المسار التاسع لمعارك التحرير – رم
خط المسير الجغرافي لقوات الثورة : القويرة – رم – الديسة والطويسة – منيشير

220JPG

246JPG
مجموعة من ضباط و مقاتلي قوات الثورة في معسكر القويرة

تمهيد :

 لم تجر في هذا المسار عمليات عسكرية كبيرة أو نشاطات معينة باستثناء ما جرى في القويرة (معسكر الاردن ) ولكن كانت هذه الطريق على درجة من الأهمية لأنها شهدت حركة قوات الثورة العسكرية ، خاصة وأن منطقة رم قد استخدمت في  فترة من من الفترات كمعسكر للجيش العربي وذكر اسم جبل الخزعلي كمكان لهذا المعسكر .
وجبل الخزعلي هو في أول مدخل وادي رم بعد مخفر البادية وهو يبعد حوالي 4 كيلومتر ويظهر كجبل منفرد صخري ولكنه ذو قيمية تاريخية فلا زالت  النقوش النبطية القديمة تظهر في السيق القصير والذي يصعد الى قلب جبل الخزعلي وقد شهد جبل الخزعلي تخييم قوات الثورة العربية فيها .

rum
فرسان العشائر الأردنية و مقاتلي الثورة يجتازون جبال رم

 

فيلم الأكاذيب

ومنطقة جيل الخزعلي والتلة الصغيرة المقابلة له شهدت تصوير فيلم ( لورنس العرب) في أوائل الستينات من القرن الماضي، هذا الفيلم غير الموضوعي في طرحه وتناوله للثورة العربية الكبرى، خاصة وأن الموضوع الأساسي هو لإظهار دور لورنس كبطل فردي وقائد أوحد للثورة العربية، وأغفل دور مقاتلي الثورة و فرسان العشائر الأردنية الحقيقي ، بل وظهر مقاتلو الثورة كأشخاص يقاتلون من أجل أهداف محدودة ولم تظهر في الفيلم فكرة التحرر من الاحتلال العثماني و الاستقلال من عباءة الدولة التركية.
13140531_10154029248950211_1533711072_n

 جاء فيلم لورنس الذي تم تصوير معظم أحداثه في منطقة رم وجبل الخزعلي وصحراء الأردن حول خط سكة الحديد والعقبة ، ليعطي صورة مناقضة لا تتفق مع واقع أهداف الثورة ولا مع صورة قادتها و أبطالها من فرسان العشائر الأردنية .

اتجاه المسار

يبدأ هذا المسار من القويرة ويسير باتجاه الجنوب الشرقي نحو منطقة ” قاع أم سلب” وقد استخدم هذا القاع كمطار خلال الحرب العالمية الثانية واستخدم الى فترة قريبة كمطار لتدريب الطيارين المقاتلين في سلاح الجو الملكي الأردني. وبعد قاع أم سلب يكون الدخول الى وادي رم وتتشعب الطريق عند مدخله لتتجه شرقا نحو الديسه والطويسه ومنيشير ، والطريق الاخر الذي يتجه نحو الجنوب الشرقي إلى رم .

103JPG
مجموعة من رجال قبيلة بني عطية يقومون بتحميل المؤن لقوات الثورة في العقبة استعدادا لنقلها لمعسكرات الثورة

 

أهمية المسار

تأتي أهمية هذا المسار من أن منطقة الديسة والطويسة غنيّة بالمياه، وتوفر أجواءا ممتازة لاستخدامها كموقع عسكري وبعدها الوصول الى المنيشير ومن ثم يمكن النفاذ الى طريق معان – المدورة الاستراتيجية والالتقاء مع خط سكة الحديد .

و يذكر أن منطقة الديسة هي منطقة تخييم ، ويوجد في صخورها نحت حديث لا يزيد عمره عن ثلاثين سنة من الآن وهو للملك عبدالله بن الحسين بالعمامة وبجانبه لورنس وهو يرتدي الحطة البيضاء، رغم أن الملك عبدالله لم يلتقي في لورنس في هذه المنطقة أبدا و رأيه في لورنس معروف والزائرون يصلون الى هذا الرسم الذي اصبح معلما من معالم المنطقة.

naht

المراجع :

  • الثورة العربية الكبرى : الموسوعة التاريخية المصورة ، البحث التاريخي والإشراف الدكتور بكر خازر المجالي ؛ فريق العمل فريق الفرس الشقراء ، مركز أرض الأردن للدراسات والنشر، 2011  .
  • الثورة العربية الكبرى : الحرب في الأردن 1917-1918 : مذكرات الأمير زيد / سليمان موسى، دائرة الثقافة والفنون.
  • التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية / بكر خازر المجالي، قاسم محمد الدروع 1995 .

المسار التاسع لمعارك التحرير – رم

المسار الثامن لمعارك التحرير – غور المزرعة

10.indd 

تاريخ التنفيذ :   28  كانون الثاني 1918

 خط المسير الجغرافي لقوات الثورة : الطفيلة – مؤتة – غور المزرعة

تمهيد

     بعد اتمام تحرير الطفيلة فى في 15 كانون الثاني 1918 م  وبعد النصر الكبير الذي تحقق فى 25 كانون الثاني من عام  1918 م، قررت قيادة الثورة العربية الكبرى على الأرض الأردنية  الاندفاع نحو الشمال لتأمين خط المرتفعات من الطفيلة وحتى وادي الحسا ثم جبال مؤاب، وان يكون الهدف في هذه المرحلة هو ميناء غور المزرعة المحتل من قبل القوات التركية و الذي تتواجد فيه مفرزة تركية وقوارب إمداد تنقل المعدات والتموين إلى شمال البحر الميت ومن هناك لتنتقل إلى الجبهة العسكرية التركية في وسط وشمال فلسطين .

139
قوات الثورة العربية الكبرى على إحدى مرتفعات الطفيلة أثناء عمليات تطهيرها من الاحتلال التركي و تظهر الدخان المتصاعد من البيوت جراء قصف المدفعية التركي و النمساوي

طريق تقدم قوات الثورة

تقدمت قوات الثورة و مقاتليها بقيادة الشريف عبدالله بن حمزة الفعر وانطلقت من الطفيلة يوم 26/1/1918 م  ولم تصادف في طريقها أية اعاقات عسكرية كبيرة سوى اشتباك بالرشاشات جرى فى سهل مؤته بالكرك، وهو الاشتباك الوحيد الذى يسجل خلال عمليات الثورة العربية الكبرى فى منطقة الكرك .

 خطوط عمل الثورة العربية الكبرى بعد معركة الطفيلة 25/1/1918 م
    

     ان القارئ لعمليات الثورة العربية الكبرى يجد انها عمليات تحرير ومسك الارض والسير فى خطوط متماسكة تضمن التنسيق المتواصل والإسناد المتبادل بين قوات الثورة ، لذلك فعند قراءة خريطة التحرك لمقاتلي الثورة ، انطلاقا من جنوب الأردن نجد هذا التحرك يسير فى الخطوط التالية التى تتجه جميعا شمالا :

أ . الخط الشرقي الذي ينطلق من جنوب معان باتجاه الجفر ثم باير فالأزرق والذي انتهى بتحرير قوات الثورة و فرسان العشائر الأردنية لكافة الأراضي الأردنية من الاحتلال العثماني.

ب . الخط الاوسط الشرقي : والذي يبدأ من أبي اللسن فمعان فالجردونة ثم إلى عنيزة وجرف الدراويش والحسا وهو خط يركز على التأثير على مواصلات الأتراك و خط سكة الحديد العثماني المستخدم لنقل الجنود و أسرى العشائر الأردنية و الخشب الذي تم تقطيعه من أشجار الشوبك ووادي موسى و المؤن التي تم نهبها من المدن الأردنية .

 ج . الخط الاوسط الغربي : وهو الذي يبدا من المريغة ثم دلاغة فالراجف إلى الطيبة ثم إلى وادي موسى فالطفيلة وشهد هذا الخط معارك حاسمة وقوية جدا خاصة وان هذا الخط يمسك اكتاف وادي عربة الشرقية .

د . الخط الغربي وهو الذي يبدأ من العقبة عبر وادي عربة فإلى غور الصافي ثم غور المزرعة وصولا إلى اريحا وهو خط حيوي لالتقائه المباشر مع خطوط تحرك قوات الحلفاء في فلسطين وهو يمثل منطقة الغلق في الجنوب والذي يبدأ من تحرير العقبة و الذي تم في 6 تموز 1917م لتكتمل حلقة الغلق هذه في 28/1/1918 م بتحرير غور المزرعة .

أهداف عملية غور المزرعة

9.indd
خنادق جيش الاحتلال التركي في ميناء البحر الميت عام 1918

لقد مثلت عملية غور المزرعة بعدا جديدا في تطوير نمط العمليات العسكرية لقوات الثورة وقد أظهرت هذه العملية :

أ . بُعد الرؤيا في في وضع الخطط العسكرية لتشمل ساحة العمليات بأكملها وبجميع اطرافها .

ب . قدرة فرسان العشائر الأردنية و قوات الثورة على استثمار النجاح حتى النهاية ، فقد كانت عملية غور المزرعة بعد ( ٣ ) ايام فقط  من هزيمة الجيش التركى فى الطفيلة و اندحاره عنها مكسورا ، فجاءت هذه العملية لكسب الوقت واستغلال الاندفاع القتالي لمقاتلي الثورة بعد النصر.

ج . التصميم على تحقيق الأهداف الموضوعة لتحرير الأرض الأردنية والسيطرة عليها تمهيدا لانشاء كيان سياسي مستقل عن الاحتلال العثماني ودولة الخلافة المزعومة .

 أهمية ميناء غور المزرعة

10.indd
سفن شراعية و قوارب في الميناء على شاطئ البحر الميت عام 1922

تأتي أهمية هذا الميناء من كونه يؤدي المهام الوظيفية التالية وهي :

أ . نقل المؤن والذخيرة من العقبة عبر وادي عربة إلى ميناء غور المزرعة ومن ثم نقلها بالسفن عبر البحر الميت إلى المنطقة الشمالية و المدن الفلسطينية لتوصيل هذه الإمدادات للقوات التركية المحتلة في نابلس واريحا والقدس وكذلك استقبال الإمدادات التي تصل عبر موانئ البحر المتوسط إلى شمال البحر الميت ثم إليه لتوزيعها وايصالها للقوات المرابطة في نابلس واريحا والقدس وكذلك استقبال الإمدادات التي تصل عبر موانئ البحر الأبيض المتوسط إلى شمال البحر الميت ثم اليه لتوزيعها وايصالها للقوات التركية المحتلة في الكرك وجنوبا حتى العقبة عبر طرق وادي عربة المؤدية إلى الطفيلة وهذه الطرق لا زالت موجودة لغاية الان .

ب . استخدامها كمنطقة عسكرية تتألف من حامية عسكرية تتكون من حوالي (60 جنديا تركيا) كقوة استخبارية لجمع المعلومات ، وكقوة يمكنها اخراج الدوريات لمراقبة طريق غور الذراع — الكرك من منطقة الأغوار ، والحامية التركية المحتلة كانت تتمركز في الحصن العسكري الذي يرتفع فوق تل يبعد حوالي 1500 متر عن الشاطئ لجهة الجنوب .

حجم الميناء

أما عن حجم الميناء ولدى زيارته واستطلاع المنطقة حسب ما يؤكد المؤرخ الدكتور بكر خازر المجالي فانه لم يعثر على أثر لأرصفة  التحميل والتنزيل وذلك متوقع خاصة و انه على  مدى 80 عاما تقريبا تراجع ساحل البحر الميت لأكثر من ٢ كلم في رأس البحر الجنوبي في منطقة نهاية اللسان، حتى أصبح موازيا لطرفه الجنوبي كل ذلك بفعل عوامل طبيعية أولا وبفعل التجفيف لغايات استخراج المعادن خاصة وان اسرائيل تستغل بالبحر الميت منذ الستينات، لانتاج البوتاس والأملاح الأخرى في مصنعها على الرأس الجنوبي قبالة المصنع الأردني الذي بدأ  انتاجه الفعلي في مطلع الثمانينات ويبدو ان حجم هذا الميناء هو من النوع الصغير، بدليل سعته لعدد من الزوارق، حيث ذكر الأمير زيد في مذكراته وضمن رسالة منه إلى الأمير فيصل ما يلي : ” وأغرق فيه 6 سفن شراعية “، ويبدو انها كانت كميناء على بحر داخلي يتميز بمحدودية المد و الجزر وانخفاض ارتفاع امواجه وسكون مائه وضحالة الماء في شواطئه  التي انحسرت أيضا لما يزيد عن  100 متر .

موقع الميناء و شكله

          و من دراسة المؤرخ الدكتور بكر المجالي لخرائط المنطقة و المعلومات حولها ومن بقايا السفن التركية فى المنطقة فقد تحدد موقع الميناء في الطرف الشرقي لمنطقة اللسان هذه التي تمتد لمسافة 1 كلم عرض من الشرق ولمنطقة اللسان المرتفعة وهي عريضة فعلا، تتوفر لديها الحماية الطبيعية من المرتفعات الحادة المحيطة بها من جهة الشرق وتستند على منطقة سهلية يعلوها فى الوسط أكمه، حيث هي الرصيف المحتمل للتنزيل والتحميل والذي استخدمته شركة البوتاس كميناء لانزال القوارب لغايات التجارب العلمية بالدرجة الاولى ونفس المنطقة هى الان كمنتزه تديره شركة البوتاس .

         وكان الحصن التركي أو المركز العسكري التركي يقع لجهة الشمال بحوالي 1500 متر وهو بمثابة خط دفاع أول عن منطقة الميناء، وهذا الحصن متهدم حاليا واستخدم حتى فترة قريبة كمركز أمني للأمن العام الأردني  .

13518273_907583476053448_1137348716_o
أحدث الصور الملتقطة للمركز العسكري التركي ” الحصن “، وتظهر تهدم اسوار الحصن و الرميات على جداره

          ويربض هذا الموقع فوق ربوة ترتفع حوالي 60  مترا عن الأرض المحيطة بها ويؤمن المراقبة البعيدة لمنطقة اللسان ولمسافة بعيدة لجهة الجنوب والغرب وتبلغ مساحة هذا الحصن حوالي 600 متر مربع فهو بطول 30 متر تقريبا ” شرق غرب” ، و 20 مترعرض ” جنوب شمال” وهو بناء من طابقين وتكثر في  الجدارالقائم حاليا في جهته الشمالية فتحات الرمي.

13499580_907583469386782_278658281_o
صورة للربوة التي يربض عليها الحصن التركي من بعيد

واختيار هذا الموقع جاء ليحقق أكثر من غاية عسكرية للقوات التركية المحتلة كالسيطرة على الأرض المحيطة وتوفر ميادين الرمي لجميع الجهات والمراقبة الجيدة وحماية الميناء في الشمال منه .

13509847_907583489386780_1110601146_o
صورة لجدار المركز العسكري التركي و تظهر فيه آثار التهدم و الرميات

بقايا الميناء

أما بقايا الميناء الذي استخدمته القوات التركية المحتلة فقد كانت عند زيارته من قبل المؤرخ المجالي فى3/2/1994    18/12/2001 ومن ثم من قبل فريق الفرس الشقراء هي كالتالي :
أ . بقايا حطام زورق من النوع المتوسط الذي يستخدم البخار حيث ان الحجرة البخارية لا زالت ظاهرة في الحطام .

ب . هيكل شاصي السفينة  يقع إلى الشرق قليلا من حطام السفينة السابقة وقد ظهر هذا الهيكل بين الأشجار الكثيفة الصنوبرية التي نبتت في داخل الهيكل بحيث أصبح من الضروري تقطع هذه الاشجار واجتنانها قبل تحريك الهيكل  من مكانه .

ج . الرصيف المرتفع عن سطح البحر بحوالي ٥ متر وهذا بالقياس الحالي وقتها وهو أقل من هذا الارتفاع اذا ما اعتبرنا الانحسار للمياه وانخفاض الارتفاع فيه .

د .  بقايا جنزير لربط السفن وتأمينها ، مثبت على بكرة يدوية يعتريها الصدأ  الشديد  وتركب المجموعة كاملة على قاعدة  حديدية مثبتة في الارض .

 التخطيط للهجوم على ميناء غور المزرعة

  كان التفكير فى تحرير غور المزرعة سابقا للعملية العسكرية  فى الطفيلة في 25/1/1918 م   فقد ظهر في أوراق  الأمير زيد من مذكراته رسالة وجهها الأمير زيد  نفسه إلى الأمير فيصل بتاريخ 22/1/1918 م  يشرح فيها خطط العمليات المقبلة ،  وعن غور المزرعة فهو يقول : ” أما الشريف عبدالله بن حمزة فأملي ان ينزل إلى غور المزرعة في هذين اليومين ويقطع المواصلات التركية للكرك مع أريحا عن طريق بحر لوط “، لذا فان خطة احتلال غور المزرعة هي من وضع وتفكير الأمير زيد بن الحسين، أما قائد العملية فقد كان الشريف عبدالله بن حمزة الفعر، ولقد كان التخطيط فى الطفيلة حيث كانت هي مركز القيادة لقوات الأمير زيد بعد الدخول إليها في 15/1/1918 م  حيث تحركت القوات في جميع الاتجاهات لتأمين المنطقة عسكريا ومراقبتها فكانت مفرزة الشريف مستور في وادي الحسا وكانت تلك القوات التي ذهبت للاتصال  مع قبائل الكرك والتي تمكنت من الاستيلاء على رشاش في عملية قرب سهل مؤته وكان التجهيز لعملية غور المزرعة من ضمن العمليات لإكمال تحرير المنطقة  فى القاطع الاوسط والغربي .

فقد عين الشريف عبدالله بن حمزة ليقود هذه العملية وليقوم بالاتصال مع عشائر المنطقة وعشائر شمال الكرك تحديدا لنشر رسالة الثورة، وليواصل تقدمه شمالا  ليكمل المهمة وليحقق الاتصال والتماسك المباشر مع قوات الحلفاء في تلك المنطقة .

    وقد نفذ الشريف عبدالله عمليته هذه بقوة تألفت من سبعين فارسا من العشائر الأردنية، أما حجم القوة فكما تشير المراجع  ومنها مصطفى طلاس في كتابه  الثورة العربية الكبرى ص 242 وسليمان الموسى ومنيب الماضي في تاريخ الأردن بين الماضي والحاضر ص 52 .

مكان انطلاق الحملة على غورالمرزعة

10.indd
مجموعة من الجبال المحيطة بالبحر الميت 1918

يقول مصطفى طلاس في كتابه ص 242 يذكر ما نصه : ( أسند الأمير زيد هذه المهمة إلى عبدالله الفعر الذي اختار لمساعدته في تحقيق الهدف حوالي سبعين فارسا وسار على رأسهم قاطعا الطريق الوعرة بين جبال مؤاب والساحل …)،  أما سليمان الموسى في كتابة تاريخ الاردن بين الماضي والحاضر ص 52 يذكر ما نصه (.. اذ ان الأمير زيد أرسل الشريف عبدالله بن حمزة الفعر  الذي كان يخيم في وادي عربة جنوبي البحر الميت يبلغه انباء الانتصار الذي أحرز في الطفيلة، و يطلب اليه ان يهاجم زوارق الأتراك ومراكبهم في في البحر الميت وكانوا يستعملونها لنقل الحبوب التي يجلبونها من الكرك إلى قواربهم المرابطة عند نهر الاردن ) .

وفي رسالة الأمير زيد إلى الأمير فيصل المؤرخة في 23/1/1918  يذكر فيها (. . اما عبدالله بن حمزة  فاملي ان ينزل إلى غور المزرعة في هذين اليومين ويقطع مواصلات الكرك مع اريحا…..)  وهنا نستنتج من الرسالة ان القوات ستقوم بعمليات نزول من مناطق مرتفعة إلا اذا كان القصد النزول من من قاعدته في وادي عربة إلى منطقة غور المزرعة باعتبارها اخفض من وادي عربة ذاته ….

     أما صبحي العمري والذي كان موجودا في في الطفيلة خلال فترة الهجوم فهو يقول في  مذكراته  ص 183 : (وصلتنا الاخبار ان الشريف عبدالله بن حمزة القعر قد هاجم الشونة التي في غور المزرعة غربي الكرك على شاطئ البحر الميت وهو مركز الجيش التركي، و فيه بعض القوارب والبحارة ينقلون بواسطتها الأرزاق والمهمات بين المدن الأردنية الجنوبية و اريحا و المراكز الاخرى….).

    والهدف من ايراد هذ الروايات المختلفة لتصل إلى حقيقة الموقع الذي نستطيع ان نؤكد انه وادي عربه وعودة إلى تحرير العقبة  فقد تحركت  بتلك الفترة قوات وقادة من شيوخ العشائر الأردنية و ضباط الثورة إلى منطقة وادي عربة مهمتها الاتصال مع العشائر هناك ، وتأمين خطوط الاتصال  مع قوات الحلفاء، خاصة و ان العديد من قوافل الإمداد كانت تأتي عبر وادي عربة  لقوات الثورة وهي تقاتل حول معان في تلك الفترة .

 تنفيذ الهجوم

         تجمع المراجع جميعها تقريبا على نفس سيناريو الهجوم على غورالمزرعة وقد ساعد في نجاح عملية التحرير وحسم المعركة بسرعة تحقيق عنصر المفاجأة فلم يكن الأتراك ليتوقعوا  وصول أي من  قوات الثورة إليهم مطلقا، وحقق النجاح أيضا اسلوب هجوم قوات الثورة بواسطة فرسان العشائر الأردنية الذي لأحدث الصدمة نتيجة لحركة الخيالة بسرعة في جميع الاتجاهات في نفس الموقع وهذا ما أربك العدو التركي العثماني وأفقده التركيز والقدرة على التعامل مع المهاجمين، وكان توقيت الهجوم أيضا ً مهما ً في تحقيق النصر الحاسم وتأكيد عامل المفاجأة والصدمة وهو في فترة الفجر والجنود الأتراك فى حالة استراحة.

كيف بوغت البحّارة الأتراك

نورد هنا ما كتبه مصطفى طلاس ص 242  عن هذا الهجوم بقوله : ( . . يصل مع التباشير الأولى للفجر إلى مقربة من المركز التركي ، وعلى المعسكر الشمالي من الميناء كانت ترسو الزوارق التجارية والشراعية التابعة للأتراك وبالقرب منها بحارتها النائمون على الشاطئ في أكواخ من القصب غير عابئين بشيء، وبدون ان يضعوا أية حراسة قتالية على انفسهم او على عتادهم ، لم يكن هؤلاء البحارة الأتراك ، مستعدين لأية معركة برية فكيف بها تأتيهم على يد فرسان راكبين، لذلك ما كاد هؤلاء البحارة يفتحون عيونهم ليعرفوا ما الخبر حتى رأوا فرسان الثورة يطوقونهم ويدمرون أكواخهم ويستولون على ما في مخازنهم من مؤن وعتاد حربي ثم قفز الفرسان عن خيولهم ثم إلى الزوارق الراسية فثقبوها وأغرقوها واستسلم الأتراك دون أية مقاومة تذكر . . . ) .

9.indd
صورة تذكارية للجنرال التركي المحتل جمال باشا أمام شواطئ البحر الميت عام 1915

      ولعل رسالة الأمير زيد إلى الأمير فيصل المؤرخة في 30/1/1918 م  الصادرة من الطفيلة تعطي أبلغ تعبير حول هذه المعركة حيث يستهلها الأمير زيد (ابشركم ان مفرزة بحر لوط  بقيادة الشريف عبدالله بن حمزة الفعر هاجمت مركز المزرعة وأسرت اثنين وخمسين عسكريا ً تركيا وضابطين واستولت على جميع الذخائر وأغرقت ست سفن شراعية تركية ….) .


النتائج

كان النصر في غور المزرعة على درجة من الأهمية لقوات الثورة، و فيه أكملت قوات الثورة غلق منطقة الجنوب حتى العقبة أمام القوات التركية المحتلة، وأمنت الاتصال مع قوات الحلفاء للسير معا باتجاه الشمال وجاءت هذه المعركة وفقا لخطط قيادة جيش الثورة وهذا اورده نصا مصطفى طلاس ص 242 في كتابه الثورة العربية الكبرى بقوله :  (…وهكذا تم في 28/1/1918 تعطيل حركة النقل التركية عبر البحر الميت قبل اسبوعين من التاريخ الذي حددته قيادة جيش الثورة …)

 وهذا ما يعطي وقتا أفضل للتخطيط للعمليات القادمة، وقد كانت النتائج كما يلي :

أ . كاتبت- أي راسلوه و أعلنوا دعمهم للثورة- عشائر غور الصافي الشريف عبدالله بن حمزة  وهذا ما ورد في رسالة الأمير زيد إلى الأمير فيصل 27/1/1918 الصادرة في الطفيلة حيث يقول “اهل غور كتبوا معه…” .

ب . أوجدت هذه العملية هياجا لدى أهل الكرك مطالبين  بسرعة وصول قوات الثورة اليهم ، وهذا ما ورد نصا في رسالة الأمير زيد إلى الأمير فيصل المؤرخة في 30/1/1918 الصادرة من الطفيلة (الكرك في هياج عظيم….) .

ج . حرمان الاحتلال التركي من مصدر تموين لقواته في الكرك وفي الطفيلة وغيرها وقطع طرق الاتصال بين شمال البحر الميت وجنوبه .

د . أسر ما لا يقل عن 60 جنديا ً وضابط تركي وسوقهم إلى العقبة .

هـ . الاستيلاء على مواد تموينية سترسل للقوات التركية المحتلة في معان ، فقد جاء ذكر كميتها فى كتاب سليمان الموسى تاريخ الأردن بين الماضي والحاضر ص 52 بأنها عشرة أطنان من الحبوب .

و . تدمير 6 قوارب تركية على اللأقل تجارية وشراعية .

ز . الاستيلاء على الحصن التركي وتدمير بعض أجزائه في حينها .

     تلك كانت عملية غور المزرعة وهي العملية الأولى والفريدة التي هاجم بها مقاتلو الثورة القوارب والسفن التركية ودمروها واستولوا على مواد تموينية من قوات خفر السواحل التركية لأن كل الهجمات الأخرى كانت ضد قوات  متمركزة أو تتحرك على طول خط سكة الحديد أو حولها.

المراجع :

  • الثورة العربية الكبرى : الموسوعة التاريخية المصورة ، البحث التاريخي والإشراف الدكتور بكر خازر المجالي ؛ فريق العمل فريق الفرس الشقراء ، مركز أرض الأردن للدراسات والنشر، 2011  .
  • الثورة العربية الكبرى : الحرب في الأردن 1917-1918 : مذكرات الأمير زيد / سليمان موسى، دائرة الثقافة والفنون.
  • التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية / بكر خازر المجالي، قاسم محمد الدروع 1995 .
  • المعارك الأولى : الطريق إلى دمشق، صبحي العمري،أوراق الثورة العربية؛ رياض الريس للكتب والنشر، لندن، بريطانيا ؛ ليماسول، قبرص ، 1991،  ط. 1.
  • المراسلات التاريخية 1914-1918 : الثورة العربية الكبرى. المجلد الأول / أعدها وحققها وكتب حواشيها وترجم بعضها سليمان الموسى، 1973.

المسار الثامن لمعارك التحرير- غور المزرعة

المسار السابع لمعارك التحرير : أحفاد الأنباط في مواجهة الاحتلال التركي

خط المسير الجغرافي لقوات الثورة : معسكر الأردن (القويرة) – أبو اللسن – وادي موسى

13479221_10154134482700211_754917576_n
مقام النبي هارون على أعلى قمة جبل النبي هارون في وادي موسى عام 1900

مقدمة

وادي موسى منطقة جبلية الى الغرب من معان بحوالي 42 كم تقع ضمن سلسلة جبال الشراة، وأعلى مرتفعاته في المنطقة جبل النبي هارون الذي يقوم عليه مقام النبي هارون عليه السلام وارتفاعه 1257 م ومنطقة الوادي الغربية صخرية صعبة المسالك تنحدر بالتدريح اتجاه وادي عربة، أما منطقة الوادي الشرقية فهي تتخفض أيضا بالتدريج لتصبح جزءا من السهول الواسعة شمال معان، أما في الجنوب والشمال فتتشكل امتدادا لسلسلة جبال الشراه، ووادي موسى هو المدخل الى المنطقة، وفي بدايته عين موسى ويظهر للمرء أن المنطقة بعد الانتهاء من وادي موسى إنما هي صخور محددة جرداء ولا يعلم أنها تخفي تحفة تاريخية ونحت معماري، وحضارة كانت زاهرة تدل على عظمة اصحابها من أجدادنا الأنباط.

 كانت وادي موسى تشكل مسارا هاما من مسارات الثورة العربية الكبرى ودور المنطقة في الأحداث خاصة للأهمية التي اكتسبتها بسبب موقعها، فقد خصص الأمير فيصل بن الحسين حملة عسكرية بقيادة مولود مخلص للتعامل مع منطقة وادي موسى و تحريرها من الاحتلال العثماني بدعم و اسناد من عشائر المنطقة من أحفاد الأنباط وورثة حضارتهم، وكانت الأهداف الرئيسية من خلف الهجوم على الحامية التركية في وادي موسى هي:

  1. احكام الحصار على الحامية العسكرية التركية المتحصنة في معان .
  2. حرمان العدو العثماني من مصدرالأخشاب والخضروات والفواكه و صنوف المؤن ومصادر المياه التي تشتهر بها المنطقة .
  3. السيطرة على المنطقة يسهل التي العمليات المقبلة للانتقال الى الشوبك و تحريرها من براثن الاحتلال العثماني.
  4. تأسيس اتصال عبر وادي عربة مع قوات الحلفاء لتي تتحرك عسكريا في فلسطين.
  5.  الاتصال بالعشائر الأردنية الساكنة في المنطقة لإمداد قوات الثورة بالمقاتلين، فقد كان يسكن وادي موسى والطيبة والراجف عشائر اللياثنة و غيرهم من العشائر الأردنية التي اسهمت في عمليات الثورة بشكل فاعل.
mwlood
معسكر القائد مولود مخلص في وادي موسى، و يظهر بالصورة عدد من فرسان عشيرة اللياثنة

الخطة العسكرية المتعلقة  بوادي موسى :

وضعت خطة العمليات العسكرية لحركة جيوش الثورة في القويرة ( معسكر الأردن ) واستهدفت الخطة السيطرة وتحرير الأراضي الأردنية انطلاقا من القويرة باتجاه الشوبك ووادي موسى والطفيلة وذلك بقيادة الشريف مستور والشريف عبدالمعين و القائد العسكري مولود مخلص ، والشريف ناصر و بدعم و اسناد من عشائر الحويطات و بني صخر و شيوخها و فرسانها و عشائر المناطق المراد تحريرها، وعُيّن الأمير زيد بن الحسين قائدا عاما لهذه الارتال وقاد الامير زيد ومعه جعفر العسكري قوة عسكرية اتجهت من أبو اللسن باتجاه الطفيلة مرورا بالشوبك ووادي موسى، واعتبرت هذه القوة كاحتياط عام للأرتال الثلاثة التي تحركت حينها بناء على الخطط العسكرية في المنطقة و التي تعتبر على درجة من الأهمية لموقعها وخصبها وكثافة السكان النسبية فيها في تلك الفترة وقد كانت جبهة عمليات جيش الثورة تمتد من العقبة إلى القويرة ، ثم دلاغة مرورا بمناطق وهيدة وسهل الفقي وصولا الى وادي موسى ، وهذا الامتداد يحدد جبهة العمليات من الجهة الغربية.

233JPG
عربة محملة بمدفع و أسلحة في طريقها من أبو اللسن إلى وادي موسى

 

أهمية هذا الامتداد :

  • يفصل بين جبهة العمليات في الأردن وجبهة العمليات في فلسطين .
  •  يمنع اتصال قوات الاحتلال التركي ببعضها في الشرق والغرب .
  • يحرم قوات الاحتلال التركي من مصادر المياه والاخشاب التي يتم الحصول عليها عبر تقطيع الثروة الحرجية من الاشجار المعمرة في الشوبك ووادي موسى من أجل استخدامها للقطار العثماني و تشغيله إضافة إلى منعهم من الاستيلاء على الثروات الطبيعية كملح البارود والمواد التموينية التي كان يتم نهبها من أهل المنطقة مثل السكر و الحنطة و الشعير .
  • كثافة السكان في هذا الامتداد كبيرة نسبياً اذا ما قورنت بالخط الآخر الموازي على امتداد خط سكة الحديد في الشرق ،مما يتطلب حمايتهم من القصف التركي الألماني أو استخدامهم كدروع بشرية كما حصل في معان.
  • يتيح لقوات الثورة الاتصال مع القوات بوادي عربة التي كان فرسان العشائر الأردنية يعرفون مسالكها جيدا  وبالتالي يضمنون استمرارية التنسيق بين الطرفين والإمداد بالمقاتلين و الذخيرة.

 

معارك وادي موسى

شهدت وادي موسى أكثر من عملية عسكرية ، وكانت قوات الثورة التي وصلت الى وادي موسى تتشكل من :

  1. 300 جندي و مقاتل بين هجان و فارس .
  2. مدفعين جبليين .
  3. 4 رشاشات .

      إضافة إلى عدد كبير من المتطوعين من مقاتلي العشائر الأردنية  الذين ساهموا فى أعمال الدوريات والحراسة، كان توقيت المعارك في شهر تشرين الأول 1917 م وكان البرد قارصاً جداً والجنود يعيشون حياة بائسة في تلك الظروف القاسية، حيث لا يملك الجندي منهم سوى بطانية واحدة تحميه من شدة البرد …

مستند رسمي تركي حول معركة وادي موسى

      نقلا عن المصادر التركية الرسمية : ( معركة بالسلاح الابيض يستبسل فيها العرب ضدّ الأتراك )

ما هو مذكور أعلاه هو عنوان لواحد من المستندات التي نشرت في صحيفة الحرب العظمى التي كانت تصدر خلال الحرب العالمية الاولى وبعدها وتوثق الاحداث من وجهات النظر المختلفة، وفيها توثيق لمعارك وادي موسى التي يصفها التقرير بأنها من المعارك الخطيرة، و يتضح في هذه الوثيقة بعض المعارك الخطيرة التى وقعت بين العرب والمحتلين الاتراك أثناء الحرب نقلا عن المصادر التركية وما فيها من وصف مفصل ، كما أنها تعد في الواقع من المستندات الرسمية للحرب .

   وتاليا ً نص التقرير كما جاء من المصدر  :

       ” معارك وادي موسى

         على اثر سفر القوات التركية الى القدس، أمر محمد جمال باشا بالجلاء عن الخطوط الألمانية لعدم وجود قوة كافية للدفاع فأخلينا الكويرة (القويرة) وعين بسطة، وانشأنا خط دفاع في جبل سمنه وأقمنا المشاه في مرتفعات معان الغربية وفي محطتها وذلك لتدبير الدفاع عن جنوبها وشمالها وأسرعنا بحفر الخنادق ونشط الجيش العربي في هذا الفترة فسيطر على وادي موسى، فرأى محمد باشا ان يسترد وادي موسى لأهميته العسكرية، فطلب بعض النجدات فوصله الاء الشراكسة بقيادة ميرزا بك من تبوك، كما أرسلوا مفرزة من المشاة وقبل وصولها زحفت جنودنا من معان بقيادة (شولاق كمال بك) رئيس أركان حرب محمد جمال باشا، ثم التحق بنفسه وبدأ جنديا ً باحتلال الجبل المطل على وادي موسى، ونصب فيه مدفعية فبادرت القوات العربية بإطلاق النار وبقيت متحصنة في أماكن جبلية قريبة من مراكزنا لتمهد لهجوم المشاة وتولى ميرزا بك قيادة الجناح الأيمن للترك وكان الأمير زيد يقود قوات الثورة واشتركت الطيارات التركية في هذا الهجوم وكانت تحوم فوق العرب أثناء القتال وتلقي عليهم قذائفها من ارتفاع 300 متر فقط وحمل الترك على العرب حملة صارمة ، واستمروا في ضربهم بالمدافع ساعتين فقابلهم هؤلاء بنيران حامية حينما بدأوا يصعدون الجبل ، وردوهم على أعقابهم فاستأنفوا الهجوم عند الظهر ولكنهم فشلوا أيضاً .”

نفير عام في القيادة التركية

 و يكمل التقرير ما نصه: ” تلقى جمال باشا ورحى القتال تدور في وادي موسى برقية من (بصرى باشا) يطلب فيها نجدات سريعة لسقوط محطتين بأيدي قوات الثورة، وكانوا يهددون تبوك كما بلغ أن مقاتلي الثورة المرابطين حول معان يشددون الخناق عليها ويهاجمون جنوبها، فشعر بحرج الموقف سيما وقد كان بعيداً عن مركز الرئاسة فقرر أن يستعد لمعركة حاسمة يتولى بنفسه تنظيمها وإدارتها.

 وافتتحت المدفعية التركية الحملة الثالثة بنيران حامية كانت تصب صبا على مراكز العرب حتى أنها اصبحت رمادا ً وأطلالاً واصدر الباشا على الأثر أمره بالهجوم، وأراد أن ينزل بنفسه إلى الميدان ويتقدم الصفوف فمنعه رئيس أركان الحرب الذي تولى إدارة الهجوم، وقد اشترك فيه أكثر ضباط المقر العام وجنده ومشى الترك الى الجبل تحت حماية المدفعية، وكانت تسرف في إطلاق القنابل يتقدمهم كمال بك ممتشقا ًحسامه يضرم في صدورهم نيران الحماسة، فصمدت قوات الثورة لهم ونازلتهم منازلة الأبطال، وقد أظهرت قوات الثورة في هذا اليوم من البسالة والبطولة ما يحير العقول وبدأت المجزرة الكبرى حينما بلغ الترك خنادق قوات الثورة فثبتوا فيها رغم قلة عددهم ودار القتال بالسلاح الأبيض، وجرح كمال بك هنا للمرة الرابعة عشرة كما جرح (زكاني بك باور محمد جمال باشا ) وسقط على بعد خمسة أمتار من مواقع قوات الثورة الذين ارتدوا بعد استبسال عظيم ، فدخلنا الوادي بعد أن خسرنا نحو مئتي قتيل وجريح ولم تكد نستقر فيه حتى صدر الأمر لنا بالانسحاب فاخليناها – أي وادي موسى – بعد ساعتين فقط لتحرج الحالة في جنوب معان وتبوك ، فاتجه الجند نحو معان تاركين مقر القائد وبطارية المدافع وراءهم، وكانوا ينتظرون حركته ليسيروا معه وقد وقع رجال المقر في حيرة وكادوا يسقطون في ايدي قوات الثورة الذين كانوا يحيطون بالمكان من جهاته الثلاثة لولا مداهمة الليل ، وقد استولت قوات الثورة على مستشفى الجرحى الترك لأننا عجزنا عن انقاذه اثناء انسحابنا ” .

13460758_10154919181693066_1439367497_o
منظر عام لمدينة وادي موسى ومنازلها و عيون الماء و الأشجار فيها عام 1917

تحليل عام للتقرير التركي

       نلاحظ من هذا التقرير شدة المعركة وضراوتها من خلال الحشد التركي وشنّ المدفعية التركية لحملات ثلاث على مقاتلي الثورة، ومن خلال الخسائر الكبيرة نسبيا ً قياسا ً مع الأسلحة والذخائر المستخدمة في ذلك الوقت، فالتقرير التركي يعترف بمائتين بين جريح وقتيل وتقارير الثورة تفيد بوجود أكثر من هذا العدد الذي يصل الى 400 بين جريح وقتيل ونستطيع ان نستنتج ثلاث عمليات عسكرية تمت في ذلك اليوم وهي :

  • الهجوم الأول على مواقع قوات الثورة يسنده قصف مدفعي و قد فشل فشلا ذريعا.
  • الهجوم الثاني الذي ابتدأ بقصف مدفعي لمدة ساعتين ولم يحقق أي شيء أيضا.
  • الدخول الى وادي موسى ومحاولة اقتحامها لكن صدر الأمر بالإنسحاب بعد ساعتين من دخول الوادي وخلفوا وراءهم مدفعية ومركز القيادة والمستشفى التركي بعد أن جروا أذيال الخيبة .

    فى المرحلة الثالثة من القتال كانت المجزرة الكبرى، وكان القتال فى السلاح الأبيض وهذه هي المعركة الوحيدة فوق الأرض الاردنية التي يجري فيها قتال في السلاح الابيض ، ويعترف التقرير التركي بأن قوات الثورة على قلتها قد صمدت وثبتت واستطاع أحد فرسان العشائر الأردنية من بني ليث أحفاد الأنباط  جرح القائد التركي ( كمال بك ) .

دور عشائر وادي موسى 

 أشارت مذكرات الأمير زيد بن الحسين قائد المعركة إلى دور عشائر وادي موسى من عرب اللياثنة – بني ليث – وعشيرة المناعين المجاورة لهم حينها ، فقد أورد فى رسالة له الى الأمير فيصل مؤرخة في 29 / 5 / 1918 أن اللياثنة والمناعين نزلوا بأربعة بيوت – يقصد أربعة بيوت من المقاتلين و المتطوعين من فرسانها – وسينزل أيضا الشوابكة والنعيمات، وذكر فى نص الرسالة أيضا ان اللياثنة يريدون أحد الاشراف لقيادتهم في معاركهم ضد الاحتلال العثماني وانهم دفعوا بكل دوابهم (البغال ) لخدمة المعركة، وقد أوضحت بعض المصادر استعداد عرب اللياثنة التام للإنضمام للثورة العربية الكبرى، والقتال في صفوف قواتها وهم ينتظرون الفرصة السانحة للتخلص من تحكم المستبد التركي بهم، كما تحدث مولود مخلص في كتابه ( بطل معارك وادي موسى ) عن دور اللياثنه وعشائر وادي موسى المشرّف في تنفيذ عمليات الثورة العربية الكبرى، ووصفهم بأنهم لا يهابون الموت .

13480124_10154135650715211_1888246831_n
عدد من مقاتلي جيش الثورة في ساحة المذبح ” النبطي ” – البتراء يراقبون تحركات الجيش العثماني و انسحابه

أما البطل محمد علي العجلوني فيشير في مذكراته أنه سمع عندما نزل على قرية الشوبك همس أحد الأشخاص في المجلس بأن مولود مخلص أحد قادة ارتال الثورة  نزل مع الشريف معين بوادي موسى وان أهالي قرية وادي موسى انحازوا إليهما تمام كما أن الاتراك يسوقون الجنود بالقطارات الى معان وأنهم يحتشدون على الجبال بين وادي موسى وأراضي الشوبك، وقد رأى العجلوني ورفيقه في السفر الطائرات الألمانية وهي تقصف معسكر القائد مولود مخلص في وادي موسى وكان هذا اليوم الثاني والثلاثين من رحلته وهو بداية قصة العجلوني مع الثورة العربية الكبرى.

وتضيف مذكرات العجلوني عن معركة وادي موسى الثانية أن هجوما تركيا كبيرا شنته فصائل تركية على وادي موسى حيث حامية القائد مولود مخلص، تشكلت الفصائل من طابورين من البغالة وطابورين من المشاة ومدفعية الميدان ومعهم متطوعة من شراكسة عمان بزعامة ميرزا بيك ومعهم متصرف الكرك مع خيالة الجندرمة فانسحب مقاتلو الثورة الى وادي سلع البتراء – يقصد السيق- حتى المساء وساند فرسان عشائر وادي موسى قوات الثورة وكروا على الأتراك وتولت عشيرة اللياثنة – بني ليث – مطاردتهم مع خيالة العشائر الأردنية من وادي موسى فانهزم المهاجمون وتركوا وراءهم الذخائر ومدافع الرشاش.

المصادر :

  • الثورة العربية الكبرى : الموسوعة التاريخية المصورة ، البحث التاريخي والإشراف الدكتور بكر خازر المجالي ؛ فريق العمل فريق الفرس الشقراء ، مركز أرض الأردن للدراسات والنشر، 2011  .
  • الثورة العربية الكبرى : الحرب في الأردن 1917-1918 : مذكرات الأمير زيد / سليمان موسى، دائرة الثقافة والفنون.
  • التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية / بكر خازر المجالي، قاسم محمد الدروع 1995 .
  • المراسلات التاريخية 1914-1918 : الثورة العربية الكبرى. المجلد الأول / أعدها وحققها وكتب حواشيها وترجم بعضها سليمان الموسى، 1973.
  • ذكرياتي عن الثورة العربية الكبرى، محمد علي العجلوني، مكتبة الحرية ،عمّان ، 1956.

المسار السابع لمعارك التحرير- معارك وادي موسى

المسار السادس : معسكر الاردن ( القويرة ) – جرف الدراويش

تاريخ التنفيذ :  12 كانون الثاني 1918

 خط المسير الجغرافي لقوات الثورة : ( القويرة – النقب –  الجفر –  مرتفعات ابوالرحام – محطة جرف الدراويش – العودة الى الطفيلة )

246JPG
مجموعة من ضباط و مقاتلي قوات الثورة في معسكر القويرة

تمهيد

 بعد إعادة تنظيم قوات الثورة في معسكر الاردن بدأت هذه القوات بتنفيذ عملياتها باتجاه الشمال الغربي، وكان الرتل الثاني بقيادة الشريف ناصر بن علي و معه العسكري البطل نوري السعيد ، وشارك في الرتل مجموعة من قوات العشائر الأردنية من بني صخر وأبو تايه- الحويطات . واعتمد سير قوات الثورة نحو جرف الدراويش على الطريق الشرقي وصولا الى الجفر، ثم التوجه غربا لمهاجمة المحطة من تلك الجهة وكانت التحضيرات قد تمت كما يلي :

  • فى القويرة : تنظيم القوة العسكرية ووضع خطة الهجوم
  • في النقب : وضع خطة الهجوم والاستراحة والتأكد من التزود بالذخيرة والأرزاق .
  • في الجفر: مراجعة الخطة بشكلها النهائي .
  • مرتفعات ابوالرحام: اقامت القوات لمدة ليلتين والمرتفعات هذه في منتصف الطريق بين
    الجفر وجرف الدراويش .
  • التنفيذ : الهجوم يوم 12 / 1 / 1918 م والبقاء ثلاثة ايام ثم الانسحاب إلى الطفيلة للإلتحاق بقوات الثورة التي دخلتها سابقا.
341JPG
قوات الثورة في طريقها للنقب حسب مخطط مسار المعارك المرسوم من قيادة الثورة

جرف الدراويش : تعريف عام

وجرف الدراويش او ” الجرف ” هي منطقة صحراوية اتخذت هذا الإسم لكثرة المناطق المجروفة والأخاديد ، التي تشكلت بسبب ليونة التربة و الإنحدارات المختلفة، أما اسم الدراويش حسب تسمية أهل المنطقة فقد ذكروا ان الجرف يقع على طريق الحج واشتهرت بأن فئة من الدراويش المتصوفين ، يقيمون كل عام فيها خاصة بسبب وجود سوق تجاري كان موجودا بالقرب من المحطة ولا زالت بقايا منه قائمة للان.

 محطة جرف الدراويش تقع على الكيلو 398 وهي تبعد عن معان الى الشمال 60 كلم تقريبا وهي من محطات الصنف الثالث وتتميز بقوة أبنيتها وهي تستند على واد من جهتها الشرقية يبعد عنها أقل من 400 متر ، فيه بئر الماء وبجانب البئر ركام قصر أثري قديم عرف باسم قصر البنت وحسب الرواية الشفوية فالبناء يعود لشخص ثري توفي هو وزوجته وبقيت ابنته وحيدة تملكت القصر، وعاشت فيه وسمي القصر نسبة إليها بقصر البنت والملاحظ وجود اكثر من قصر بنفس الإسم، فهناك قصر في مدينة البتراء واخر فى جرش واخر في الصحراء الاردنية .

وتستند المحطة من جهتها الشرقية على جبل مرتفع 1000 متر يطل عليها وهو المرتفع الوحيد من جهتها الشرقية بعرض اقل من 1 كلم أما باقي المنطقة فهي سهلية تماما تكثر فيها الاودية والطرق الترابية.

معركة جرف الدراويش

شهدت محطة جرف الدراويش ومنطقتها حدثين هامين خلال عمليات قوات الثورة العربية الكبرى  :

الحدث الأول: المعركة الهامة والقوية بقيادة الشريف ناصر بن علي يوم 12 كانون الثاني 1918 أي قبل دخول الطفيلة بثلاثة أيام حيث زحفوا منها باتجاه الغرب.

الحدث الثاني : أنها كانت احد المحورين لتنفيذ الهجوم الكاسح الذي شنته القوات التركية المحتلة ضد قوات الثورة بعد معركة حد الدقيق الشهيرة يوم 25 كانون الثاني 1918حيث نزلت قوات الاحتلال العثماني فيها يوم 5/3/1918 .

أهمية محطة جرف الدراويش

 تعتبر المحطة بحد ذاتها حصنا عسكريا متكاملا فهى قوية البناء وتقابل المدخل الوحيد باتجاه الطفيلة عبر سلسلة الجبال مرورا بأودية الطقطقي ووادي تلعة الشراري وصولا الى التوانة وعابور ، وكانت المحطة مهمة بالنسبة للقوات التركية المحتلة وحلفائها لأنها :

توفر مصدر مياه دائم فيها لتزويد صهاريج القطارات .

  • سيطرتها على مدخل الطفيلة الوحيد تقريبا .
  • تؤمن القدرة على التعامل مع المنطقة المحيطة بمرونة بحيث تكون هي قاعدة انطلاق الدوريات والعمليات العسكرية الاخرى .
  • توفر الحماية لجسر حساس على خط سكة الحديد وهو يقع الى الشمال منها وهناك جسر
    مماثل الى الجنوب في منطقة وادي برما على بعد ٢ كلم .

اما أهميتها بالنسبة لقوات الثورة العربية الكبرى فقد رأى الامير زيد بن الحسين قائد مسرح العمليات العسكرية في منطقة الطفيلة أن الإستيلاءعلى المحطة يعني :

  • التأثير فى خطوط مواصلات القوات التركية المحتلة و الخيالة الألمانية وحرمانها من محطة قوية .
  • فتح الطريق باتجاه الطفيلة وبالتالي توفير الحماية الخلفية ومسلك الطرق من الجهة الشرقية.
  • إحكام الحصار على محطة و سجن معان من جهتهما الشمالية.
  • التأثير على قوات الاحتلال التركي المتحصنة في قلعة عنيزة بعد ٢٧ كلم تقريبا .
  • الاتصال مع العشائر الأردنية في المنطقة وأن جرف الدراويش كانت تعتبر سوقا تجاريا يؤمها القبائل البدوية الأردنية القاطنة في الجهات الشرقية .
  • الرد المباشر على هجوم الاتراك على وادي موسى في 21/11/1918 والذي استشهد وجرح فيه اربعون فارسا و جنديا من قوات الثورة.

الوضع التركي في الجرف

بلغ حجم القوات المتواجدة في تلك الفترة ما بين 500-700 مقاتل يعززهم مدفع، ولم تكن وضعية الأتراك وضعية قتالية في المحطة خاصة وأن هناك نقطة ضعف هي وجود التل المنفرد المرتفع المسيطر على المحطة من جهتها الشرقية ، ولم يستطع الاتراك مسك المحطة والمرتفع معا خاصة وان الوادي الموجود فيه قصر البنت ، ومصدر المياه يفصل بينهم، إضافة إلى أن الاتراك كانوا يتوقعون ان مصدر التهديد لهم سيكون من الغرب او الجنوب وليس من الشرق جهة الصحراء . ولا يتوقعون أي تعرض ضدهم من الأساس لوجود حامية الطفيلة في الغرب وحامية الحسا فى الشمال على بعد 15 كلم وحامية عنيزة فى الجنوب على بعد 15 كلم أيضا، أي انها في موقع متوسط تتوفر له الحماية من هذه الجهات.

دور جرف الدراويش في العمليات العسكرية

ينقسم دور جرف الدراويش اولا الذي ينقسم إلى دورين رئيسيين :

  1. دور ما قبل الهجوم على المحطة وحتى تطهيرها من الاحتلال التركي في 12 /1/1918.
  2. دور ما بعد اخلاء قوات الثورة لها واستمرارها فى التأثير على منطقة العمليات العسكرية واتخاذها كمنطقة حشد لاستعادة الطفيلة من براثن الاحتلال العثماني فى ٦ اذار 1918.

الدور الأول: ما قبل الهجوم العربي على جرف الدراويش وحتى تحريرها.

 كانت جرف الدراويش من ضمن الخطة العامة لقوات الثورة التى تولى قيادتها الأمير زيد فى شهر كانون الثانى 1918 هذه الجيوش التي انطلقت من معسكر الأردن فى القويرة وهي :

  1. الجيش الاول بقيادة الشريف مستور يعاونه فرسان عشيرة الجازي من الحويطات بزعامة الفارس الشيخ حمد بن جازي وهدفه جرف الدراويش وبعد ذلك الطفيلة .
  2. الجيش الثاني بقيادة الشريف ناصر ومعه نوري السعيد يعاونه فرسان عشيرة التوايهة من الحويطات بزعامة الفارسان عودة ومحمد دحيلان ابو تايه وهدفه جرف الدراويش وبعد ذلك الى الطفيلة.
  3. الجيش الثالث بقيادة الشريف عبدالمعين وهدفه الشوبك.

329JPG
الشريف ناصر بن علي و الشيخ عودة أبو تايه في مضارب الحويطات أثناء إحدى عمليات الثورة

سرّية عملية التحرير و تفاصيلها

وعندما تحركت جيوش الثورة فى ميدان المعركة وجدت أن تطهير محطة جرف الدراويش يؤمن الطريق إلى الطفيلة، وقد جرى التخطيط لتحرير الجرف فى القويرة ، ولكن بشكل سري فيذكر صبحى العمري في حديثه عن المعارك الاولى أنّه بعد 15 يوما من حركتهم من القويرة فهموا أن الهدف هو جرف الدراويش، ويذكر سير العمليات العسكرية بسرد تاريخي والذي ننقله من مصادره البحثية موزعا على مراحل وكما يلي  :

(المرحلة الاولى ) وقد شملت ما يلي :

      أ. تشكيل مفرزة هجوم في القويرة لتنفيذ عملية ضد موقع غير معروف لهم في حينها حيث صدر الأمر بإلحاق رشاشين مع ضابط في القويرة ومن ثم التحاق بقية السرية في القويرة .

      ب. تشكلت مفرزة الهجوم من :

فوج مشاة من اللواء الهاشمي،  سرية بغالة مكونة ( ٨٧ ) بغل، سريتي رشاش ( 4 رشاشات )، مدفعين جبليين، مفرزة صحة بإمرة أحد الأطباء، هجانة من العقيلات، الفم محارب و فارس من بني صخر والحويطات

ج. تولّى قيادة قوات الثورة رئيس اركان الجيش الضابط نوري السعيد .

د. بينما تولى الشريف ناصر بن علي قيادة قوات الهجوم .

327
موسيقات جيش الثورة تعزف الموسيقى أثناء رفع راية المستشفى الميداني المتنقل ( مفرزة الصحة ) لقوات الثورة

( المرحلة الثانية ): بدأت هذه المرحلة فى منطقة النقب بعد وصول القوات إليها في القويرة ، وهنا يروي صبحي العمري في شهادته : (….تحركنا فقطعنا السكة الحديدية الى الشرق حتى وصلنا الى موقع الجفر ) وشملت هذه المرحلة :

  1. الافصاح عن الهدف من المهمة وهو الهجوم على محطة جرف الدراويش و تطهيرها .
  2. انضمام فرسان وهجانة بني صخر بقيادة الشيخ ( مفلح القمعان الزبن ) ومعهم الشريف حسين الشقراني وفائز العظم.
  3. تصفية الخلافات ما بين العشائر الأردنية بفضل الأمير زيد الذي دعا الى الاهتمام بالاهداف الرئيسية
  4. وضع خطة الهجوم على جرف الدراويش والتي كانت كما يلي :

المحاور العامة لخطة تحرير جرف الدراويش  

  • تقوم المفرزة الأولى بتدمير جسر سكة الحديد وتقوم المفرزة الثانية بتدمير الجسر جنوب المحطة .
  • يهاجم فرسان عشائر بنى صخر المحطة من الجهة الشمالية
  • يهاجم فرسان عشائر الحويطات المحطة من الجهة الجنوبية
  • تتقدم قوات الثورة من جهة الشرق بحيث تستفيد من هضبة (أم الرحام ) التي تنتهي غربا بإطلالتها على المحطة مباشرة على بعد 600 متر
  • فقط مسندة بالرشاش والمدفعية .
42
إحدى عمليات تفجير سكك خطة سكة الحديد أثناء العمليات العسكرية لتعطيله وقطع الإمدادات عن الحاميات التركية المتحصنة في معان

التنظيم العام لقوات الثورة و فرسان العشائر لعملية التحرير

  • قوات المقدمة وتشكلت من 15 خيال، رشاش، 15 هجانة
  • قوات الميمنة ومهمتها الهجوم من الجهة الشمالية وهي قبائل بني صخر ومعهم حوالي 500 خيال ومقاتل و فارس.
  • قوات الميسرة : مهمتها الهجوم من الجهة الجنوبية وهي قبائل الحويطات ومعها حوالي 500 خيال ومقاتل و فارس .
    وقد نفذت القوات هجومها فى الموعد المحدد وفاجأت المحطة واستمرت المعركة بضع يوم وركّز الهجوم في بدايته على المدفع التركي فأعطبوه ثم استولوا عليه وأصلحوه وأعيد استخدامه ضد القوات التركية المحتلة فور إصلاحه .

نتائج المعركة

كانت المعركة سريعة و حاسمة نظرا لمهارة الفرسان و التخطيط الذكي لها ، فقد فرّ الاتراك من موقع المحطة باتجاه الغرب وأسفرت المعركة عن ما يلي :

  1. 80 قتيلاً تركيا
  2. 200 اسير تركي و ألماني و نمساوي منهم 7 ضباط .
  3. 40 عربة محملة بالمؤن واللحوم كانت في طريقها لتزويد الحامية التركية في المدينة المنورة .
  4. عدد من الجرحى الذين بقوا في المحطة بعد ان أخلاها فرسان العشائر الأردنية ليتسنى للنجدات التركية تقديم الاسعاف لهم، في اشارة واضحة لأخلاق الحرب التي حملها فرسان العشائر الأردنية.
135
أحد المخافر التركية التي تم تدميرها وتطهيرها من قبل قوات الثورة قرب المحطة

عمليات ما بعد تحرير المحطة

يتضح من سير العمليات أنّ قوات الثورة أمضت ليلتين وهي في طريقها من الجفر الى الجرف  ونفذت عملياتها بدقّة في ساعات قليلة ومحدودة، بحيث لم يستطع الأتراك استخدام اسلحتهم بكفاءة وتأثير ضد قوات الثورة بدليل أن لا خسائر تذكر لحقت بقوات الثورة .

وقد استأنف مقاتلو العشائر الأردنية نشاطهم بعد المحطة فأتمت المفرزتان الأولى و الثانية تدمير الجسور ومباني السكة وتدمير القطار و حجز الإمدادات و المؤن و قطعها عن الحاميات التركية المنتشرة في الصحراء و التي يمثل خط السكة العثماني شريانها النابض بالسلاح و المؤن و المزيد من الجنود المرسلين من اسطنبول .

وبقيت قوات الثورة في حالة يقظة تامة وخيموا خلف المحطة، وفي الليلة التالية جاء قطار توقف الى الجنوب من المحطة يحمل ستين جنديا تركيا وتقرر القيام بهجوم لأسر الجنود وتشكلت مفرزة لتنفيذ المهمة لكن حماس بعض الجنود العرب أفشل الخطة فقد بادروا بإطلاق النيران باتجاه القطار حال مشاهدتهم له، مما أعطى الفرصة لإستدارة القطار وعودته الى معان حيث الحامية التركية الكبيرة هناك و التي حوّلت المدنيين في معان إلى دروع بشرية .

وفي اليوم الثالث اشتدّ البرد وبدأت الثلوج بالتساقط فغادر العرب المحطة وعاد الشريف ناصر الى مقر قاعدته في الجفر ثم بعد ليلتين غادرها واجتاز المسافة بمرحلة واحدة باتجاه الطفيلة، وعاد نوري السعيد الى القويرة ومعه الأسرى وشرع في تشكيل فرقة المشاة الثانية هناك.

353
أثناء عودة قوات الثورة لمعسكر القويرة بعد عملية تحرير جرف الدراويش

الأثر العام لمحطة جرف الدراويش بعد 15/1/1918م

اخلى فرسان العشائر الأردنية المحطّة في صباح 15/1/1918، وتحركت قوات الثورة باتجاه الغرب، نحو الطفيلة للإلتحاق بقوات الثورة التي دخلتها، و ذلك بعد استسلام حاميتها وانضمامها لقوات الثورة .

وقد ذكرنا أسباب إخلاء المحطة، مسبقا والذى ساير متطلبات الموقف العسكري وما ان اخلت قوات الثورة المحطة حتى عاودت القوات التركية احتلالها وتنظيمها وإعادة بنائها وبناء الجسور التي دمرت لإعادة استخدامها من قبل الاحتلال.

 فى الوقت نفسه الذى كانت القيادة التركية العليا تعدُّ العدة للهجوم على الطفيلة، لإعادة احتلالها فكان القرار السريع من قبل الجنرال التركي حامد فخري بالهجوم على الطفيلة  مستخدما محطة القطرانة، سالكا طريق الكرك وادى الحسا فكان مصير الحملة التركية الهزيمة المنكرة، لتبدأ القيادة التركية اعداد العدة من جديد لتنفيذ هجوم انتقامي من فرسان الطفيلة و قناصيها فبرزت اهمية محطة جرف الدراويش، وبدأ الأتراك يحشدون قواتهم استعدادا لتنفيذ الهجوم، وكان المحور الآخر هو محور جرف الدراويش – الطفيلة  وهو الأخطر والأهم فقد شهدت طريق جرف الدراويش- الطفيلة  جميع العمليات العسكرية وصولا الى الرشادية ثم الى الشوبك كما وضح ذلك مسار معارك الطفيلة .

حشد قوات الاحتلال التركي في الجرف

 بدأت المعلومات تصل لقيادة قوات الثورة في الطفيلة، وكان الأمير زيد يمرر هذه المعلومات
للقيادة الاعلى، وبدأت بوادر الحشد والاستعدادات تظهر، ولم تتوقف قوات الثورة عن تنفيذ عمليات عسكرية مضادة فقد شهدت المنطقة مناوشات عسكرية بهدف التدخل في التحضيرات التركية و التخريب عليها أو تعطيلها

فقد ورد في رسالة من الأمير زيد الى الأمير فيصل مؤرخة في 9 شباط 1918، ويقول فيها : ( أضيف قسم الى قوة جرف الدراويش، و عيوننا في المنطقة أفادت لنا أن الاتراك يعدون العدة للهجوم على الطفيلة،  وقد حصلت اشتباكات شمال محطة جرف الدراويش قرب محطة الحسا أسفرت عن قتل 30 تركيا واغتنام سبع بنادق وخمسة خيول )، و هذا ما أكده الأمير زيد في رسالة أخرى حيث بين أن المصادمات مستمرة بين قوات الثورة وبين دوريات الأتراك خصوصا في منطقة الحسا والجرف.

التسلسل الزمني للأحداث لاحقا

        أ. 3 آذار 1918 : المعلومات تفيد بوجود قوة كبيرة في جرف الدراويش تقدر بسبعمائة خيّال وألف جندي.

       ب. 3 آذار 1918 :  حشد قوة كبيرة للأتراك في الكرك تقدر بخمسمائة خيال وقسم مشاة .

ج. 4 اذار 1918 : في تمام الساعة الثامنة صباحا تحرّك الأتراك من جرف الدراويش بإتجاه الغرب نحو
منطقة التوانة  حيث بدأت الاشتباكات الاولى .

 د.  اظهرت عمليات الاستطلاع أن القوات التركية الموجود في محيط المنطقة هي الفرقة 25 ، ومركزها القطرانة ويبلغ مجموع أفرادها 6200 جندي و ضابط، ويلاحظ  من توزيع الفرقة انها موجودة في منطقة لا يزيد طولها عن 80 كلم، من الحسا شمالا حتى معان جنوبا أي أنها تشكل جبهة طولية مركزها جرف الدراويش الذي يرابط فيه 500 جندي تركي، و كانت نتائج الاستطلاع في أيلول 1918 أن الاتراك لديهم 35 خيمة موزعة فى الجرف مع مرابطة قطار في المحطة من أجل حماية القوات و سرعة نقلها أو إمدادها .

الانسحاب التركي من جرف الدراويش

وقعت تركيا اتفاقية الهدنة في بحر ايجة لإنهاء الحرب العالمية الاولى و على اثرها بدأت القوات
التركية تنسحب من المنطقة، وقد انسحبت القوات التركية من من جرف الدراويش 26 أيلول 1918، وقد أكّد ذلك رسالة الامير زيد الصادرة في معان بتاريخ فى 26 ايلول  1918
نصها : العدو اليوم ينسحب من جرف الدراويش جار تعقبه بمفرزة .

المصادر :

  • الثورة العربية الكبرى : الموسوعة التاريخية المصورة ، البحث التاريخي والإشراف الدكتور بكر خازر المجالي ؛ فريق العمل خولة ياسين الزغلوان ، و فريق الفرس الشقراء ، مركز أرض الأردن للدراسات والنشر، 2011  .
  • التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية / بكر خازر المجالي، قاسم محمد الدروع 1995 .
  • الثورة العربية الكبرى : الحرب في الأردن 1917-1918 : مذكرات الأمير زيد / سليمان موسى، دائرة الثقافة والفنون.
  • المراسلات التاريخية 1914-1918 : الثورة العربية الكبرى. المجلد الأول / أعدها وحققها وكتب حواشيها وترجم بعضها سليمان الموسى، 1973.
  • ذكرياتي عن الثورة العربية الكبرى، محمد علي العجلوني، مكتبة الحرية ،عمّان ، 1956.
  • المعارك الأولى : الطريق إلى دمشق، صبحي العمري،أوراق الثورة العربية؛ رياض الريس للكتب والنشر، لندن، بريطانيا ؛ ليماسول، قبرص ، 1991،  ط. 1.

المسار السادس لمعارك التحرير – جرف الدراويش

     معارك التحرير في الطفيلة –  دَيرْة الغور

141
صورة لمدينة الطفيلة و تظهر قلعة الطفيلة أعلى الجبل و التي تمركزت فيها قوات الثورة و فرسان الطفيلة إبان تطهير الطفيلة من الاحتلال العثماني

مقدمة
قدمنا في المسار الرابع لعمليات التحرير توضيحا تفصيليا عن معارك الطفيلة و معركتها المشهورة باسم ( حدّ الدقيق ) و تضحيات عشائر الطفيلة تحت قيادة الأمير زيد بن الحسين في مواجهة الاحتلال التركي العثماني و حلفائه ،استراتيجية التنظيم العسكري لقوات الثورة فيها.

وقدمنا سجلا للشهداء الأبطال و الجريحات من النشميات و الحرائر، وعرضنا انتصار قوات الثورة و فرسان عشائر الطفيلة على الحملة التأديبية الأولى التي قادها الجنرال حامد فخري ، وكيف تلقت قوات الاحتلال التركي هزيمة نكراء و عادت تجر أذيال الخيبة و الصدمة أمام شجاعة مقاتلي الطفيلة.

في هذا الجزء نستعرض مسار حملة التأديب الثانية التي شنتها قوات الاحتلال التركي ضد أهل الطفيلة بعد هزيمتها أمام فرسانها، و كيف نكّلوا بأهل الطفيلة عبر القصف بالطائرات الألمانية، و اضطروهم لتكبد جحيم النزوح ، عبر رحلة شاقة وموجعة، أصابت الأطفال والنساء معاً، واضطرت النساء الحوامل أن ينجبن خلال ذلك المسير الطويل بين الأودية الوعرة، ونوضح كيف أصبحت رحلة الدوران حدثاً هاماً يؤرخ به أهل الطفيلة أعمار الناس ووقائع حياتهم و تُسمى عندهم بـ ( دَيرْة الغور ).

T2
عدد من فرسان عشائر الطفيلة أثناء عمليات الترقب و الاستطلاع للقوات التركية الغازية

حملة التأديب الثانية

مع مطلع شهر شباط  من عام 1918 ومع الهزيمة القاسية التي تلقاها الجيش التركي وحلفاءه الألمان و النمساويين في مدينة الطفيلة فإن الاحتلال العثماني بدأ يخطط لهجوم على الطفيلة وبحملة مدروسة تسمى ( الحملة التأديبية الثانية  لأهل الطفيلة ) بعد حملة حامد فخري التي توعد فيها الطفيلة ليمحقها ويقلب عاليها سافلها، ويضع السيف فى رقاب أهلها وهذا ما يذكره المؤرخ سليمان الموسى في كتابه ” لورنس والعرب ” ص١٥٣  وكان الهدف الرئيسي من هذه الحملة هو إزاحة قوات الثورة بشكل نهائي واحتلال البلدة.


الحملة التأديبية التركية ومساراتها

حان الوقت لدى الأتراك والألمان لينطلقوا بحملتهم المعدة لإعادة احتلال الطفيلة- بعد طردهم منها- في مطلع شهر آذار 1918، ويذكر أمين سعيد فى كتابه ( الثورة العربية الكبرى، م1 ، ص٢٤٥ ).

” وعلى أثر هذه الكارثة – يقصد المعركة السابقة التي هزم بها الأتراك من فرسان الطفيلة – جاء المارشال الألماني فون فالنكنهاين إلى معان، وتفقد المكان، وأمرت القيادة العليا محمد جمال باشا بأن ينتقل إلى محطة جرف الدراويش ليقود القوات التركية التى صدر الأمر سراً بحشدها لاستعادة الطفيلة وسموها ( قوى التأديب ) وكانت بقيادة الضابط الألماني ( نيونيدر ماير ) ومعه قوات تركية وبلوك خياله ألماني مع رشاشاته وكتائب فنية مع تليفون وبرق لاسلكي واستحكام “.

 

مواجهات صعبة و المحتل يعيد حساباته

يبدو أن المعارك في مدينة الطفيلة انتقلت من مراحل التماس في نهاية شباط إلى مواجهات صارمة زاد في قسوتها تكثيف العدو التركي لقواته والإستعانة بوسائله الفنية ومضاعفة مدفعيته وطائراته التي لامست الروح المعنوية عند الجنود والأهالي فأصبحت اللقاءات بين الطرفين صعبة جداً خاصة في مرتفعات الطفيلة الشرقية، التوانه وعابور والمصلى والحرير وغيره.

وقد استفادت القوات التركية المحتلة مما حدث لها في معركة الطفيلة القديمة ـ  معركة حد الدقيق – ففي هجومها الجديد – الحملة التأديبية الثانية – اختارت هذه القوات اتجاهاً آخر للهجوم غير المسار السابق المُتعب الذي اعتمدته في سيرها من نواحي الكرك إلى وادي الحسا في أرض شديدة الوعورة، أما الآن فهي تنطلق من شرق صحراوي واسع وينفع في كشف من يواجهها، تدعمها طائراتها وتسيطر على سكة الحديد هناك بعد أن أصلحت ما خرب منها، وبعد أن توقفت موجة البرد والثلوج في نهاية كانون الثاني وشباط ومطلع آذار فإن القوات التركية المحتلة ستأمن شر برودة الجبال الواقعة غربي محطتي الجرف والحسا وهي تتجه غرباً إلى الطفيلة.

وفي هذا الوقت من نهاية الأسبوع الأول من آذار حدثت لقاءات صعبة بين قوات الثورة وفرسان الطفيلة والتي يعوزها سرعة الإسناد بالمؤن والذخيرة ونقص الإمدادات بسبب البعد عن مراكز القيادة الرئيسية، وبين القوات المعادية – تركية، ألمانية، نمساوية و بلغارية – والتي تمتلك أسلحة حديثة وظهيراً متماسكاً.

وكانت أول المنازلة بعد محطة الجرف وعلى بعد 16 كم غرباً وفي خربة التوانه، وهي موقع مهم فيه نبع ماء غزير فاحتلته قوات الاحتلال التركي التي واصلت طريقها غرباً بمحورين متقاربين أحدهما احتل خربة عابور التي تبعد ٥ كم عن التوانة وعن الجرف 19 كم، أما المحور الآخر المرافق من اليسار – جنوباً – فقد اتجه إلى ما يراه من مرتفعات – الطولانه، أم الحرمل، المصلى، السحبانية و وادي الحرير – ويعترضه ثّوّار الطفيلة والعشائر البدوية الأردنية القاطنة هناك وخاصة فرسان عشيرة المناعيين.

كانت القوات التركية ومن معها ترتاح في الليل في مواقع محروسة ترسل أضواء كاشفة، وفي النهار تتحرك بسرعة مستعينين بالمدافع ذات المدى البعيد والتى تمهد للزحف،  وتذكر بعض المصادر إن الهدف من الحملة التأديبية كان واضحاً و هو تنفيذ سياسة ( المطحنة ) بحيث تتقدم القوات التركية، وتتراجع قوات الثورة أمامهم فيبتلعون الأرض ويطحنون القوات والسكان وتدفعهم باتجاه خليج العقبة لتأمين الاتصال مع القوات التركية المحتلة في معان ).

ارتدّت قوات الأمير زيد بعد منازلات غير متكافئة لتتواجد في مرتفع العيص، ولكنها لم تستطع الثبات بسبب نقص المؤن و الذخيرة فاتجهت إلى الطفيلة ومنها جنوباً إلى الرشادية في ٦ آذار ، وشعرالناس بثقل الوقت والمفاجأة بما حدث، تبع ذلك دخول القوات التركية المحتلة بلدة الطفيلة وأقاموا فيها – بعد نزوح اهل الطفيلة إلى الأغوار الجنوبية – وتجول الجنود في أسواق البلدة، وتسللوا إلى البيوت ونهبوا ما وقعت أيديهم عليه وخربوا بعض مصادر الماء والبرك وقنوات المياه كعادتهم في السلب و النهب و التخريب.

رجم الشاويش

كان الزحف التركي الذي حطّ على المنطقة  يعتمد على التمركز في قمم جبال كاشفة وهو يتقدم، ورغم أن المقاومين من أهل المنطقة لم يغيبوا عن ساحات القتال و ظلوا يتصدون للزحف، إلا أن كثافة نيران العدو التركي من أسلحته الحديثة لم تترك لهم مجالاً في مواصلة الصمود، ولم تسلم مضارب أهل الجبال وتجمعات بيوت الشعر من مدافع الترك وقنابل الطائرات.

T1
مقاتلو الثورة العربية الكبرى من فرسان ووجهاء عشائر الطفيلة

ومن الرجال المقاومين في أحشاء الجبال سقط عدد منهم فى تلك المواجهات وما زالت قبورهم شاهدة في تلك السفوح في الطولانه، ويستطيع المتجول شرقي هذه السفوح أن يرى بين الصخور قطعاً من الهياكل العظمية التي كشفت عنها أمطار الشتاء وعوامل التعرية – خاصة في أم حبابيل وأم احميطه – وهناك أيضاً كانت مقبرة جماعية ل ( ١٥ ) جندي شهيد من قوات الثورة عاد إلى جثثهم الريفيون ودفنوهم في حفرة واحدة وهذا ما يشير إليه صبحي العمري أنه قرب جبل ما المصلى في كتابه ( لورنس كما عرفته، ص210 ).

وسُمي المدفن ب ( رجم الشاويش ) حيث وضعت كومة حجارة لتغطي القبر، ونسب إسم الموقع لشاويش المجموعة، كما سمي مكان آخر قريب جبل ( الخطبة ) نسبة إلى من استشهد من المقاومين من عائلة ( خطبة الحميدات ) ومشهده واضح جداً.

ديرة الغور

ما أن شاهد أهل الطفيلة انسحاب قوات الثورة بأسلحتها وبسرعة ملفتة وسماعهم للأخبار الآتية من العدو التركي أن الحملة التركية هي حملة تأديبية حتى اجتمع رجال البلدة واتفقوا على رأي واحد ينص على أن ينقسم الرّجال إلى مجموعتين :

– المجموعة الأولى ترافق النساء والأطفال إلى غور فيفا لحمايتهم من عبث جنود الجيش التركي وتحرشهم المعهود بالنساء و الصبيان.

– المجموعة الثانية تلتحق بقوات الأمير زيد في الرشادية لتستمر في دور القتال و تحت إمرة قائد الفصيل ( إحمود ) كمتطوعين دائمين في بقية ما ينتظر من معارك الثورة.

وعلى اثر هذا الرأي اتجهت المجموعة الأولى في يومي 6 ، 7 آذار ١٩١٨ باتجاه قرية عيمه، وحاول أهل قرية عيمة بما عرف عنهم من كرم ونخوة أن يقنعوا أهل الطفيلة القادمين إليهم بالبقاء معهم ويكون العيش مناصفة بين الجميع، وتغلب رأي من دعا إلى الابتعاد عن التماس مع جنود الترك خوفاً على النساء قبل كل شيء، فواصلت هذه المجموعة نحو منحدر( مليح ) وأم جفنه غرباً ثم إلى غور فيفا وميلاً إلى الجنوب حيث وادي عربة ثم ( الضحل ).

ولما سمع الناس أن الأتراك رحلوا فيما بعد عن الطفيلة مال رجال المجموعة ومن معهم من نساء وأطفال إلى الشرق حيث مغاريب قرية بصيرة، فصعدوا إلى خاصرة مرتفع ( الكولة ) ومنه إلى عين البيضاء، ومن ثم إلى الطفيلة فوصل أولهم البلدة يوم 23 / 3 / 1918، وتبعهم آخرون على مراحل، وكانت تلك الرحلة شاقة وموجعة، أصابت الأطفال والنساء معاً، كما أن بعض النساء الحوامل أنجبن خلال ذلك المسير الطويل، وأصبحت رحلة الدوران هذه تُسمى عند أهل الطفيلة بـ ( دَيرْة الغور )، وظلت حدثاً هاماً يؤرخ به السكان أعمار الناس ووقائع حياتهم.

 

رسالة من الأمير زيد إلى الأمير فيصل

20 اذار 1918

( العدو أخلى الطفيلة وتقهقر، بعثت الشريف علي بن عريد والشيخ حمد بن جازي، ومعهم رهط عسكر مع وكيل قائمقام لحفظ الديرة، يلزم تحرير كتاب للشيخ ذياب من طرف سموكم بأن يحضر لديكم لأجل المذاكرة معه في شؤون قضائه لأن بقاءه في الطفيلة في الوقت الحاضر يضر، استرحم إرسال القائمقام ومأمور الشرطة للطفيلة.

كان انسحاب العدو التركي من الطفيلة بدون تعجّل إذ سار على مراحل، أي إن انسحابهم لم يكن شاملاً لأن وحداتهم الاستطلاعية المتمركزة في المرتفعات الشرقية للطفيلة وفي محطتي الحسا وجرف الدراويش ظلت تقوم بأعمال دوريات نحو الطفيلة بصورة متواصلة، وقد عادت إحدى دورياتهم في أواخر آذار إلى خرب العيص المشرفة على الطفيلة وأسرت عدداً من أبناء الطفيلة، ثم أرسل ضباطها يهددون الشيخ ذياب العوران حتى يتعاون معهم ضد الثورة، ومن خلال قوتهم المسيطرة على مرتفعات ومشارف البلدة، وخلّو المنطقة من قوات رادعة أوصلوا رسائلهم إلى السكان أن بدّلوا موقفكم تأمنوا جانبنا.

وبعد أيام اختلفت ظروف الحرب إذ جاء أمر مفاجئ بإنسحاب الترك يوم  23 / 3 / 1918 وهذا الأمر جاء بسبب الزحف البريطاني من فلسطين باتجاه الشرق ومحاولة اجتياز نهر الأردن ليصل إلى مرتفعات السلط، فلا بد من مواجهة التقدّم البريطاني فأمرت القيادة التركية قواتها في الطفيلة بالانسحاب لتعزيز الجبهة حول عمان للدفاع، وهكذا حان الوقت لقوات الثورة لتدخل الطفيلة من جديد ولتبدأ استعدادات القوات لمرحلة جديدة من العمليات العسكرية.

عودة أهل الطفيلة إلى بلدتهم

بعد نزوح نساء الطفيلة والأطفال ورجال الحماية نحو الأغوار في وقت الهجوم التركي والحملة التأديبية، ولمدة غياب متعبة حوالي ثلاث أسابيع، عاد من نزحوا عندما غادرت القوات التركية المحتلة البلدة، فوجدوا الدمار والتخريب قد حل بيوتهم، وراحوا يرممون ما خربه الاحتلال التركي في الأواخر من أيام آذار ومطلع نيسان، وفي ذاكرتهم من دفن في الرحلة أو من ولد في موقع ما، ونسي الناس مواجعهم وهم يصلحون ما تعرضت له قنوات الري والبرك والترع من عبث تركي أو إهمال .

رجال الطفيلة يهاجمون العدو في الجرف والحسا

أرسل الأمير زيد إلى الطفيلة من جانبه ( طارش ) – أي مرسال – يطلب العون من أهل الطفيلة في مهاجمة قوات العدو في محطتي جرف الدراويش والحسا حتى لا يتعثر مسير قوات الثورة وهي تتجه إلى الشمال ».

وتورد الروايات الشفوية من فرسان الطفيلة ما يلي : ” جاءنا ( الطارش ) وقت غروب في ساعة من آخر أيام شهر آذار فانتشر الخبر، وتجمع رجال البلدة في باحة جامع محمد بن الحنفيه – المسمى حالياً بجامع النشاش نسبة إلى خادمه – وتشاوروا ثم نظّموا أ أنفسهم في مجموعتين :

39
عدد من مقاتلي الثورة ( فرسان عشائر الطفيلة ) بالقرب أثناء مراقبة القوات التركية الغازية

– المجموعة الأولى وعدد رجالها سبعون فارسا مسلحاً توجهوا في الحال شرقاً إلى الجرف سيراً على الأقدام – مسافة أربعين كيلومتر – وفاجأوا الحامية التركية هناك آخر الليل، وقد فرّ جنود الحامية باتجاه محطة الحسا وتركوا قتلاهم.

– المجموعة الثانية وعدد فرسانها ثمانون مقاتلاً فقد اتجهوا في الوقت نفسه إلى الشمال نحو وادي الحسا، ثم مالوا إلى الشرق حيث منبع الوادي وحين اقتربوا من المحطة فاجأوا جنود العدو هناك وقت الفجر فأصاب هؤلاء ما أصاب جماعتهم في الجرف فأخذهم الذعر وانسحبوا متعجلين إلى الشمال نحو القطرانة، ولم تكن خسائر رجال الطفيلة تذكر سوى بعض الجرحى وثلاثة شهداء عادت جثثهم إلى الطفيلة محمولة على أكتاف رفاقهم، وقد انضم لرجال المجموعتين بعض فرسان عشيرة المناعيين.

 

رسالة من الأمير زيد إلى الملك حسين بن علي

– الفقي ( الجردون ) :5 أيار 1918

إن سقوط معان يكون في الوقت العاجل، وأن العدو لم يتشبث في استرداد أوتعمير ما تخرب من الحديد – أي السكة – فالظاهر من هذه الحالة أن العدو قطع الأمل من معان وجنوب الأردن، ولا شك أن هذه أكبر فرصة لجيوش الثورة الجنوبية لسحق العدو التركي، مراكزنا قريبة من بعضها بعض، الطفيلة عقب تحريرها بأيدينا مرة ثانية؛ بعثت الشريف علي بن عريد إلى هناك ونزل فيها من البادية.

الطائرات الألمانية تقصف الطفيلة

و على أثر الهجومين اللذين نفذهما رجال الطفيلة على محطتي الجرف والحسا توالت هجمات الطائرات على مضارب عربان أهل الطفيلة – وهم في موسم الحصاد في جبالهم – وبطرق وحشية وخاصة ما أصاب مضارب عشيرة البحرات في الملافيس جنوب شرق وادي الحرير، وأرسل أهل الطفيلة طارش ليخبر الأمير زيد ويبدو أن شعور العدو التركي بمرارة هزائمه راح يمارس غضبه مع الأسرى وأهل الريف في الجنوب، وهذا ما نجده فى رسالة استرحام من الأمير زيد إلى الأمير فيصل.

139
فرسان الطفيلة يتسلقون أحد مرتفعات الطفيلة أثناء عمليات تطهيرها قصفها من الطيران الألماني و يظهر الدخان المتصاعد من البيوت جراء القصف

 

وحشية الاحتلال

رسالة من الأمير زيد إلى الأمير فيصل

– الفقي : 11 شعبان ( ٢٣ / 5 / 1918 )

وفي هذه الرسالة يشير الامير زيد إلى الوحشية التي ارتكبها العدو التركي مع الأسرى الأردنيين و العرب  في معركة الجردونة وتم ذبحهم، ويطلب الأمير من أخيه فيصل إنذارا للعدو التركي، والجدير بالذكر أن أحد رجالات الطفيلة قد اشترك في هذه المعركة وقطعت رجله.

278JPG
من الشمال إلى اليمين : الأمير زيد بن الحسين ؛ الأمير فيصل بن الحسين ؛ و وبعض وجهاء العشائر الأردنية في منطقة أبو اللسن

 

رسالة من الامير فيصل إلى علي وهبي – قائد قوة المرتبة الأولى التركية المحتلة في معان

–  حزيران / ١٩١٨

 . . ” ومع أنكم قصفتم أهالي وادي موسى والطفيلة بالطائرات فإنا حتى الآن لم نرسل الطائرات لتقصف معان، وقصدنا من ضرب معان تحطيم مستودعات الذخيرة الحربية التركية،  إننا سنداوم على ضرب حاميتكم في معان حتى تقلعوا عن ضرب مضارب البدو بالطائرات  “.

 

 

 

المراجع :

الثورة العربية الكبرة ( معارك الطفيلة – صور من البطولة ) ، سليمان حمّاد القوابعة ، أزمنة للنشر و التوزيع ، الطبعة الأولى،ص125- 149، 2008 .

الثورة العربية الكبرى : الموسوعة التاريخية المصورة ، البحث التاريخي والإشراف الدكتور بكر خازر المجالي ؛ فريق العمل خولة ياسين الزغلوان ، و فريق الفرس الشقراء ، مركز أرض الأردن للدراسات والنشر،2011.

التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية / بكر خازر المجالي، قاسم محمد الدروع 1995 .

الثورة العربية الكبرى : الحرب في الأردن 1917-1918 : مذكرات الأمير زيد بن الحسين / سليمان الموسى، دائرة الثقافة والفنون.

المراسلات التاريخية 1914-1918 : الثورة العربية الكبرى. المجلد الأول / أعدها وحققها وكتب حواشيها وترجم بعضها سليمان الموسى، 1973.

ذكرياتي عن الثورة العربية الكبرى، محمد علي العجلوني، مكتبة الحرية ،عمّان ، 1956 .

المعارك الأولى : الطريق إلى دمشق، صبحي العمري، أوراق الثورة العربية؛ رياض الريس للكتب والنشر، لندن، بريطانيا ؛ ليماسول، قبرص ، 1991،  ط. 1.

المسار الخامس لمعارك التحرير – دَيرْة الغور

 معارك الطفيلة في الثورة العربية الكبرى و سجل شهدائها الخالدين 

141
صورة لمدينة الطفيلة و تظهر قلعة الطفيلة من بعيد و التي تمركز فيها الأمير زيد بن الحسين بعد تطهير الطفيلة من الاحتلال العثماني

مقدمة
تحدثنا في المسار الثالث لعمليات التحرير عن استراتيجية التنظيم العسكري لقوات الثورة وأهميتها وكيف كانت مدينة الطفيلة واحدة من الأهداف التي
يحرص الاحتلال التركي وحليفاه الألماني والنمساوي على الحفاظ عليها ويعتبرونها منطقة تقع ضمن الخط الاحمر بالنسبة لهم، تتابعون في المسار الرابع توضيحا تفصيليا عن معارك الطفيلة و معركتها المشهورة باسم ( حدّ الدقيق ) و تضحيات عشائر الطفيلة تحت قيادة الأمير زيد بن الحسين في مواجهة الاحتلال التركي العثماني و حلفائه .

تمهيد

لقد شعر أهل المنطقة بوطأة الأتراك الذين اثقلوا السكان بالضرائب ، وجندوهم لأعمال السخرة والجيش ، وجمع الأخشاب ونقلها لمراكز الخط الحديدي الحجازي وبأجور زهيدة كما جردت الدولة على الطفيلة اكثر من طابور قوي ، فظهر حكم الأتراك للمنطقة واهناً وبذلك يمكن تفسير إصرار الكثيرين من أبناء المنطقة على دعم الشريف حسين والثورة العربية التي اقتربت من نفوس السكان ،و حينها اتفق أهل الطفيلة على موقف موحد واجتمعوا على ذياب العوران ليتولى إعلام الحسين بن علي بذلك ، وقد أرسل الرجل إبنه عبد السلام للأمير فيصل في في القويرة بتاريخ 4 / 12/ 1918  لكي يخبره أن أهل المنطقة يرحبون برجال الثورة العربية الكبرى ويقدمون له الولاء له .

استسلام الحامية التركية في الطفيلة

كانت حامية الطفيلة تتألف من ( 150 ) جندياً و ضابطاً تركيا ، ولكن موقف الحامية كان مرهونا بموقف أهل البلدة وجرت مفاوضات مع قائد الحامية ويدعى زكي الحلبي ويحدث الضابط صبحي العمري عن ذلك قائلا :       ” وأخيرا قرر قائد الحامية الاستسلام ، وهكذا دخلنا الطفيلة دون قتال يوم ( ١٥ ) كانون الثاني  ١٩١٨ م ، وفي يوم (16) كانون الثاني وصل الطفيلة الأمير زيد وبمعيته القائد جعفر العسكري وبرفقتهم سرية مشاة ومدفع جبلي،  ويضيف سليمان الموسى القول : « وهكذا نرى أن الثورة امتدت إلى الطفيلة عن طريق أهلها ورغبتهم في ذلك ، ولو صمم أهل الطفيلة على المقاومة وتعاونوا مع الحامية التركية لغدت مهمة قادة الثورة عسيرة للغاية ، كما أن القوة التي كانت مع الشريف ناصر لم تكن لتستطيع دخول البلدة عنوة واقتداراً. . . وقد انضم أهل الطفيلة بأسرهم إلى الشريف . . وكان ذياب العوران قد كتب للأمير فيصل يبلغه باستعداده لتسليم الطفيلة إلى أول واحد من الأشراف يصل إليها، هذا وقد بادر الأمير زيد فعيّن زكي الحلبي حاكماً إداريا للطفيلة.

الأمير زيد في الطفيلة

 ومن الجنوب قدم الامير زيد إلى البلدة ، وفي إقامته اتخذ مستقر له في خاصرة الطفيلة الجنوبية شمال نبع ماء يُسمّى ( عين حاصده ) ، وهناك بنى خيامه في أرض عشيرة البَحرات . . ويصف عبد المهدي بن محمود –أحد رجال الطفيلة – الحال في تلك الفترة . ومن مذكراته : ” ما أن وصلتنا أخبار تواجد الأمير زيد حتى عادت الذاكرة لتحملنا إلى أيام لنا مع الأمير فيصل في ديارالشام فهزتني النخوة ، وقلت لأخي إبراهيم بن محمود شيخ عشيرة البحرات؛  عليك يا أخي أن تلتقي الشريف ، وتقوم بواجب الضيافة العربية ، فالشريف في أرض عشيرتك ، واسمح لي أن أرافقك فاستجاب، ولما وصلنا المخيم رحّب بنا الأمير ولم أخبره عن علاقتي بأخيه ، حاول أخي دعوته للعشاء؛ ثم شكر أخي قائلاً : من بعد . . من بعد ؛ ” أي لاحقا ”  فأنا لا أقيم دائماً في المخيم ، الأمر يتطلب مني الحذر . . . فأنا جوال و ( راعي إشداد )، وعند المساء أقبل شيخ قرية صنفحة – محمود بن موسى الشبطات ومعه ثلاثة رجال مسلحين ، وأدركت بالحدس أن الأمير مدعو للعشاء وربما البيات في ” صنفحة “،  ذلك هو أول لقاء أشاهد فيه هذا الأمير واستطعت أن ألمح فيه أخلاقيات القائد العسكري والسياسي الفطن رغم صغر سنه ؛ ومنذ ذلك الوقت فإن أهل الطفيلة يطلقون على خاصرة المكان ( وادي زيد ) وعلى الكتف المطل عليه بـ ( الأميرية ) تخليداً للذكرى ، ومن نافلة القول فإن المنحدرات التي تطل على تلك المواقع هي ( المياسر )  وهي من دياربني عذرة تلك القبيلة العربية المشهورة

وما دام الأمير زيد جوّال فقد ذهب في إحدى الليالي إلى وادي موسى ، فهو  كما قال ( راعي إشداد) ، وهذا مصطلح تراثي وكلمة ( إشداد ) ترتبط بالجمل ، وهي تشبه في المعنى السرج للحصان؛ أي أن الأمير كان دائم التنقل على ظهر جمل وتحته الشداد ، فهو راعي إشداد دائماً ، يتنقل على ظهر راحلته .

الأتراك يحاولون استعادة الطفيلة

إن الصراع المرير على منطقة الطفيلة وبعدّة معارك من قبل القوات الألمانية والتركية من جهة وقوات الثورة من جهة أخرى يذكرنا بمعارك طبرق والعلمين شمالي افريقيا بين قوات الحلفاء وقوات المحور واختيار أجود القادة لها أيام الحرب العالمية الثانية ، و كانت الطفيلة ذات أبعاد عسكرية ممتازة على خرائط الجنرال النبي والقيادة العسكرية في لندن والقيادة التركية والألمانية في كل من استانبول وبرلين .

ولأهمية المنطقة عند العسكريين فقد قرر الأتراك إعادة احتلالها ، فهي في نظرهم تحتل مركزاً متوسطا في عقدة جبلية مرتفعة ذات مداخل و تشرف جبالها الشرقية على تجمعات جيوشهم قرب سكة الحديد شريانهم النابض . كما أنها من الغرب تطل على براح واسع جنوب البحر الميت ووادي عربة ولذلك فإن السيطرة عليها له ما  يبرره ، ورغم أن سكان الطفيلة حاولوا اختيار ذياب العوران للتكلم باسمهم كعناصر تستضيف الثورة وتساهم بها إلا إن القائد التركي جمال باشا السفاح حاول الاتصال بذياب لكي يستميله لكن أبناء ذياب وهما صالح وعبد السلام أصرا على عدم التخلي مع السكان عن القيادة العربية فاستمر الجميع في اداء دورهم وقطع الشيخ ذياب كافة خطوط الاتصال مع المحتل التركي.

وقد شعر الأتراك والألمان ان تحرير قوات الثورة للمدينة كانت ضربة شديدة لمركزهم وهيبتهم فصمموا على استعادتها ، و اختارت القيادة التركية لتأدية هذه المهمة أميرالاي – كولونيل – ” حامد فخري ” قائد قطاع عمان ، وقائد الفرقة ( ٤٨ ) بطل معارك أوروبا الشرقية كما يصفونه والملقب بـ ” فاتح بخارست ” .

احتشدت الحملة في عمان ثم اتخذت لها مسارا نحو الكرك تجر طوابيرها الثلاثة التي تضم من  المقاتلين      ( 900) وهم مشاة يتسلحون ببنادق تركية ذات رماية بعيدة، ومائة من جنود الخيالة المزودين ببنادق جيدة وسلحت التجريدة بأسلحة حديثة فتاكة مع مدفعي هاوتزر جيليين من صنع نمساوي ، و ( ٢٧ ) مدفعاً رشاشاً ورافقتهم جماعة من المتطوعين ، فأصبح العدد الكلي للحملة 1200 جندي ، فزحف حامد فخري من الكرك يوم 23 / 1 / 1918  ، واتجه جنوبا للهجوم على الطفيلة من اطرافها الشمالية ، ولم تصل أنباء هذه التجريدة إلى الأمير زيد إلا بعد أن بلغت طلائع الاحتلال التركي منطقة الحسا على هامش الطفيلة الشمالي وبدأت تصعد المرتفعات صباح يوم ٢٥ كانون الثاني .

 

معركة الطفيلة حد الدقيق 25 / 1 / 1918 م

  قبل أن يصل الأميرالاي حامد فخري قائد القوات التركية وادي الحسا أرسل تهديده لأهل الطفيلة ، و أقسم بأغلظ الأيمان أنه سيمحق البلدة – الطفيلة – وسيقلب عاليها سافلها ، ويضع السيف في رقاب أهلها الذين ساعدوا الثورة ، وأرغموا الحامية التركية على الإستسلام ، فالرجل خانته فطنته ، ودفعه غروره كبطل لمعارك أوروبا الشرقية ، وفاتح مدينة بخارست ، ويحمل على صدره نياشين وأوسمة الحرب ، أن يتحدى أهل ( جبال ) الذين يغضبهم التحدي، فأصروا على موقفهم وردوا على تحديه بتحدٍّ أمر، فاشتدت عزائمهم واتجه رجال الطفيلة  إلى مخيم الامير زيد جنوب البلدة ، ومعهم الصبيان والأطفال فى تظاهة عجيبة كما يرويها الطاعنون في السن الذين قاتلوا . ويدوّن الأمير زيد بن الحسين ما جرى في رسالة لأخيه الأمير فيصل قائلا : ” إن أهل هذه الديرة اليوم مربوطين بنا من كل وجه، والتحقوا بنا برضائهم ، وسلموا أطفالهم إلينا ، وباعو أرواحهم معنا  “.

 يقول الضابط صبحي العمري ، وهو من الذين شهدوا المعركة :

( وقد اضطرت القيادة التركية للاعتراف بأنها تقاتل جيشاً ، يعاونه شعب شجاع ، يقاتل على أرضه ودياره بشعور قومي ، وبقلوب جرّحها الأتراك وظلّت معادية لهم )

  موقف القيادة التركية بعد سقوط الحامية

 معلوم من خلال وقائع الحرب أن الطفيلة واحدة من الأهداف التي يحرص عليها الأتراك فهى منطقة تقع ضمن الخط الأحمر بالنسبة لهم خاصة في ظل موقعها الاستراتيجي و خبرة أهلها في انتاج و تصنيع مادة ملح البارود ذات الأهمية الاستراتيجية في النزاع العسكري آنذاك؛ لذا تركز الهجوم عليها لأهميتها الكبيرة .

ويذكر العماد طلاس أن سقوط الطفيلة أثار قلق الأتراك ، وصاروا يخشون أن يحدث الاتصال بين الجيش العربي في الأردن والجيش البريطاني بالقرب من بلدة مادبا، وخوفاً من أن تبادر قوات الثورة بمهاجمة الحامية التركية المحتلة في الكرك وهي مركز متصرفية ومنطقة تموين مهمة للأتراك .

وهكذا بدأ الأتراك يستعدون لتنفيذ ما يرونه وبحملة عسكرية انطلقت من عمان لإعادة احتلال الطفيلة وبقيادة الأميرالاي حامد فخري .

الحملة المهاجمة

انطلقت الحملة التركية من عمان واتجهت إلى الجنوب بواسطة القطار فوصلت إلى محطة القطرانة ، واتجهت عناصرها غربا إلى الكرك . وحامد فخري قائدها هو أركان حرب ، و يطلقون عليه في المحافل التركية ( فاتح بخارست ) عاصمة رومانيا حينما احتلتها القوات الألمانية ومعها فرقة تركية بقيادة حامد فخري ، ويحمل وساماً ألمانياً رفيعاً . وكان معه وهو يتجه إلى الطفيلة قوة متميزة من الجنود المدربين والضباط الأكفياء بأسلحة حديثة، وفي مصطلحات الأتراك العسكرية يطلق على هذ القوة ( مرتب فرقة ) أي فرقة منتخبة .

وواكب  الفرق الزاحفة على الطفيلة مفرزة من قوّات ” الجاندرمه ” في الكرك بقيادة الملازم محمد الحموي ويشير الضابط صبحي العمري إلى ” أن حامد فخري كان في الأصل قائد الفرقة ( 16 )  في الحرب العالمية الأولى ثم نقل إلى الفرقة ( 48 ) التي أرسلت إلى سوريا ليعهد لها حماية الخط الحديدي الجنوبي من عمان حتى الفريفره، وعندما اتجه إلى الطفيلة كان معه من المشاه ( 1500 ) ، ثم سرية خيالة وبطارية مدفعية ، وسريّة هندسة وسرية نقل ، ومخابرات وخبازين وسرية مقر ، وقوة من درك الكرك فيصبح المجموع ما لا يقل عن ألفين ” .

المعركة والتوثيق لها

 لم نقرأ عن معركة اختلف فيها من كتبوا عنها وفي العصر الحديث مثل هذه المعركة . وهذا ليس بخاف على من يقرأ في مراجعها حين يجد التناقض والخلط في الأحداث والمواقع والإحصائيات والتاريخ وكان من كتبوا عنها صنعوا معركة على هواهم واتفقوا على اتهام لورنس بالكذب لكنهم حذفوا ما يخصه من ضمير المتكلم وأخذوا معظم ما دونه فى أعمدته السبعة وحتى الخريطة التي رسمها للمعركة ، وهندسها من خياله ، وسيّر فيها محاور التفاف لم تكن أصلا ؛ أخذوها على أنها حقيقية.

بداية المعركة

ما أن وصل حامد فخري مشارف وادي الحسا حتى بدأ بممارسة تهديده وبواسطة مدافعه ( القدرتلي ) والتي أصابت ثلاثة مواقع في الطفيلة ، وهي :

– القذيفة الأولى وجهت لوسط بلدة الطفيلة لتعلن وصول الطوابير التركية .

– القذيفة الثانية أصابت قرية عيمة وفي جانبها الشمالي .

– القذيفة الثالة أرسلت متأخرة إلى بصيرا .

وكأن ما حدث هو إيذان بإعلان المعركة ، وبقي أهل الطفيلة في البلدة  ولم يغادروها إنما استعدوا للمواجهة بأسلحتهم ، فتشاور كبارهم لمقابلة الأمير زيد في في خاصرة الطفيلة الجنوبية يمدون له يد العون . وكانت قذائف مدافع الأتراك تلك قد انطلقت مساء ٢٤ / ١ / ١٩١٨ ومن وادي الحسا – شمال الطفيلة ، ثم ارتاحت القوات التركية المحتلة تلك الليلة في بطن الوادي، فرجالها من مجموعات المشاة جاءوا راجلين.

كذبة لورنس

وليس صحيحاً ما ذكره لورنس عن أهل الطفيلة . . . إذ يرد الأستاذ سليمان الموسى بالقول على كذب لورنس : ” ويقول لورنس أن الذعر دب في صفوف الأهلين ، وهذا غير صحيح ، لأن الأهلين كانوا منذ عصر اليوم السابق وطوال الليل يقاومون العدو بشدة ، ويحولون دون زحفه بسرعة – كما يعترف لورنس نفسه –  فكيف نوفق بين الذعر والاستعداد للفرار من جهة ، ، وبين المقاومة الجريئة من جهة أخرى ؟ ” .

 

 معسكر الأمير زيد

35
قوات الثورة العربية الكبرى تعسكر في الطفيلة

 كان قدوم الأمير زيد إلى الطفيلة من وادي موسى ، فاستقر جوار نبع ماء – عين حاصده – جنوب الطفيلة ، حيث حاجة المعسكر للماء، ورغم أن الأمير زيد قد وصل الطفيلة يوم 16/1/1918 إلا أنّه كان جوالاً، وأقام بعد ذلك فترة في وادي موسى ثم عاد إلى الطفيلة فوصله نبأ زحف القوات التركية فشعر بشيء من الحيرة حين بلغه ما روي عن ضخامة القوة الزاحفة كما يشير لذلك سليمان الموسى فبادر برسالة إلى أخيه الأمير فيصل، و في الرسالة الطارئة من الأمير زيد إلى الأمير فيصل في القويرة، ينبئ أخاه فيصل بزحف الأتراك، وطلب منه العمل على إمداده، وكانت خطته تقضي بالإنسحاب إلى وادي موسى فيما إذا لم يتمكن من صد الأتراك، أما رأي الأمير فيصل فكان أن يستعين الأمير زيد بالشيخ ذياب العوران لحشد المقاتلين، وأيضا الإغارة على السكة التي هي شريان المواصلات الرئيسي للأتراك ومصدر نقل اسلحتهم و سجنائهم من أهل المنطقة و الثوار، و بالتالي فالاستيلاء عليها سيؤثر على سير الحرب .

القوة التابعة للأمير زيد

لم تكن تلك القوة في الطفيلة كافية بحيث تستطيع أن تواجه قوة الترك  مباشرة في الميدان، فالنظاميون كلهم لا يزيد عددهم على ستين وهم – كما يقول الموسى –  جنود الرشاشات الأربع يقودهم الملازم صبحي العمري ، وجنود المدفعين الجبليين اللذين لم يكن مع كل منهما سوى ثماني طلقات ، وإثنا عشر خيالاً وعدد من المتطوعين المحليين يقدر عددهم بخمسين رجالا.

 موقف أهل الطفيلة

بعد أن تواردت أنباء الحملة التركية من وادي الحسا اجتمع شيوخ الطفيلة ومعهم ذياب العوران وعقدوا أمرهم على نصرة الثورة ، فتوجهوا إلى مخيم الأمير زيد واحتشدوا ظهر يوم  ٢٥ / كانون الثاني بعدد يزيد على الثلاثين من كبار عشائر الطفيلة وهم خيالة وتبعهم راجلون وطلبوا من الأمير أن يتجه معهم بقواته لمرتفع الطفيلة – العيص لمواجهة الترك فأكد لهم بأنه لا يستطيع أن يغامر بالمدفع أوالمدفعين وهي كل ما يملك للدفاع عن المدينة و أهلها، كما أضاف أن ذخيرة مدافعه ضئيلة جداً، غير أن رجال الطفيلة ألحوا عليه للمواجهة الفورية و القتال فتريث قليلاً في اتخاذ قراره العسكري . ويقول المؤرخ سليمان القوابعة في روايته عن صاحب المذكرات : « وحمداً لله أنه كان في دماغ أحد الرجال ( قسم الثورة ) فبادر بصوت عال ونطق ؛ .« لسان حالنا جميعاً أيها الشريف ومعنا أطفالنا و الصبيان كما تراهم ؛ نقسم بالله العظيم أن ننتظر حين تنتظر ، وأن نسير حين تسير ، وأن لا ندين للترك بطاعة ، وأن نحسن معاملة من يتكلم العربية ، وأن نجعل الاستقلال فوق حياتنا وأهلنا وأموالنا »، وزاد في الكلام رجل آخر فقال : « يا صاحب الشرافة ونزيدكم خبراً إن رجالنا المقيمين في وادي الحسا من البارحة وحتى صباح اليوم يقاتلون الترك فتوكّل على الله ».

ويضيف صاحب المذكرات كما ينقل عنه القوابعة ، وعند ذلك تهلل وجه الأمير وقد رأيته شاباً سمح الوجه في مطلع شبابه وربما لا يتجاوز السابعة عشرة؛ وعندها قال الأمير زيد : نعم..نعم..نعم ” كناية عن جاهزيته التامة للبدء في الهجوم ” ؛ فيقول صاحب المذكرات :  ( وحينها بادرت أنا والشاويش احمود الرفوع بتسجيل من تطوع، وانتظرنا ساعات حتى كثُر الرجال وكنا نخيّرهم بين متطوع حر معي أو جندي نظامي يسجله الشاويش أحمود الرفوع وهو قائد فصيل – فئة – ) وهكذا فإن قوات الأمير زادت كثيراً بمتطوعي الطفيلة والمنتسبين لجيش الثورة من البلدة وقراها.

139
قوات الثورة العربية الكبرى على إحدى مرتفعات الطفيلة أثناء عمليات تطهيرها من الاحتلال التركي و تظهر الدخان المتصاعد من البيوت جراء قصف المدفعية الألماني و النمساوي

 

أول المعركة في وادي الحسا       

كان أول لقاء للقوات التركية مع أهل الطفيلة  يوم 24/1/1918 وحتى آخر الليل في سفوح الوادي وكانت المواجهة قد فرضت على الطرفين  وهناك كما يقول سليمان الموسى « فإن المعركة فرضت نفسها فرضاً ، فرضها الأهلون المسلحون بالبنادق الذين كانوا يترصدون جنود العدو في هضاب وعرة يعرفونها شبراً شبراً فيقتلونهم ويغنمون سلاحهم، وهم لخفتهم لا يخشون ملاحقة العدو لهم، وما يجدر ذكره أن الأسلحة كانت متوفرة بين أيدي الأهلين حتى كان معظمهم – شيباً وشباباً- يحملون البنادق » .

 

الطريق إلى موقع معركة حد الدقيق

حين انطلق الأمير زيد من مخيمه جنوب الطفيلة وهو مطمئن لرجال الطفيلة الذين معه و شكلوا نسبة كبيرة فى قواته كان الوقت قد تعدّى منتصف النهار ولما واصل سيره باتجاه الشمال وتعدّى البلدة حطّ على مرتفع شمال مرتفع العيص في موقع يدعى خربة ( نوخه )  ومع وقت ميل الشمس، يقول المؤرخ منيب الماضي :  ( كانت قوات الأمير زيد النظامية قد اتخذت فى البداية مراكزها إلى الجنوب من المدينة ، ولكن بعد أن بدأ سوء تقدير الأتراك فى إدارة دفة المعركة، وفي تنسيق خططهم عادت هذه القوة – التابعة للأمير- فأتمت حركتها هذه في الساعة الثالثة بعد الظهر ، وبذلك أحكم الطوق
حول الأتراك من ثلاث جهات، وبعد أن أوقف العرب تقدّم العدو تحولوا للهجوم على جنوده بجرأة وبسالة ).

 مسار القوات التركية

أمضت هذه القوات وقتاً من ليلة 24/1/1918 في وادي الحسا وقد تعرضت للرصاص من الفلاحين في المنطقة وأهل القطعان القاطنين في المنحدرات الذين أرادوا المساهمة بإمكاناتهم في عمليات الثورة ومقاومة الاحتلال التركي، يقول المؤرخ القوابعة : ولما سألنا الرواة المقاتلين ،  كيف كنتم توجهون بنادقكم على الأتراك في العتمة ؟ ، كانت إجابتهم : ” شاهدنا الجنود حول النيران التي أوقدوها في بطن الوادي وهم يتناولون عشاءهم، ورغم ذلك أوقعوا بنا ثلاثة شهداء وبعض الجرحى وظلت الرماية بيننا على فترات، أما إصاباتنا فكان سببها نيران بنادقنا التي كشفتنا للعدو،  ولما أدركنا ذلك تنادينا للرمي خلف الصخور، وعلى أي حال كانت إصاباتنا أقل بكثير مما أصابهم ، ولمسنا ذلك بعد أيام عندما عدنا إلى مهاجعهم وشاهدنا كثرة الدماء قرب الجسر الذي سمي بجسر الشهداء ” .

ومع الفجر تحرّكت القوات التركية لتمس وادي اللعبان السفلي تاركة جبل التنور إلى يمينها ، ثم مالت غرباً لتترك وادي اللعبان فأشرفت على وادي الحسا من سفوحه الجنوبية وصعدت باتجاه الجنوب بمسارين متوازيين بعض الشيء :-

  • مسار استخدم طريق روماني مرصوف ويستعين به الخيالة والبغال التي تجر المدافع وتنقل الذخائر والأمتعة ومواد الإعاشة.
  • مسار إلى يسار المسار السابق تشوبه الوعورة وسَلَكهُ المشاة ، ويلتقي المساران قبل أن يصلا ( رجم كركا ) .

 

معركة الدقيق واحدة من صور البطولة

ما أن ابتعدت تلك القوات عن وادي الحسا بحوالي أربعة كيلومترات وفي حد الدقيق؛ حتى كانت عناصرها هدفاً للمدافعين من سكان المنطقة الذين انتشروا خلف الصخور وأكثرهم قناصة ورجال صيد يجيدون التخفي ، وظهر لهم الجنود الأتراك كأهداف واضحة مع مطلع الفجر ، وهناك في درب شديد الوعورة وفي ( فرز حد الدقيق ) أجهز الرماة على الغزاة الذين ارتبكوا لكثرة الإصابات بينهم وأخذتهم الحيرة بين إخلاء القتلى والجرحى ووعورة الطريق وعدو لهم لا يرونه ظاهراً، وفي ذلك يقول سليمان الموسى :  ” وبعد منتصف الليل بقليل بدأت القوة التركية تصعد في الجانب الجنوبي من الوادي على أمل أن تبلغ السهل عند الصباح ثم تتقدم لاحتلال البلدة . . . فى في تلك الليلة بدأت معركة الطفيلة لأن عشائر البدو والأهلين الذين يلجأون عادة إلى دفء الوادي في فصل الشتاء أخذوا ينقضون على أطراف القوة التركية الزاحفة ويوقعون بأفرادها ودوابها هجمات مفاجئة تبعث
الارتباك في الصفوف وتؤدي إلى وقوع الخسائر ».

T1
مقاتلو الثورة العربية الكبرى من فرسان ووجهاء عشائر الطفيلة

 وكان الشهداء الكثر في هذه المعركة هم من منطقة الطفيلة وحدها، وهم وحدهم من واجهوا الغزاة في هذه المعركة الصعبة وبصور من بطولة الثوّار الذين أنهكوا طوابير الترك فبدت مهزومة أصلاً.

 تناقل الناس الأخبار ، وتوافد مقاتلون آخرون عندما سمعوا بثبات سكان الوادي وتصديهم بجرأة للغزاة فأصبحت منطقة حد الدقيق ميدان معركة بحق، وأشكل الأمر على القائد حامد فخري إذ كيف يتعامل بجثث القتلى الأتراك وطوابيره يثقل عليها المدافعون، ولدرجة أنّ بعض الجثث تركت في مواقعها وقام الريفيون بدفنها في الأيام التي تلت فبدت هناك مقبرة ، أما شهداء الطفيلة فكان إخلاؤهم يتم في حينه.

 ويقول الضابط صبحي العمري : ( وكانت آخر الأخبار هي أن العدو اجتاز سيل الحسا وهو يتقدم نحونا وأن العشائر الأردنية تتلاحق لملاقاته من جميع الأطراف ) .

 

 معركة جبرونه واشتراك رجال عفرا

عندما التحم المدافعون من رجال الطفيلة مع العدو في معركة حد الدقيق وصلت أخبار القتال من سكان         ( عيون غزلان ) و ( الثمد ) إلى أهل منطقة عفرا الذين تنادوا بأسلحتهم فاتجهوا شرقاً والتحقوا بالمدافعين في نهاية المعركة، ثم تابعوا صعود القوات التركية إلى مرتفعات ( جبرونه ) يسعفهم في ذلك وعورة الأرض وشعابها وصخورها التي أعانتهم في التحصن فاستوقفوا تقدم القوات الأخرى وأوقعوا فيها عدة خسائر وإن استشهد بعض المدافعين من عفرا ؛ وبدت هذه المعركة التي يسميها البعض بـ ( معركة الدعيقة )   وكأنها طرف من معركة حد الدقيق .

وبعد أن بدأت القوات التركية تتخلص من مرتفعات وادي الحسا وأودية جبرونه وتصل إلى المناطق المتموجة فإن الرماية عليها قد خفت ولكنها لم تسلم من الخسائر، وهكذا قد يعثر المتجول بين أطراف المنطقة على بقايا عظام بشرية من جراء ما حدث وما أن وصلت الطوابير التركية إلى الأراضي السهلية في كركا وبعد رجم كركا حتى شعرت بشيء من الراحة .

رجم كركا مخيم طارئ

وهذا الرجم هو قصر روماني في الأصل، ويقوم على أرض كاشفة لجوارها، إنه بناء قديم من حجارة صوانية لحراسة ما حوله وإن ظهر اليوم على شكل كومة من حوائط مهدّمة ويعتمد في سقايته على بئر تجميع مياه الأمطار،  وهي أشبه بصهريج أرضي متسع ، واستطاع أدلاء الحملة التركية أن يرشدوا القائد إلى المكان فارتاحت الحملة هنالك لساعة وتزودت بالمياه وشربت الخيل والبغال واكتفى المشاه حيث توحدت مسارات القوات التركية، وأصبحت وجهتها جنوباً ولمسافة بضعة كيلومترات ليرى قائدها التركي كيف يواصل الطريق لاحتلال الطفيلة، وبعد ذلك وصل إلى مرتفع يسمى ارجوم النصر – الإسم الجديد للمكان بعد النصر في المعركة – ولكن المنطقة عادت إلى تعقد تضاريسها فاستعادت الرماية نشاطها ولحق الثوار قوات العدو من الخلف .

وهنا نقف عند خبر للمسارات مزعومة وما سمي ” حركات التفاف ” اختطها  لورنس في تقريره الذي بعثه إلى لندن في اليوم الثاني من معركة ارجوم النصر وأعطاها اسم ( معركة الحسا ) .

معركة ارجوم النصر ( التصفية )

يرتفع هذا المكان ( 1200 ) متر فوق مستوى سطح البحر، وهو موقع كاشف ومسيطر ، ويأخذ مشهد هضبة تسيطر على ما حولها أي على السهل المنخفض الذي يمتد أمامه نحو الجنوب حتى يصل إلى مرتفع يقابله هو خربة نوخه ، ويدعى السهل ب ( أبو الشوك ) واجتازته القوات العربية باتجاه بقايا العدو نهاية المعركة . وفي ارجو النصر الذي استقرت فيه القوات التركية يشرف على سهل يمتد جنوبا بثلاثة كيلومترات وينتهي عند مرتفع نوخه حيث مخيم الامير زيد ومعه قواته العربية ، فالقوتان متقابلتان إذاً.

 لا شك أن المكان اشترك في البطولة مع الرجال ، حيث قامت قوات من الخيالة بالتقدم نحو القوات التركية لتضرب ميسرة العدو الذي بات مسيطراً بمدافعه ورشاشاته من علٍ،  حيث حاول خيالة عشيرة الجازي التقدم باتجاه العدو لكنهم اضطروا للارتداد أمام نيران الترك ، ويقول سليمان موسى في هذا الصدد : ( أخذ الأتراك ينظمون صفوفهم على التلة، ونصبوا المدفعين والرشاشات، وأخذوا يطلقون منها القذائف،  و تراجع خيالة الجازي إلى التلة التي تعرف باسم  خربة نوخه ) .

هكذا لم يستطع أحد الطرفين أن يتقدم نحو الآخر فكل واحد منهما ومن مرتفعه يترصد الآخر وسيوقع به إصابات إذا عبر السهل الواصل بينهما ، ولكن الذي أشغل الترك بعد أن استقروا في ارجوم النصر هو أن رجال منحدرات جبرونه وحد الدقيق وعفرا لاحقوا القوات التركية وتوجهوا من خلال المنحدرات الغربية وبعضهم صعد من منحدرات اللعبان الشرقية أي تسللوا مع السفوح الوعرة من يمين وشمال قوات العدو التركية التي شاغلوها وهي تنتظر قليلاً ، فكيف ستتعامل مع مخيم قوات الثورة المقابلة لها في خربة نوخة ؟ . حاولت قوات الاحتلال التركي أن تطلق قذيفة وحيدة لتختبر قوات الثورة، فردّ عليها مقاتلو الثورة في مخيم نوخه بأول قذيفة لكن أحد العسكريين العرب طلب إيقاف الرمي فالمنظر يوحي بأن الثوار من مدافعي الطفيلة على مقربة من الجنود الأتراك فربما يتضررون، و بالتالي فالمدافع من الطرفين لم يكن لها دور فاعل حتى الآن » .

 يقول صبحي العمري : ( إن وصول البدو والفلاحين متفرقين على هذه الصورة ومجيء بعضهم من خلف العدو ومن داخل الوادي الذي كانوا يقضون فيه موسم الشتاء جعل الجيش التركى داخل حلقة كاملة الانطباق لا يمكن الشعور بها إلا من خلال ما كان ينهمر عليه من طلقات تنسكب من كل جانب الأمر الذي أخل في نظام سيره فأعاق تقدّمه وشوّش كل ما في تفكير قائده من أهداف وخطط » .

أما في مخيم الأمير فظل الترقّب سيد اللحظة وهنا يشير صبحي العمري : ( وهناك شاهدنا الأمير زيد ومن معه متسترين خلف بعض المرتفعات موجهين مناظيرهم نحو العدو، وكنا نسمع أصوات رمي البنادق تأتي من بعيد ومن اتجاهات مختلفة وتقدم جعفر العسكري إلى المحل الذي نحن فيه وقال : لاحظوا إنّ العدو توقف عن التقدم،  ويظهر أن البدو والفلاحين ضايقوه من جميع أطرافه، وهم لا يزالون يتكاثرون ) .

رجال عيمة يرفدون المدافعين

جاء المدد للمدافعين وقت الظهر من قرية عيمة وتوابعها في حينه – إضباعه وارحاب – ، وأفادنالمؤرخ القوابعة بذلك  من قاتلوا في المعركة ؛ حيث قالوا أن ( الشيخ ذياب العوران وصل عيمه واجتمع مع أهلها ثم حاول أن يزودهم بما يحتاجونه لكنهم رفضوا ، إنما استعدوا للنخوة وبعدد زاد على مائة مقاتل فاتجهوا شرقاً نحو مرتفعات وادى صافح فاستقروا في مرتفع  ( خربة السبعة ) ليقابلوا العدو شرقيهم في ارجوم النصر وعلى بعد أفقي يقارب ٣ كيلومتر، ومع هذا البعد لم تستطع بنادقهم أن تؤثر في ميمنة القوات التركية، ورغم ذلك واصلوا الرماية، وبعضهم تسربوا عبر مجادل وغيرهم سلكوا منحدرات ( اطماج والمقير ) فالتفوا خلف ميمنة الترك وصادفهم ثوّار آخرون من الطفيلة راقبوا زحف الأتراك.

T2
عدد من فرسان عشائر الطفيلة أثناء عمليات الترقب و الاستطلاع للقوات التركية الغازية

وأضاف الرواة : ” نحن كنا حزمة ، ولم نسمح لأحد أن يقودنا ، نعم توجه بعضنا قبل نهاية المعركة ، وعملوا التفاف من خلف الترك ، ومع آخر
المعركة اشتركنا في تجميع الأسرى، بعد أن جردناهم من بنادقهم ثم عدنا إلى شهدائنا في خربة السبعة، وحملناهم ليلاً ومعنا رجالنا الجرحى ، وهبطنا غرباً إلى عيمه وارحاب واضباعه،  وفي الصباح قمنا بدفن الشهداء في مقبرة عيمه ” .

 لقد كان لتواجد ثوار عيمة في خربة السبعة ومساراتهم عبر مجادل ومنحدرات مجاورة لها من شمال – اطماج والمقير – الدور الفاعل الذي اقترن بعفوية في رفد ثوار الطفيلة الذين توغلوا في صفوف العدو و ومن خلفه وميسرته وميمنته حيث تجرأوا عليه من قبل في حد الدقيق وجبرونه وعفرا واطراف كركا . وتابعوا مسير قواته؛ تساعدهم بذلك سرعة الحركة وطبيعة الأرض التى يعرفون تفاصيلها كما التحق بهم من الشرق أيضاً مقاتلون من عشائر الطفيلة من مناطق ( المشميل ) ) و ( أم أوبير ) ، واشتد القتال على العدو من من جميع الأطراف وقائد القوات التركية المعادية شعر بالضيق والارتباك . وكما قال بعض أسراه من الضبّاط  – إنه صرخ : ( لقد قضيت أربعين سنة من عمري في الجيش ولكني لم أشاهد ثوار يقاتلون كما يقال هؤلاء القوم ) .

و يقدم المؤرخ القوابعة نصا لصاحب المذكرات يورد فيه ما أكده قائد الفصيل حيث يقول :

” حاولنا أن نرسل أربعة خياله للقرى الجنوبية لاستنهاض الهمم ونحن نصعد لموقع خربة نوخه فحطّ علينا تباعاً أهل نخوة وقت اشتداد المعركة فى الوقت الذي واصل فيه رجال عيمة الضغط على ميمنة العدو”، وتوالت أحداث نهاية المعركة وقبل مغيب الشمس . . . وفي هذا الوقت أيضاً فإن أعداد المقاتلين تجمعت كروافد من قرى بصيرا وصنفحه وتوابعها وضانا، وكان في مخيم الأمير زيد عدد من اللاجئين الأرمن كما عاد إلى الطفيلة عناصر من عشائر حويطات الجازي أولهم الشيخ حمد بن جازي الحويطات والفارس متعب بن عبطان وأخوه عناد وآخرون .

 نهاية المعركة

يقول صبحي العمري : ( حين توغل المقاتلون في مواقع القوّات التركية ارتفعت أصواتهم بالتهليل وهجموا على جنود العدو فانفرط عقد الجنود وكثرت الإصابات فى المفرزة التركية ، وسرت عدوى الانفراط بصورة غريبة بين جنود المفارز الأخرى- بسبب الخوف و عدم شعورهم بشرعية وجودهم على الأرض- حتى أن الرشاشات تُركت مكانها وارتفع الصياح من الجانبين.

 فوجىء حامد فخري بما حدث، فامتطى صهوة جواده وطلب من أركان حربه ورجال قيادته أن يحملوا بنادقهم و يدخلوا الصفوف ليحاربوا مع الجنود، لكن القائد قُتل وبعد ذلك انفرط عقد القوة بأجمعها – ويضيف العمري – وقد قال أحد الضباط الأسرى أن القائد حامد فخري عندما ارتبك ، قال لمن بقربه هذه الجملة : ” هؤلاء العرب جعلوا قوانين الحرب عاليها سافلها “.

  

 من قتل القائد التركي حامد فخري ؟

ذكر بعض من قاتلوا أن الثوار الذين توغلوا في سفوح ارجوم النصر كانوا يسألون بعضهم : من منا سيفوز بقتل القائد الذي توعّدنا بسيفه ؟،  لذا كانت هناك منافسة حلّت ، فمن سيربح ويسبق غيره ؟ ومع الزحف أشهر  أحد القنّاصة نفسه للمهمة فكانت رصاصته فى عنق القائد التركي الذي سقط بلا وعي عن ظهر حصانه،  و هكذا أنهى الثورة مشروع القائد الذي أراد أن يضع سيفه في رقاب أهل الطفيلة الذين وقفوا مع الثورة، ومنهم المقاتل القناص ( حسين أحمد محمد القرعان ) الذي قتل القائد التركي حامد فخري.

 هذه هي النهاية التي أوقفت التجريدة الغازية، وكان للإرادة و الثبات الدور المهم ، وفي المرتفع الذي امتلأ بالقتلى تم تجميع الجثث بين الصخور ورجومها ، وسمي المكان ( ارجوم النصر ).

 ومما يروى أن أحد الرجال وصل جثة القائد واستل سيفه، ورجل آخر نزع ملابس حامد فخري ولبسها ، واتجه إلى الأمير زيد في نوخه.

39
عدد من مقاتلي الثورة ( فرسان عشائر الطفيلة ) بالقرب أثناء مراقبة القوات التركية الغازية

يقول صاحب كتاب لورنس والعرب : ” وأجمع الذين تحدثت إليهم أن المعركة كانت معركة شعبية أشبه ما تكون بحروب الأنصار ” . وينوه لذلك
صاحب المذكرات: ” إن معركة الأمس التى حدثت في 25  كانون الثاني من لعام 1918 م،  التقى فيها رجال ثوار وصبيان طوارئ وشباب في مطلع الرجولة يمارسون القتال بشغف، ونساء يشاركن في الحدث للضرورة، وكأن سكان البلدة وقراها وجيرانهم من العشائر البدوية يتداخلون ويلتقون معاً في صلاة غروب من شهر مبارك وفى مشهد صارم ومثير  “.

يقول الضابط صبحي العمري في أوراقه عن المعركة : ” ودب الصوت بين أهل البلدة، و ( دب الصوت ) يعني أن يصرخوا بأعلى أصواتهم يحثون الرجال للذهاب للقتال، ويكرره كل من يسمعه من رجال ونساء ، وينتقل من جماعة الأخرى، ويسيرون نحو المكان المقصود جماعة، بل كل واحد ممن يسمع الصوت يتناول سلاحه، و يأخذ أولا شيئا مما تعطيه له أمه أو زوجته من الزاد ويتوجه فورا،  واذا كان المكان غير بعيد فإن بعض النساء يتعقبن الرجال بالماء ” .

نساء الطفيلة و حرائرُها يخلين الجثث

يتطرق صاحب المذكرات لفعل النساء أيضاً في المعركة : ” وكنا نشاهد امرأة هنا تعبر الطريق ذاهبة وأخرى قادمة في مهمة، وكل واحدة تشد مدرقتها بحزام، تعين جريحا أو تنقل جثّة قريب لها، إن دور النساء أملته الضرورة و الأهمية لوجودهن، فكل رجال البلد في حومة الحدث ، وكل من رأيت يشدّ وسطه وصدره بالرصاص » .

ويشير العمري لمثل ذلك في أوراقه وهو مع الأمير زيد وجعفر العسكري ومن معهم، وهم يتوجهون للوصول إلى إقامة مخيمهم في خربة نوخه  ” واثناء الطريق مرت بنا امرأة تسوق حمارا يحمل جثتين ملفوفتين بعباءتين، تسوق الحمار وهي تئن بصوت مختنق ، ولما سألت النساء الأخريات قلن : – إنهما جثتا زوجها وأخيها قتلتهما قنبلة مدفع تركي “. وإذا استشهد مقاتلون في المعركة أو جرحوا فإن النساء المتواجدات في المعارك قد أصابهن ذلك أيضا كما سننوه له في قوائم الشهداء والجرحى.

نص من الرسالة الثامنة

رسالة من الأمير زيد إلى الأمير فيصل،  الطفيلة : ( ٢٥ / ١ / ١٩١٨ م ) .

” العدو تعرض علينا من وادي الحسا إلى أن وصل خطوط مدافعة الطفيلة، وبعد محاربة ٢٤ ساعة هجمت عليه جنودكم البواسل وكسرته شر كسره ،  الاغتنامات مدفعين من القدرتلي وسبعة رشاشات . الأسرى بلغ مقدارهم ماية جندي وخمسة ضباط . التفصيلات تردكم بعده  ” .

وهذه الرسالة  تم إبلاغها للأمير فيصل مساء يوم المعركة وقبل الإحصاء الكلي النتائج، لذلك نكتشف لاحقا أن الرقم زاد عن ذلك

 نهاية المعركة والاحتفال بالنصر

 اقتربت الشمس من المغيب والغيوم تغطي فضاء الجبال . . . وكانت لحظات الهزيمة موجعة للعدو التركي ، يقول الضابط صبحي العمري فى كتابه – لورنس كما عرفته – : ” شاهدنا الأتراك يلقون بأسلحتهم ويتراكضون والقرويون من خلفهم يقتلون من لم يلق سلاحه ويجمعون ما وصلت إليه أيديهم مما تركوه، ولم يكن أمامي شي أفعله، لأن الرمي أصبح غير ممكن ، فالقرويون قد اختلطوا بالأتراك من كل جانب وخط دفاع العدو انفرط عقده ، والبدو والقرويون يتعقبون المنهزمين من كل طرف”.

أما ما يقوله الضابط محمد علي العجلوني في كتابه – ذكريات عن الثورة العربية الكبرى  :-

” وقبل المساء أطبقت خيول العشائر ، على جنود الفرقة المهاجمة من جهاتها الأربع وأصابت حامد فخري رصاصة فى رأسه خر صريعاً على أثرها،  وتحطمت مقاومة العدو تحت ضغط المهاجمين الشديد عليه وأبيدت الفرقة إبادة تامة ولم يبق منها إلاّ تسعة وعشرون ضابطاً وما يقرب من المائتي جندي استسلموا أسرى ، وفر أفراد الدرك.  وما رواه لي البكباشي كنعان أحد الضباط الأسرى إن ما لقوه في هذه المعركة أذهلهم وهم الذين خاضوا المعارك فى كثير من الجبهات الحربية، وكانوا لا يتوقعون أن العرب يستطيعون إدارة الحركات الحربية في مثل هذه المهارة ، ومما رواه أن حامد فخري قبل مصرعه بدقائق كان يصرخ بملء صوته قائلاً : إن العرب أفسدوا نظام الحرب وأورد الضابط التركي الأسير في صدد ذلك كلمة تركية غير جديرة بالذكر يشتم بها العرب » .

لحظة الانتصار

مما يذكره صبحي العمري في نهاية المعركة : ” وبينما كنا في حالة نكاد نطير فيها من الفرح عقد جنودنا حلقة رقص وراحوا يغنون ويرقصون ” ، أما صاحب المذكرات التي عرضها المؤرخ القوابعة  فقد أورد التفاصيل بشكل أكبر قائلا :  ” بعد فرار عدد قليل من جنود وضباط العدد ومن معهم من متطوعين باتجاه الكرك، وبعد سيطرة الثوار على مخيم الترك وحراسة أسلحته الثقيلة أقبل علينا أربعة خياله يغنون وكأنهم في سباق أثار استغرابنا في مخيم نوخه وبشروا الأمير زيد بالنصر، وطلبوا منه أن يتفضل لمشاهدة الأسلحة واستلامها مع الأسرى، وفي تلك اللحظات تفاجأ الأمير ولم يجب ، بل أمعن في التفكير ثم التفت إلى جعفر العسكرى قائد قواته وإلى عبدالله الدليمي و راسم سردست، وسادت لحظة وجوم خيمت علينا في المخيم،  ثم بادر أحد الخيالة الذين قدموا بالقول : ” السيد الأمير، المعركة انتهت، وأنت في أمان ” ، وعند ذلك سأل الأمير عن المدافع التركية؛ فأجابه أحد الخيالة : ” المدافع عليها حراسها”، وكأن الأمير ظن أن الأمر فيه خدعة من العدو لاستدراج الامير ومعاونيه،  وهنا بادر القائد العسكري فوجه كلامه إلى سردست والدليمي والعمري أن استعدوا، وقد اختلوا في خيمة مع الأمير، ثم عادوا إلينا فنهض الجميع ووزع القائد العسكري القادة بين ميمنة وميسره وفي حالة تأهب ، ورافقنا حمد بن جازي وخيالته الستة وهم من الجازي أيضا، وانطلقنا جميعاً في حالة الحذر ولكن الجميع مستعد لأي مواجهة تأتي، وبادر القادة بالقول: ” أرواحنا فداء لك سمو الأمير ”  وكذلك صرخ الشيخ حمد بن جازي بالنخوة ، وما أن سرنا بضعة أمتار إلأ وأقبل علينا رجل مقاتل ينادي : ” يا أمير زيد أنت تشوفني قلعت اهدومي ، ولبست اهدوم قايد العدو-يقصد ملابس الجنرال التركي حامد فخري- ، وهذه نياشينه هدية لك يا زين الشباب ” ، هنا تورّد وجه الأمير واختلف مزاجه وأيقن أن النصر جاء في وقته.

69
مقاتلو الثورة من فرسان العشائر الأردنية  يحتفلون بانتصاراتهم في معارك الثورة العربية الكبرى

 وانضم إلى المسيرة جماعة قدموا من موقع مخيم العدو التركي، وهنا انطلقت الحناجر بالغناء وزغاريد الرجال فبدت البشائر تنهال علينا، والخيالة الذين وفدوا علينا راحوا يغنون للأمير :

يا زيد وانزل بالسهل      حنّا العباة الضافية

نعلي البيارق في اللظى    نحميها وهي الغالية

يازيد حنّا رجالك

والأمـــر بيـدك يازيد

يازيد وانزل يمّنا       بأرض الطفيلة العالية

والعهد كار إرجالنا       فى إجبالنا والبادية

يا زيد حنّا رجالك

والأمر بيدك يا زيد

142
الأمير زيد بن الحسين يتحقق من أحد مدافع canon 75mm فرنسية الصنع تابعة للقوات النمساوية والتي غنمتها قوات الثورة جراء عملية تطهير الطفيلة من القوات العثمانية و حلفائها

و هنا اطمأن الأمير فتولته حالة هياج واندفاع يسابقه خيّال ملثّم من من ثوّار الطفيلة يحمل راية انتزعها من مخيم الأمير، ورفعها على فوهة بندقيته يسبق الجميع ويخاطبه الأمير زيد قائلاً : ” هدّي يارجل “، فيردُّ الفارس الملثم على الأمير بالقصيد وهما في سباق :-

وتقُلِّ لي ” هدّي ” يا الشريف     وأنت الهويان تناديهـــا

هالراية وعينك نشريها        ونعيـــــد الهيبة وماضيها

والخيل إتصايح حاديها     لترد المحنة وراعيها

وراعيها ضايع في لحده  والقصة تسمع تاليها

وتنصاني هدي يا الشريف  والحرب تواجه صاليها

وش لك بالـــــــروح إدّاريها  لا صـار المــــــوت يباريها

وتزداد نشوة الأمير زيد وهياجه فيرد بالقصيد على ذلك الملثّم الذي يجاوره :

غــزّاز الرايه وش يقــــول       أثاري علمه بالعجل

النصر بعون الله حصل       وانحيِّ ( اجبال )[1] ومن سـأل

ومن فوق خيلٍ مَكرُمات     هويان وحادينـــي زعل

ويضيف صاحب المذكرات : واستمر المسير بنشاط عجيب والقصيد يتردد، ومن جانبي سمعت رجلاً يغني ويقول في مطلع قصيد كمن يتشفى بما حدث للعدو التركي نظير احتلاله و اجرامه بالأهالي :

والترك ما يعرفوا قول صُحبه    إلاّ بضرب السيف والدم سايل

الصعود إلى القمة

يكمل القوابعة في سرده لما نقله صاحب المذكرات عبدالمهدي بن محمود بقوله : توجهنا إلى المرتفع ومعنا رجال من الأرمن المشاركين أيضا إلا أن القادة المرافقين للأمير مازالوا متيقظين مما أسعد الأمير أيضاً، وفي قمة المرتفع حيث نهاية المعركة  وجدنا ما يدل على بقايا معركة فالجثث متناثرة وهناك بقايا أمتعة وذخيرة،  وقد وجدنا  فريقاً من الثوار أخذوا الأرض حول مرابض مدافع ورشاشات فنهضوا لاستقبالنا يرأسهم رجل ، وإذ بهم قد أعدوا أنفسهم بعد أن انتهت المعركة لحراسة الأسلحة الثقيلة، ولما حيّاهم الأمير زيد قال كبيرهم ويدعى ( أحمد عبد الله الشبيلات ) وكانوا متعبين : ” يا أمير زيد ، توكل على الله ، وهذه أمانة لك فاستلمها “، شكرهم الأمير وبدأ القادة المرافقون بتفقد المدافع وبقية الأسلحة الثقيلة ، وطلب الأمير من مرافقيه نقلها معه إلى الطفيلة كما بدأ بعض المقاتلين بتسليم الأسرى وكان الأمير زيد قد أعلن عن جائزة مادية لكل من يأتي بأسير تركي دون أن يمسه بأذى ، وتلك محاولة إنسانية مسؤولة تنم عن سمو أخلاق الأمير زيد بن الحسين طيب الله ثراهما،  إن ما أسعدني هو رؤية بعض المقاتلين الجرحى الذين واصلوا الرمي وهم يضمدون جراحهم ولم يتوقفوا عن القتال والفرح يعلو وجوههم” .

 خسائر العدو

يمكن معرفة حصيلة الخسائر التي منيت بها القوات الغازية من خلال ما أوردته رسالة الأمير فيصل إلى والده الشريف حسين في ( 6 شباط 1918 ) وعلى النحو التالي : –

  1. 400 قتيل تركي بينهم قائد الفرقة حامد فخري.
  2. عدد من الأسرى ( 320 ) بينهم 17 ضابطاً ومن جملتهم قادة الكتائب
  3. 200 من الخيل والبغال التي كانت تخص الخيالة ونقل المدافع و مواد الحرب .
  4. 22 رشاشاً ، أما صبحي العمري فإنه  يذكر العدد (28 ) رشاشا من نوع مكسيم .
  5. 2 مدفع من طراز نمساوي وخيام وآلات وهاتف ومعدات أخرى مختلفة .
144
الأمير زيد بن الحسين وعدد من الضباط يتحققون من عدد المدافع النمساوية و التركية والتي غنمتها قوات الثورة جراء عملية تطهير الطفيلة من القوات العثمانية و حلفائها

وجدير بالذكر أنه رغم اختلاف المصادر التاريخية في ذكر عدد القتلى والأسرى إلا أن الجانب التركي قلّل من تلك الأعداد ، واختصر عدد طوابيره المهاجمة إلى ( 600 ) جندي من أجل المحافظة على روح قواته المعنوية .

 العودة إلى الطفيلة وتجميع الاسرى

وبعد أن انتهت المعركة وبدأ الليل عاد الأمير زيد ومعه القادة، ومضى ليلة راحة في بيت ذياب العوران بقرب السرايا، وبجوار مدرسة بدأ تجميع الأسرى في غرف لا تخلو من ازدحام، واهتم الأمير بأمرهم وخاصة الجرحى منهم، ودفعت جوائز نقدية لكل رجل حافظ على من معه من الاسرى، وفي الصباح تم إرسالهم مع حماية خياله ليصلوا إلى الأمير فيصل ومن ثم إلى ميناء العقبة.

140
قطعان الأسرى الاتراك يقودها ضباط جيش الثورة و فرسان العشائر الأردنية بعد معركة حد الدقيق و تطهير الطفيلة من الاحتلال التركي

وفي الصباح أيضاً تعاون أهل الطفيلة والقرى المجاورة في دفن شهدائهم وبعد الصلاة عليهم في الجامع الحميدي في منحدر السرايا وفى مساجد القرى .

تجمع الارمن في الطفيلة

كانت محنة الأرمن في بلادهم موجعة إذ أصابهم القمع التركي بوحشية سجّلها التاريخ حين طلبوا من الدولة العثمانية أن تمنحهم الاستقلال، فجردت الدولة عليهم حملاتها، وقامت بتهجير بعضهم لمناطق نفوذها وخاصة لبلاد الشام، واستمرت الحملات التأديبية والتى تعرض لها الشعب الأرمني وخاصة بعد ثورته في 15/4/1915 ، التي تركزت في مدينة فان – van – وسط أرمينيا  .

وتواصل تهجير جماعات الأرمن فكان نصيب الطفيلة حمولة قطار من المهجّرين الأرمن وصل إلى الجرف،  ومن ومن جرف الدراويش نقل الأرمن على البغال والحمير إلى الطفيلة وقراها، وكانت حالتهم محزنة بسبب ظروف التهجير الصعبة، ومات بعضهم، واعتنق الإسلام آخرون بسبب المعاملة الحسنة التي تلقوها من أهل المدينة، وتزوج أهل الطفيلة منهم، وعندما حدثت معركة الطفيلة انضموا إلى قوات الثورة فيها، كما عادت عائلات أرمنية إلى دمشق ومنها إلى أرمينيا بعد الحرب العالمية الأولى.

 

 جثث القتلى الأتراك

حين تعرضت القوات التركية في وادي الحسا وفي السفوح إلى هجمات الثوار المدافعين كان العدو التركي يدفن قتلاه قدر الإمكان، وعندما اشتدت رماية الكمائن لم يستطع الغزاة دفن جميع قتلاهم، وكان الدفن متعجلاً وغير متقن، وفي مرتفع ارجوم النصر عندما أجهز الرماة على الجنود، لم يكن الظرف أو الوقت يلائم مواراة الجثث، وخاصة في نهاية المعركة حيث ظلت الجثث متناثرة، وفي اليوم التالي كما أفادنا المسنون عاد الناس – وبحس فطري – يوارون جثث الجنود بين الصخور الصوانية في المرتفع وفي قبور جماعية، واستمر الفلاحون وطوال أسبوع جماعية يوارون الجثث المتروكة و والتي خفف من تعفنها برودة الشتاء، ولكن مع الزمن وكثرة أمطار ذلك الموسم الشتوي أظهرت السيول الجثث التي غطيت بأتربة بسيطة ، وإلى هذا الوقت قد يصادف المتجول في منحدرات الحسا وتلال جبرونه وحتى كركا تناثر عظام وتكشف مقابر، في معركة صعبة تناولت أحداثها رسائل قاد الثورة .

رسالة من الأمير زيد إلى الأمير فيصل – الطفيلة : 3 شباط 1918

( اليوم وصل إلينا تقريركم ، ولكن لا يجوز إخلاء الطفيلة وإبقائها بقوة لا إسم لها ولا جسم،  ولا يمكن أن تعتمدوا سموكم على أهل الطفيلة في أمر الدفاع عن بلادهم إذا لم يكن معهم أحدنا بقوة عسكرية، ولو لم تكن كبيرة، حيث أن أهل هذه الديرة اليوم مربوطين بنا من كل وجه،  فلا يجوز أن أن نبقيهم اعتماداً عليهم في مواجهة العدو بعد أن التحقوا بنا برضائهم وسلموا أطفالهم إلينا وباعوا أرواحهم معنا، خصوصاً بعد هذه المحاربة، وربما يقولون أن الشريف خاف وشرد، وهذه تضعنا موضع الخجل أمامهم، وتكسر معنويات من التحق وسيلتحق معنا في حركتنا، لذلك أرى إن كان لا بد من جمع القوات النظامية في مركز واحد، وهي تحافظ على حدود القضاء من العدو . تشرفت بأمر مؤرخ في 15 الجاري وظهر لي أن مولاي استنسب خطتي التي قررتها لحركات جيش الطفيلة، أحوالنا لم تتبدل، العدو يحشد قوة في الكرك، ولا أعرف ما هي نواياه، ولكن الحقيقة ستظهر قريبًا، فإما أن يتمركز في الكرك أو يتعرّض علينا،  أتتنا ثلاث طيارات للعدو التركي أمس ورمت علينا قنبلتين ) .

مما قيل عن أهمية المعركة

يقول العماد مصطفى طلاس : ( رفع الاستيلاء على الطفيلة من معنويات الجيش العربى وحقق بعض آماله، وبعد ثلاثة أيام من معركة الطفيلة نظم الأمير زيد إغارة ناجحة على ميناء الكرك ( غور المزرعة ) الواقعة على شاطى البحر الميت ، إن معركة الطفيلة كانت من أقسى المعارك وأعنفها، وقد أحدثت صدمة عنيفة للمستعمرين الأتراك، وعندما حاولوا استرجاعها منيت قواتهم بهزيمة ساحقة ).

وإذا عدنا إلى ذكريات عسكريين كانوا مع الحدث فإن صبحي العمري يشير في أوراقه : ( لقد كان ظفر معركة الطفيلة الأولى التي يسميها أهل الطفيلة ( وقعة حد الدقيق ) بالنسبة للخسائر التي مني بها الأتراك في الرجال والسلاح والمهمات أكبر ظفر حصل عليه الجيش الشمالي بل جيش الثورة بأجمعه منذ قيامها ).

 إن ساحة المعركة ترامت بين وادي الحسا وشعابه الجنوبية الوعرة وأراض متموجة إلى نهاية مرتفع يطل على سهل، رافقها جبهات قتال متداخلة وكمائن وأسلحة ثقيلة، تنقلنا إلى أحداث معركة ذات وقع غير قليل لذا ” تعتبر معركة الطفيلة هذه بحق واحدة من معارك الحرب العالمية الأولى ، وهي معركة من أشد المعارك قسوة على الأتراك، فهذه هي المعركة الوحيدة التي تم فيها إبادة قوات تركية كاملة، ولقد أعطت العرب دفعاً جديداً في إعادة لتنظيم، وازداد عدد جيش الثورة، وارتفعت المعنويات العربية، وبدأوا فعلاً يعملون من أجل تحقيق أهداف هذه الثورة العربية الكبرى، ويشعرون أنهم يستطيعون تحقيق الأهداف التي من أجلها يقاتلون”

وكتب الجنرال الألمانى ليمان فون ساندرز Limman Von Sanders – عن معارك الطفيلة ووصفها بأنها اشتباكات عنيفة في كتابه ( خمسة أعوام تركية ) . أما مجلة  Times)  (Sun day  فقد تناولت المعركة بمقال واسع كتبه جوليان سايمونز Julian Simons .

وتاليا قائمة الشهداء و الجرحى من أبناء مدينة الطفيلة في معركة حد الدقيق 1918 م كما وردت في أغلب المراجع .

سجل شرف قوائم الشهداء و الجرحى في معارك الطفيلة ( معركة حد الدقيق ) 1918 م

tafila 1

tafila 2

tafila 3

المراجع :

الثورة العربية الكبرة ( معارك الطفيلة – صور من البطولة ) ، سليمان حمّاد القوابعة ، أزمنة للنشر و التوزيع ، الطبعة الأولى، 2008 .

الثورة العربية الكبرى : الموسوعة التاريخية المصورة ، البحث التاريخي والإشراف الدكتور بكر خازر المجالي ؛ فريق العمل خولة ياسين الزغلوان ، و فريق الفرس الشقراء ، مركز أرض الأردن للدراسات والنشر،2011.

التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية / بكر خازر المجالي، قاسم محمد الدروع 1995 .

الثورة العربية الكبرى : الحرب في الأردن 1917-1918 : مذكرات الأمير زيد بن الحسين / سليمان الموسى، دائرة الثقافة والفنون.

المراسلات التاريخية 1914-1918 : الثورة العربية الكبرى. المجلد الأول / أعدها وحققها وكتب حواشيها وترجم بعضها سليمان الموسى، 1973.

ذكرياتي عن الثورة العربية الكبرى، محمد علي العجلوني، مكتبة الحرية ،عمّان ، 1956 .

المعارك الأولى : الطريق إلى دمشق، صبحي العمري، أوراق الثورة العربية؛ رياض الريس للكتب والنشر، لندن، بريطانيا ؛ ليماسول، قبرص ، 1991،  ط. 1.

[1]  ( اجبال ) هو الإسم الرديف للطفيلة .

المسار الرابع لمعارك التحرير- معارك الطفيلة

مجموعة من ضباط و مقاتلي قوات الثورة في معسكر القويرة
مجموعة من ضباط و مقاتلي قوات الثورة في معسكر القويرة

معسكر الأردن ( القويرة ) – الطفيلة
تحدثنا في المسار الثاني لعمليات التحرير عن استراتيجية التنظيم العسكري لقوات الثورة وأهميتها وكيف كانت مدينة الطفيلة واحدة من الأهداف التي يحرص الاحتلال التركي وحليفاه الألماني والنمساوي على الحفاظ عليها ويعتبرونها منطقة تقع ضمن الخط الاحمر بالنسبة لهم وكيف تم تجهيز الرتل الأول بقيادة الشريف مستور يعاونه فرسان العشائر الأردنية من عشيرة الجازي من قبيلة الحويطات الأردنية بقيادة الشيخ حمد بن جازي من أجل اتمام عملية دخول وتحرير الطفيلة.

لم تتوقع القيادة التركية وحلفائها أن تدخل قوات الثورة إلى الطفيلة بسهولة تامة في ظل وجود حامية عثمانية تتكون مما يفوق المئتي جندي، و باعتقادهم أنها ستتلقى اسناداً من عشائر الطفيلة، لكن ما حدث كان العكس تماماً، فإذا علمنا أن قائد الحامية التركية الرئيس ” العربي ” زكي الحلبي كان على اتصال سري مع الأمير فيصل المتواجد في القويرة، كما أن الشيخ ذياب العوران كان بدوره قد استبق الأحداث وأرسل ابنه عبدالسلام بشكل سري-نظرا لأن جواسيس الاحتلال العثماني كانت تراقب الطريق بكثب- أيضا لدعوة الأمير فيصل للتقدم بقوات الثورة وفرسان العشائر إلى الطفيلة؛ ومن هنا ندرك سبب سهولة الدخول الأول لقوات الثورة إلى الطفيلة، و هكذا فقد رفعت الحامية التركية في الطفيلة الرايات البيضاء ووقفت عشائر الطفيلة تستقبل بالأهازيج قوات الشريف ناصر بن علي القادمة من الشرق وقوات الشريف مستور القادمة من الغرب، و رفعت راية الثورة العربية الكبرى فوق قلعة الطفيلة يوم 15 كانون الثاني 1918 .

لاحقا لإعلان خبر دخول قوات الثورة للطفيلة، اضطربت قيادة الاحتلال التركي العثماني لتحريرها، و خشيت أن يؤدي تحريرها إلى تحرير المزيد من المواقع من قبل قوات الثورة، فقررت اعادة احتلالها ودفع فرسان العشائر الأردنية إلى الوراء، وسنستعرض هذه المعارك بالطفيلة ومحاولة الاستيلاء عليها من قبل قوات الاحتلال التركي في المسار القادم من معارك التحرير/ ارث الاستقلال .

وتاليا نقدم لكم سرداً كاملاً لأبرز تفاصيل المسار الثالث:

1.معسكر الاردن ( القويرة )

استعرض الأمير فيصل قوات الثورة العربية الكبرى في القويرة وأعاد تنظيم هذه القوات إضافة الى اجراء مزيد من التدريب للفرسان والمتطوعين وكانت فترة الإقامة في معسكر القويرة كافية لالتحاق المتطوعين الجدد من فرسان الأردنيين، إضافة للاتصال مع المزيد من شيوخ القبائل الأردنية.

  1. الطفيلة

تتميز مدينة الطفيلة بموقعها الهام والاستراتيجي وتوفر الحماية الطبيعية الجغرافية له ويلاحظ أن الحماية هذه قد عززت بمواقع أخرى خارج منطقة قلعة الطفيلة وهذه المواقع التي هي آثار وخرائب حاليا شاهدة على الحضارات الأصلية والفعالة التي استمر وجودها في المنطقة، وهذه الخرائب  تحيط بالطفيلة ” إحاطة السوار بالمعصم ” وهي :

من الشمال : خرائب نوخه ومجادل وكركا والقرن وبطينة والسبع .

من الشرق : خرائب العيص والنصرانية ، وخانق اللوز والخضراء وأم الحرمل.

من الغرب : خرائب أم الشعير ورويم وصنفحة .

من الجنوب : خربة المياسر وقصرالدير

و الطفيلة منطقة جبلية صعبة لا توجد فيها مساحات واسعة منبسطة الا في المنطقة الشمالية باتجاه وادي الحسا حيث يتوفر سهل منبسط ضيق بطول حالي 9 كم وبعرض حوالي 4 كم فقط اما في الجهات الشرقية فطبيعة المنطقة متموجة تكثر فيها الأودية المتفاوتة فى العمق والطول، وتصعب التضاريس جنوبا لكنها حادة وشاهقة وصعبة جدا عندما تتجه غربا حيث تشرف المنطقة على وادي عربة.

وعورة المنطقة وخصبها وكثافة المياه فيها، ووجود خامات معدنية متعددة منها النحاس والمنغنيز والفوسفات والاسمنت أكسبها أهمية خاصة جعلها موطناً لحضارات عديدة متعاقبة، فهي لم تخل مطلقا من الانسان على مر التاريخ فقد كانت منطقة الطفيلة مصدرا للنحاس والحديد لمنطقة المشيرفة في الكرك حيث كانت تصنع السيوف المشرفية. وقد كانت مقالع النحاس بالطفيلة وما حولها هدف غزوة حضارات ما بين النهرين عليها بالماضي البعيد. أما الطفيلي فحافظ على فطنته الهندسية الفطرية واكتشف بطريقة مبهرة كيفية تصنيع أفضل أنواع ملح البارود والذي اشتهر به بين الأردنيين وجعله مصدراً استراتيجياً يجب السيطرة عليه من قبل الاحتلال العثماني الذي كان يتخوف من وصول مصدر ذخيرة لا ينضب من أهالي الطفيلة لأهلهم بقوات الثورة فحولوا تحصيناتهم وأتوا بالألمان والنمساويين من غزة ووضعوها بالطفيلة.

تأتي هذه التوطئة للتوثيق بالطفيلة تاريخياً وجغرافياً والتي اكتسبت أهمية خاصة على مر العصور، وشهدت أحداثا مهمة في مطلع هذا القرن وكانت هدفا ” استراتيحيا ” لقوات الثورة العربية فقد اعتبرها قادة الثورة العربية الكبرى على درجة من الأهمية الاستراتيجية السياسية والعسكرية والاجتماعية وتجلت الطفيلة بأبهى صورها في وقفة عشائرها إلى جانب الى مسيرة الاستقلال والتحرر من الاحتلال العثماني التي قادتها قوات الثورة العربية الكبرى وفرسان العشائر الأردنية.

الطريق الى الطفيلة قبل احدى معارك تحريرها
الطريق ال الطفيلة قبل احدى معارك تحريرها

الدخول الأول لقوات الثورة الى الطفيلة

شرعت قوات الثورة  في عملياتها العسكرية من معسكر القويرة بدءا من النصف الاول من شهر كانون الثاني 1918، وتمكنت قوات الثورة  بقيادة الشريف ناصر بن علي في 12 كانون الثاني 1918 من تحرير جرف الدراويش ( والتي سنطلعكم على معركتها في المنشورات القادمة من سلسلة ارث الاستقلال / معارك التحرير ) .

وتقدمت القوات باتجاه الغرب نحو الطفيلة لتلتقي مع قوات الشريف مستور التي قدمت من الغرب عن طريق وادي عربة، وعندما علم الحاكم التركي ” زكي الحلبي ” بقدوم القوات العربية اتجهت بوصلته نحو درب الشرف التحرري تلقائياً واتخذ قراره بالانضمام إلى قوات الثورة العربية مما دفع بسمو الأمير زيد بن الحسين أن يعينه حاكما على الطفيلة لاحقاً، وقد جاءت ظروف الاستسلام واتخاذ قرار الانضمام لقوات الثورة للأسباب التالية :

ادراك جنود الاحتلال التركي وحلفائهم وقادتهم من ألمان ونمساويين أنهم جسم غريب ظالم سعى الأردنيين للتحرر منه عبر قرون وقد أتت القيادة ذات النجاعة العسكرية والقدرة التوحيدية لتكليله بالنجاح.

أن خدع البروبوجاندا الألمانية بالقيادة العثمانية بامتطاء الدين والمتاجرة به لن تنطلي على أهل الطفيلة الذين حسموا موقفهم بالوقوف مع أهلهم من الأردنيين بثورات .صغرى سابقة

عدد حامية الطفيلة قليل نسبياً أثناء تنفيذ عملية التحرير فهو لم يتجاوزالمائتين والخمسين حسب معظم الروايات ووجود قابلية لاستهداف أي امدادات للحامية من قبل أهل الطفيلة الذين يعلمون جغرافيا الطفيلة وكيفية استهداف أي أرتال امداد خلالها وهذا جعل الحامية ضعيفة أمام هجمات قوات الثورة الكثيفة ومن الاتجاهين.

تأثرت الحامية بانتصار قوات الثورة السريع في جرف الدراويش والتي وصلتهم أنباؤه ومعرفتهم بزحف قوات الثورة يوم ١٢ / ٧ / ١٩١٨ من الجفر باتجاه الغرب على الطفيلة والذي دمر معنويات قوات الاحتلال وجعلها وهنة.

ان الوضع العام داخل الطفيلة يؤثر على سلوك الحامية وقرار قائدها فقد كان للاتصالات من قبل مشايخ الطفيلة ودعمهم للثورة منذ انطلاق عملياتها أثرها في سرعة اتخاذ هذا القرار.

تواجد جالية أرمنية في داخل الطفيلة وهي التي هاجرت  من وطنها الأم بسبب البطش والاحتلال التركي لأراضيها، وقد احتموا في الطفيلة واصبحوا مواطنين فيها واستجاروا بعشائر الطفيلة الأبية، وقد ناصرهم أهلها واستمروا في موقفهم الداعم لقوات الثورة في الطفيلة كذلك.

تبعا لهذه الأسباب وغيرها كان من السهل على قوات الثورة الدخول إلى الطفيلة، فدخلتها ورفعت راية الثورة فيها يوم 15 كانون الثاني 1918 و كان القائد حينها الشريف ناصر بن علي، وبعد بضعة أيام – كما يروي كل من المؤرخ الوطني سليمان الموسى والبطل محمد علي العجلوني- دخلها الأمير زيد بن الحسين ومعه 100 جندي نظامي ومدفعان جبليان، وأسندت للأمير زيد قيادة المواقع التي تشرف على البحر الميت وكان يرافقه راسم سردست وصبحي العمري، وكان لورنس كالعادة في كل معركة نظراً لعدم وجود مهمات عسكرية له وتفرغه للكتابة وتأليف القصص يسجل الظواهر الشاذة مهما كانت تافهة ويبنى أحكامه المستشرقة الخاصة عليها وينسب لنفسه البطولات الواهية.

نوري السعيد بالعقبة
نوري السعيد بالعقبة

إجراءات قوات الثورة بعد دخول الطفيلة

أصبح ميدان العمليات واسعاً وامتد لمسافات جديدة بعد دخول الطفيلة وتحرير محطة جرف الدراويش ومحطة الشوبك وكانت كل هذه النتائج العسكرية تتطلب إعادة النظر في أسلوب العمل لمواجهة الظروف الجديدة، خاصة وأن قادة الثورة كانوا يدركون أن الاتراك وحلفائهم سيقومون بهجمات معاكسة بهدف اعادة احتلال المواقع التي طردوا منها نظرا لأهميتها، ولمواجهة الظروف الجديدة والطارئة فقد اتخذ الامير زيد بن الحسين الاجراءات التالية:

  • تنظيم القادرين على حمل السلاح من شباب الطفيلة وتدريبهم وتسجيلهم كمتطوعين في قوات الثورة .
  • ارسال قوات مراقبة أمامية بقيادة الشريف مستور الى منطقة سيل الحسا لمراقبة الوضع هناك ورصد تحركات القوات التركية وتألفت هذه القوة من عدد من الخيالة.
  • ارسال عدة رسائل الى شيوخ العشائر يخبرهم فيها بالوضع العام والعمليات العسكرية القادمة داعياً اياهم لتعجيل دعم قوات الثورة في عملياتها.
  • .توزيع المكافآت المالية على الفرسان والجنود نظير تحرير الأسلحة والذخير من الطرف العدو والممرصود شرائها
  • إعادة نوري السعيد الى معسكر العقبة ليبدأ بتأليف وتنظيم فرقة مشاه نظامية خاصة بعد ملاحظة قدرة الجنود النظاميين على التعامل مع تحصينات الاحتلال التركي بطريقة  أفضل من المتطوعين الجدد.
  • تنظيم الأرمن لمن يرغب منهم في التطوع والقتال في صفوف قوات الثورة وقد جرى تدريب شبابهم على السلاح وتم تنظيم مجموعة منهم على شكل فريق عمليات خاصة قامت بعمليات ناجحة ضد قوات الاحتلال التركي العثماني وضباطهم الألمان والنمساويين.

المراجع :

الثورة العربية الكبرى : الموسوعة التاريخية المصورة ، البحث التاريخي والإشراف الدكتور بكر خازر المجالي ؛ فريق العمل خولة ياسين الزغلوان ، و فريق الفرس الشقراء ، مركز أرض الأردن للدراسات والنشر،2011 ، ص 145-148 .

التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية / بكر خازر المجالي، قاسم محمد الدروع 1995 .

الثورة العربية الكبرى : الحرب في الأردن 1917-1918 : مذكرات الأمير زيد / سليمان موسى، دائرة الثقافة والفنون.

المراسلات التاريخية 1914-1918 : الثورة العربية الكبرى. المجلد الأول / أعدها وحققها وكتب حواشيها وترجم بعضها سليمان الموسى، 1973.

ذكرياتي عن الثورة العربية الكبرى، محمد علي العجلوني، مكتبة الحرية ،عمّان ، 1956 .

المعارك الأولى : الطريق إلى دمشق، صبحي العمري، أوراق الثورة العربية؛ رياض الريس للكتب والنشر، لندن، بريطانيا ؛ ليماسول، قبرص ، 1991،  ط. 1.

المسار الثالث لمعارك التحرير

مسار معارك التحرير الثاني  : ( العقبة – وادي اليتم – القويرة ” معسكر الأردن “)

قوات الأمير زيد بن الحسين تصل العقبة بعد تحريرها
قوات الأمير زيد بن الحسين تصل العقبة بعد تحريرها

العقبة

 بعد تطهير العقبة الأردنية من قوات الاحتلال التركي والألماني والنمساوي على يد فرسان العشائر الأردنية وقوات الثورة العربية يوم 6 تموز 1917 وبقيادة الشريف ناصر والشيخ عودة أبو تايه، بدأت مرحلة جديدة للثورة العربية الكبرى، وأصبحت الحاجة لوضع خطة محكمة للانطلاق نحو استكمال أهداف الثورة العربية. الأمير فيصل كان قد انتقل الى العقبة في الشهر التالي لتحريرها، حيث طلب من أبيه الشريف الحسين بن علي أن يشد أزره بأخيه زيد، وهنا أمر الشريف الحسين بن علي ابنه الأمير زيد أن يلتحق بأخيه الأمير فيصل وأبحر زيد من ثغر الوجه فبلغ العقبة  يوم ٢ تشرين الثانى ١٩١٧ ومعه 1500 مقاتل.

انزال جيش الأمير زيد بن الحسين من السفن في العقبة
انزال جيش الأمير زيد بن الحسين من السفن في العقبة

انزال الجمال من القوارب الخاصة بقوات الأمير زيد بن الحسين البحرية في العقبة
انزال الجمال من القوارب الخاصة بقوات الأمير زيد بن الحسين البحرية في العقبة
حشود من عشائر العقبة تستقبل موكب الأمير زيد بن الحسين أثناء دخوله للعقبة
حشود من عشائر العقبة تستقبل موكب الأمير زيد بن الحسين أثناء دخوله للعقبة
حشود من عشائر العقبة تستقبل موكب الأمير زيد بن الحسين أثناء دخوله للعقبة
حشود من عشائر العقبة تستقبل موكب الأمير زيد بن الحسين أثناء دخوله للعقبة

ومنذ وصوله تولى مسؤوليات القيادة الى جانب أخيه فيصل، وعمل ساعداً أيمن له حتى انتهاء الحرب. وكان التكتيك العسكري واللوجستي لقوات الثورة قد دفع القيادة الانجليزية للحذر لاحقاً بعد أن أيقنوا أن فرسان العشائر الأردنية يعلمون ما يبغونه من تحالفهم المؤقت معهم؛ حيث بادر فرسان العشائر الأردنية تحت القيادة الهاشمية بعد تطهيرهم للعقبة من بقايا الاحتلال التركي والالماني والنمساوي إلى :

  1. احصاء الاسلحة بكاملها وتجميعها، وإعادة تنظيم قوات الثورة فيها .
  2. تجهيز الميناء والاستعداد لوصول سفن القوات الحليفة.
  3. التمهيد لإنتقال الأمير فيصل الى القاعدة الجديدة في القويرة.
قلعة العقبة بعد تحريرها
قلعة العقبة بعد تحريرها

كانت القلعة المملوكية التى أوسع بنائها قانصوه الغوري هي المعلم البارز في العقبة ودليل على عهد التنمية بها قبل الاحتلال العثماني، اضافة لرصيف ميناء صغير أمام القلعة والتي أقامت قوات العشائر الأردنية فيها وحولها، وبدأوا استعداداتهم للمرحلة القادمة بالانطلاق منها عبر المسار التالي  :

الأمير فيصل بن الحسين و الشيخ عودة أبو تايه و عدد من ضباط جيش الثورة في سيارة تالبوت في وادي اليتم
الأمير فيصل بن الحسين و الشيخ عودة أبو تايه و عدد من ضباط جيش الثورة في سيارة تالبوت في وادي اليتم
  1. وادي اليتم

سلكت قوات الثورة وادي اليتم في طريقها الى العقبة، وحين بدأت بالتخطيط للتوجه شمالاً سلكت أيضا طريق وادي اليتم في طريقها التي تنتهي عند القويرة .

 كانت الحركة من العقبة، بعد وصول الأمير فيصل إليها في شهر أيلول 1917 ومع مجموعة من القوات العسكرية حيث انتقلت هذه القوات الى معسكر الاردن ( القويرة ) .

تحميل المعدات و الأسلحة على عربة رولز رويس تمهيدا لنقلها من العقبة إلى معسكر القويرة
تحميل المعدات و الأسلحة على عربة رولز رويس (العسكرية وقتها) تمهيدا لنقلها من العقبة إلى معسكر القويرة
  1. مجموعة من رجال قبيلة بني عطية يقومون بتحميل المؤن لقوات الثورة في العقبة استعدادا لنقلها لمعسكر القويرة

مجموعة من رجال قبيلة بني عطية يقومون بتحميل المؤن لقوات الثورة في العقبة استعدادا لنقلها لمعسكر القويرة

  1. القويرة ( معسكر الاردن )

كان في القويرة حصن تركي وبركة ماء كبيرة وهناك اقام جيش الثورة معسكره الأول وحمل المكان اسم معسكر الأردن، وبعد أن تكاملت قوات الثورة وجحافل من المتطوعين الفرسان من عشيرة الجازي (الحويطات) وقبيلة بني صخر وغيرهم، قام الأمير فيصل باستعراض هذه القوات ومن ثم تنظيم الجيش العربي ليصبح في انساق ثلاثة .

مجموعة من ضباط و مقاتلي قوات الثورة في معسكر القويرة
مجموعة من ضباط و مقاتلي قوات الثورة في معسكر القويرة

أهمية القويرة الاستراتيجية العسكرية:

  1. القويرة منطقة سهلية تسهل فيها عمليات المراقبة والكشف وهي واسعة والقويرة نفسها كأنها مركز دائرة يمر محيطها من جهته الجنوبية بأكتاف وادي اليتم قبل البدء بالانحدار فيه، ويمر محيطها الغربي بسلسلة جبال الشراه الشاهقة الصعبة المسالك، وهذه تؤمن حماية جيدة ويمر محيطها الشرقي بسلسلة رم المدببة وسط رمال كثيفة، أما محيطها الشمالي فهو يمر من سلسلة مرتفعات جبال النقب التي تلتقي مع الشراه غرباً، ونصف قطر هذه الدائرة التى تتوسط سهول حسمى المعروفة يبلغ عشرة كيلومترات وهذه المسافة وفقا لنظام المعركة في مطلع القرن العشرين تعد طويلة وتؤمن الحماية وتوفر الوقت للتخطيط والتنفيذ .
  2. يتوفر مصدر مياه من خلال وجود البركة الكبيرة التي يبلغ طول ضلعها . ٤ متراً، إضافة لوجود بئرماء لجهة الشرق قليلاً من هذه البركة بجانب صخرة القويرة المستطيلة والتي تتوسط سهل القويرة ويستند اليها حصن القويرة .
  3. وجود مقر قيادة جاهز هو نفسه الحصن التركي بعد تحريره وتطهيره من قوات الاحتلال التركية والألمانية والنمساوية وطردهم، وهو قلعة صغيرة مساحتها حوالي 500 متر مربع تتألف من غرف ايواء ومكاتب وساحة داخلية.
  4. قرب المنطقة وسيطرتها على طرق الميناء نحو العقبة مصدر الامدادات والتعزيزات وسيطرتها على طرق التقرب نحو الأهداف شمالا .
    الشريف ناصر
    الشريف ناصر

    الخطة العسكرية وتنظيم الجيوش في القويرة

تم وضع الخطط العسكرية لتنفيذ العمليات العسكرية المقبلة فى أوائل شهر كانون الثاني 1918 والتي على أساسها جرى تنظيم قوات الثورة كما يلي :

  1. الرتل الأول بقيادة الشريف مستور وهدفه تحرير الطفيلة، ويعاون الشريف مستور فرسان العشائر الأردنية من عشيرة الجازي من قبيلة الحويطات الأردنية بقيادة الشيخ حمد بن جازي .
  2. الرتل الثاني بقيادة الشريف ناصر وهدفه تحرير جرف الدراويش، يعاونه نوري السعيد رئيس أركان حرب القوات النظامية وباعتماد رئيسي على فرسان العشائر الأردنية من قبيلة بنى صخر وفرسان التوايهة من قبيلة الحويطات بقيادة الشيخ عودة أبو تايه .
  3.   الرتل الثالث بقيادة الشريف عبدالمعين وهدفه تحرير الشوبك باعتماد رئيسي على مساندة الأهالي خاصة بعد ثورات الشوبك 1900 و1905 وما نجم عنها بمجزرة سجن معان .
  4.  قوات الاحتياط العام بقيادة الأمير زيد بن الحسين وهدفها تحرير طريق أبو اللسن – وادي موسى يعاونه جعفر العسكري قائد القوات النظامية واعتماد رئيسي  على تحرك فرسان وأهالي عشائر الطفيلة خاصة بعد الرد الهمجي على ثورة بني حميدة عام 1888 والتي سنأتي على تفاصيلها بمنشور قادم.

استراتيجية التنظيم العسكري لقوات الثورة و أهميتها:

  • تغطي منطقة عمليات قوات الثورة فى المنطقة غرب سجن معان من الطفيلة الى جرف الدرويش ثم الشوبك والسيطرة عليها تأمين الاتصال مع الحلفاء المؤقتين  من قوات الجيش البريطاني ضد تحالف الألمان والأتراك والنمساويين وهذا كان سياق المرحلة بواقع حرب عالمية واصطفافات جاهزة.
  • تهدف العمليات من خلال هذا التنظيم الى عزل حامية الاحتلال التركي في سجن معان من جهة الغرب تماماً بعد نجاح عزلها من جهة الجنوب باتجاه القويرة – وادي اليتم– العقبة، في نفس الوقت الذي يجري عزلها من جهة الجنوب الشرقي حيث تدور العمليات العسكرية مع الاحتلال التركي وحليفه الالماني والنمساوي على محطات سكة الحديد باتجاه المدورة .
  • مدينة الطفيلة هي واحدة من الأهداف التي يحرص الاحتلال التركي وحليفه الالماني والنمساوي على الحفاظ عليها ويعتبرونها منطقة تقع ضمن الخط الاحمر بالنسبة لهم والاستيلاء على الطفيلة يعني السيطرة على موطئ قدم تمهيدا للاتصال مع الحلفاء من القوات البريطانية في مادبا ويعني تسهيل العمليات المقبلة لتطهير الكرك، لذا تركز الهجوم على الحامية التركية في الطفيلة لاهميتها الاستراتيجية الكبيرة . من منحى آخر فان للطفيلة أهمية استراتيجية فائقة، فهي الأمهر بصناعة ملح البارود وبكمية لا تنضب وبهذا فان من يسيطر على الطفيلة وأهلها (الأمهر بصناعة ملح البارود) يضمن ذخيرة لا تنضب وبالأخص حرص الاحتلال على التحرك من الكرك الى الطفيلة بحيث يمنع تحريرها من قبل الثورة العربية وبالتالي وضع كم لا منتهي من ملح البارود تحت تصرف فرسان العشائر الأردنية والتي كان أغلب سلاحها قديماً من النوع المعتمد على ملح البارود وليس الطلق المعبئ جاهزاً.
  • في الوقت الذى عينت فيه الأهداف للأرتال الثلاثة، تم تنظيم قوات أخرى على شكل قوة احتياطية، وهي في الأصل قيادة جوالة لتكون في الموقف الذي يستطيع تقديم الدعم والاسناد لأي رتل خلال تنفيذه لعملياته العسكرية، وتألفت هذه القوة من مجموعة من الرشاشات وجنود المشاه بقيادة الأمير زيد بن الحسين ومعه القائد العام جعفر العسكري.
  • تحركت الأرتال الثلاثة في منتصف شهر كانون الثاني 1918 في نفس الوقت بهدف تشتيت جهود الاحتلال التركي والنمساوي والالماني وتحقيق مبدأ الاستنزاف واشغال الجبهة بكاملها

وفي القويرة تم رسم خطة المرحلة القادمة والتي ظهرت على شكل توجيهات من الأمير فيصل الى الأمير زيد كالتالي :

الأمير زيد بن الحسين
الأمير زيد بن الحسين

توجيهات الأمير فيصل الى الأمير زيد: ( الهاشميون يحاربون في المقدمة )

بعد اكتمال تنظيم الأرتال العسكرية الثلاثة وتنظيم قياداته الرئيسية أرسل الامير فيصل توجيهات الى القائد الأمير زيد بن الحسين وتضمنت ما يلي :

  1.  أن يكون هو على رأس القوات المتقدمة الىشمال العقبة تماشياً مع إرث الهاشميين أباً عن جد.
  2. أن يتمركز في الطفيلة بعد تطهيرها وأن لا يتركها حتى يتوفر التمويل الكافي للمرحلة القادمة
  3. الحفاظ على تماسك قوات الثورة والتماسك بين أبناء العشائر الأردنية المقاتلة والتفطن لأي فتنة يمكن أن يزرعها المحتل العثماني بينهم كما كان يفعل سابقاً.
  4. أن يعهد الى الشريف عبدالله بن حمزة بأن يسيطر على ميناء غور المزرعة وأن يتمركز في أي نقطة قريبة حوله على أن يستمر فى التنسيق مع الأمير زيد.

هذه التوجيهات تعطي الدلالة على التخطيط العسكري السليم وأن العمليات العسكرية كانت تتم وفقا لمعايير صحيحة وتنظيم ودقة فهي ليست عمليات عصابات أو ما شابه ذلك، والتخطيط لها كان بعقلية وتنفيذ عربيين وهو ما أقلق الانجليز من مستقبل تحالفهم الآني مع قوات العشائر الأردنية والقيادة الهاشمية، وقد أورد الأمير زيد بن الحسين في مذكراته أنه تلقى تعليمات اضافية من أبيه الشريف حسين بالحرص على الإرث الهاشمي الذي يتطابق مع العادات والتقاليد وأخلاق الفروسية الأردنية وذلك بعدم إلحاق الأذى بالأسرى رغم أن ذلك لم يكن يوماً من شيمهم، وأن يدفع مبلغ عشرة ليرات ذهب لكل جندي من قوات الثورة يقوم بتسليمه أسيرا عثمانياً أو ألماني أو نمساوي كحافز مادي له لترك الثأر والتركيز على هدف التحرير من الاحتلال العثماني، ولعل في مجمل التوجيهات ما يعطينا الدلالات التالية :

  • الحفاظ على القصد والعمل على تحقيق الهدف .
  • أن يبقى الأمير في القيادة العامة للأرتال الثلاثة وان لا ينشغل برتل دون الاخر حتى يتمكن من الإحاطة بمسرح العمليات ومراقبة الوضع وضبط تطورات الموقف
  • أن تكون للعمليات جانب التأثير الاداري الاستراتيجي وذلك بالسيطرة على ميناء غور المزرعة الذي يستخدمه الاتراك لتلقي الامدادات التي تأتي من الشمال ثم عبر البحر الميت الى غور المزرعة وبعدها برّا الى معان والطفيلة والكرك وغيرها.
  • الحفاظ على المعنويات وتماسك الجنود المقاتلين خدمة للهدف العام الذي من اجله تتحرك جيوش الثورة .
  • التاكيد على التمركز في الطفيلة بسبب أهمية هذه المنطقة بالمطلق ولمهارة أهلها بصناعة ملح البارود عدى عن أنها ستكون موطئ القدم للتقدم شمالا نحو الكرك، والتأثير على خطوط سكك حديد القطار العسكري في الشوبك وجرف الدراويش .
  • اتاحة الفرصة للقوات المتقدمة للشوبك لتنفيذ عملياتها وهي محمية من جهة الشمال بعد عزل الحامية التركية في الطفيلة.
  • لم تخل هذه التوجيهات من الاخلاق الاسلامية العربية الأصيلة وذلك بعدم الحاق الأذى بالأسرى وهذه الاخلاق والأعراف متجذرة لدى الهاشميين وقوات العشائر الاردنية تحت لوائهم قبل توقيع وصدور معاهدات ومواثيق جنيف عام ١٩٤٩ وغيرها.
  • نصت التوجيهات على مبدأ توسيع ميدان المعركة وتأثير العمليات، فقد صدرت الأوامر إلى قوات الشريف عبدالله بن حمزة للإنطلاق شمالا بعد انجاز عملياته لتأخذ موطئ قدم في منطقة أريحا من أجل تأسيس نقطة اتصال قريبة مع قوات الحلفاء المتمركزة في فلسطين.

المراجع :

  1. الثورة العربية الكبرى : الموسوعة التاريخية المصورة ، البحث التاريخي والإشراف الدكتور بكر خازر المجالي ؛ فريق العمل خولة ياسين الزغلوان ، و فريق الفرس الشقراء ، مركز أرض الأردن للدراسات والنشر،2011 ، ص 142-144.
  2. التاريخ العسكري للثورة العربية الكبرى فوق الأرض الأردنية / بكر خازر المجالي، قاسم محمد الدروع 1995 .
  3. الثورة العربية الكبرى : الحرب في الأردن 1917-1918 : مذكرات الأمير زيد / سليمان موسى، دائرة الثقافة والفنون.
  4. المراسلات التاريخية 1914-1918 : الثورة العربية الكبرى. المجلد الأول / أعدها وحققها وكتب حواشيها وترجم بعضها سليمان الموسى، 1973.
  5. جيل الفداء : قصة الثورة الكبرى و نهضة العرب/ قدري قلعجي.
  6. المعارك الأولى : الطريق إلى دمشق, صبحي العمري, أوراق الثورة العربية؛ رياض الريس للكتب والنشر، لندن، بريطانيا ؛ ليماسول، قبرص , 1991, ط. 1.

المسار الثاني لمعارك التحرير

Scroll to top