعبر ارتباط الهمزة بالمدن الأكثر تحضرا ارتبطت أيضا بوصف متحدثيها مجموعة أكثر قوة وتأثيرا” وعند نطق النساء بازدياد للهمزة ارتبطت بالنعومة والأنوثة، بينما ارتبطت ال (ج) بالرجولة والقوة.

خاتمة

لهجة عمان المعقدة والغنية لا زالت تستقطب الكثير من الدارسين والباحثين بسبب حالتها الفريدة. إن اللهجة إرث لغوي قيم ولا يبدو سؤال كيف تتكلم سهلا الآن.

المصدر:

Al wer, E. Herin, B (2011) The lifecyrcle of Qaf in Jordan,language et societe n 138 -Dec

دورة حياة صوت ال (ق) في الأردن: قراءة في دراسة علمية

مقدمة

يُعدّ المهباش أحد أهم مقتنيات البيت الأردني في كافة المناطق الأردنيّة، وهو الأداة التي تُستخدم لطحن حبوب البُن بعد حمسها (تحميصها) استعدادًا لطبخها وتحضير القهوة الأردنيّة؛ التي لها مكانة مرموقة في قيم الضيافة الأردنيّة تتخطّى كونها مشروبًا للضيافة وترتبط بما حمّله الأردنيّون للقهوة تاريخيًا من المعاني والدلالات والقواعد التي تحكم إعدادها وتقديمها وشربها، حتى باتت القهوة الأردنية “مفتاح السلام والكلام” وميزانًا لتقدير المواقف ولغةً تختصر الكثير من الشرح والتوضيح لإيصال الكثير من الرسائل في الفرح والحزن والسّلم والحرب.

والمهباش هو كتلة خشبيّة أسطوانيّة الشّكل في ثلاثة أرباعها السفليّة وقطرها 30 سم، ومخروطيّة الشّكل في ربعها العلويّ الذي ينتهي بفتحة قطرها حوالي  8 إلى 10 سم، وتمتد هذه الفتحة في عمقها إلى داخل الكتلة الخشبيّة بما يساوي ثلثي ارتفاعها الذي يكون بمجمله حوالي 35 سم. وللمهباش يدٌ خشبيّة على شكل أسطوانة رفيعة قطرها أقل من قطر فوهة المهباش بما يسمح لها بالدخول إلى عمقه، وطولها حوالي 80 سم. ويُطلق على المهباش تسميات عدّة منها : الجرن، النجر، الهاون، المدق. أما يد المهباش فتُسمّى بالأردنية “إيد المهباش”، أو “إيد الجرن”.

التسمية

جميع تسميات المهباش الأخرى (الجرن، المدق، النجر، الهاون)؛ تفضي إلى معنىً واحدٍ وهو طحن وتفتيت الحبوب التي توضع بداخله لهذه الغاية. لكن تسمية مهباش؛ وهي لفظة تعني في اللغة النحوية (جَمَعَ)، وعليه فإن المهباش هو الوسيلة التي يُجمَع بها الناس وتتم دعوتهم من خلالها لأمرٍ ما، كما أن الرواية الشفوية تقول أن شيخ إحدى العشائر كان لديه خادمً اسمه مهباش، كلما أراد أن يجمع أفراد عشيرته أرسل مهباش لينادي بهم، وبعد موت مهباش استعان الشيخُ بأخيه، فلم يكن يجيدُ ما كان يقوم به أخوه، فأشار عليه الناس للضرب بالجُرن والاستعانة بها كوسيلة للفت انتباه الناس إلى بيت الشيخ ودعوتهم إليه، وحصل أن سُمّي الجرن آنذاك بالمهباش، تكريمًا وتخليدًا لمرسال الشيخ.

الاستخدامات

للمهباش عدة استعمالات نشأت وتطوّرت حسب الحاجة من عدمها وخضعت لتبدّلات وتغيّرات النمط الاقتصادي والاجتماعي في الأردن، وهي كما يلي :

الاستخدام النفعي : وهو الغرض الأساسي الذي استخدم الأردنيون من أجله المهباش، لطحن حبوب القهوة بعد حمسها بالمحماسة. ولهذه الغاية؛ اقتنى الأردنيون المهابيش في بيوتهم، وبنوعٍ خاصٍّ في المضافات وبيوت الشيوخ، ووضعوه في الزاوية المخصصة لإعداد القهوة، وتاريخيًا؛ فإن هذه المهمّة يقوم بها الرجال حصرًا لما فيها من مشقّة إشعال النار وطحن القهوة قبل طبخها وتقديمها للضيوف. ويُدعى الشخص الذي يقوم بإعداد القهوة “القهوجي” أو “الفداوي”، وهو بالضرورة يتقن دق المهباش بحرفية ومهارة عالية إلى جانب تميّزه بإعداد القهوة بالمقادير والمعايير الدقيقة التي يحرص الأردنيون على تطبيقها للوصول إلى أفضل نكهةٍ يمكن تقديمها للضيوف، وعلى الرّغم من أهميّة المهباش ومكانته إلا أن الفداوي الذي يتسبب بكسره خلال النجر يحصل على مكافأة خاصّة وهي عبارة عن رداء يُسمى “لبسة الجرن”، وذلك لأن كسره دليلٌ على كرم صاحب البيت الذي لا تنطفئ ناره ولا تهدأ مهابيش بيته عن طحن القهوة خلال تحضيرها المتواصل إكرامًا للضيوف.

الاستخدام الجمالي : ويُقصد به الموسيقى الايقاعيّة التي يُشكّلها ويرتجلها الفداوي خلال طحنه للقهوة بالمهباش، وهو سلوكٌ طوّره الإنسان الأردني على مرّ الزمن لتحويل العمل الروتيني (طحن القهوة يوميًا) إلى مساحة جماليّة يستخدم خلالها ضربات المهباش بالتعبير الجميل عن استمتاعه بإعداد القهوة للضيوف الذين لهم ولضيافتهم قدسية فائقة في الناموس الأردني.

الاستخدام الديكوري : مع تفوّق الماكينة الكهربائيّة وتطوّر المعدّات التي سارع الأردنيون لاستخدامها لتحضير القهوة في سياق تفاعلهم الإيجابي مع تطوّرات العصر وتمسّكهم بتقاليد ضيافة القهوة، لم يكونوا ليتخلّوا عن المهباش؛ فتحوّل الأخير إلى تحفة جماليّة يتم عرضها في المضافات على اعتبار أنها ترمز لهذه الأداة التي رافقت أجيال الأردنيين في حياتهم اليوميّة واهتمامهم بإكرام الضيف وحفاظهم على تقاليد القهوة الأردنية المتوارثة، فأصبح المهباش تحفة يتم تزيينها بالزخارف التراثيّة وترصيعها بالأحجار الكريمة وتلبسيها بالفضّة والذهب، كما أن المهابيش القديمة التي ورثها الأردنيّون في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين من أجدادهم المباشرين أصبحت تُعرَض كتحفة تذكارية وتاريخيّة بالنظر إلى عمرها وارتباطها بذكرى الجد أو الأب.

صناعة المهباش

تُصنع المهابيش من الخشب الخام الذي يؤخذ من جذوع الأشجار الحرجيّة، وتتباين أنواع الأخشاب بحسب التنوّع البيئي في الأردن مما يجعل لبعض أنواعها أفضليّة أكثر من غيرها نظرًا لجودتها ومزاياها التي تتناسب مع معايير صنع المهباش وكيفيّة استخدامه :

  • البطم : يُعتبر خشب البطم الذي ينمو في مناطق مختلفة في شمال وجنوب الأردن، أفضل الأنواع التي تُستخدم لصنع المهباش وذلك بسبب صلابة الطبقة السوداء التي في داخل الساق أو الجذع، وهذه الصلابة هي سرّ الصوت الرنّان الذي ينتج عن عملية الطرق. كما أن خشب البطم لا توجد فيه الكثير من الشقوق التي تسرّع من اختراقه بالسوس والحشرات، إلى جانب أنه يحتمل عمليات الزخرفة والحفر وقلّما يتأثّر بمتغيّرات الطقس من الحرارة والبرودة على مرّ الزمن.
  • البلّوط : يمتلك خشب البلوط المميزات التي تجعله من الأخشاب الشائعة في صناعة المهباش وغيره من الأدوات الخشبيّة، فهو منتشر بكثرة في الأردن، وقادر على أن يكون مثاليًا كالبطم كمادة خام لصناعة المهباش الذي يتم طحن القهوة به لمرّات عديدة في اليوم، ما يتطلب الصلابة وقدرة التحمّل كالتي يتمتّع بها خشب البلّوط.
  • الزان : يُعد خشب الزان من الأنواع ذات الجودة نظرًا لصلابته وعمره الطويل وقدرته العالية على تحمّل مختلف العوامل التي تؤدي بالعادة إلى تلف الخشب أو تكسّره، وهو خشب مقاوم للتسوّس.
  • الخرّوب : يتم استخدام خشب الخرّوب في صناعة المهباش كبديلٍ عن البطم في حال عدم توفّره، وتنمو أشجار الخرّوب في وسط وشمال الأردن، ويحتاج إلى سنة من التجفيف والتخزين ليصبح صالحًا لصناعة المهابيش منه، ويتميّز بلونه الأحمر ومقاومته النسبيّة لعوامل الطقس المختلفة والتشقّق.
  • السّدر : وهو خشب صلب لونه أحمر ويتواجد في مناطق مثل العقبة والأغوار.
  • السنديان : يُعتبر السنديان أقل صلابة من البطم، لذا فهو يُستخدم أكثر في صناعة يد المهباش على اعتبار أنه لا يؤذي المهباش خلال طحن القهوة بداخله، ويتمتّع خشب السنديان بمتانة تجعل منه أكثر ملائمة لاستخدامه في صناعة يد المهباش واحتمال تكرار الطرق والطحن.
  • المشمش : بالرغم من عيوب خشب المشمش المتمثّلة بسرعان تلفه وقابليّته للتسوّس والتشقّق، إلا أنه ذو منظرٍ جميلٍ وينتج عن استخدامه في صناعة المهباش تحسين نوعيّة صوت الطرق وجعله رنّانًا أكثر من خشب البطم.
  • الكينا : تنمو أشجار الكينا في مناطق مختلفة من الأردن، ويمتاز بطبقة حمراء بداخله وبمرونته التي تمنع تسوّسه وتشقّقه، وهو من أرخص أنواع الأخشاب نظرًا لخفّته وانعدام قوّته، واستعماله مقصور على الأغراض التجارية.
  • التوت : يعتبر خشب التوت من أكثر الخيارات التجاريّة رواجًا، لأنه خفيف وسريع الكسر، ولا يُستخدم في صناعة المهابيش المخصّصة لإعداد القهوة، وإنما لأغراض الزينة فقط.

تجدر الإشارة إلى تعرّض الثروة الحرجيّة في الأردن مطلع القرن العشرين إلى الكثير من الاعتداءات الهمجية التي قام بها جنود الاحتلال العثماني لصالح مد سكّة حديد القطار العسكريّ، وذلك بالضرورة ترك أثرًا سلبيًا على توفّر الأخشاب اللازمة للعديد من الصناعات ومن ضمنها المهباش، وهذا ربما ما يدلّ عليه لجوء بعض الأردنيين إلى استخدام بقايا ذخائر المدفعية ( الفشك والقنابل ) التي كان الاحتلال العثماني يُلقي بها على المدن والقرى الأردنيّة، وتحويلها إلى جرن حديدي كبديلٍ مؤقتٍ عن المهابيش، وهو ما يؤشر بالضرورة إلى سلوك الأردنيين في سرعة تكيّفهم مع صعوبة الظروف وحفاظهم على تقليد طحن القهوة حتى في ظل عدم توفّر الأدوات التقليديّة لهذه الغاية.

أجزاء المهباش

يتكوّن المهباش من قطعتين رئيسيتيّن لا يُلحق بهما غيرهما، هما : بدن المهباش (الجرن)، ويد المهباش (العصا أو إيد المهباش)، وفيما يلي وصفاً تفصيليًا للأجزاء الداخليّة لكل قطعة :

البدن

  1. قاع المهباش : وهي القاعدة ذات الشكل الدائري في أسفل البدن والتي توضع على الأرض.
  2. الطوق السفلي : حلقة دائريّة تعلو القاع.
  3. صحن المهباش : تجويف داخلي يُحفر في بدن المهباش من الجوانب، ولكل مهباش أربعة تجاويف لها أغراض جمالية إلى جانب أنها تساهم بالتخفيف من وزنه عند الحمل.
  4. عمود المهباش : توجد في بدن المهباش أربعة أعمدة تتباين في ارتفاعها من المهباش إلى الآخر بما يتناسب مع حجمه.
  5. الكرش : وهو الجزء النافر من وسط البدن، ووظيفته أنه يُعطي للمهباش شكله الكمّثري.
  6. الخصر : يوجد الخصر أعلى الكرش، ويعطي للبدن شكلاً جميلاً ويساهم بالتخفيف من وزنه.
  7. الطوق العلوي.
  8. الوجه : هي المساحة التي تفصل بين الطوق العلوي والفوهة أو الفتحة التي تدخل فيها يد المهباش.
  9. الفوهة : وهي فتحة المهباش، عبارة عن فتحة دائرية قطرها 7 سم، ومنها تدخل يد المهباش إلى الداخل لطحن حبوب القهوة.
  10. صفرة المهباش : تُضاف رقائق الألمنيوم أو النحاس، أو الفضّة والذهب في بعض الحالات الترفيّة، تُحفر عليها الزخارف للزينة.
أنواع الزخارف التي تُنقش على المهباش

11. يد المهباش : وهي العصا الخشبية التي تُستخدم لطحن الحبوب التي توضع داخل تجويف البدن، وتجدر الإشارة إلى أن يد المهباش لا تُصنع عادة من نفس الخشب الذي يُصنع منه البدن وذلك كي لا يؤثر ذلك على قاعدة المهباش بفعل تكرار الطرق وشدّته، لذا يُفضّل أن تُصنع من خشب خفيف وليّن وأقل جودة من خشب البدن، حتى وإن أدّى ذلك لتلف اليد بشكلٍ أسرعٍ؛ فإن صناعة اليد أقل كلفةً وجهدًا من صناعة البدن نفسه. ومكوّنات يد المهباش هي :

  1. المدقّة : وهي المسافة التي أسفل عصا المهباش بطول 25 إلى 30 سم، وهي الجزء من اليد الذي يدخل بالكامل إلى فوهة المهباش ويقوم بسحق وطحن حبوب القهوة.
  2. الجوزتان السفليّة والعلويّة : وتكون المسافة بينهما بما يعادل قبضة اليد التي تُمسك العصا، ووظيفة الجوزتان هي منع يد الإنسان من التحرّك للأسفل والأعلى خلال عمليّة الطحن. وعليه فيمكن القول أن المنطقة التي بين الجوزتين هي ممسك يد المهباش.
  3. الأسوارتان السفليّة والعلويّة : وما بينهما كرشة اليد لحفظ توازن الشخص الذي يدق، ولها وظيفة جماليّة.
  4. القمبور : شكل أسطواني في أعلى يد المهباش.

المهباش، فلسفة وموسيقى

طوّر الإنسان الأردني عبر السنين روتين تحضير القهوة وطحنها بالمهباش، إلى موسيقى إيقاعيّة خالصة، ومع مرور الوقت، أصبح “دقّ القهوة بالمهباش” مساحة يوميّة من الإبداع الجمالي وبث الأصوات الإيقاعيّة في فضاء المكان الأردني الهادئ والمفتوح، دائمًا، للضيوف والتعاليل على أنغام الربابة وغناء السّامر والهجيني.

يُشكِّلُ الإيقاع، إلى جانب اللحن، العنصرين الأساسيّين التي تعتمد عليها الموسيقى بالمجمل، وحين ننظر إلى الإيقاعات التي تصدر من المهباش والتي إن أمعنّا فيها السّمع بصفة التّحليل والتأمل نجد أنّها إعادة تدوير عفويّ لنبض “مطاردة الخيل” في بعض الأحيان، نجدها نظامًا إيقاعيًا متكامل الأصوات، وعلى اعتبار أن الألحان تتكوّن من مزيج يخلط بين الصوت والصّمت، فإن صمت البوادي والأرياف الأردنيّة في الزّمان، مع أصوات غليان السوائل في الدلال، إلى جانب البيئة الصوتيّة المزدحمة بعبارات الترحيب ونبرة الأنس والموالفة بين الناس الذين تجمعهم المودّة؛ كلّها تشكّل مع إيقاعات المهباش موسيقى من نوعٍ خاصٍ، لها سحرها ووقعها وفلسفتها الخاصّة التي تعبّر عن ذروة من ذرى الارتياح السلوكيّ والذي يؤشّر على النزعة نحو أزلية التجذّر المتأتّية من إدراك هذا الإنسان الأردني للتراكم الحضاريّ الذي يشعر به ولم يقرؤه في كتبٍ عن التاريخ، وإنما يجده في فطرته السليمة.

والمهباش كآلة موسيقيّة، هو صوت النداء الجميل والإعلان مساحة الضيافة المفتوحة للجميع، وهي مساحة ثابتة وهامّة في كل بيت أردنيّ، وتجدر الإشارة إلى أن المهباش يعكس صورة من صور التعبير الفردي عن الجمال في الأردن، لذا فإن الناس يميّزون أسلوب دقّاقي المهابيش عن بعضهم البعض، خصوصًا أولئك المحترفين في تنويع الإيقاعات وزخرفتها، ويُعتبر الذين يُعرف عزفهم بالمهارة التي تخلو من الخطأ وخصوصًا التي تشتمل على حركات جريئة ودقيقة جدًا، بمثابة فنّاني استعراض يقدّمون عروضهم الممتعة يوميًا خلال تحضير القهوة.

عندما نستعرض مكوّنات المهباش كآلة موسيقيّة، فإنه ومن المثير للإعجاب، أن القهوة تعتبر إحدى مكوّناتها إلى جانب بدن المهباش ويده، وذلك يُعزى إلى أن المهباش لا يُدَق بغير حبوب القهوة المحموسة أو لغير هذه الغاية، كما أن القهوة هي التي تعطي المهباش الطابع الصوتي الخاص به وتميّزه. لذا وكنتيجة؛ يمكننا القول أن مكوّنات المهباش كآلة موسيقية هي : بدن المهباش، يده، والقهوة.

اهتم الفنانون الأردنيّون بصوت المهباش، فاستخدموه رمزًا للموسيقى الشعبيّة كمؤثرٍ صوتيٍّ في العديد من الأعمال الفنيّة، على رأسها سيمفونيّة بترا التي كتبها المؤلف الأردني المايسترو هيثم سكّريّة مطلع القرن الواحد والعشرين، واستخدم فيها المهباش كآلة موسيقيّة، وكانت هذه المرّة الأولى التي ترافق فيها آلةٌ موسيقيّة شعبيّة الأوركسترا السّيمفوني في عملٍ فنّي ذي طابعٍ عالميّ.

المراجع

  • طبازة، خليل، دراسة ميدانيّة لحرفة صناعة (المهباش) التقليدي الأردني، 1997، مجلّة البلقاء، العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، المجلّد (7)، العدد 1، 2000، البلقاء، الأردن.
  • سليمان، وليد، لنشرب القهوة المرّة، 2017، جريدة الرأي، عمّان، الأردن.
  • المهباش، الموقع الإلكتروني لمديرية التراث غير المادي، وزارة الثقافة، عمّان، الأردن.
  • بحث آداب القهوة، موقع إرث الأردن.

المهباش

مقدمة

تقدم مؤسسة إرث الأردن سلسلتها البحثية الجديدة المتعلقة بالإرث الغذائي والإنتاجي الأردني تزامناً مع افتتاح مطعم إرث الأردن والذي جاء ليتوّج جهود خمس سنوات من العمل والزيارات الميدانية لمختلف المناطق الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية المصنوعة من منتجات محلية، وطرق إعدادها الأصلية كما عكفت على ذلك الجدّات والسيدات الأردنيات لسنين طويلة، بشكل يضمن استدامة هذا الإرث والحفاظ عليه، من خلال حرص المؤسسة على الحصول على المنتجات من السيدات الأردنيات اللاتي ما زلن يحافظن على أصالة هذه الأطباق ويقمن بإنتاج المواد اللازمة لذلك منزلياً في تسع محافظات أردنية، تتناول هذه السلسلة البحثية كافة تفاصيل المطبخ الأردني، وما يلتصق بعملية إعداد وتناول الطعام من أبجديات الضيافة وطقوس اجتماعية تمتد لتاريخ طويل من الإسهام في الإرث الغذائي الإنساني الممتد لأكثر من أربعة عشرة ألف سنة  وهو تاريخ أقدم بقايا خبز تم العثور عليها في العالم على الأرض الأردنية.

تمهيد

يعتبر المنسف سيد المائدة الأردنية والحاضر الأول في كل الطقوس والمناسبات الاجتماعية، ويرتبط المنسف بالعديد من الطقوس والدلالات والمعاني، فإلى جانب الدلالات على كونه من أقدم الأطباق التي عرفتها التجمعات الإنسانية في المنطقة والتي ارتبطت بالمناسبات الاجتماعية وتقاسم الطعام وتشارك الموارد والأكل من نفس الطبق، فهو يعكس أيضاً بنية المجتمع الأردني التي تبرز فيها قيم الأرض والإنتاجية من خلال تمازج المكونات والمنتجات الزراعية والرعوية، فالمنسف لا يمكن أن يكون طبقا صحراويا، فالقمح والأرز لا ينبت في الصحراء بالحد الذي يجعل منه جزءاً أساسياً من الغذاء اليومي للبدوي، ولا المزارع المتفرغ لعملية الزراعة في حقوله وبساتينه قادر بسهولة على تأمين لحم الضأن ولبنها، لكن عندما تلتقي نكهة صحراءنا وجميدها مع حبوب سهلنا وصنوبر ولوز جبلنا فيسيل اللبن نهراً خالداً يروي قصة الكرم الأردني الذي لا يجف والتاريخ المستمر من الوجود الإنساني الذي لم ينقطع على الأرض الأردنية.

تاريخ المنسف . . . حكاية نصر ومجد

تشير الرواية الشعبية المتداولة حول المنسف بالاسم الحالي إلى ما قبل نحو 3200 عام، خلال فترة المملكة الأردنية المؤابية على وجه التحديد حين نجح الملك الأردني ميشع في تحميل الغذاء مضامين سياسية واستخدمه كوسيلة للاستفتاء الديمقراطي ليتمكن بحكمة القائد الذكي من معرفة مدى استعداد الرأي العام والرضا الشعبي لخوض معركة مصيرية ضد خصومهم التاريخيين بني إسرائيل في مملكة يهوذا على جزء من أراضي غرب نهر الأردن (الأراضي الفلسطينية المحتلة)، والذين كانوا في حالة حرب وعداء دائم مع الأردنيين المؤابيين، وكانت عقيدتهم تحرّم طهو اللحم باللبن فبحسب التوراة  وفي سفر الخروج الإصحاح (23) تقول آية (19): :أَوَّلَ أَبْكَارِ أَرْضِكَ تُحْضِرُهُ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ. لاَ تَطْبُخْ جَدْيًا بِلَبَنِ أُمِّهِ.” ، وكانت العلاقات الأردنية المؤابية مع الجار السيء تمر بفترات من الشد والرخاء كما هي السياسة  في كل مكان فبعد سنوات من الحرب والدماء والتضحيات، كانت تمر فترات من الهدنة والمعاهدات، وخلال احدى تلك الفترات اكتشف الأردنيون المؤابيون نوايا بني إسرائيل للغدر والانقضاض على المملكة الأردنية المؤابية ، فما كان من الملك الأردني ميشع حين وصل الخبر الى مسامعه إلا الإعداد لحرب استباقية.

الكرك 1900 – مدخل مدينة الكرك عبر نفق يؤدي إلى القلعة وسورها الممتد حول المدينة وهو نفق يعتقد بأنه يعود لحقبة المملكة الأردنية المؤابية

 لكن هذه الحرب كانت تتطلب استعداد الجميع وموافقتهم وبالتالي التضحية من الجميع والاستعداد لتحمّل النتائج وأولهم الملك الأردني ميشع نفسه الذي ضحّى بأحد أبناءه على أبواب قلعة مؤاب التاريخية في الكرك، فأمر الشعب بطهو اللحم باللبن وفي ذلك نسف لعقيدة بني إسرائيل، فتم ذلك وأرسل أعينه بين الناس وتأكد أن الجميع مستعد للمعركة المصيرية، وكان الانتصار المخلّد حتى يومنا هذا في مسلّة ميشع الحجرية المحفوظة في متحف اللوفر والذي دوّن فيها الملك الأردني المؤابي ميشع انتصاره على بني إسرائيل بقيادة ملكهم “عمري” ، وكتبت باللغة المؤابية القديمة، وجاء فيها ما يلي وفقاً لترجمة النقش كما وردت عند الدكتور يحيى العبابنة في كتابة اللغة المؤابية في نقش ميشع:

مسلة الملك الأردني المؤابي ميشع الموجودة حالياً في متحف اللوفر في باريس وهناك جهود متواصلة لاستعادتها

” أنا ميشع بن كموش ملك مؤاب الدبياني ، أبي ملك على مؤاب ثلاثين سنة، أنا ملكت بعد أبي، وأنشأت هذا المكان المرتفع نصب لكموش “إله المؤابيين” بقرحة ، لأنه أعانني على كل الملوك ، ولأنه أراني في أعدائي (أتاح لي فرصة التغلب على أعدائي) ، أما عمري ملك إسرائيل فانه عذب مؤاب أياما كثيرة ، حتى غضب كموش على أرضه ، فأعقبه ابنه وقال سأعذب مؤاب في أيامي ، قال :فنظرت إليه وإلى بيته ، وإسرائيل باد باد إلى الأبد (ضربتهم ضربه قاضية ) ورث عمري كل أرض مهدبا ، وسكن بها في أيامه ، ونصف أيام ابنة أربعين سنة ، وأرجعها كموش في أيامي ، فبنيت بعل معان ، أنشأت بها اشوح (بركة ) ، وبنيت قريتان وكان آهل جاد (من بني إسرائيل ) يسكنون في أرض عطرت (مدينه) من زمن بعيد ، فعمر ملك إسرائيل عطرت ، فحاربت المدينة أخذتها (فتحتها) وقتلت كل آهل المدينة ، فقرت عين كموش ومؤاب ، ورددت من هناك هيكل دوده، وسحبته أمام كموش بقريت (اسم مدينة ) وأسكنت آهل شران وأهل محرت ، فقال لي كموش اذهب وخذ نبه (اسم جبل) من بني إسرائيل ، فسرت بالليل ، وحاربت بها من مطلع الفجر إلى الظهر ، وأخذتها ، وقتلت جميعهم وهم سبعة آلاف رجل وامرأه وجارية ، وأحرمتهم (قدمتهم قربان) لعشتر كموش ، وأخذت من ذلك المكان يهوه وآتيت بها إلى كموش ، وملك إسرائيل عمر يهص (اسم مدينة ) وسكن بها وهو يحاربني ، فطرده كموش من أمامي ، وأخذت من مؤاب مائتي رجل من عظمائهم ، وسيرتهم إلى يهص وأخذتها (فتحتها) فضمتها إلى ديبان ، وأنا بنيت قرحة وحمت هيعرن ، وحمت هعوفل (أسماء ثلاث مدن ) فبنيت أبوابها وبنيت أبراجها ، وأنا بنيت بيت الملك ، وأنشأت البركتين بقرب المدينة ، ولم توجد بئر في داخل قرحه ، فقلت لشعب: اجعلوا لكم آباراً في بيوتكم ، وأنا قطعت الأشجار على أيدي الأسرى من بني إسرائيل ، وأنا بنيت عراعر (مدينه ) وأنا مهدت الطريق إلى أرنن (وادي الموجب كان قديماًً يسمى نهر أرنن أو نهر أرنون) ، وأنا بنيت الأنصاب ، لأنه كان (تخرب) ، وبنيت بصرى (مدينه )لأنها كانت خرابا ديبان خمسين ، لأن ديبان خضعت لي وأنا حكمت وأنا بنيت الأنصاب ، لأنه كان (تخرب ) ، وبنيت بصرى (مدينه ) لأنها كانت خرابا  مائة المدن إلى ضمتها إلى الملكة …وانا بنيت مهدبا وبيت دبلتان وبنيت بعل معان ، وسيرت إليها ..غنم البلاد وحورنان (مدينه )  وأسكنت و.. فقال لي كموش انزل لتقابل كموش، فنزلت.. كموش في زمن و.. من ثم ..وأنا.. “

وادي الموجب 1900 نهاية القرن التاسع عشر شمال الكرك وعرف بنهر أرنون وقد تم ذكره في مسلة ميشع

ومن هنا كانت إحدى العوامل التي ربطت المنسف بالمجد والنصر والفخر في تاريخ الأردنيين الناصع بالتضحية والاستبسال في رد المطامع والاعتداءات والحفاظ على سيادتهم الوطنية في وجه أعتى الممالك والإمبراطوريات بما فيها الإمبراطورية الرومانية التي منحت الأردنيين حكمهم الذاتي رغم امتدادها الشاسع.

أدلة فخارية: المنسف الأردني طبق تاريخي جماعي عمره 7000 عام على الأقل

كان ما تقدم جزءاً من السردية الشعبية الأردنية المتداولة حول المنسف والمدعومة بنصوص دينية، لكن من وجهة نظر علمية نجد أن الأدلة الأثرية والدراسات الإثنو-أثرية لا تنفي ذلك بل تؤكده وتزيد عليه بأن جذور المنسف أقدم من ذلك التاريخ وتمتد لتصل الى 5000-6500 ق.م (أي قبل أكثر من 7000 سنة من الآن على الأقل)، وذلك مع ازدهار المجتمعات الزراعية على الأرض الأردنية والتي تعتبر عين غزال في عمان الشرقية أولها وأقدمها عالمياً.

ووفقاً لدراسة إثنو-أثرية أعدّها الأستاذ في علم الآثار أ.د زيدان الكفافي والتي استندت على عدة دراسات وتقارير عن فحوصات الكربون المشع المعاير، تشير النتائج أن الأواني الفخارية والمكوّنة من أطباق كبيرة الحجم والتي ظهرت لأول مرة في المنطقة الأردنية تعود لفترة العصر الحجري الحديث الفخّاري نحو 6000-6500 قبل الميلاد، حيث تتجاوز أقطار الأطباق أكثر من 30 سم، وهو ما يعني أن المجتمعات الأردنية الزراعية القديمة عرفت الأكل الجماعي واستخدمت أطباق تتسع لكميات من الطعام الكافي لأكثر من شخص يأكلون من نفس الطبق في ذات الوقت، وفي الدراسات الإثنو-أثرية يتم الاستناد لمثل هذه الأدلة في تحليل السلوكيات الاقتصادية والاجتماعية للحضارات والجماعات التي صنعت هذه الأدوات واستخدمتها في حياتها اليومية ومناسباتها الاجتماعية وطقوسها الدينية، وبمقارنة الأواني الفخارية الواسعة التي تم اكتشافها بكثرة في مناطق خربة الزريقون شمالاً وتل أبو الخرز في وادي الأردن نرى أنها تشبه إلى حد كبير طبق تقديم “سدر” المستخدم حالياً، وتشبه إلى حد أكبر النسخة الأقدم والأكبر من سدر المنسف الذي كان مستخدماً خلال القرن الماضي وما سبقه.

نماذج الأطباق التي تم العثور عليها في موقع عين غزال شرق عمان والتي تعتبر الأقدم من نوعها بهذا الحجم على مستوى العالم
نماذج من الأطباق التي تم العثور عليها في موقع تل أبو الخرز في الأغوار الأردنية والتي تؤرخ لـ 5000 ق.م

وكما هو معلوم يجب تقديم وجبة المنسف في طبق دائري كبير يسمح بتناول عدة أشخاص للطعام في نفس الوقت وتؤكد الدراسة أن هذا الوعاء صُنع لأول مرة في المنطقة خلال فترة العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري ب (حوالي 7200 – 6500 ق.م.) حيث تم إثباته في المواقع المذكورة، وفي دراسة إثنو-أثرية سابقة للدكتور زيدان عن عين غزال تم نشرها عام 1986، يتأكد أنه وخلال الفترة نفسها تم تدجين الماعز والأغنام والخيل في موقع عين غزال، وكانت نسبة 71٪ من العظام المكتشفة هناك تعود إلى حيوانات مدجّنة ومستأنسة، وتمثل عظام الماعز 95٪ من اجمالي ما تم العثور عليه من عظام الحيوانات، وهذا يعني أن السكان كان لديهم فائض من هذا الحيوان “الماعز” في ذلك الوقت بالشكل الذي يسمح لهم باستخدامه كمصدر للغذاء، حيث لم يكن يؤذ اقتصادهم أن يقوموا باستهلاكه إذا تم ذبح بعض منها في مناسبات خاصة. وبعبارة أخرى، يمكن القول إن أوائل من قاموا بتحضير وجبة المنسف كانوا أولئك الذين يستطيعون صنع مثل هذا القدر الكبير، وهم الأردنيين القدماء الذين جمعوا ما بين الفلاحة والبداوة في آن واحد (مزارعي حبوب ومربي ضأن وماعز) وهنالك، بالطبع، انزياحات بدوية (يربون الإبل أيضاً. وهو ما يسمح لهم بمساحة تحرّك أوسع) وفلاحية (يزرعون البساتين والخضروات ويربون البقر والدجاج أيضاً كما، تحديداً، في الشمال الأكثر اقتراباً من عالم الفلاحين) ولكن الجدير بالملاحظة أنه لا يوجد دليل حتى الآن على وجود مثل هذه الأواني الكبيرة في المناطق الصحراوية، حيث يستخدم البدو من سكان هذه المناطق لحم الجمل بشكل أكبر في مناسباتهم وذلك بعد طهوه بالماء ويكون بذلك طبق الثريد المختلف عن المنسف، لأن لحم الجمل إذا تم طهوه باللبن يشد ويقسو ويصبح من غير المستساغ أكله.

عمان 1936 – الولائم التي اعدت لضيافة الأمير سعود – الملك لاحقا – ولي عهد المملكة العربية السعودية آنذاك أثناء زيارته إلى الأردن

مراسم تحضير وتقديم المنسف

يترافق تحضير المنسف مع أجواء خاصة، فالمنسف هو سيد المائدة كما ذكرنا ويندر أن يقدم لجانبه طبق آخر في نفس التوقيت، ويتشارك الجميع متعة تحضيره، فيتولى الرجال مهمة ذبح الأغنام أو الماعز وتقطيعها وطهوها في حين تقوم النساء بالعجن والخبز وتحضير الأرز، ويعتبر المنسف أداة للتعبير عن الشعور، فهو حاضر في المناسبات السعيدة والحزينة، ففي الفرح يقدم المنسف ويعتليه رأس مرفوع الرأس للأعلى وفي العزاء يكون الرأس منكس للأسفل تعبيرا عن حالة الحزن، وحين يقدم للضيف يترافق ذلك مع أجواء من البهجة والترحيب، وحين تطبخه الأسرة يكون ذلك في يوم الجمعة وهو نهاية الأسبوع ويوم اجتماع العائلة، حيث يندر فعلاً أن يتم تناول المنسف بشكل فردي باستثناء بعض المطاعم الحديثة اليوم، وفي المناسبات الاجتماعية الكبرى درجت العادة أن تقوم العائلات الأردنية باختيار أكثر أفرادها خبرة لإدارة عملية تحضير المنسف أو استئجار أمهر الطهاة المختصين بالذبح وإعداد المنسف من المشهود لهم بالخبرة والكفاءة في الجودة والمذاق، وفي الأفراح تحديدا تقدم المناسف ترافقها الأهازيج الشعبية .

عمان 1935 – تحضير المناسف لتقديم الولائم بمناسبة زفاف الأمير طلال – الملك لاحقا

تقنيات التعامل مع المنسف كطعام للضيافة

ومن التقنيات والقواعد التي يجب الإحاطة بها والانتباه لها عند دعوتك لتناول طعام المنسف ما يلي:

  • يقدم المنسف في سدر دائري مفتوح كدلالة على المشاركة والمساواة، ويوضع تحته خبز الشراك الرقيق ثم الأرز أو البرغل، ويكلل بقطع اللحم ومن ثم يغطىّ بأرغفة خبز الشراك من الأعلى، ويقدم اللبن جانباً.
  • يؤكل بأصابع ثلاثة من اليد اليمنى (الإبهام والسبابة والوسطى) أو بأصابع اليَد كلها ويُعاب أن يصل الطعام إلى بطن اليد أو ظهرها، وفي وضع انتصاب القامة ” وقوفاً “، ويفضّل وضع اليد اليسرى الى الخلف.
  • يبدأ تناول المنسف بعملية ” الفجولة ” وهي بضع حركات لتحريك الغماس سواء كان من الجريش أو الأرز، ليتشرّب اللبن ويتمازج معه ويبرد قليلاً.
  • يتم سحب كمية بسيطة من الغماس باستخدام طرف الأصابع وبعض من الآدام (خبز الشراك) وصناعة كرة صغيرة من الأرز والخبز واللحم، ويتم دفعها بأصابع اليد لتدخل في جوف الفم، دون أن تلمس الأصابع الشفاه.
  • يتولى المعزّب مهمة استدامة تشريب (سكب) لبن المنسف للضيوف بناء على رغبتهم وبعد سؤالهم.
  • يُراعى أثناء تناول الطعام الحفاظ على جودته ونظافته ووفرته، حيث يؤكل المنسف على طورات (جولات أو مجموعات) متتالية من الآكلين، وهي عادة درجت قديماً يتم تشارك الطبق “السدر” الواحد من عدة مجموعات، في المناسبات الاجتماعية ذات الحضور الواسع، تعرف المجموعة الواحدة من الآكلين بـ “الطور أو الطورة”.
  • يوضع رأس الذبيحة مطهواً على المنسف في وضع الإعلان عن المناسبة، فيكون مرفوعاً لأعلى في الأفراح (قِرى العرس)، ومعكوفاً للأسفل في الأتراح (العزاء).
  • من المعيب عموما على الضيف أن يمس رأس الذبيحة، ومن المتعارف عليه أن يتولى هذه المهمّة المعزب أو كبير القوم، نظراُ للدلالة الرمزية للرأس، كما يعتبر قطع لسان الذبيحة وتقديمه للضيف نوعاً من التوجيب له، ولذلك دلالة رمزية أحياناً حينما يقدم اللسان لشاعر أو خطيب مشهود له بالفصاحة، كذلك لا ينبغي أن تُمد يد الآكل إلى اللحم في أعلى سدر المنسف أو اللحم عند جاره، لكن الرجل الكريم هو الذي يقطع اللحم من أمامه ويدفنه تحت الجريش ( مشتقات القمح المطهو ) أو الأرز، ليجد الآكل اللاحق – الطورة – شيئاً يأكله، أو أنه يعطي اللحم لمن هو خلفه من المنتظرين في الطورات التالية ومن الأمثلة الأردنية الدارجة عن هذه الحالة ؛ المثل القائل : ( اقعد خلف الرجال، وشوف ويش يمدّولك ) .
  • يعاب على الضيف إذا بان قاع الطبق ( بطن السدر ) لما فيه من دلالة على جشع الضيف، بل يستخدم الآدام (ما يغمس به من خبز الشراك)، ولا تغمس اللقمة كاملة بالخبز، بل طرفها فقط، ولذلك يعتبر في قانون الضيافة الأردني أن نقص الخبز عار على المعزّب، بينما نقص الغماس عارٌ على الضيف.
  • من دلالات كرم المعزّب تشريب ( سكب ) السّمن الذائب ( السّمنة السائلة ) أمام الضيف إضافة إلى عدد جيّد من أرغفة خبز الشراك، ومن زيادة كرم المعزّب عند بعض العشائر الأردنية وضع الزُّبد ( الزبدة ) أمام الضيف، وذلك لأن هذه المواد الثلاثة هي مونة أبناء العشائر الأردنية – تحديدا القبائل البدوية – لما تمثله من رمزية لأمنهم الغذائي.
مادبا 1937 – ضيوف في ضيافة الشيخ مثقال الفايز بني صخر يتناولون طعام الغداء

ومن محظورات أكل الطعام عموما والمنسف تحديدا:

  • اللهمطة: السرعة وعدم التركيز
  • الفغم: أكل الخضار بصوت مرتفع
  • اللغ: سكب اللبن بسرعة ولهوجة
  • الفنش: التغميس بلا أدب
  • اللشوطة: التعجّل على الأكل الحار (الساخن)
  • اللش: كثرة الأكل
  • مسح اليد بطرف الطبق
  • إعادة اللقمة أو بعضها بعد أخذها
  • إعابة الطعام بعد تناوله سواءً بحضور المعزّب أو غيابه؛ يقول المثل الأردني : ( الزاد ما يتفتّش ) أي لا يصح ذكر تفاصيله وعيوبه؛ ومن أجل ذلك يقول المعزّب ( كُل من حلالها وأترك حرامها ) كناية عن حُرمة إعابة الطعام.

للمزيد عن قواعد وأبجديات وآداب الضيافة والطعام عند الأردنيين أنقر هنا .

فرصة للتذوق

يمكنكم الاستمتاع بتجربة منسف العيش الأردني – أحد الأشكال الأكثر قدما للمنسف – بطعمه المميز وبطريقة تحضيره الأصلية في مطعم إرث الأردن، والذي تم افتتاحه مؤخراً بعد رحلة بحثية استمرت لأكثر من 4 سنوات في المطبخ الأردني والهوية الغائية تم جمع أكثر من 63 طبق متنوع من مختلف المحافظات الأردنية ويتم إعدادها بمنتجات بيتية من 9 محافظات وعلى يد أمهر الطهاة من أبناء هذه المناطق.

المراجع:

  • حتّر، ناهض ، أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان: الأردن
  • بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة، مؤسسة أهلنا للعمل الاجتماعي والثقافي. عمان: الأردن
  • خريسات، محمد عبد القادر (2012) المسيحيون في قضاء السلط، عمان، الأردن
  • عبابنة، يحيى. (26-5-2009)، مقال منشور في صحيفة الدستور الأردنية بعنوان ” مسلّة ميشع الحجر المؤابي نقشُ الكرامة لملكٍ حرّر أرضه من الاحتلال
  • الزعبي، عبد الناصر (17-6-2013) مقال في موقع جراسا بعنوان: ” طهي المنسف الأردني.. معاداة سافرة لليهود”
  • Kafafi, Zeidan (2014)Sharing Food Eating from One Plate: An Ethno-Archaeological Study, Adumatu.
  • العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.

دراسة إثنو-أثرية: الأردنيين القدماء تناولوا المنسف قبل أكثر من 7 الآف عام

تغني النساء البدويات التهويدات لأطفالهن  ليناموا وقد يحكين أيضا بعض القصص. وهنا، سنسرد بعض القصص التي حكتها جدة المؤلفة غزوة العون  لها وهي طفلة ترجمتها إرث الأردن عن كتابها الصادر باللغة الإنجليزية “جمال جدتي البدوية”.

نصيحة أبوية من أب لابنه

نائما في خيمته، يعطي الأب الذي يعرف أن أجله قد اقترب ابنه ثابت ثلاثة نصائح: “لا تخبر سرك لامرأة، لا تكن جارا لشيخ القبيلة ولا تزوج أختيك لرجل غني”

وخلال سنة، توفي والد ثابت. لم يصغ الابن لنصيحة والده. زوّج واحدة من أخواته لرجل غني والأخرى من رجل فقير. وبعدها انتقل ليعيش بجانب الشيخ.

لاحظ ثابت أن الشيخ يمتلك نعامة. لم يكن مقتنعا بنصيحة والده بألا يجاور الشيخ، لذا سرق الطير وأعطاه لأمه لأنها كانت فقيرة ولا تملك طعاما. أخبر والدته بقوة دهن النعام على الشفاء من الأمراض وأكد عليها بأن لا تخبر أي أحد. لقد وثق بها بألا تفشي السر.

اكتشف الشيخ بأن نعامته قد سرقت، فقصد عرافة لتخبره من سرق النعامة. كانت العرافة ذكية للغاية فأخبرت الشيخ بأن ابنها مريض جدا ويحتاج دهن النعامة كي يشفى. سألت العرافة الجوار إن كان هنالك من يملك دهن النعامة وعرفت أن والدة ثابت تمتلك بعضا منه. وهكذا عرف الجميع بأن ثابت هو من سرق النعامة وأعطاها لوالدته.

رجل بدوي وجمله

حبس الشيخ والدة ثابت وقال أنها مدينة بعشرة جمال جزاء النعامة المسروقة. صاح الشيخ في ثابت وأخبره بأنه سيقتل أمه إن لم يسترد النعامة، حزن ثابت كثيرا وعندها أدرك مغزى نصيحة والده وأن تلك النصيحة كانت صادقة.

استطاع ثابت التفكير في خطة لإنقاذ أمه. أخذ واحدا من جماله وحلق وبره وصب عليه زيتا ليبدو مريضا وبهذا قد يشفق عليه أصدقاؤه والعائلة. ذهب ليزور شقيقته التي تزوجت رجلا غنيا. أما  الرجل الغني فقد صرخ في ثابت بعدما رأى جمله المريض وقال بأن عليه الذهاب وإبعاد جمله المريض كي لا يعدي باقي جماله السليمة. عاد ثابت إلى الخيمة دون جمله وأخبر الرجل الغني بما حصل وسأله المساعدة. فلم يعطه الرجل سوى ماعز نحيلة. جر ثابت  الماعز النحيلة والجمل “المريض” وقصد خيمة أخته الأخرى التي تزوجت رجلا فقيرا. في تلك الأثناء أبقى ثابت جمله بعيدا عن جمال قبيلة الرجل الفقير. وعندها سأل الرجل الفقير ثابت لم يبقي جمله بعيدا، طالبا منه أن يقرب الجمل. وعلى الرغم من فقره، كان الرجل كريما للغاية ولم يخف من أن يعدي الجمل “المريض” باقي الجمال. أخبر ثابت الرجل بقصته كلها. قال الرجل بأنه فقير ولكن قبيلته غنية، وستساعده على الحصول على عشرة جمال.

صورة تخيلية لبيوت شعر بدوية أردنية

وأخيرا عاد ثابت للشيخ ومعه عشرة جمال وماعز نحيلة. تفاجأ الشيخ وشعر بالإحراج، لذا أخذ العشرة جمال وأطلق سراح والدة ثابت. وضع ثابت حملين من القمح على رقبة الماعز النحيلة وأعادها لصهره الغني كرد للجميل. ومن ثم أعاد كل الجمال للرجل الفقير وعشيرته وقرر أن يقنع أخته بأن تطلق زوجها الغني. رحل ثابت مع أخته وأمه إلى مكان جديد، ليحظوا ببداية جديدة، كان سعيدا  لأنه عرف بأن نصائح والده الثلاثة كانت صحيحة.

الفتى المعجزة

كان البدو قديما، كباقي المسلمين، يشاركون الحج إلى مكة المكرمة. يسافرون في جماعات على ظهور الجمال في رحلة قد تستغرق ستة أشهر.

وفي سنة من السنين، قرر زوجان قد تزوجا حديثا الذهاب معا. كانت المرأة حاملا ولكنها لم تخبر زوجها أو أهلها بذلك خوفا من أن يمنعوها من الذهاب في تلك الرحلة الطويلة.

كانت المجموعة كريمة وقد عملوا معا بتعاون. وفي أحد الأيام، بدأت المرأة تشعر بآلام المخاض. نادت زوجها وأخبرته بأنها ستلد. تفاجأ كثيرا لأنه لم يعرف أصلا أنها كانت حاملا. ولمشاركتها في الحج، كانت ترتدي ثوبا أبيضا. أخذها زوجها بعيدا عن الآخرين وأنجبت طفلها أخيرا. ولكن ولادتها كانت متعسرة وأليمة لهذا فارقت الحياة. بكى الأب لأنه لم يعرف كيف سيطعم ابنه الرضيع. فوضع ابنه ف القبر الذي حفره لزوجته ظانا بأن الطفل سيموت لا محالة في هذه الرحلة الطويلة دون والدته. عندما عاد للجماعة سألوه عن زوجته. فكذب الرجل عليهم كي لا يفسد الرحلة عليهم.

أكملت الجماعة مراسم الحج وبدأت تتجهز للعودة. وعندما مروا من قريبا من المكان الذي دفن فيه زوجته، لاحظ الرجل دخانا يصعد من المنطقة وفهم أن تلك إشارة أن القبر قريب. لم يشك أي أحد بأن الزوجة كانت قد توفيت.

 وبينما كان الجميع يتناول العشاء، تسلل سرا إلى القبر. قصد القبر مع شيء من تخوف وفضول، ورأى جسد زوجته مغطى بشكل جزئي في القبر. والمعجزة كانت أن ابنه كان مسجى بجانب الزوجة الميتة، كان على قيد الحياة يرضع من  والدته. أخذ الأب طفله وعاد إلى الجماعة. وسألوه عن هذا الطفل الحديث الذي كان متسخا. نظفت واحدة من نساء المجموعة الطفل وأخبرهم هو قصة زوجته وكيف أنه دفنها ووضع الطفل بجانبها ولكنه بقي على قيد الحياة.

ألبس الأب طفله قلادة كي تحميه من الشرور. وكبر الطفل وعاش هو ووالده حياة سعيدة.

قصة الثوب

في الماضي كانت بنات العائلات البدوية الغنية يمنحن كثيرا من الأشياء عندما يتزوجن، كن يحصلن على العبيد الذين غالبا ما يكونون أفارقة. وفي يوم من الأيام تزوجت شابة رجلا من قبيلة أخرى. بعث معها والدها حارسا وجارية ليرافقاها في رحلتها. قادت رحلتها من على الهودج، وأمام الجمل كانت الجارية تقوده. أخذت الرحلة عدة أيام لتصل إلى قبيلة خطيبها. كانت الجارية تغير جدا من العروس الجديدة. وأثناء الرحلة أقنعت الجارية الحارس بأن يذهب، وقالت له بأنها تستطيع حماية نفسها والعروس. أعطت الحارس بعض النقود ووثق بها فغادر.

كانت والدة العروس قد أعطتها عقدا بقوى سحرية تمكنهما من التواصل سوية، تمتلك الأم عقدا آخر لتستطيع العروس محادثة أمها إن طرأت مشكلة أثناء الرحلة.

في يوم من الأيام ذهبت العروس والجارية إلى نهر كي تغتسلا. أسقطت العروس عقدها السحري في النهر عن غير قصد، ولم تستطع استعادته، فأكملت رحلتها. علمت الجارية أن العروس قد أضاعت العقد السحري لذا بدأت بمشاجرتها وإيذائها. استطاعت الجارية أن تبدل الأماكن مع العروس فأخذت محلها.

وفي إحدى الرحلات، قابلوا حطابا فطلبت منه أن يصنع للعروس المسكينة ثوبا من الخشب، العروس المسكينة التي كانت جارية الآن تقود الجمل. أجبرت الجارية العروس على ارتداء الثوب الخشبي. ظلوا يمشون حتى قابلوا تلا من التراب الأبيض. فاستعملته الجارية كي تبدو بيضاء.

سيدات أردنيات بدويات يجمعن الحبوب ويعملن

عندما وصلتا إلى قبيلة العريس  تزوج العريس الجارية على أنها عروسه. وكانت الجارية قد هددت العروس (كي لا تخبر الناس بالحقيقة) كان العريس غنيا لدرجة أنه لم يحتج لجارية أخرى، فعملت عنده العروس الحقيقية كراعية.

بعد فترة، بدأ الجمل الكبير والمفضل لدى الزوج بخسارة الوزن والمرض. غضب الزوج وأراد أن يعرف ماذا حصل لجمله العزيز ولام الراعية (العروس الحقيقة) على ما حصل.

بدأ الزوج يتجسس على الراعية. ورآها تتحدث إلى الجمل. وبعدها خلعت ثوبها الخشبي ولاحظ أنها ترتدي تسعة خواتم في يديها. خلعت الراعية الخواتم التسعة ووضعتهم على شجرة. كان الرجل مدهوشا من جمالها. واكتشف بأن الجمل قد خسر وزنه لأن الراعية أخبرته قصة حزينة وهو حساس للغاية فخسر وزنه حزنا. وخلسة سرق الرجل واحد من الخواتم التسعة. ونادى الراعية. وبعدها قتل الجارية الشريرة ومن ثم تزوج الراعية- العروس الحقيقة.

المصدر:

Aloun, G., Hood, K., The Bedouin beauty of my grandmother (2017) the Hashemite fund for development of Jordan Badia and Ministry of culture

قصص بدوية قبل النوم

مقدمة

تقدم مؤسسة إرث الأردن سلسلتها البحثية الجديدة المتعلقة بالإرث الغذائي والإنتاجي الأردني تزامناً مع افتتاح مطعم إرث الأردن والذي جاء ليتوّج جهود خمس سنوات من العمل والزيارات الميدانية لمختلف المناطق الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية المصنوعة من منتجات محلية، وطرق إعدادها الأصلية كما عكفت على ذلك الجدّات والسيدات الأردنيات لسنين طويلة، بشكل يضمن استدامة هذا الإرث والحفاظ عليه، من خلال حرص المؤسسة على الحصول على المنتجات من السيدات الأردنيات اللاتي ما زلن يحافظن على أصالة هذه الأطباق ويقمن بإنتاج المواد اللازمة لذلك منزلياً في تسع محافظات أردنية، تتناول هذه السلسلة البحثية كافة تفاصيل المطبخ الأردني، وما يلتصق بعملية إعداد وتناول الطعام من أبجديات الضيافة وطقوس اجتماعية تمتد لتاريخ طويل من الإسهام في الإرث الغذائي الإنساني الممتد لأكثر من أربعة عشرة ألف سنة  تاريخ أقدم بقايا خبز تم العثور عليها في العالم على الأرض الأردنية.

تمهيد

يعتبر حليب الضأن والماعز والإبل والبقر المقوّم الأساسي الثاني في الغذاء الأردني بعد الحبوب، ويندر أن يتم شربه طازجاً ولكنه يُقدّم أثناء مواسم الحلب دافئاً ومحلّى أثناء الفطور، ويخضع إلى سلسلة من التحولات في عملية المعالجة، وقد ابتكر الأردنيون عبر العصور أساليب لحفظه واستدامته لاستخدامه طوال العام، فمنه الجميد والكشك والزبدة والسمنة وغير ذلك مما سيتم تناوله في هذا البحث المفصل والذي سيتم التطرق من خلال عناوينه إلى الثروة الحيوانية وأهميتها في المجتمع الأردن وسلوكياته الإنتاجية، مروراً بطرق استدامة موارد هذه الثروة واستثمارها، وصولاً لطرق حفظ منتجاتها وتطويرها واستخدامها في الأطباق المتنوعة التي تشكّل جزءاً كبيراً وهامّاً من المطبخ الأردني الغني بالوصفات والمكونات والنكهات.

الثروة الحيوانية في الأردن

في مجتمع انتاجي مزيج ما بين الفلاحة والبداوة كما تم شرحه في بحثنا السابق: ديموغرافيا الهوية الغذائية الأردنية، يُنظر للثروة الحيوانية بأهمية توازي الأرض وذلك في مشهد آخر من تجلي قيم الإنتاجية لدى الأردنيين القدماء الذين كانوا من أوائل المجتمعات الإنسانية التي قامت بتدجين الحيوانات للاستفادة منها، وذلك في منطقة عين غزال الأردنية، والتي تعتبر شاهدة على أهم التحولات الجذرية في حياة المجتمعات البشرية والأنماط المعيشية للناس مع بداية الألف العاشر قبل الميلاد، بعد أن بلغت قرى الصيادين، وتَمثل هذا الانعطاف في الانتقال من حياة الصيد وجمع القوت والتنقل إلى التدجين والزراعة والإنتاج والاستقرار في قرى ثابتة، تعتبر عين غزال أقدمها، ويقع موقع عين غزال، الذي شهد نشأة أول مجتمع زراعي منظم عاش قبل حوالي عشرة آلاف عام، في المنطقة الشرقية من العاصمة عمّان. وتشكل هذه المنطقة نقطة التقاء بين سكان المناطق الجبلية في الغرب والبادية الأردنية في الشرق.

عمان 1936 – سوق الحلال وتباع فيه الأحصنة والمواشي والبقر

وعلى مر العصور، حافظ الأردنيون على الثروة الحيوانية وأحسنوا استدامتها واستخدامها وتدبيرها بما يلبي احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتعلقة بالزراعة من حراثة الأرض ودراسة المحاصيل للحصول على الغذاء وصولاً للأمن والمحافظة على مناطقهم في ظل هجمات احتلالية استعمارية متتالية، وصولاً لاستخدامها في التنقل وحتى في المناسبات والطقوس الدينية قبل الديانات السماوية وما بعدها وكذلك فيما يتعلق بالمناسبات الاجتماعية من المهور وطعام الأفراح والأتراح، وحتى فيما يتعلق بالمخلّفات التي يتم استخدامها كأسمدة عضوية أو مصدراً للطاقة، ونستعرض أدناه أبرز وأهم عناصر الثروة الحيوانية في الأردن:

  1. المواشي:

تنتشر تربية المواشي في مختلف أنحاء الأرض الأردنية، وتمتاز المناطق السهلية بتربية الأغنام فيما تكثر تربية الماعز في المناطق الوعرة والجبلية لمقدرتها على التسلّق والتكيّف مع تضاريس تلك المناطق، وقد استفاد الأردنيون من المواشي بكامل تفاصيلها، فمن ألبانها ولحومها صنعوا الغذاء وطوروا منتجات الحليب بشكل يضمن إمكانية الاستفادة منها طوال العام وهو ما سيأتي ذكره لاحقاً بالتفصيل ضمن هذا البحث، واستفادوا من صوفها في لباسهم وأثاثهم المنزلي، وأما من جلودها فقد صنعوا الأحذية والفراء والأدوات المنزلية اللازمة لعمليات تحضير الغذاء.

عمان 1936 – سوق الحلال ويعج بحركة البيع والشراء للمواشي
  1. الإبل

وجدت الإبل في الأردن بأعداد كثيرة، وقد استُفيد منها في التجارة والتنقل والحرب لخفتها في الحركة وتحمّلها للمسافات الطويلة والأحوال الجوية الصعبة، ولما كانت العشائر الأردنية قديماً هي المسؤولة عن تنظيم قوافل الحج وحمايتها وتأمين الحجيج وتلبية احتياجاتهم، من خلال استلامهم من مناطق شمال حوران الأردنية وصولاً للمدينة المنورة جنوباً، في رحلة تتضمن تأمين النقل والحماية والمأكل والمشرب والإقامة في النزل التي تم بنائها على امتداد طريق الحج الملوكي التاريخي بفاصل مكاني يبلغ حوال 50 كم وهي المسافة التي تعادل مسير الإبل في اليوم الواحد، وحتى اليوم توجد فرقة خاصة من القوات المسلحة الأردنية هي فرقة الهجّانة التابعة لقوات البادية الأردنية والتي كانت نواة تأسيس الجيش الأردني.

كما استخدم الأردنيون حليب الإبل ( النوق ) ، وقدموا لحم الإبل في المناسبات الكبيرة ، وفي ولائم عزاء كبار الشيوخ، وفي استقبالهم لكبار الضيوف والوجهاء لديارهم ومضاربهم.

عمان 1941 – قوات الهجانة (فرسان الصحراء) نواة تأسيس الجيش الأردني
  1. الأبقار

اهتم الأردنيون بتربية الأبقار، للاستفادة من لحومها، وحليبها ومشتقاته حيث تمتاز الأبقار بوفرة حليبها طوال العام على عكس المواشي التي يتوفر حليبها خلال مواسم معينة، كما استفادوا من الأبقار والثيران في حراثة الأرض ودرس المحصول وجرّ العربات.

  1. الحمير والبغال

اهتم الأردنيون بتدجين الحمير والاستفادة منها لحاجتهم لها في التنقل وحمل الأثقال وخصوصاً المياه في ظل مرحلة غياب الدولة والخدمات خلال الاحتلال العثماني، كما استخدمت في بعض مجالات الزراعة حيث تتطلب بعض الأراضي حراثة خاصة باستخدام هذه الحيوانات تبعاً لحجم الأرض ومساحتها وتضاريسها ونوع المحصول، كما كانت الحمير تؤجر لنقل البضائع، وتعتبر خياراً اقتصادياً أقل تكلفة مقارنة بالخيول والجمال.

  1. الخيول

ينظر للخيل في الأردن بكونها رمز للفروسية والشهامة والشجاعة، وللخيل رمزية خاصة في وجدان الأردني وأهمية لا تقل أهمية عن الشرف والعرض، وترتبط بها الكثير من الأمثال والقصائد والقصص في الذاكرة والموروث الشعبي الأردني، وقد استخدمت الخيل في الحرب والتنقل، وكانت هناك منافسة لا تقل عما هي عليه اليوم في عمليات بيع وشراء الخيل الأردنية الأصيلة، ولم يقتصر حب امتلاكها على الرجال فقط، بل تعدّى ذلك ليشمل النساء والسيدات وفقاً لما تشير له سجلات دفاتر الضرائب العثمانية كما أن الشراء كان يتم أحياناً على جزء من الفرس أو الحصان بالشراكة مع الآخرين، وتوجد فرقة خاصة بالخيّالة ضمن تشكيلات القوات المسلّحة الأردنية حاليا.

عمان 1918 – فرسان العشائر الأردنية العمود الفقري لقوات الثورة العربية الكبرى
السلط 1920- فرسان من مدينة السلط لحظة وصول المندوب السامي البريطاني
  1. النحل

تشير الكثير من سجلات دفاتر الضرائب العائدة لفترة الاحتلال العثماني أن الأردنيون قاموا بتربية النحل في مناطق عديدة خلال العقود الماضية، وقد ورد في هذه السجلات الإشارة للقواديس والتي تعني خلايا النحل، ولأجران النحل، مما يدل على اهتمام الأردنيين بهذه المادة الغذائية وفوائدها الكثيرة.

  1. الطيور الداجنة

تنوعت اهتمامات السكّان في تربية الطيور الأليفة والداجنة، كالدجاج والأوز والحبش وغيرها، وذلك بهدف الحصول على لحومها وبيضها أو حتى لمجرد التسلية والاهتمام بها.

  1. الحيوانات والطيور البرّية

بالإضافة للحيوانات الأليفة والمدجنة، أشار الكثير من المؤرخين والرحّالة الذين زاروا المنطقة الى العديد من الحيوانات والطيور البرّية، ومنها: الغزلان، وبقر المها، والماعز البرّي (البدن)، والثعالب، والنمور، والفهود، والذئاب، والخنازير البرّية، والضباع، ومن الطيور: الحباري، والحمام، والنعام، والحجل، والقطا.

الرعي

نظراً لأهمية الحيوانات عموماً والمواشي خصوصاً في الاقتصاد الأردني الإنتاجي، أنشأ الأردنيون منظومتهم الاجتماعية الخاصة بهم لإدارة شؤونهم الاقتصادية هذه فوضعوا القواعد والمهام والقوانين والعادات التي تحكم تعاملاتهم المتعلقة بـ “الحلال” وهي لفظة أردنية تعني المواشي في إشارة لأهمية ومكانة وقداسة الثروة الحيوانية كوسيلة للعيش والبقاء، وكانت عملية تربية المواشي والاعتناء بها على شكل “قطعان” مفردها قطيع ويتكون بالمتوسط من مائة رأس يتوكل راعي بمهمة حمايتها والسير بها للمراعي الخصبة في رحلة تمتد لأسابيع، ويحرص الرعاة على إبقاء المواشي في المناطق المنخفضة والدافئة خلال أشهر الشتاء والخريف ويحتمون بالمغر من البرد القارص، وفي أشهر الربيع والصيف يخرج الناس بمواشيهم الى المناطق المرتفعة.

الطفيلة 1916 اطلالة على جبال الطفيلة وراعي غنم يعزف على المزمار
1914 – راعي شاب يعزف ألحانه بالغور الأردني 

وتعتمد عمليّة توظيف الرعاة على عدد الأغنام فإذا كثر عددها (أكثر من 150 غالباً) يتم تعيين راعيين، واذا قلّ العدد وكان متوسطاً يُكتفى براعِ واحد ويمكن ان يتشارك أبناء القرية راعِ واحد لكل مواشيهم اذا كانت قطعانهم صغيرة، ويحصل مقابل عمله لمدة عام في العادة على “فطيم – من الفطام وهو صغير الغنم حديث الولادة الذي انقطع شربه للحليب وبدأ بتناول الأعلاف  ” و 10 شياه، بالإضافة لحصوله على “منايح – من المنحة بدون مقابل” وهي المواشي التي تمنح لفترة مؤقتة لأهل الراعي بغرض رعايتها والاستفادة من حليبها ولبنها وسمنها وصوفها، ويمنح الراعي كذلك الكسوة التي تشمل اللباس والحذاء، وفي الموسم يعود الراعي بأغنامه لبيت صاحبها ليتم حلبها، أما اذا انتهى الموسم فيبقى الراعي مع الحلال في مناطق التعزيب ويتم تزويده بالغذاء والزوّادة من قبل صاحب الحلال.

أما الإبل فلا تحتاج الى الرعي بشكل عام، وكانت تسمّى “إبل همال” حيث يتركها صاحبها في المرعى ويتفقدها بين الحين والآخر وفي ذلك دليل على الثقة والأمان الذي كانت تمنحه المنظومة الاجتماعية لأفرادها، وتوسم المواشي والإبل خصوصاً بوشم العشيرة الخاص، وتمنع قيم الأردنيين الاعتداء على الابل التي ترعى بعيداً عن أصحابها، كما كان يعتبر امتلاك الإبل دلالة على الأصالة، وكانت العشائر الأردنية البدوية تتمايز في عدد الإبل التي تمتلكها، فالأسرة العادية تمتلك حوالي 10 رؤوس بينما الأسر الأقوى مكانة كانت تمتلك ما بين مئة وثلاثمائة رأس منها.

أنظمة التكافل الاجتماعي

في ظل حالة غياب الدولة خلال أربع قرون من الاحتلال العثماني أنشأ الأردنيون العديد من أنظمة التكافل الاجتماعي التي تتضمن مساعدة الفقراء والمحتاجين بطريقة تحفظ كرامتهم، وهنا نستعرض بعض هذه الأنظمة المتعلقة بتربية المواشي وآليات إدارتها واستدامتها وكيفية تشارك الموارد في الاقتصاد الأردني الإنتاجي:

  • المنايح: يعطي للشخص الميسور الفقير عدداً من رؤوس الماشية في بداية موسم الحلب (رأس أو رأسين)، وذلك للاستفادة من انتاجها من الحليب ومشتقاته، وغالباً ما تصبح هذه الأعطية دائمة ولا تسترد.
  • العدايل: وفيه يمنح الشاوي (مالك المواشي الكثيرة)، الشخص المحتاج عدداً من الأغنام يصل لعشرة للاستفادة من حليبها ومشتقاتها ومواليدها الذكور، بينما تعود المواليد الإناث إلى الشاوي.
  • شاة الوحدة: تعطى للفقير كزكاة ولا تسترد.
  • وهناك نظام الشراكة الذي يفوض فيه صاحب الحلال راعياً للاعتناء بأغنامه مقابل نصف الإنتاج من الحليب والصوف والشعر ونحوه وكذلك المواليد.
  • الفلاج / الخدامة: وهو من أساليب المشاركة الرعوية وفيه يأخذ شخص عدد من رؤوس الحلال من صاحبها ويقوم بالاعتناء بها مقابل ثلث انتاجها من الحليب ومشتقاته، بينما باقي الإنتاج من الصوف والمواليد يكون لصاحبها.
عمان 1935 – نحر الجمال وسلخها لتحضير الولائم لضيوف حفل زفاف الأمير طلال بن عبدالله ونلاحظ بالخلفية مصابيح معلقة على أعمدة لإنارة الشوارع
  • ذبائح الولائم وأنواعها

في مجتمع قائم على الاقتصاد الإنتاجي لن يكون من السهل التضحية بوسائل الإنتاج بشكل عبثي وغير محسوب وبدون ضمان الاستدامة للموارد، الشحيحة أصلاً، فكان اللحم لا يعتبر جزءاً من الوجبات اليومية للأردنيين لإتاحة الفرصة للاستفادة من المواشي كمصادر للإنتاج بدلاً من كونها موضع للاستهلاك أما طعام الولائم والمناسبات الخاصة فيتضمن اللحم كمكوّن أساسي، كما جاء في بحثنا السابق عن أبجديات الضيافة في قاموس الكرم الأردني، وفي ذات القاموس نجد أن الذبيحة لدى الأردنيين مرتبطة بِبُعد ميثولوجي صريح وحتى بالنظر في العادات الإيمانية نجد ان الذبيحة تحتل الموقع المركزي فيها قبل الصلاة والصيام ف قد تجد من هو غير ملتزم دينياً بهذه المهام والفروض لكنه يقوم بالذبح والتضحية خلال الأعياد والمناسبات الدينية، والذبيحة الدينية مرتبطة بمناسبات محددة قليلة التكرار، بينما ذبيحة إكرام الضيف هي الأكثر تكراراً واحتمالاً ولا ترتبط بمناسبة معينة أو حدث ما، بل هي جائزة للمعزبين الذين بقيامهم بواجب الضيافة المقدس يربحون مناسبة أخرى لتناول الذبيحة واللحم، وهنا نستعرض مناسبات الذبائح الأردنية التي حصرها العلّامة روكس بن رائد العزيزي على النحو التالي:

  1. المسكن: ذبيحة العقد، ولاحقاً ذبيحة الباطون، ذبيحة الصبّة (سقف البيت)، ذبيحة البيت- الدار- العتبة عند السكن في بيت جديد، ذبيحة النزل – الجيرة للجار الجديد.
  2. في الزراعة: ذبيحة الحصيدة، ذبيحة البيدر، ذبيحة الجورعة (عند نهاية الحصيدة تترك بواقي الزرع للفقراء وتذبح لهم ذبيحة)، ذبيحة الطاحونة.
  3. العرس: ذبيحة الجاهة، ذبيحة الفاردة، ذبيحة القرى، الدخلة، الزوّارة (زيارة العروس لأهلها).
  4. المولود: ذبيحة المولود ذكراً أو أنثى بدون تمييز، وتسمّى عقيقة – ذبيحة الطهور عند المسلمين، وذبيحة العماد عند المسيحيين، وبالنظر لعادات شعوب دول الجوار نجد أن هذا النوع والذبائح غير متعارف عليه لدى المسلمين والمسيحيين على حد سوّاء إلا في الأردن، مما يعني خصوصية وأردنية هذا الموروث أكثر من كونه موروث ديني، ويستدل على ذلك من خلال وجوده وذكره في سجلات الأردنيين الغساسنة مما يرجّح أن يكون هذا الفعل طقساً أردنياً غسّانياً في الأصل وحافظ عليه الأردنيون لاحقاً رغم اختلاف دياناتهم.
  5. الغنم والحليب: ذبيحة متعلقة بمواسم الرعي والإنتاج.
  6. المعاملات: ذبيحة الشراكة (في التعاملات المالية، عند القيام بصفقة او اتفاق شراكة بين شخصين على نية التوفيق) ، ذبيحة الصفاح (في التعاملات الاجتماعية تتم هذه الذبيحة بعد الاتفاق على الخطبة ومصافحة والد العريس ووالد العروس)، ذبيحة الكسب (ذبيحة ما بعد الانتصار والفوز في معركة).
  7. الدين والمعتقدات: ذبيحة الضحية (عيد الأضحى)، ذبيحة سماط الخضر (نسبة لسيدنا الخضر الموجودة مقاماته في عدة مناطق أردنية أهمها السلط والفحيص)، ذبيحة سليمان بن داهود، ذبيحة دانيال، ذبيحة الحليّة، ذبيحة النذر.
  8. الموت: ذبيحة القبر وولائم العزاء ويكون رأس الذبيحة منكّس للأسفل دلالة على الفقد والحزن.
  9. الفرس: عند شراء الفرس.
  10. الضيف: عند قدوم الضيف وهي أحد أهم أركان عملية الضيافة.

الحليب والألبان بأنواعها

يستخدم الحليب ومنتجاته بكثرة في المطبخ الأردني، وكما أوردنا سابقاً أنه قلّما يُشرب طازجاً إلا أنه يقدّم في موسم الحلب دافئاً ومحلّى أثناء الفطور، ويستهلك أكثره معالجاً حيث يخضع الى سلسلة من التحوّلات، في سياق هذه العمليّة التي سنقوم بتتبعها وتوضيحها في سياق هذا الجزء من البحث، وتعتمد وفرة الحليب على عدة عوامل، أهمها المباعدة بين الأحمال بين المواشي للاستفادة من إدرار الحليب لأطول فترة ممكنة، وعلى وفرة الرعي الربيعي، وتمارس الأسر أشكالاً متعددة من عملية الحلب، فمنها من يقوم بالحلب مرتين يوميا صباحاً ومساءاً، ومنها يكتفي بمرة واحدة يومياً، وإجمالاً يتم الحلب مرتين خلال فترة ذروة الموسم (فصل الربيع)، ثم يتم تقليل عدد مرّات الحليب فيما يليه من الأشهر، وقد يطول موسم الحليب حتى شهر تموز في أفضل الأحوال، ولا يتم معالجة حليب النوق (الجمال) إنما يشرب طازجاً أو دافئاً فلا يتم تخثيره ولا مخضه.

الكرك 1939 – صورة للثروة الحيوانية من الماشية التي اقتناها أهالي الكرك ويلاحظ القدرة على التكيف ففي الخلفية بيوت الحجر يتقدمها بيوت الشعر وأمامها يلاحظ وجود السيارة

أبرز منتجات الحليب:

  • اللبن الرائب: يُصفّى الحليب بكيس قماش ويترك جانباً حتى يخثر أو يروب فيصبح لبناً، وتختلف طرق تحضيره تبعاً للمنطقة، فيقوم البعض بغليه والآخر يكتفي بدون ذلك، وكذلك الحال فيما يتعلق بإضافة “روبة” وهي كمية من لبنة معدّ سابقاً لتسريع عملية التخثر / الترويب، ويعتمد الوقت الذي يحتاجه اللبن حتى يتشكّل على الأحوال الجوية السائدة ويستغرق ذلك أحياناً ساعات أو يستمر لنحو ثلاثة أيام.
  • اللبنة: يتم وضع اللبن في كيس من القماش يسمى “خريطة” حتى يتصفى من السوائل ويصبح أكثر تماسكاً ولزوجة وبذلك يشكل اللبنة الحامضة المميزة في المذاق وتشتهر بها محافظة جرش.
  • الزبدة: يخضّ اللبن في وعاء مخصص لهذه الغاية يسمى “السّعن” مرفوع على منصب خشبي ثلاثي القوائم “رويجة” مع إضافة الماء البارد أو الثلج إن توفّر، وتستمر عملية التحريك “الخضّ” لمدة ساعة تقريباً حتى تتشكل من الزبدة كريّات صغيرة ثم تضغط لتكوّن كتلة جامدة.
  • لبن المخيض/ الشنينة: هو السائل منزوع الدسم وهو الناتج المتبقي من عملية استخراج الزبدة ويمكن خزنه طويلاً ويستهلك شراباً أو في إعداد المنسف.
  • السمنة: هي زبدة مصفّاة يستخلص منها الماء إلى حد بعيد، ثم تمزج بالمنكهات وكلما قل مقدار الماء في الدسم زادت إمكانية خزن السمنة لمدة أطول، ويمكن ذلك من خلال سلسلة من عمليات التصفية والتسخين والتبريد والقشد وإضافة الطحين أو الجريشة، وكذلك الأعشاب التي تلوّن السمنة وتمنحها النكهة عبر عملية ( التحويج )، وتختلف هذه الأعشاب باختلاف المنطقة مما يكسب السمن خصائص وسمات إقليمية ومنزليّة، ومن أهم النباتات المستخدمة: في حواجة السمنة: الفيجن، والحندقوق، والعصفر وغيرها.
  • الجميد: يُعدّ من لبن المخيض الذي يُغلى ثم يخثّر ويصفى بكيس قماش ما بين يومين الى ثلاثة أيام، ويعجن بالملح قبل نقله إلى كيس آخر أكثر رقّة، ويثقل عليه بحجر حتى يتصفّى تماماً، ثم يجعل على شكل أقراص ويتم تجفيفه في مكان مشمس، ويحتوي الجميد على كمية قليلة من الدهن، بينما يحتوي على نسبة عالية من البروتين استناداً لتحليلات تم اجرائها على عينات من الجميد.
  • الكشك: وهو مزيج من الحبوب، ومشتقات الحليب من خلال إضافة البرغل الناعم “السميد” إلى الشنينة، وجعلها أقراصاً حتى تجف.
  • الجبنة المالحة: يستعمل الحليب مع إضافة مادة “الإنفحة” التي تؤخذ من معدة الماعز أو الخروف يوم ولادته أو من بعض المكونات النباتية مثل عصارة التين، وتساعد عند إضافتها للحليب الساخن أو الدافئ، على تخثّر الحليب بشكل سريع فيما بين 15-30 دقيقة ثم تعجن الخثارة وتوضع على قطعة قماش، وتضغط تحت أثقال لتصفية السوائل ويحفظ الجبن لاحقاً في ماء شديد الملوحة للحفاظ عليه وتخزينه.
عمان 1922 – سيدة تقوم بتحضير اللبن “خض السعن” في وادي السير

أطباق أردنية بمنتجات الحليب :

  1. المنسف
  2. الرشوف
  3. المجللة
  4. الهيطلية
  5. المحاشي البردقانية
  6. الكشكية
  7. فطائر الكشك
  8. التشعاتشيل

فرصة للتذوق

كل هذه الأطباق وغيرها يمكنكم الاستمتاع بتجربتها في مطعم إرث الأردن، والذي تم افتتاحه مؤخراً بعد رحلة بحثية استمرت لأكثر من 5 سنوات في المطبخ الأردني والهوية الغذائية تم جمع أكثر من 63 طبق متنوع من مختلف المحافظات الأردنية ويتم إعدادها بمنتجات غذائية عبر سيدات المجتمع المحلي من 9 محافظات وعلى يد أمهر الطهاة من أبناء هذه المناطق.

المراجع

  • حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان:الأردن
  • بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة, مؤسسة أهلنا للعمل الإجتماعي والثقافي.عمان: الأردن
  • العبادي، احمد (1979) المناسبات البدوية، عمان: الأردن
  • العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.
  • العزيزي، روكس (2012) الطبعة الثانية، الجزء الثالث، معلمة للتراث الأردني، مطبعة السفير، عمان: الأردن
  • فريق باحثين (2013) أطلس الأردن – التاريخ، الأرض والمجتمع، المعهد الجغرافي الملكي والمعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، عمان: الأردن

منتجات الحليب والألبان في المطبخ الأردني

Scroll to top