صورة للشيخ ارفيفان المجالي موشحا بالأوسمة

مقدمة

سجلُ حافل في البطولات قدّمه الشيخ البطل ارفيفان باشا المجالي ( اخو شاهة ) في مدارس البطولة والنضال الأردني، بطلُ ترك لأبناء وطنه إرث كبيرا في الشجاعة والفداء وتحولت سيرته إلى مدرسة عظيمة في قيم البطولة و الحكمة، مرعب العثمانيين بدهائه وذكائه ولم يتراجع عن مبادئه وقيمه ضد العدو المحتل حتى وزوجته تقبع في سجن المحتل في معان، لقد أتعب هذا الشيخ البطل المحتل العثماني وراوغه كثيرا منذ اللحظات الأولى لتخطيطه مع الشهيد البطل قدر المجالي لثورة الأردنيين الوسطى عام 1910( الهيّة )، ولم يكتف أخو شاهة بفعائله العظام في مسيرة وطنه؛ بل قدّم للأردن من نسله المكرّم فيلقا عسكريّا كاملا كان اسمه ( المشير البطل حابس ارفيفان المجالي ).

النشأة والأسرة

هو ارفيفان بن محمد بن عبدالقادر بن يوسف بن سليمان المجالي مواليد سنة 1862م في بلدة الربّة بالكرك، لم يحظَ الشيخ ارفيفان المجالي من التعليم شئ، اذ عاصر كأي أردني آخر في عهد حقبة المحتل العثماني الذي مارس الحكم بالوكالة ونفّذ سياسات تجهيل والافقار المتعمّد فلا مدارس ولا معاهد، لا تنمية ولا بناء، واقتصرت وظيفة الدولة على جمع الضرائب الجائرة،  كل هذا كي لا تقوم للأردنيين قائمة في مواجهتهم بعد مسلسل طويل العهد من الثورات الصغرى ضد العثمانيين مع دخول أول قدم تركية للبلاد ، وهكذا لم يكن لارفيفان الطفل والشاب، سوى أن يتعلم في مدرسة الحياة قيم الفروسية والإدارة والمشيخة على يدي والده والده الشيخ محمد المجالي.

كعادة الشيوخ في تلك الحقبة وفي مواجهة المرض والموت الذي يحصد أرواح الأطفال ، ومن ثم الحروب والغزوات التي كثيرا ما افتعلها العثماني أو ساهم بتأجيجها ومن ثم لبناء الأحلاف الاستراتيجية في مواجهة العثمانيين ولتعميق أواصر المودة والنسب مع باقي أبناء عمومتهم واشقائهم من شيوخ العشائر الأردنية الأخرى، لأجل ذلك كله كان على شيوخ العشائر الأردنية أن يحفظوا نسلهم وبيوتهم العامرة وأن يزيدوا من فرسان عشيرتهم عبر تعدّد  الزوجات، ولذلك تعدّدت زيجات الشيخ ارفيفان باشا المجالي من كريمات بنات كرام، فتزوّج من ( شمسيّة المجالي ) والتي انجبت له أول أولاده (معارك)، وتزوج لاحقا من ( نجمة عبد الغني البطوش ) وأنجب منها ابنه صالح، كما تزوج من ( نعمات ) والتي أنجبت له عاطف وعبدالله ونايفة وسميحة وبهيجة، وتزوج أيضا من النشمية الشيخة ( بندر فارس شلاش المجالي ) وأنجب منها حابس ودميثان وعصر وسليمان.

بندر
صورة النشمية بندر فارس شلاش المجالي

ارفيفان والهيّة

استطاع الراحل البطل ارفيفان باشا المجالي بدهائه وذكائه الفطري والمكتسب من جينات العشيرة الأردنية أن يستخدم حنكته السياسية والدبلوماسية ضد العدو العثماني أثناء ثورة الأردنيين الوسطى 1910( الهيّة )، فكانت أولى خططه في مواجهة المحتل العثماني عندما اتفق مع الشيخ قدر المجالي على تشتيت الإدارة العثمانية وبعثرة بصرها وتركيزها ، من أجل التخطيط للثورة بسرية مطلقة، ولذلك أصرّ حينها على ضرورة دخول الشهيد الشيخ البطل قدر المجالي كعضو في لجان تعداد الأنفس رغم رفض الشيخ قدر المجالي المكرر والصريح لما تقوم به هذه اللجان من تجاوزات كثيرة ضد أهالي الكرك.

قدر
الشيخ الفارس قدر المجالي ( زعيم ثورة الكرك ) يتوسط فرسان و أبناء عشيرته ابان الهيّة 1910

ولم يكتفِ بذلك فقد أرسل الشيخ ارفيفان المجالي؛ النائب الأردني في مجلس المبعوثان ( توفيق بك المجالي ) وذلك من أجل إبلاغ الباب العالي في الأستانة، بأن أهالي الكرك جميعهم مع الاجراءات التي تقوم بها الدولة العثمانية من احصاء الأنفس وفرض التجنيد الاجباري، وأن أهالي منطقة الكرك سيستمرون في حماية حامياتهم العسكرية وممتلكاتهم، وكان لا بد من هذا التمويه والخداع للعدو أملا في مماطلته وتأخير المواجهة المحتومة، من أجل التفرغ كليا للتخطيط للثورة تقمع جذور هذا المحتل من أراضٍ أردنية استنزفوها طويلاً.

15731587_1779935115591757_516900656_n
إعلان في إحدى الصحف العثمانية الناطقة بالعربية عن التلغراف الذي أرسله الشيخ ارفيفان عبر النائب توفيق المجالي

وتذكر قصص هذه الثورة أنه وفي احدى الاجتماعات التي كانت في صلب العمليات اللوجستية للتخطيط  من أجل الثورة صاح الشيخ البطل ارفيفان المجالي ومن أجل تحفيز وتشجيع فرسان العشائر الأردنية بقصيدة قال فيها:

الراس في طاري الكرك دوم مرفوع

هنيّال من غرسه… كان بثراها

يا آمن من الخوف وما ياصله جوع

يا شعلة الفرسان …. ما حدِّن طفاها

في اهلها نخوة وفي جودها سوع

وفي جوفها عزن عانق سماها

وتاريخها ثورة وفي مجدها سطوع

حتى نجوم الكون نجمك محاها

يا منبر التاريخ يا ندرة بالنوع

الله يحفظها دووم ويروي ظماها.

أعلنت الثورة وبدأت المعارك بين المحتل وفرسان العشائر الأردنية وبسبب قوة طوابير وعدة المحتل العثماني ونظرا لجرأته في القمع والتنكيل، فقد ألحقت بعشائر الكرك الخسائر الكبيرة ثمنا للتضحية والبطولة، فمنهم من ألقي القبض عليه وأعدم من أعلى قلعة الكرك عبر ربط الصخور في أعناقهم بالحبال ورميهم من على أسوارها، ومنهم من أرسلوا طوابيرا للأسر في سجون الخسة للمحتل بين دمشق والأستانة، ومنهم من استشهد في الثورة، فما كان من الشيخ ارفيفان المجالي كأحد قادة الثورة إلاّ الانسحاب من أرض المعركة والذهاب نحو مضارب العشائر الأردنية في الشوبك وكان معه زوجته بندر وشقيقاتها مشخص وشفق ومجموعة من النساء والفرسان.

طارد العثمانيون الشيخ ارفيفان ومن معه وحصلت معركة الملاحقة في الشوبك حيث تمكنت الجندرمة التركية من إلقاء القبض على النساء بعد قتل مرافقهم البطل صخر المجالي رميا بالرصاص بعد أن فتك بالكثير من جنودهم، وكانت من بين المعتقلات من النشميات زوجته بندر المجالي التي تنتظر مولودها القادم بفارغ الصبر حاملا اسم ( جميل ) وهو في بطنها كما اتفقت مع زوجها الشيخ ارفيفان المجالي، تحول هذا الوليد ( جميل ) المولود بعيدا عن ناظري أبيه وأهله في سجن المحتل العثماني ليصبح كونه وليد الحبس والمعتقل ( المشير البطل حابس المجالي )  رمز العسكرية الأردنية الفذّة وأحد رموزها الغر الميامين  .

لقراءة قصة بطولة النشميات بندر ومشخص المجالي أنقر هنا

 

14657713_10211330088908363_1777864017_n
مشهد ولادة المشير البطل حابس المجالي – والدته بندر المجالي محفوفة برعاية نشميات بني عطية والحويطات برفقة شقيقتها مشخص- لوحة للفنانة هند الجرمي .
حابس
المشير البطل حابس ارفيفان المجالي

استطاع الشيخ ارفيفان ان يتخلص من قبضة القوات العثمانية في تلك المعركة وبعد اصدار الحكم الفوري عليه بالإعدام على مشانق العثمانيين، اتجه الشيخ ارفيفان المجالي إلى المنطقة الواقعة بين جنوب الأردن وشمال الحجاز بعيدا عن ملاحقة العسكر العثماني التي أرادت رأسه، يرافقه أحد رجال عشيرته اسمه ( عبدالنبي محمود المجالي )، وفي منتصف الطريق توقف ارفيفان مطالباً رفيقه عبدالنبي المجالي أن يبدل ملابسه بملابس عبدالنبي لمزيد من التمويه، وأوصاه بأن يعطي فرسه إلى ابنه ( معارك ) وبندقيته إلى ابنه ( دميثان ) ذلك حتى وإن فارقته الروح يضمن أن يبقي لأولاده شيئا من رمزية الكفاح والنضال في وجه المحتل وأن لا يسمحوا للرصاص والصهيل أن يتوقف في مواجهة رايات العثمانيين الحمراء،  ومن ثم أمره بالعودة حالا إلى الكرك، وتابع الشيخ ارفيفان المجالي طريقه نحو شمال الحجاز حيث نزل في مضارب أحد وجهاء المنطقة الشيخ قبلان أبو رمان بحجة أنه رجل يبحث عن عمل يكفيه مؤونته، فعمل كـ ( قهوجي) لدى الشيخ سلامة أبو رمان، كان هذا الفعل رغبة في مزيد من كسب الوقت بعيدا عن أعين الملاحقة العثمانية.

ارفيفان والخويّ

كان للشيخ ارفيفان صديق حميم وهو الشيخ حرب العطيّات أحد شيوخ وفرسان قبيلة بني عطية صاحب القوة والنفوذ، سمع الشيخ حرب العطيّات ما حلّ بصديقه الشيخ ارفيفان المجالي بعد الثورة، فامتلكه الغضب والأسى، وما كان من الصديق اتجاه صديقه سوى التضحية من أجله معرّضا نفسه للانتقام العثماني، فذهب من فوره إلى الوالي العثماني وأبلغه بأنه ان تمكّن جنوده من القبض على الشيخ ارفيفان المجالي، فإنه عليه أن يطلق سراحه فورا ويصدر العفو عنه وأن لا يمسه مكروه، وإلا كانت العواقب وخيمة على العثمانيين وسيشعلها نارا من تحت أقدامهم، فوافق الوالي العثماني خوفا ووجلا من ثورة جديدة قادمة يقودها فرسان بني عطية وأصدر عفوا عن الشيخ ارفيفان المجالي.

فبدأ الخوي ( الشيخ حرب العطيّات ) يبحث عن خويّه ( الشيخ ارفيفان المجالي ) في كل مكان حتى أعياه البحث، وفي ذات يوم نزل الشيخ حرب العطيّات أثناء رحلة البحث في مضارب صديقه الشيخ قبلان أبورمان ، هناك حيث يقيم خويّه الشيخ ارفيفان عاملا كـ ( قهوجي ) في بيت الشيخ قبلان، ما أن تلاقت الأعين عرف الشيخ ارفيفان صديقه الشيخ حرب، بينما لم يعرفه الشيخ حرب بسبب تخفيه بملابسه الرثة وطول لحيته وتكميمه لفمه بطرف شماغه، وفي منتصف الليل نهض الشيخ حرب العطيّات باتجاه موقد النار حيث يجلس ارفيفان – المتخفي بملابس ( الفداوي ) – لكي يشعل غليونه (سبيله) فقال ارفيفان لصديقه حرب بعد أن ضربه على ركبته بيده للفت الانتباه : ( أنظر في عيني جيدت ألا تعرفني ؟ )، وعندما حدق الشيخ حرب في عينيه عرف أنه في حضرة صديقه الشيخ ارفيفان، فانتفض فرحا وشوقا، وذهب على الفور ليخبر مضيفه الشيخ سلامة أبو رمان بأن قهوجيه ما هو إلاّ الشيخ ارفيفان المجالي فتضاربت لدى الشيخ قبلان مشاعر الفخر بضيفه الكبير والحرج من مما حل به في بيته، وفي اليوم التالي تم ذبح الجزور وتغيير ملابس الشيخ ارفيفان وحلاقه ذقنه وعمل وليمة كبيرة على شرفه.

ومن بعدها أخذ الخوي صديقه ارفيفان المجالي إلى الوالي العثماني وأجبر الشيخ حرب العطيّات الوالي العثماني على إصدار وتسليم قرار العفو عن الشيخ ارفيفان فأصدره في الحال، ولكن كما هي شيم العثمانيين المعهودة في ضمرهم للخيانة والانتقام وبعد أسبوع واحد فقط من صدور العفو، تم اعتقاله بالقوة، وأخذه إلى سجن القلعة في دمشق، وبقي الشيخ ارفيفان المجالي في السجن إلى أن صدر العفو العام عن جميع أهالي الكرك وشيوخها، على إثر ما قام به النائب توفيق بك المجالي من بيانات نارية في وجه الإدارة العثمانية في مجلس المبعوثان وعاد بهم إلى الكرك الأمر الذي أجبره هو الآخر أيضا على التخفي هربا من المحاولات الانتقامية للإدارة العثمانية.

لقراءة قصة النائب البطل توفيق المجالي أنقر هنا

رفيفان مع لوجو

مسيرة سياسية وطنية حافلة

وبعد هزيمة المحتل العثماني واندحاره عن الأرض الأردنية بالثورة العربية الكبرى وإعلان الاستقلال، بدأت الحياة السياسية تأخذ طابعها الديمقراطي المؤسسي، ومع إعلان المملكة الفيصلية استلم الشيخ ارفيفان زمام الأمور في إدارة الكرك عام 1920، وبعد ذلك ذهب الشيخ ارفيفان للمشاركة في مؤتمر السلط عام 21/8/1920 بحضور هيربرت صموئيل المندوب السامي البريطاني، المؤتمر الذي تمخض عنه إرسال مجموعة من الضباط السياسيين المعتمدين لدى سلطة الانتداب البريطاني لعدد من المدن الأردنية بحجة مساندة الحكومات المحلية الناشئة فيها اثر سقوط المملكة الفيصلية على يد الاحتلال الفرنسي ، وكان أحدهم الضابط ( كلنفيك) الذي أرسل لكي يشغل وظيفة المعتمد لدى حكومة الكرك.

قام كلنفيك بالمباحثات والدراسات مع أهالي وشيوخ المنطقة على الشؤون الإدارية للمدينة، بعد أن قامت حكومة محلية أطلق عليها وجهاء الكرك وشيوخها مسمى (الحكومة الوطنية المؤابية) وتم اختيار الشيخ ارفيفان المجالي رئيساً للحكومة وتكوّن المجلس العالي لهذه الحكومة المنتخبة من أهالي المنطقة من كل من:

  1. الشيخ عطوي المجالي
  2. الشيخ حسين الطراونة
  3. الشيخ سلامة المعايطة
  4. الخوري عودة الشوارب
  5. المحامي عبدالله العكشة
  6. الشيخ نايف المجالي
  7. الشيخ موسى المحيسن
  8. الشيخ عبدالله العطيوي

وكانت أولى قرارات هذه الحكومة إلغاء التشكيلات الخاصة بالعهد الفيصلي وتعيين موظفيين من أهل الكرك والطفيلة، وحُلّت هذه الحكومة عندما جاء الأمير عبدالله بن الحسين إلى الأردن وأنشا حكومة مركزية موحدة فيما بقي الشيخ ارفيفان متصرفاً في الكرك كما كان في الحكومات المحلية.

نن
الشيخ ارفيفان على يمين الشهيد الملك المؤسس عبدالله الأول بن الحسين

ومع أول انتخابات نيابية في عهد الإمارة الأردنية وبعد اقرار قانون الانتخابات وانتخاب المجلس التشريعي في 2 نيسان 1929؛ مثّل الشيخ ارفيان المجالي الكرك في المجلس التشريعي وكان له دور مؤثر عند اقرار المجلس على التصديق على المعاهدة البريطانية – الأردنية بأنه أشترط على المجلس التشريعي عدة ملاحظات على نص المعاهدة وأهمها:

  1. تعديل أو الغاء كل من المواد التالية من نص المعاهدة : 5،6،7،10،14،16،1
  2. تعديل أو الغاء الفقرات التالية من نص المعاهدة : الفقرة الثانية من المادة 11، الفقرة الثانية من المادة الثانية.

وفي 1 حزيران 1931 جرت انتخابات المجلس التشريعي الثاني بعد أن حُلّ المجلس التشريعي الأول بتاريخ 9 شباط 1931، وتم انتخاب الشيخ ارفيفان المجالي للمرة الثانية عن لواء الكرك ومعان. وفي هذه الدورة أيضا بقي الشيخ ارفيفان على عزيمته واصراره بضرورة استقلال وطنه عن الاستعمار البريطاني حيث طالب مجددا بتغير مزيد من بنود المعاهدة الأردنية البريطانية من أجل الاستقلال النهائي .

وبعد انتهاء مدة المجلس التشريعي الثاني عقدت الانتخابات النيابية الثالثة في الأردن بتاريخ  16 تشرين الأول 1934 ليتكرر فوز الشيخ رفيفان المجالي عن لواء الكرك ومعان ويكون هو ومن معه من زملائه النواب الوجه المعارض في هذا المجلس الثالث لسياسات الاستعمار البريطاني ومطالبته الدائمة بضرورة نيل الاستقلال النهائي لوطنه الأردن وكان معه من لواء الكرك ومعان الشيخ صالح العوران والشيخ متري زريقات والشيخ محمود زريقات.

وفي تاريخ 16 تشرين الاول 1937 عقدت انتخابات المجلس التشريعي الرابع ومن جديد مثّل الشيخ ارفيفان المجالي لواء الكرك ومعان حيث تم تمديد هذا المجلس سنتين اضافيتين بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية.

وبعد ذلك تم التعديل على قانون الانتخابات ليتم فصل معان عن لواء الكرك لتصبح دائرة لوحدها ولها مقعد واحد، والكرك دائرة منفصلة ولها 3 مقاعد وبعدها أجريت الانتخابات بتاريخ 18 حزيران 1942 حيث فاز في هذه الانتخابات عن لواء الكرك كل من الشيخ ارفيفان المجالي و يوسف العكشة و حسين الطراونة ، في  دلالة واضحة على الاجماع الشعبي الذي حظي به الشيخ ارفيفان المجالي من أهالي اللواء منذ الانتخابات التشريعية الأولى.

وكان للشيخ ارفيفان المجالي نشاطه السياسي الحزبي أيضا، حيث تقدم الراحل بطلب إلى الحكومة بترخيص حزب سياسي وطني أطلق عليه ( حزب التضامن الأردني) وكان معه كل من الشيوخ : مثقال الفايز، سعيد ابو جابر، قاسم الهنداوي، نجيب ابو الشعر، صالح العوران، شمس الدين سامي، احمد الصعوب، متري زريقات، هاشم خير، وهدف هذا الحزب إلى الدفاع عن أبناء العشائر الأردنية وحقوقهم الوطنية، ولم يعمر هذا الحزب طويلاً وذلك بسبب اتهامهم الباطل بـ النعرة الاقليمية من قبل رئيس الحكومة آنذاك عبدالله السراج المعارض لتوجه هذا الحزب الوطني الأردني.

وضمن نشاطاته الحزبية أيضا، ترأس الشيخ ارفيفان المجالي حزب ( الإخاء الأردني) الذي أنشأ في تاريخ 25/9/1937 وكان مركزه الرئيسي في العاصمة عمان وفي 28/9/1937 صدر البيان التأسيسي للحزب والذي أشار إلى أن هذا الحزب يمثل طبقات الشعب الأردني كافة ويسعى إلى خدمة الأردن وتحقيق الاستقلال التام للأردن من الاستعمار البريطاني وضمان الوحدة الوطنية الاردنية بين أبنائه.

الباشوية تكريم واستحقاق 

SAM39271
الصورة مع الشرح المرفق من الموقع الزميل ( زمانكم – قصة الأمس )

وتقديرا لجهود الشيخ البطل ارفيفان المجالي واقرارا بزعامته ودوره الوطني العظيم في إرساء قواعد الدولة الأردنية الناشئة فقد صدرت الإرادة الأميرية من لدن صاحب السمو الأمير عبدالله بن الحسين – الشهيد الملك المؤسس – بتوجيه لقب باشا للشيخ ارفيفان المجالي بالشراكة مع عدد من أشقائه من زعماء العشائر الأردنية وشيوخها وقد نشرت الإرادة الأميرية مع الأسماء في الجريدة الرسمية للإمارة الأردنية عام 1923.

الانسجام الأهلي في فكر الشيخ
حملت الكرك تقاليدًا متوارثة من الحرص المتبادل على حماية خصوصية العلاقة وحفظ الانسجام والوام الأهلي العام والتآخي بين الأردنيين المسيحيين والمسلمين كما في شقيقاتها من المدن الأردنية ،وقد تحدث (بيتر جوبسر) عن مدى حرص مجتمع الكرك على المحافظة على هذه العلاقة المتميزة ، ومضى يقول :”وهم فخورون بعلاقاتهم المتبادلة الجيدة بالمقارنة مع سائر المنطقة والشرق الأوسط”.  وقبل نصف قرن على ماقاله (جوبسر)، كان خليل  الحوراني قد كتب يصف العلاقة بين الأردنيين مسلمين ومسيحيين في الكرك بقوله: “وهم شركاء كأهل الوطن الواحد في الغنم والغرم.”

وحفظا لهذا المبدأ في إعلاء قيم المودة والتسامح والهدف الوطني المشترك ، فقد كان موقف الشيخ البطل ارفيفان باشا المجالي صارما جدا في حال وجود أي خرق – حتى لو كان شفويا – من أي كان لهذه القاعدة الرئيسية ، ولذلك فقد أمر ارفيفان باشا المجالي في مطلع عشرينيات القرن العشرين بنفي تاجر شامي من الكرك لمدة عشر سنوات لإساءته للأردنيين المسيحيين في الكرك بقوله أنهم سيدخلون النار!

ارفيفان والثورة السورية ضد المحتل الفرنسي

كان للشيخ ارفيفان الدور الكبير في مساندة ومساعدة الثوّار السوريين الهاربين من بطش المحتل الفرنسي، عندما فتحت الكرك أحضانها في وجه اللاجئين السياسين السوريين، حيث لجأ القائد العام للثورة السورية سلطان باشا الأطرش ومعه حوالي 500 من الرجال إلى الأردن وزاروا الكرك وحظيوا بالترحاب والحماية من الملاحقة الفرنسية .

سباق في الكرم والإنسانية

زار الشاعر سالم أبو الكباير في ذات يوم الكرك في ليلة باردة في فصل الشتاء، ولم يكن الشاعر أبو الكباير يرتدي (الفروة) وعندها طلب من أحد التجار في المدينة أن يلبسه فروة تقيه من برد الشتاء فرفض التاجر وقال له : إنها للبيع وليست للطيب والكرم، فجلس أبو الكباير ﻋﻨﺪ ﺍﻟﺘﺎﺟﺮ ﻋﺴﻰ ﺃﻥ ﻳﺨﻒ ﺍﻟﻤﻄﺮ، ويستطيع الذهاب من عند هذا التاجر الذي كان يبيع أيضا الرز واللوز، وﻳخفض ﺭﺃﺳﻪ ﻟﻴﺮﻯ ﺍﻟﻤﻴﺰﺍﻥ ﺧﻮﻓﺂ ﺃﻥ ﻳﺰﻳﺪ ﻷﺣﺪﻫﻢ أثناء البيع من شدة بخله، فلم يستطع الشاعر تحمل هذا  فتوجه إلى مضارب المجالية حيث الشيخ ارفيفان المجالي، وكان منزله كبيراً جداً مشرّعا في وجه الضيوف وأهالي الكرك ، فاتجه أبو الكباير نحوه مباشرة وهو يرتعد من البرد، وصدف ليلتها أن كان عند الشيخ ارفيفان ابن اخيه الشيخ البطل قدر المجالي وعندما رأى الشيخان ( ارفيفان وقدر ) أبو الكباير وهو يرتعد من البرد، انطلق كل منهما يسابق الآخر بخلع فروته ليلبسها للضيف وعندها جلس ابو الكباير وقال:

ﺇﻧﻬﺐ ﺷﺒﺎﺑﻚ ﻗﺒﻞ ﻳﺎﺗﻲ ﺩﻣﺎﺭﻩ                ﻻ ﺑﺪ ﻳﺎﻗﻒ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﺒﺮ ﺯﻳﻼﻥ …
ﺍﻟﻄﻴﺐ ﻳﺎﻷﺟﻮﺍﺩ ﻭﺩﻩ ﺟﺴﺎﺭﺓ                ﻣﺎ ﻭﺩﻩ ﺭﺟﻞ ﻏﺾ ﺭﺍﺳﻪ ﺍﻟﻤﻴﺰﺍﻥ …
ﻗﺪﺭ ﻭ ﺍﺭﻓﻴﻔﺎﻥ ﻣﺜﻞ ﺟﻮﺯ ﺍﻟﻨﻤﺎﺭﺓ           ﻭﺍﻟﻜﻞ ﻣﻨﻬﻢ ﻓﻲ ﻣﻌﺎﻟﻴﻪ ﺑﻠﺸﺎﻥ …
ﺍﻟﺼﺒﺢ ﻳﻘﻠﺪﻭﻥ ﻟﻮﻥ ﺍﻟﺴﻔﺎﺭﺓ                 ﻭﻟﻠﻌﺼﺮ ﻣﺎ اﻧﻜﻒ ﻣﻨﺴﻒ ﺍﺭﻓﻴﻔﺎﻥ ..
ﻭﺭﺩﺕ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺧﻴﻞ ﻗﺎﻣﻮﺍ ﻧﻤﺎﺭﺓ              ﺍﻟﻌﺰ ﺑﻠﻘﺎ ﻭ ﺍﻟﻤﻮﺍﺭﻳﺪ ﻋﻤﺎﻥ …

وفاته

رحل الشيخ ارفيفان المجالي مودّعا وطنه وأهله يوم الثلاثاء الموافق 23 كانون الثاني 1945 في الساعة التاسعة مساءً ودفن في مقبرة النبي نوح في الكرك حيث شارك في جنازته جمع غفير من شيوخ العشائر الأردنية والدول المجاورة وحضر الجنازة سمو الأمير طلال بن عبدالله – الملك لاحقا – بالنيابة عن صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله الأول بن الحسين – الملك لاحقا.

صورة وفاة رفيفان مع لوجو
إعلان خبر وفاة الشيخ البطل ارفيفان المجالي

وهكذا رحل هذا الرمز المؤابي الأردني المشع، تاركا خلفة سيرة عطرة لمسيرة نضالية وطنية حافلة ، جابهت المحتل بالرصاص والحكمة وواجهت المستعمر بالقلم والكلمة، ووقفت طويلا كعامود بيت شعر عظيم لم تهزها الرياح العواتي، ولم تخضع لابتزاز المحتل وجبروته، وقد قالوا قديما أن ( النار تذر الرماد ) لكن الشيخ البطل ارفيفان المجالي وأمثاله من شيوخ العشائر الأردنية وفرسانها  كانوا ( النار التي خلّفت نارا وبطولة ).

المراجع :

  1. بحث منشور لإرث الأردن عن ثورة الكرك 
  2. صالح رفيفان المجالي، سيرته وحياته، جمع وإعداد راتب صالح المجالي، المطبعة العسكرية، 1997.
  3. جريدة الوفاء، العدد الصادر بتاريخ 28 كانون الثاني 1945
  4. مشاهير في التاريخ الاردني، محمود سعد عبيدات، جريدة شيحان، 22/3/2003.
  5. بيتر جوبسر، السياسة والتغيير في الكرك-الأردن ،دراسة لبلدة عربية صغيرة ومنطقتها،ترجمة د.خالد الكركي،مراجعة د.محمد عدنان البخيت،منشورات الجامعة الأردنية ،عمان ،1988.
  6. لقاء من قبل فريق إرث الاردن مع الباحث التاريخي فرّاس دميثان المجالي ،الكرك، تاريخ4-6-2016
  7. ألفاظ وأشعار كركية، فراس دميثان المجالي، مطبعة السفير،2009.
  8. موقع زمانكم ( قصة الأمس ) – http://www.zamancom.com

الشيخ البطل ارفيفان المجالي

 

مقدمة

نشأ من طينة أرض القرابين ، قرابين الفداء و التضحية على أنغام  ربابة عزفت لحن الرجوع الأخير على أسوار قلعة الكرك، فارس ملثّم بهدب البطولة و الرجولة و الفخار، ووريث لبطولات الحارث و ميشع ، إنه الشيخ إسماعيل المجالي الملقب بالشوفي.

نشأة الفارس اسماعيل الشوفي

هو الشيخ إسماعيل بن يوسف بن سليمان المجالي، ولد في القرن الثامن عشر تربى على الفروسية في ميادين القتال وعلى الشهامة والكرم على يد والده الشيخ يوسف المجالي الذي كان يلقب بأمير البادية. كان شجاعاً صلدا بوجه من يتعرض لأرضه وعرضه،  فنشأ على أن يكون الطليعة بين الفرسان وعلى مقدمتهم فأطلق عليه لقب (الشوفي) والتي تعني من يترأس الفرسان، كما أنه  يصدق القول ويصون العهد ولا يتراجع عن الحق ولذلك رافقته المقولة الشفوية الشعبية ( الشوفي إن وعد يوفي).

المجالي ونخوة ( خوات خضرة )

حمل أحفاد الشيخ إسماعيل الشوفي لقب الحمية والشرف (خوات خضرة ) منذ عهد طويل، وكان سبب تسميتهم بهذه النخوة ما قام به البطل إسماعيل الشوفي عندما انتخت به النشمية خضرة المدادحة ذات يوم، وتمحورت قصة هذه النخوة عندما كان جنود ونساء الحامية العثمانية يعملون على تسخير الكركيات لجلب المياه لهّن إلى القلعة التي حوّلت من حصنٍ وطني عظيم إلى حرملك للجواري والخبائث، ومن كان يعرف المسافة الفاصلة بين عين سارة والقلعة يدرك حجم المعاناة التي كنّ يعانيها نساء الكرك من أجل ايصال الماء للقلعة،  وفي عام 1828 حدثت الواقعة عندما اعترضت النشمية الكركية السيدة خضرة المدادحة  طريق الشيخ إسماعيل الشوفي في منطقة سيل الكرك ” عين سارة ” وكن آنذاك – نساء الكرك – يتجمعن لملئ قراب الماء ومن ثم يقمن بنقلها إلى قلعة الكرك؛ وأثناء مرور الشيخ إسماعيل المجالي (الشوفي) صرخت النشمية خضرة المدادحة بصوت عالي لتصل كلماتها لمسامع الفارس إسماعيل الشوفي حيث قالت ( ما تشوف المي تسيل من على ظهورنا يا اسماعيل) – وتقصد بذلك الظلم والإجبار الواقع على بنات الكرك- وكانت أن فتحت خضرة الباب الموصد على مصراعيه في صدر البطل، فصاح الفارس الشيخ إسماعيل المجالي بأعلى صوته قائلاً ( أبشري وأنا أخوكي يا خضرة ).

admin-ajax
النشمية خضرة المدادحة تنتخي بالفارس البطل اسماعيل الشوفي

حيث عاد أدراجه الى الكرك وقام بجمع فرسن العشائر الأردنية في الكرك وترأس هذه الطليعة وهجم على حامية الخليل التابعة للجيش العثماني وقضى عليها عن بكرة أبيها، وفور وصول الخبر للإدارة العثمانية قام الحاكم المحلي العثماني بطلب الصلح من عشائر الكرك حتى لا يتحول ما حدث إلى ثورة شعبية عارمة تمتد على مساحة الأرض الأردنية وبين عشائرها وكان شرط البطل إسماعيل الشوفي للموافقة على الصلح هو توقف نساء الكرك نهائيا عن نقل المياه لجنود ونساء الحاشية التركية في القلعة، وتحولت فزعة الفارس البطل اسماعيل الشوفي للنشمية خضرة المدادحة لتصبح نخوة عشيرة المجالية حتى يومنا هذا ومصدر فخرهم واعتزازهم الدائم بفروسية جدهم البطل.

الشوفي والدخيل:

عام 1832م قامت ثورة في فلسطين بقيادة قاسم الأحمد بجبل نابلس ضد تسلط وظلم ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا الوالي العثماني في مصر الذي انقلب على الباب العالي في الاستانة وانشق عنه، حيث استطاع ابراهيم باشا قمع هذه الثورة بأقصى درجات الهمجية، الأمر الذي أدى إلى هروب قائدها قاسم الأحمد إلى الخليل ومع إصرار قائد الحامية العثماني ابراهيم باشا على القبض عليه هرب من الخليل متجهاً إلى الكرك حيث اتجه إلى أحد البيوت فلم يجد بها أحداً سوى امراة تدعى (عليا الضمور) وهي زوجة الشيخ ابراهيم الضمور ولكن قاسم الأحمد عندما لم يرَ رجلاً بالبيت أدار ظهره احتراما لحرمة البيت وأهله وبحثا عن بيت آخر يجد فيه رجلا يستقبله ويحتمي عنده، وما كان الرد من الشيخة النشمية عليا الضمور عند التفافه عن البيت سوى قولها له: ( يا راعي خير،  حنا خوات ارجال، يا هلا بيك من ممشاك لملفاك، يمّك المجلس وانتظر الشيخ لمنه يعاود).

hqdefault
حملة ابراهيم باشا على المنطقة

وعندما عاد الشيخ ابراهيم الضمور ورحب بالضيف، طلب قاسم الأحمد الدخالة من الشيخ ابراهيم الضمور حيث رد عليه بالقول : ( أبشر تراك وصلت وبعون الله ما يصيبك ضيم) وعندما وصل خبر لجوء قاسم الأحمد إلى الكرك لـ ابراهيم باشا بعث بطلبه إلى الشيخ ابراهيم الضمور بضرورة تسليم الدخيل فورا ولكن ابراهيم الضمور رفض وعندما اتخذ ابراهيم باشا قراره بالهجوم على الكرك ومعاقبة عشائرها على حمايتهم للدخيل قاسم الأحمد، عقد الشيخ ابراهيم الضمور اجتماعا كبيرا ضمّ شيوخ الكرك وعقداء الخيل فيها وعلى رأسهم الفارس الشيخ اسماعيل الشوفي، وأطلع الشيخ ابراهيم الضمور الفارس اسماعيل الشوفي وشيوخ الكرك على التفاصيل فرد الشوفي قائلاً (ما نسلم الدخيل إلا على الموت و الرقاب )، وأمر الشوفي بتجهيز الفرسان من أجل التصدي لحملة ابراهيم باشا وحدثت المواجهة بينهم الأمر الذي أدى إلى اختطاف أبناء الشيخ ابراهيم الضمور (السيد و علي ) أثناء خروجهم في جولة تفقدية لايصال الطعام للرعيان حول مراعي الكرك ، فبعث ابراهيم باشا رسالة إلى الشيخ ابراهيم الضمور قائلا فيها ( سلمنا الدخيل وإلا أحرقنا ولديك)، في هذه الأثناء كان القرار الصعب على الشيخ ابراهيم الضمور الذي بعث من فوره إلى ابراهيم باشا كتابا كان نصه : ( إلى قائد الجيش المحتل إن لم يكن لديكم حطب ونار فسأبعث لكم ما تريدون من حطب وقطران، اقتلوا واحرقوا كما شئتم، ولن تدخلو الكرك ونحن أحياء) ، اشتعل الحقد في قلب ابراهيم بن محمد علي باشا فأوقد نارا بعد أن جمع كتلة حطب كبيرة وشد إليها علي و سيِّـد أبناء الشيخ ابراهيم الضمور الغساسنة على مرأى من الوالدين المفجوعين بفلذتي الكبد وأهالي الكرك، ولكن ما كان من الشوفي إلاّ أن شرب فنجان الثأر لأبناء الضمور بعد أن حرقوا أمامهم لرفضهم تسليم الدخيل، ولم ترضخ عشائر الكرك لوحشية السلطة جيش ابراهيم باشا واستمر النضال الاردني لينتقموا بعدها من جيش ابراهيم بن محمد علي باشا في موقعة البطل جلحد العرود الحباشنة التي جرت بتنسيق وتحضير مسبق بين شيوخ الكرك وفرسانها وعلى رأسهم الفارس البطل اسماعيل الشوفي .

للاطلاع على قصة جلحد العرود الحباشنة او ما يعرف بـ(دلة جلحد) انقر هنا.

إبراهيم باشا

وما كان من اسماعيل الشوفي حينها في ظل الاقتحام المنتظر من جيش ابراهيم باشا لمدينة الكرك إلا أن يقوم بحماية الدخيل ومحاولة تهريبه خارج الكرك حتى لا يحصل له أي مكروه .

وقد واصل جيش ابراهيم باشا مطاردة الشوفي ومن معه فور وصول خبر تهريبه للدخيل قاسم الأحمد، ولكن الشوفي ضحى بنفسه على أن يسلم الدخيل فغير طريقه ليخدع جيش ابراهيم باشا، وأمر الدخيل أن يهرب من صحراء معان الى جرف الدراويش ومن ثم إلى القطرانة متجهاً بعدها إلى البلقاء ليحتمي بعشائرها هناك، حيث تمكن قاسم الأحمد من الفرار لفترة معينة ليعدم لاحقا بعد تسليمه لابراهيم باشا من إحدى العشائر المجاورة للحدود الأردنية الشمالية لقاء مبلغ مالي،  بينما ألقي القبض على الفارس البطل اسماعيل الشوفي في معان وتم أخذه إلى القدس لينال عقوبته هناك.

اعدام البطل اسماعيل الشوفي

عندما قبض على البطل اسماعيل الشوفي بمعان من قبل قوات ابراهيم باشا تم أخذه فورا إلى القدس وهنالك في سوق البتراء أعدت للبطل إسماعيل الشوفي المقصلة العثمانية الشهيرة لقطع رأسه، وقبل أن يعدم بقليل طلب الشوفي طلباً أخيراً من قائد قوات ابراهيم باشا ومنفذ حكم الإعدام ؛ قائلاً لهم ( إذا عزمتم على إعدامي فأعدومني بسيفي لأنني أعرف أن سيفي بتاراً ولا أرضى أن أعدم بسيف الغدر )، وفعلاً أعدم الشيخ إسماعيل الشوفي بسيفه وقطع رأسه وبقي جسده ورأسه معلقين لمدة 3 أيام في سوق البتراء على مدخل مدينة القدس انتقاما منه وحقدا على مقاومته لابراهيم باشا ووقوفه بوجهه دون خوف أو وجل، لتبدأ لا لتنتهي قصة بطل أسطوري أردني عظيم ، استمرت قصصه كأيقونة للبطولة والصمود في وجه المحتل وقانونا للكرم والشهامة الأردنية حماية للدخيل واللاجىء من بطش المحتلين، وبيت شَعر مشرّع للبذل والعطاء.

وهكذا كانت الكرك وما زالت أرضا وأمًّا للقرابين، فلها ومنها قدم  الملك المؤابي الأردني ( ميشع ) ابنه ( بلسام ) قربانًا للكرك، وقدم البطل اسماعيل الشوفي نفسه قربانًا لمحبوبته الكرك والقافلة تمضي بمثل هؤلاء العظام وتستمر، لتبقى سيرة هذا البطل مخلدة في أرواحنا ما حيينا ولتنقش سيرته بماء الذهب وبعنوان عريض لأسلافه وأحفاده الأردنيين ( الشوفي أن وعد ولو على الموت يوفي ).

المصادر:

  • تاريخ جبل نابلس والبلقاء، إحسان النمر، مطبعة ابن زيدون، 1938.
  • مقال الكرك سيدة العصور،الاستاذ نايف النوايسة، 2016 .
  • معلمة التراث الأردني، روكس بن زائد العزيزي، وزارة الثقافة ، 2012.
  • شيخ القلعة، احمد جميل الضمور، ط 1 ، 2010 .
  • ثورة الكرك 1910″الهية” ، د.سعد ابو دية .
  • النار ولا العار، مجلة الدفاع ، 16/5/1936
  • عدد من المقابلات الشخصية من قبل فريق إرث الأردن مع كل من الدكتور حسن مبيضين و الباحث حامد النوايسة و المؤرخ فرّاس المجالي.

الفارس البطل اسماعيل الشوفي

عبد الله العكشه

مقدمة

كان جريئأ في قول الحق بأشعاره، لا يخشى تهديداً في مرافعاته، متواضعاً في حياته ويرفض الالتفات خارج دوائر الحقيقة و الواقع، إنه من نسل أجدادنا الأردنيين الذين قدموا أنفسهم  فداء من أجل بلدهم، فلم يقبل الظلم والضيم و القمع الذي مارسته سلطات الاحتلال العثماني ضد وطنه وأحرار العشائر الأردنية وفرسانها،  فحمل سلاحيه ( لسانه وقلمه ) ضد البطش والظلم وكان بحق أحد أوّل مؤسسي حركات المعارضة الأردنية والمطالبة بالاستقلال من الحكم العثماني، ما حمّله مصاعب شتى بين السجن والنفي والملاحقة جعلته شاعر الثورات الأردنية الوسطى و أبرزها ( ثورة الكرك – الهيّة ) وأحد أبرز روّادها.

ولادته ونشأته

ولد الشاعر المحامي عبدالله العكشة في الكرك عام 1880، وقد جاء الشاعر الى هذه الدنيا حينما حفّت وطنه الأردن السحب العثمانية السوداء وما رافقها من الإهمال والتجهيل الذي مارسته السلطات العثمانية منذ احتلالها للأرض الأردنية وحكمها من الخارج بالوكالة، ورغم هذا الاهمال المتعمّد وعدم وجود المدارس آنذاك والعائق الكبير الذي أوجده العثمانيون أمام الراغبين في طلب العلم من أبناء الأردن عبر اشتراط تعلّم اللغة التركية للدراسة في مدارسها خارج الأردن، إلا أن العكشة كان عصامياً رافضًا الخضوع لعوائق العثمانيين، يطلب العلم بكل الوسائل الممكنة ولا ينتظر قدومه وقد أسعفه الحظ بدخوله مدرسة الروم الارثوذكس، ولم يكتفِ بذلك ما جعله لاحقا الشاعر والمحامي المُجيد لخمس لغات مختلفة سبق فيها أقرانه في ظل محتّل يجبر المواطنين على تعلّم لغته وحده فقط، ولكن كيف تعلم هذه الخمس لغات؟؟

8.indd
مدينة الكرك في الفترة التي ولد ونشأ فيها البطل عبدالله العكشة

مقاومة التجهيل العثماني

تذكر القصة التي رواها الراحل عبدالله العكشة أنه سمع شاباً قادماً من القدس يتكلم الفرنسية مع أحد السياح فأخذه الحماس والإصرار على طلب العلم وتعلم اللغات على وجه التحديد، ما جعله يقوم باللجوء إلى كاهن الطائفة اللاتينية في الكرك المعروف عنه اتقانه للفرنسية والايطالية والانجليزية ليقوم بتعليمه اللغات الثلاث، أما التركية فكان يتقنها كتابةً وقراءة ولفظًا والتي تعلمها مُكرها بسبب سياسة التتريك التي كانت تجبر الناس على تعلمها، بينما كانت العربية لغته الأم التي أحبها وأجاد فنونها.

تميز (الاعكيش) – كناية عن انتسابه لعشيرة العكشة – بـ قوة الشخصية والنباهة والاجتهاد ما جعل حياته عبارة عن صورة مشرقة وبالغة الأثر في البنية السياسية التي كانت آنذاك وفي البنية الاجتماعية أيضاً .

تزوج الشاعر عبدالله العكشة ثلاث مرات في حياته، حيث تزوج فتاة من عشيرة الحجازين من الكرك عام 1901وتزوج بعدها من عشيرة الزعمط من السلط، بينما تزوج الثالثة في السنة 1917 من عائلة أبو عقلة.

صورة أخذت في عام 1890 ويظهر في الشاعر عبدالله العكشة بجانبه رقم 8

 

نضاله ضد الاحتلال العثماني

كان لعبدالله العكشة الدور النضالي الواضح و المؤثر ضد تجبر وظلم الدولة العثمانية بمختلف الوسائل والأدوات، وبدأ هذا النضال على أوسع أبوابه حينما قام بكتابة رسالة شديد اللهجة إلى الصدر الأعظم – رئيس الوزراء العثماني في حينه – في اسطنبول يستهجن فيها سياسة الظلم وارتفاع الضرائب والسخرة التي يعانيها أهل الكرك في ذلك الوقت، وحتى يحمي نفسه من الملاحقة والغدر العثماني؛ قام عبدالله العكشة بتغيير خط يده ولم يترك اسماً أو توقيعاً على الرسالة وكتب في آخرها باللهجة المحكية ( تحكمنا دولة قرود ولا الدولة العثمانية) ما يشير إلى قبول الناس – في ظل فظاعة المحتّل – لأي شكل من أشكال الحكم بدلا عن هذا الحكم، ولكن ورغم اخفائه لهويته قامت السلطات العثمانية وبعد أشهر قليلة باعتقاله ونفيه إلى الطفيلة عقابا له على رسالته اذ لم تكن لتخفى لغة هذا البطل عن أعين جواسيس المحتل وقياداته.

شعر العكشة في مواجهة العثمانيين

تبدّت نبوغة العكشة في الشعر منذ صغره، اذ عرف عنه ذائقته الشعرية البليغة وقدراته اللغوية التي مكنته من التعبير بذكاء عن كل ما يمرّ به، وقدرته الفائقة على تحويل الكلمات و المفردات إلى نصوص شعرية مليئة بالصور الفنية السهلة الممتنعة، إضافة لثقافته الواسعة وامتلاكه لفنون الخطابة القادرة على التحفيز والإثارة.

وكلما اشتم العكشة رائحة الضيم أو الجور، كان يثور بحمية لا تعرف الخضوع، ويحتج على ذلك بالشعر، اذ كانت أشعاره تنبه زعماء الكرك، ومشايخها للدفاع عن بلدهم، ورفع الضيم عنها، ما جعله شاعرا أوّل وأوحد لثورة الأردنيين عام 1910 ( الهيّة ) وما سبقها من انتفاضات شعبية ضد العثمانيين، وقد جلبت له أنفته وثورته على الظلم حقد العثمانيين وبطشهم ذلك الأمر الذي جعله معرّضا لسلاح السجن و النفي لمرات متعدّدة بعيدا عن أهله وأحبائه ووطنه.

بدأت مسيرة الراحل البطل عبدالله العكشة في مواجهة العثمانيين في عام 1900 عندما تسلّم ( مصطفى باشا العابد ) منصبه كمتصرف جديد بعد متصرف اللواء السابق ( رشيد باشا )، وكانت سمعة مصطفى باشا العابد سيئة جدا، اذ لم يكن يخجل أبداً من التباهي بقبوله للرشوة وأخذها من الشاكي ومن المشتكى عليه، وفيما بعد أعاد مصطفى باشا العابد تطبيق و إحياء نظام ( السخرة ) العثماني على أهالي الكرك وأجبر الأهالي على العمل بها، رجالاً ونساء ومن جميع الأعمار، اذ تعددّت الأعمال من بناء الثكنات العسكرية و جلب المياه إلى المعسكرات والمخافر وشق الطرق المؤدية لها ومن ثم قطع الأشجار الحرجية ونقلها لمحطات سكة القطار العسكري العثماني الذي استخدم فورا وبعد انطلاقه بقليل لقمع ثورة الهيّة ، ورغم أنها جميعها يفترض بها أن تكون أعمالا موكلة للجيش والدرك التركي، ونظرا لحجم مساوئ هذا النظام ضجر الأهالي، وساءت العلاقة بين الشيخ قدر المجالي وشيوخ الكرك وبين المتصرف مصطفى باشا العابد .

صورة توضح مدى الظلم الذي كان يقع على الاردنيين عبر اجبارهم على العمل بالسخرة في بناء سكة القطار العسكري العثماني

وقد عبّر عن هذا الضجر والاستنكار الشاعر البطل عبدالله العكشة، اذ بينما عُقد اجتماع لعشائر الكرك للقضاء على ( نظام السخرة) وفرض الضرائب والتجنيد الاجباري والوقوف في وجه استمرار تطبيقها، قام الشاعر وانتهز الفرصة لإلقاء قصيدة في هذه المناسبة، وكانت غايته أن يشعل الهمّة في صدر الشيخ قدر المجالي ومن معه من شيوخ العشائر الأردنية ضد الاحتلال العثماني و ظلمه و فساده، وقد قال في بعض أبيات قصيدته :

الله مِنْ قِلْبِ أظرمَت بِيْه نِيــــــــرانْ                جِوَّى ضلوُعي زَايد لْهِا لَهابـــــــا

عدِيرةٍ ما هي مِلِكْ إبن عثمــــــــــانْ              وظلَّت عَزيزة بَالشَّرف والمهابــــــا

تَرى السِّخْرَةْ خَلَّت النَّاس نِســـــــوان              وغَدَت على بعض المخاليق نابـــا

لا يا قدر يا شَوقْ مَسلوبَ الابِـــدانْ                يا شيخ لا تَرضَى علينا الخرابــا

انخى أخو شاهه  يوم رَوْغَاتَ الارهَانْ            رفيفان فَرِّج هَمَّنا والعذابـــــــــا

لقراءة القصيدة كاملة أنقر هنا

وما أن ألقيت القصيدة حتى تحمس الشيوخ و الوجهاء و الفرسان و ثاروا واشتعلت جرعات الأدرينالين التي بثها العكسة في أبياه، فأبرقت الإدارة العثمانية المحلية برقيات مستعجلة إلى المراجع العليا لدى الباب العالي العثماني محذرة من قيام الثورة نتيجة هذه الاحتجاجات على نظام السخرة، فأوقفت السخرة في النهار نفسه قبل أن يعاود الاحتلال العثماني استخدامها مجددا عندما بدأ بمدّ سكة القطار العسكري العثماني عبر الأراضي الأردنية، ما جعل قصائد العكشة سلاحا فعّال في وجه المحتّل لم يكن يسهل مواجهته أو كتمه.

قصائد المنفى – الكرك والثورة في وجدان العكشة

كان الشاعر عبدالله العكشة يحب الكرك، يتغنى ويتغزل بها على الدوام و قد سطّر في حبها القصائد العظام، كردٍّ بالغ على تصرفات الدولة العثمانية وممارساتها ضد وطنه وأهله، وما بعد ثورة الكرك ( الهيّة ) عام 1910 وعقابا له على المشاركة بالثورة والتحريض عليها عبر قصائده، وتحسّبا من العثمانيين من مشاركته ودعمه للثورة العربية الكبرى التي بدأت تصل أنباؤها للأردنيين، صدر بحقه مع مجموعة من شيوخ ووجهاء العشائر الأردنية عقوبة النفي خارج الأردن وكان نصيبه النفي إلى منطقة قوزان في جبال القوقاز، فكان قرار نفيه يلخص هذا التخوّف بالقول : ( انفوه حتى لا يتحول لسلاح إضافي في يد الثوّار ، لا ينقص الثورة العربية الكبرى شعراء جدد ، يكفينا ما نالنا منه بالهيّة ) !

كان واضحا أن شعر العكشة الذي ايقظ البركان الأردني في الهيّة، كان قادرا أن يصل إلى حوران الأردنية لو أقبلت الثورة العربية الكبرى و العكشة بين أهله وفي وطنه، ولو قدّر له أن يكون في وطنه بدلا من المنفى لكان العكشة بلا منازع سلاح فرسان العشائر الأردنيين الفتاك في مواجهة آلة البروبوغندا الألمانية العثمانية .

ولم يكن للمنفى أن يبعده عن هواه ومعشوقته فقد قام عام 1918 بتنظيم قصيدة في منفاه يظهر فيها حجم شوقه للكرك.

وهذه بعض من أبيات القصيدة:

يَا نَاسْ ما بَالَ القَلمْ مِستِكنّ                        مِنْ عِقب ما هو ع القراطيسْ سنَّان

 سِرْ يا قَلَمْ إوْ فَرج الَهمّ عَني                     إكتبِ اقوافاً،فضي– فض البالَ غَثيانْ

دلن علي بينهــــــن شَوْشَحنّـي                      بالسيس حطني على حد قوزان

بِاديار ما فيها رفيقاً يحن                              كِلاً يَعضّ ابهامْ يِمْناه غلان

يا رَبّ يا رَبّ المخاليق حِنِ                          كَم شدة فرجتها وامرها هان

لقراءة القصيدة كاملة أنقر هنا

8.indd
قلعة الكرك – 1918

 

كما نظم قصيدة أخرى أيضاً في منفاه يتحسر فيها على غيابه عن مدينته وأحبته وينعى رفيقه الشيخ البطل قدر المجالي بعدما وصل خبر اغتياله بالسم من قبل العثمانيين إلى مسامعه في المنفى يقول في بعض أبياتها:

وَيْنَ(الكرك) وِاجْبَالْها،وين (شِيْحَانْ)؟              وين الاِقْنان اللِّي بها الميْس مغواه

وَيْنْ(القَصِر) يا عَين و(اتْلاعْ وسلمان)               (الرَّبَّة) الله عَزَّها نايف الجاه

إصبر  وَالين الصَّبرْ فَراجَ الاحزانْ                    كم شِدّة ياتي فرجها امْنَ الله

لا بِدَّ ما انْعُودَ الكرك وَايَّ الاوطانْ                وِاحاسبْ هَيلَ الدَّين إو نعطيهم اياه

لقراءة القصيدة كاملة أنقر هنا

ولم يعد الشاعر عبدالله العكشة إلى أرض وطنه ولم يصدر قرار فك أسره، إلا بعد انتصار قوات الثورة العربية الكبرى وفرسان العشيرة الأردنية وهزيمة الدولة العثمانية، حيث نظم قصيدة يذكر بها قساوة ما عاناه الأردنيون من قبل قوات الاحتلال العثماني وتسلطها وظلمها، وهولات الحرب العالمية الأولى وسعير القتال والتجهيز لها، يقول في بعض من أبياتها:

فعلَ القنابل زايدا ً بالاكرامِ               أَللِّي ادهَجَنُّه ما بقي ليَهْ تالي

بَالوَصِفْ غَوَّصاتْ مِنْ تحتِ الابحارْ    وِالاَّ اقلاعا ً بالهوا فوق طيَّاره

وِالاَّ حَناتيرٍ على القَاعْ سَيَّارْ               وِالاّ مراكِبْ عَ الابحور الزَّلالِ

ثلاثِ اسنْينٍ وَالعربْ بَالبلاَوي             ذاقوا مِظالْمِ مَعْ عَذاب او مِساوي

كانَ السَّببْ (جمال) باشا خلاوي          النَذَلْ نَذَل أوْ لو يسمَّي جمالِ

يَا ظِلُمْ تِركيَّا ، غذا اليوم مَشهور        يم العرب سَاقَت ثَلَثمْيِةِ طابورْ

لقراءة القصيدة كاملة أنقر هنا

وكما تفاخر وتغنى بالثورة العربية الكبرى كان لقائدها المغفور له الشريف الحسين بن علي وأبنائه من قادة جيوش الثورة نصيبا من شعره يقول فيه:

نَستحِمدَ الباري ، على كِلَّ الادوارْ           أَللي حَمانا مِنْ ظلايم هالاشرارْ

بالهاشمي اللِّي كِنَّهْ الذِّيب مِغوار             إبنَ الاِجْوادْ إو من افرُوع اطْوال

مِنْ (شان) تِخليص العَربْ مِنْ شِقاها        إرخْص ابروحهُ دُوْنها وافْتداها

مِنْ سِريةَ الأتراك (فيصلْ) حَمَانا             بَالسَّيفْ كِنْ قَطَّع مَواصِلِ اعدانا

(عبد الله) َ عجمع الامعادي رماها،            ألسِّرّيه القشرى ابسيُفه َ حداها

ب ( َ زيد) زاد النا الشَّرف  والمقام       حرًا َ نهار الرَّيب يروي الاحسامِ

لقراءة القصيدة كاملة أنقر هنا

2.indd
قائد الثورة العربية الكبرى – الشريف الحسين بن علي

عبدالله العكشة وميزان العدالة 

وبينما كان يناضل بقلمه في وجه قوة الاحتلال، لم يعدم البطل عبدالله العكشة الوسائل والحيل ولم يكتف بشعره فقط لمواجهة التجبر والظلم العثماني على أهله ووطنه، فحاول بكل الوسائل الممكنة تعلم القانون ليحاول متى استطاع الدفاع عن أهله بكل الوسائل الممكنة، ونظراً لعدم قدرته على الالتحاق بمعاهد علمية أو جامعات في ظل حالة التجهيل التي فرضتها الدولة العثمانية؛ طلب مساعدة صديقه عودة القسوس حيث كانا يتناقشان دوما في المسائل القانونية وفي مواد مجلة الأحكام وهما يتنزهان في الطريق السلطاني: طريق الكرك – عمان الحالية، وانكبّ على دراسة كتب القانون حتى تمكّن من تحصيل المعرفة القانونية بشكل مفصّل وواسع.

العكشة والمناصب العامة

عين المرحوم (عبد الله العكشة) عضوا في محكمة الكرك في العهد الفيصلي بعد نيل الاستقلال الأولي عن العثمانيين، ثم عيّن في محكمة بداية (إربد) في السنوات الأولى من تأسيس الإمارة الأردنية، وبعد تركه للوظيفة سنة ١٩٢٧ زاول الراحل مهنة المحاماة في الكرك، إلى أن تقاعد سنة ١٩٥٢،  فكان عبدالله العكشة المحامي النزيه الذي لا يستلم أي قضيةٍ إلا بعد دراستها جيدا فإن كانت على حق قبلها، أما إن كانت على باطل فكان يرفض استلامها مهما كان الثمن ومهما تكن الفائدة منها، فيما عيّن لاحقا عضوًا في لجنة الدستور الأردني.

سيرة الجَلَدِ والصبر

كان منزل ( الاعكيش ) يومياً لا يخلو من الأصدقاء والأقارب والمحبين حيث يلعبون الشطرنج والنرد وتقام الحلقات النقاشية والشعرية بينهم محولا له لصالون أدبي ثقافي ترفيهي دائم، وفي ذات يوم وفي إحدى الجمعات في منزله مات أحد أطفاله وما كان من عبدالله العكشة إلاّ أن حبس أنفاسه وآلامه بالصبر والكتمان، ونبه أهله بأنه لا يريد أن يسمع صوت بكاء أو صراخ إلى أن يخرج الضيوف مكرّمين من منزله، وفي اليوم الذي تلاه سمع الناس بوفاة ابنه فقاموا بتعزيته بمصابه، وسألوه متى توفي فقال لهم : “عندما كنتم في منزلي ” فتعجب القوم من تحمله المصائب والشدائد ومن جلده وقوة احتماله، ومن اصراره على أن لا يعكر صفو ضيوفه.

كان الراحل البطل عبدالله العكشة ومن هول ما مرّت عليه في حياته من ملمات جلدا صبورًا لا يبكي ميتا، مع أنه في ذات الوقت كان رقيق العاطفة سريعا إلى النجدة، والسبب في أنه لا يقبل أن يحد على ميت، اعتقاده أن ذلك نوع من الاحتجاج على الباري. وأنه من المظاهر الكاذبة، التي لا ترد فائتا!

وفي عام 1922 وبينما كان أهل بيته يعدون العدة لزواجه جائه خبر مقتل ابنه البكر – وكان يبلغ الثامنة عشر من عمره –  في الحقل قبل عيد الفصح بأيام، ولكنه لم يقم بالحداد، فقام بتقديم الحلوى للمعايدين والمعزين حيث بعث له الشاعر سالم القنصل قصيدة يقول بها :

يا صاحبي بَلواكْ ما تِقبلَ الطبّ،            أما انت رجَّالا ترى الصبر بالله!

اللي جرى هذا سماحا ً امن الرب،           يا ربْ صبر أيوب عَ مِثلِ بَلواه،

حزنك شريك اللي تِضَحَّى عن الحبّ،      الخلّ والممزوجّ مَنْ هُوْ تِسقَّاه؟

يا ليت إنْ وَاكِدْ خبركم إمكَذِّبْ،              يا ربعي ، يا بلواي من عظم بَلواه!

إبراي اني دفنتِ اغلام يلقع على القلب،    من عظم حزن اصويحبي كِنْ عزيناه!

يَدوم راسك والقرايب والاصحاب،          عَسَى الفقيد الجنَّة الخلِدْ ماواه!

فرد العكشة على صديقه القنصل قائلا  :

الموت حق فرض واجب علينا ،            من خِلقت الدنيا على الكل محتومْ!

الحمدالله على متا دز لينا،                    امْرُهْ امْطَاعْ اوْ نِشِكَر هَدايمَ الدومْ!

اغفر لنا يارب عَمَّا جنينا                      وِالطُف لنا يا راحما ً كل مَظلومْ

وصمَتَ القلم 

بقي الشاعر عبدالله العكشة يزاول  مهنة المحاماة الى أن تقاعد سنة 1952، وبعدها بقي يمارس الزراعة ومطالعة الكتب وكتابة الشعر، إلى أن توفاه الله بتاريخ 7 شباط 1956.

عاش الشاعر والمحامي مكافحاً بحبه لوطنه والنضال لاستقلاله ومدافعا عنه ضد كل ما يمسه . وسيبقى هذا الشاعر البطل علماً من أعلام هذا الوطن ولتكن قصائده ديوانا في قصص البطولة والفداء في وجه المحتلين وراياتهم.

المراجع :

  • المرحوم الشاعر عبدالله العكشة ، معلمة للتراث الاردني، روكس بن زائد العزيزي، مطبعة السفير، 2012.
  • عرس البويضا، فريد العكشة، وزارة الثقافة،2011.
  • ألفاظ وأشعار كركية، فرّاس دميثان المجالي، مطبعة السفير، 2009.
  • الشاعر الشعبي عبدالله العكشة ( عرار الجنوب ) ، الغد، 2006.

شاعر الهيّة – عبدالله العكشة

الولادة والنشأة

الشيخ راشد الخزاعي الفريحات

ولد الشيخ الأمير راشد بن درغام بن فياض بن مصطفى بن سليم الخزاعي الفريحات عام 1850م في منطقة جبل عجلون شمال الأردن وهي مدينة أردنية ذات تاريخ حافل ، حيث يمتد نسب عائلته لقبيلة قضاعة الأردنية التي يعود استمرار تواجدها التاريخي على الأرض الأردنية لما قبل الميلاد؛ حكمت قبيلة قضاعة منطقة شمال الأردن قبل الغساسنة وكانت جرش عاصمة مملكتهم الأردنية في ذلك الوقت، ومنها أيضاً بني عوف أمراء منطقة جبل عجلون التي تمتاز بوجود العديد من العائلات الأردنية التاريخية المسيحية والمسلمة الذين يجمعهم التاريخ الناصع المشرّف والمشترك وتضحياتهم المبذولة في سبيل الوطن الذي استطاعوا الحفاظ عليه عبر صونهم للحقوق والحريات وإعلائهم لقيم المواطنة على الاعتقاد، فتجدهم استقبلوا القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي وساعدوه في حربه وحربهم ضد الفرنجة، وهي المعارك التي شارك فيها الأردنيون جميعاً للدفاع عن وطنهم لما استشعروا خطر الغزو الخارجي المتستر بالدين واقترابه من حدودهم، ففتحوا لصلاح الدين أبواب قلعتهم التاريخية “قلعة الربض” في أعلى جبل عجلون لتكون حصناً ومقراً لقيادة المعارك في ذلك الوقت، ومن هنا جاء راشد ليكون وريثاً شرعياً وعن استحقاق لجينات الزعامة الوطنية إلى جانب الوعي بهذه المفاهيم والقيم الأصيلة الداعية لحرية الاعتقاد والتعايش والانسجام، مما جعل منه أيقونة للدفاع عن الحريات الدينية والوئام ليس في الأردن فقط ، بل امتد وعيه ودفاعه هذا ليغطي الدول المجاورة.

 

راشد الخزاعي في مواجهة العثمانيين

كان راشد الخزاعي الفريحات زعيماً وقائداً وطنياً لمنطقة جبل عجلون، ومن الطبيعي جداً أن ينحاز القائد الحقيقي لشعبه ووطنه ويستشعر الظلم الواقع عليهم عندما يرى أهله يعانون من الاضطهاد، ورغم محاولة العثمانيين السيطرة على فطرة الأردنيين نحو الحرية ورفض الحكم الخارجي، واستماتتهم في محاولة استرضاء وكسب ود الزعماء والمشايخ في فترة الاحتلال العثماني والحكم بالوكالة، وهو ذاته ما فعلوه مع راشد باشا الذي كان ممثلا كسنجق دائم وأميراً لحاكمية جبل عجلون، حيث عمد الاحتلال العثماني إلى تأسيس سنجقية عجلون في سنة 1517 بعد تقسيم العثمانيين للمنطقة لولايات وسناجق لتسهيل السيطرة عليها والحد من الثورات الأردنية الصغرى التي انطلقت منذ بداية العهد العثماني، فما كان من راشد باشا وهو الوطني الحر إلا أن يدافع عن أبناء شعبه بكل الطرق الدبلوماسية في بادئ الأمر ويقف في وجه الضرائب العثمانية الجائرة والمرتفعة جداً بعد أن تعمدوا بسياستهم إفقار وإذلال الأردنيين وتجفيف مصادر دخلهم لقتل أي أمل للتحرر وما زال أهل عجلون يذكرون ما تناقلوه عن أجدادهم في وصف تلك الأيام قائلين: “كنا نطحن البلوط ونخبز الشعير” ، بعد أن كانت عجلون مزدهرة في العهد المملوكي وما سبقه من الفترات التاريخية، حين كانت قلعتها صرحاً علمياً عالمياً يخرج الأطباء والجراحين .

انتزع راشد الخزاعي زعامة جبل عجلون بشكل فعلي عن جدارة واستحقاق وباعتراف رسمي من الدولة العثمانية في بداية القرن العشرين، خصوصاً بعد وفاة الشيخ حسين البركات ، وتعزز دوره بعد زواجه من ابنة الرجل القوي والشيخ الأسبق حسن البركات الفريحات ، الذي توفي عام 1881م والذي وصفة الرحالة (اوليفانت)(4) سنة 1879م بأنه يستطيع أن يجند 1400 فارس ، في الوقت الذي لا يمكن لغيره تجنيد عشرة فرسان ، وبذلك جمع ثقة فرعي الزعامة في العشيرة وعجلون عموماً، الأمر الذي دفع براشد أن يكون خصماً ونداً للعثمانيين لا معيناً لهم ضد أبناء شعبه، فكان الولاة العثمانيون يخشونه ويتحاشون الاصطدام به لنفوذه في منطقة عجلون وما حولها، وحدث أن تأخر راشد الخزاعي عن حضور إحدى الاجتماعات لحكام المناطق الواقعة تحت سيطرة الاحتلال العثماني، فلم يسمح الوالي العثماني ببدء الاجتماع قبل وصول راشد ، وعند وصوله أجلسه بجانبه محاولاً كسب وده، إلا أن حيلة الاسترضاء هذه سرعان ما أثبتت فشلها مع أول جولة من النقاشات، حين سأل الوالي العثماني  الحضور عن ما جمعوه من ضرائب وعن عدد الأنفس والمواشي في مناطقهم، الأمر الذي استفز راشد الخزاعي فأخذوا يجيبونه ويقدمون ما جمعوه ويقول كل منهم عندي كذا وكذا، وحين وصل الدور لراشد باشا كان رده : ( أنا عندي أربع آلاف بواردي (رجل مسلّح) ومش المهم قديش عنا أراضي وقديش النا وقديش الك، المهم عندي إنه بلادنا ما فيها صحة والأمراض سارية ومنتشرة، تعليم ما في ومحاولاتكم في التتريك مستمرة، والضرائب بدون مقابل أرهقت الشعب، كل فترة ضريبة جديدة، والأشجار تم تقطيعها، ولو أردتم إدراك الأمور فيجب عليكم إصلاح هذا الحال)، وحاول العثمانيون تهدئته ووعدوه بتحسين الأمور، لكن لم يحدث أي تغيير على الوضع القائم منذ احتلالهم للمنطقة، مما دفعه للتوقف عن جمع الضرائب لصالحهم وتأسيس حكم محلي ذاتي في منطقة جبل عجلون لإدارة شؤونها وتسيير أعمالها أسوة بالتجارب المماثلة الناجحة في عدد من المناطق الأردنية المجاورة ومنها الكورة بزعامة كليب الشريدة، حيث سخّر الأردنيون العوامل الجغرافية لتوحيد الإنسان مع الأرض في رفض الاستعمار والحكم الخارجي.

حياة راشد الخزاعي الأسرية

وفقا لحفيده الأستاذ المحامي معن الخزاعي : تزوج الخزاعي أربعة نساء الزوجة الأولى خزنه المومني ، توفيت ولم تنجب أبناء ، أما الثانية : يقال لها بنت طراد من بلدة عرجان ، أنجبت ولدين هما :محمد وفهد ، ولأنه كان محبا للأبناء والعزوة ، تزوج من رفقه الحسن ، وهي بنت الشيخ حسن البركات (شيخ عشيرة الفريحات وشيخ جبل عجلون لمدة تزيد عن 15 عاما خلال الاحتلال العثماني ) ، ورفقه الحسن كانت أشهر زوجات الشيخ راشد، اذ كانت متعلمة تتقن القراءة والكتابة وتنظم الشعر وكانت عوناً له في ادارة الشؤون المحلية وهنا يبرز الدور التاريخي للمرأة الأردنية والمشاركة السياسية والمدنية لها في المجتمع ، وقد أنجبت ستة أبناء هم : (فوزي ، لطفي ، شفيق ، محمود ، فواز ، فايز ) وتوفيت رفقة الحسن عام 1928م ، فتزوج بعدها الشيخ راشد الزوجة الرابعة (2) وهي آخر زوجاته ، واسمها بهيره بنت محمد صالح الصمادي،
وقد أنجبت السيدة بهيره الصمادي للشيخ راشد خمسة أبناء هم ( رفيق ، وفيق ، فائق ، حسان ، إحسان ).

حماية مسيحيي المشرق

ولم يكن الحكم المحلي الذي قام الشيخ راشد الخزاعي الفريحات بتأسيسه في جبل عجلون كوسيلة لتخليص أبناء المنطقة من شرور الاحتلال العثماني وتسلطه بمنأى عن الأحداث الإقليمية، بل استطاع الشيخ راشد الخزاعي أن يكون لاعباً أساسياً في الأحداث الخارجية التي شهدتها المنطقة، ونتيجة لأحداث الفتنة الطائفية بين الدروز والموارنة في لبنان في نهاية الاحتلال العثماني والتي كان للعثمانيين الدور الأبرز في تأجيجها من خلال تعزيز النظام الاقطاعي وتعمد استفزاز المسيحيين والتجييش ضدهم، تعاون الأمير راشد الخزاعي مع الأمير عبد القادر الجزائري الذي قام الاحتلال الفرنسي بنفيه من الجزائر لسوريا، وتدخل الأميران عبر قيامهما بجهود جبارة لحماية المسيحيين من الفتنة التي اجتاحت سوريا ولبنان، كما نجح الشيخ راشد بحكمته بحماية الأردنيين وإبقائهم بمعزل بعيداً عن نيران هذه الفتن الطائفية، مستنداً للقيم الأصيلة من المحبة والتآخي والوئام بين مكونات المجتمع الأردني تاريخياً، وهو الدور الذي يحافظ على هذه القيم والمثل قائمة حتى يومنا هذا في الأردن في ظل ما تشهده المنطقة من سباق نحو القاع في هذا الصدد، فقد أخمد الأميران نار الفتنة وسعيا لتطويقها، وأعلن الشيخ راشد الخزاعي أن أي اعتداء على أي مسيحي سيعتبر اعتداءً على شخصه، وعلى عشيرته وكل العشائر الأردنية عامة وعشائر عجلون خاصة، متوعداً بأنه سيوقع العقوبة بالمثل على أي شخص تسول له نفسه الاعتداء على أي مسيحي في المنطقة، الأمر الذي أدى لرحيل العديد من العائلات المسيحية السورية واللبنانية ولجوئها لعجلون إلى جانب العائلات الأردنية المسيحية والمسلمة ذات الوجود التاريخي المسجل في المنطقة والذي يعود لما قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وتكريما له على جهوده حصل الشيخ راشد الخزاعي على وشاح القبر المقدس من بابا الفاتيكان عام 1887 ليكون أول أردني مسلم وأول عربي يحصل على هذا الوسام الذي يعتبر من أعلى الاوسمة في الفاتيكان ويعطى للمطارنة والكاردينالات، وذلك لدور الشيخ راشد الخزاعي في حماية حرية الأديان وترسيخ مبادىء المحبة والسلام والوئام، ولجهوده ونضاله في حماية مسيحيي المشرق والدفاع عنهم وايوائهم .

حكومة جبل عجلون في العهد الفيصلي

استمر الحال في منطقة جبل عجلون على ما هو عليه من حكم محلي حتى انطلقت بعد ذلك بفترة أحداث الثورة العربية الكبرى التي كان الشيخ راشد أحد مناصريها، والتي جعلت منطقة الأردن خالية من الوجود العثماني في عام 1918، وانطلق بعدها الثوار الأردنيون لمساعدة الأشقاء في سوريا ، حيث وصلت قوات الثورة العربية الكبرى لدمشق وتم تأسيس المملكة الفيصلية في المناطق المحررة بقيادة الملك فيصل بن الحسين وتشكلت في الأردن ما بعد الثورة العربية الكبرى وقبل وصول الملك عبد الله الأول لتأسيس إمارة شرق الأردن عدد كبير من الحكومات المحلية إثر سقوط المملكة الفيصلية على يد الاحتلال الفرنسي، وفي البداية تشكلت حكومة إربد في شمال الأردن برئاسة علي خلقي الشرايري بتاريخ 5/9/1920 وكان راشد باشا الخزاعي من أبرز أعضائها ثم انفصل راشد باشا عن هذه الحكومة وقام بتشكيل حكومة أخرى برئاسته بتاريخ 13/9/1920 وسميت حكومة عجلون وكان انفصاله ومبادرته بتشكيل حكومة منفصلة كتلك الموجودة في الكورة برئاسة كليب الشريدة ، احتجاجاً من الزعامات الوطنية لمناطق شمال الأردن على التدخل البريطاني السافر والمباشر في عمل هذه الحكومات واستئثار الاستقلاليين السوريين اللاجئين للأردن هروبا من الاحتلال الفرنسي بمعظم مفاصل الدولة وموقفهم سيئ الذكر من الحركة الوطنية الأردنية، سيما مع انكشاف المخططات الهادفة لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وإخضاع الدول المحررة من الاحتلال العثماني للاحتلال البريطاني والفرنسي ، الأمر الذي جعل من السياسيين والزعامات الوطنية يتحركون على مختلف الصعد السياسية والدبلوماسية والعسكرية لرفض هذه المخططات كل حسب طريقته ، وضمّت حكومة عجلون عدداً من الشخصيات الوطنية ، من خارج جبل عجلون حتى أن الشيخ الخزاعي في ذلك الوقت كان قد عيّن السيد علي نيازي التل كقائم مقام لتلك الحكومة أي (حكومة عجلون)، مما يدل على أنها كانت وغيرها حكومات ذات أهداف وأجندة سياسية وطنية جامعة وعمل وطني منظّم وليس مجرد تقسيمات عشوائية قائمة على أسس جهوية أو مناطقية، مما يفند أن يكون مؤسسو هذه الحكومات قد قاموا بتأسيسها بحثا عن جاه أو منصب، سيما وأن هذا الجاه متأصل في كل منهم فهم زعماء اختارهم الشعب عن محبته وثقته ولما رآه فيهم من قدرة على إدارة الدفة وقيادة المنطقة في تلك الفترة التي شهدت أحداثاً صعبة، فلعبت الحكومات المحلية في تلك الفترة دورا في حفظ النظام، وإدارة شؤون الناس وأحوالهم

المشاركين في المؤتمر الوطني عام 1928 ، الصف الأول من اليمين : الأستاذ علي خلقي الشرايري، الأستاذ عبدالمهدي الشمايلة، الأستاذ عيسى المدانات، الشيخ زعل المجالي، الشيخ عطالله الطراونة. الصف الثاني من اليمين: الأستاذ ناجي أبونوار، حسين باشا الطراونة، الشيخ عضوب الزبن، الشيخ راشد الخزاعي، الشيخ سليمان السودي، الشيخ حديثة الخريشة، سالم باشا الهنداوي،الأستاذ شمس الدين سامي.

تأسيس إمارة شرق الأردن ومقاومة الخزاعي للانجليز والفرنسيين والايطاليين

ومع وصول الأمير عبد الله بن الحسين للأردن عام 1921م وقيامه بتأسيس الإمارة والدولة الحديثة بمساندة العشائر الأردنية ومبايعتها له ايمانا بشرعية الإنجاز، شارك الشيخ راشد الخزاعي الفريحات ووفد مكون من 30 شخصاً من وجهاء عجلون جموع الأردنيين في استقباله، وانضوت الحكومات المحلية بما فيها حكومة عجلون تحت الحكومة المركزية ومقرّها عمان، واستمر الشيخ  راشد الخزاعي شأنه شأن بقية الزعماء الأردنيين بمقاومة أوجه الاحتلال مهما تعددت أعلامه وتسمياته وطريقته وحجم تدخله، فاستمر في رفضه للانجليز وللتعاون معهم، كما ساهم في دعم الثوار السوريين والأردنيين ضد الاحتلال الفرنسي لسوريا، واستضاف في بلدة كفرنجة عدداً من قيادات الثورة السورية ومن جملتهم سلطان باشا الأطرش الذي كانت تربطه علاقة وثيقة بالشيخ راشد الخزاعي، وشارك الخزاعي في دعم الثورات الفلسطينية ضد الانجليز، وتزويدها بالمال والسلاح، وتعدى دعم راشد حدود الدول المجاورة وتجاوز ذلك ليصل لما هو أبعد من فلسطين وسوريا، فكان له الدور في دعم الثوار الليبيين بزعامة عمر المختار ضد الاستعمار الايطالي، وفي نفس الوقت واصل العمل السياسي إلى جانب بقية الزعماء الأردنيين؛ الذين ما انفكوا يعقدون الاجتماعات والمؤتمرات التي كان  يتمخض عنها قرارات وخطوات عملية في ذاك الوقت ، حيث كان للشيخ راشد باشا الخزاعي دور بارز في العديد من المواقف الهامة في الحياة السياسية في فترة تأسيس إمارة شرق الأردن حيث شارك في جميع المؤتمرات الوطنية التي عقدت في عهد الإمارة بدءاً من أول مؤتمر والذي عقد بتاريخ 25/7/1928 في عمان إلى آخر مؤتمر والذي عقد بتاريخ 6/6/1933 بعمان إلى جانب عضويته ومساهمته في تأسيس العديد من الأحزاب الوطنية الأردنية في ذلك الوقت وهي كما يلي :

.1 حزب أنصار الحق سنة 1928

.2 حزب اللجنة التنفيذية 10/4/1929

.3 حزب التضامن 24/3/1933

.4 حزب مؤتمر الشعب الأردني في شهر آب 1933

.5 الحزب الوطني الأردني في نهاية عام 1936

لم يكن الشيخ الخزاعي شيخ عشيرة أو زعيما بالمعنى العادي للكلمة ، بل كان شخصية وطنية سياسية ذات ثقل في مجال العمل الوطني بشكل أزعج أدوات الانتداب البريطاني في ذاك الوقت، مما دفعهم للسعي للتخلص منه بشتى الطرق ، وكانت محاولات الاغتيال أحد هذه الطرق، وعلى إثر تزعمه لحزب اللجنة التنفيذية وترأسه المؤتمر الوطني الأردني للحركة الوطنية الأردنية الذي انعقد بتاريخ 6 آب عام 1933، تعرض الشيخ راشد الخزاعي لمحاولة اغتيال عقب انتهاء أعمال المؤتمر، لكنه نجا من تلك المحاولة ،  واستمرت محاولات التخلص منه والتجييش ضده وضد بقية الزعامات الوطنية من قبل الانتداب البريطاني وأعوانه، حتى تم إبعاده للعقبة عام 1937 بأوامر مباشرة من الإدارة البريطانية إلى جانب عدد من الزعامات الوطنية كان من جملتهم  سليمان باشا السودي وسالم باشا الهنداوي ، ومن هناك لجأ إلى الديار الحجازية، ومنها إلى سوريا ولبنان، الأمر الذي أثار غضب الأردنيين والزعامات الوطنية، وانطلاق موجة احتجاجات واسعة ضد الانجليز، إلى جانب استخدام أسلوب ( حرب العصابات Guerrilla warfare ) ضد الانتداب البريطاني من خلال عمليات تفجير خط البترول، كوسيلة للضغط على الانتداب البريطاني وأدواته للقبول بعودة الشيخ راشد الخزاعي الفريحات ورفاقه وهو الأمر الذي تكلل بالنجاح حيث عاد الشيخ راشد في عام 1939 ورفاقه وتم استقبالهم استقبالاً وطنياً واسعاً ، وهذا الأمر ما كان ليتحقق لولا تكاتف الزعامات الوطنية الأردنية التي كانت تجمعها علاقات وثيقة مع الشيخ راشد، من أمثال الشيخ مثقال الفايز والشيخ حديثة الخريشا ، وكانت تلك الأحداث مجتمعة نقاط تحوّل هامة في طريق حصول الأردنيين على استقلالهم التام عام 1946.

 شاعر الأردن مصطفى وهبي صالح التل (الملقب ب عرار) يلقي كلمة وقصيدة بحضرة الأمير راشد الخزاعي رحمه الله بمناسبة المؤتمر الوطني و يظهر بالصورة أمامه الشيخ علي نيازي التل الذي كان قائم مقام في حكومة عجلون التي أسسها الأمير المناضل راشد الخزاعي
شاعر الأردن مصطفى وهبي صالح التل (الملقب بـ عرار) يلقي كلمة وقصيدة بحضرة الشيخ راشد الخزاعي رحمه الله بمناسبة المؤتمر الوطني و يظهر بالصورة أمامه الشيخ علي نيازي التل الذي كان قائم مقام في حكومة عجلون التي أسسها الشيخ البطل راشد الخزاعي

زيارة الأمير عبد الله المؤسس لراشد الخزاعي في بلدة كفرنجة :

على اثر عقد المؤتمر الوطني الثالث رفض بعض المؤتمرين (عبدالله الشريدة – محمود الفنيش) التوقيع على مقررات المؤتمر وحصل انقسام بين أعضاء حزب اللجنة التنفيذية وقام الشيخ رفيفان المجالي بتاريخ (20/7/1930م) بالتقدم بطلب إلى الحكومة بالموافقة على تشكيل الحزب الحر المعتدل، وهو حزب منافس لحزب اللجنة التنفيذية وما أن سمع الأمير عبدالله بهذه الانقسامات حتى قام بدور الإصلاح وقام بزيارة الشيخ راشد باشا الخزاعي في كفرنجة وفي طريقه عرج على قرية سوف وزار علي الكايد و زار أيضا كل من حسين الطراونة، و شلاش المجالي، و زعل المجالي، وسلامة المعايطة، ونايف المجالي في الكرك، خلال هذه الزيارات حاول الأمير عبدالله بإجراء الصلح بين أعضاء حزب اللجنة التنفيذية المعارض و الحزب الحر المعتدل  الموالي للحكومة حفاظا على وحدة الحركة الوطنية الأردنية ومساعيها، و قد تكللت مساعي الأمير عبدالله بالنجاح حيث قام حسين الطراونة في تشرين ثاني 1930م  بتوجيه الدعوة للاجتماع في منزل الشيخ مثقال الفايز لتقريب وجهات النظر بين الطرفين و قد حضر هذا الاجتماع حوالي مئة شخصية أردنية ومنهم راشد باشا الخزاعي وفعلا تم الإصلاح وفي نهاية هذا الاجتماع اقسم الحضور يمين الإخلاص للبلاد .

الدور الإجتماعي

 كان راشد الخزاعي وطوال فترة حياته  بحكم زعامته التاريخية في جبل عجلون يعتبر مرجعا في حل القضايا والمخاصمات التي تحدث بين الناس ويكون حكمة نافذا ولا تعقيب عليه ويقبل برضى الطرفين ، ويروي الحاج محمد مصطفى الفطيمات من بلدة الوهادنه نقلا عن والده أنه : في بداية القرن العشرين اعتدى أحد المتنفذين في خربة الوهادنه على أرض لوالد الراوي وأقاربه، وأراد المتنفذ الاستيلاء عليها بالقوة ، متسلحا بقوة مكانته وسلطته الاجتماعية ، فما كان من والد الراوي الى أن اتجه صوب بلدة كفرنجة وقدم شكوى إلى راشد باشا الخزاعي ، وبعد عدة أيام حضر الباشا ومعه أحد الجنود المكلفين بمساعدته لتنفيذ أوامره، وبعدما وقف على القضية واستدعى بعض الشهود وعند سماعه لهم ، أعاد الأرض لصاحبها وأمر المعتدي بالاعتذار من صاحب الأرض ، ولم يتعرض له بعدها .

كما يروي الحاج المرحوم مصطفى الخليل بني عطا مواليد عام 1910م أنه خلال الحرب العالمية الأولى وعندما كان يدرس في الكتاب في قرية فارة آنذاك ، زارهم الشيخ راشد الخزاعي زعيم جبل عجلون في المدرسة وفي وقت الطابور الصباحي، وقد أنشد التلاميذ أمامه نشيدا وطنيا ، وكان مؤثرًا لدرجة أن راشد باشا سالت دموعه وأخذ يمسحها بطرف منديله، وهذا دلالة على حجم الدور القيادي الحقيقي والمباشر الذي كان يمارسه في جبل عجلون إبان العهد العثماني.

وفاته

عاصر الشيخ راشد الخزاعي العديد من المحطات السياسية المهمة في تاريخ الأردن الحديث منذ تأسيس الإمارة على يد الملك عبدالله الأول والحصول على الاستقلال التام عام 1946، كما شهد الشيخ الخزاعي أيضاً أحداث انتقال العرش إلى الملك طلال عام 1951 عقب اغتيال الملك المؤسس مع ما صاحب تلك الحقبة من تداعيات محلية وإقليمية، وحتى السنوات الأولى من انتقال الراية إلى الملك الحسين بن طلال، وعندما كبر براشد باشا السن وقارب على المئة عام اعتزل العمل السياسي واكتفى بالدور الإجتماعي من خلال إصلاح ذات البين والقضاء العشائري وبقي كذلك إلى أن توفي بتاريخ 30/11/1958 عن عمر يناهز المئة وثمانية سنين، ليختتم فصلاً من حكاية الأردنيين ونزعتهم التاريخية نحو التحرر ورفض الانحناء للظلم، ولتستمر الحكاية، حكاية الأردن العظيم.

المراجع:

  • بحث بعنوان “عشيرة الفريحات، نسبُها، ودورها الاجتماعي والتاريخي” ، من إعداد خالد زكي ظاهر فريحات ، أ. سامر عبدالرزاق فريحات
    عضو اتحاد المؤرخين في تراث القبائل وأنسابها ، باحث في الموسوعة العجلونيّة ، منشور على موقع وزارة الثقافة الأردنية.
  • مخطوط تحت النشر للمؤرخ خالد زكي فريحات 2016
  • مقابلة شفوية مصوّرة مع المؤرخ خالد زكي فريحات 2016
  • مقابلة شفوية مصوّرة مع حفيد الشيخ راشد الخزاعي ، الأستاذ المحامي معن الخزاعي الفريحات 2016
  • مقالة للمؤرخ الأردني الدكتور أحمد عويدي العبادي بعنوان الأمير الشيخ راشد الخزاعي الفريحات، (1850 – 1957) نشرت بتاريخ 16/07/2015
  • مقال للكاتب الأردني ابراهيم غرايبة بعنوان ” احرقوا البيادر وانهزموا!” ، نشر في صحيفة الغد بتاريخ 3 نيسان / أبريل 2015
  • مقال للمحلل السياسي الدكتور عامر السبايلة بعنوان ” الامن القومي.. امتحان جدي في مواجهة “إدارة الدولة” نشر في صحيفة العرب اليون بتاريخ 05/5/2014
  • مقال بحثي للباحث محمود حسين الشريدة بعنوان “من التاريخ المنسي / 7 الشيخ راشد باشا الخزاعي” نشر في وكالة عجلون الاخبارية بتاريخ 1 أيار 2017

الشيخ راشد الخزاعي – أيقونة الوئام

مقدّمة

يعدّ الشيخ قدر المجالي واحدا من أبرز زعماء العشائر الأردنية الأكثر تأثيرا في مسار الأحداث في الأردن في العصر الحديث، اذ ساهم بإعلان و قيادة واحدة من أشهر الثورات الصغرى – الوسيطة – في الأردن ضد سلطات الاحتلال العثماني، وقاد جهدا تنويريا استقلاليا رافضا لوجود العثمانيين في المنطقة و متحديا لسياساتهم التدميرية و جرائمهم تجاه المواطنين و السكّان العزّل.
لقد مهّد الشيخ قدر المجالي – عبر قيادته لثورة الكرك – الطريق لوجوب قيام ثورة كبرى ضد العثمانيين تتوحد فيها الجهود و يتحقق فيها الطموح الجمعي للأردنيين بالخلاص و الاستقلال من حكم استمر لأربعة قرون كان عنوانه التنكيل و الجباية و الحكم بالوكالة، و يحسب له الفضل الكبير بما تلا ثورة الكرك من صوت بات يعلو شيئا فشيئا بوجوب رحيل العثمانيين بلا عودة .

لا شك أن قدر المجالي كان شخصية فريدة تملؤها التفاصيل المشوقة، لا على مستوى الكاريزما التي حملها فحسب، بل على مستوى جرأة القرارات التي تحملها في مواجهة أعتى قوة عسكرية و آلة إعلامية متاجرة بالدين مرّت على قومه ووطنه، حتى أن حادثة اغتياله بقيت حدثا مليئا بالألغاز مثيرا للآلام و الشجون بين من عرفوه و رافقوه أو سمعوا عنه.

لقد بقيت سيرة حياته أيضا ملاذا و موئلا للباحثين عن الحرية في سبيل وطنهم، فبين ملاحقته لسنوات و التنكيل بأهله و أقاربه و مدينته، وسجن زوجته ومن ثم التحايل عليه و اغتياله ، رسم الشيخ قدر مسارا للثوّار خضبوه بدمائهم حال انطلاق الثورة العربية الكبرى بعد ستة سنوات من الهيّة و بعد أشهر فقط من اغتياله، ليكون بذلك رمزا للحرية التي قدّم روحه من أجلها غير خائف أو متخاذل، و أيقونة للنضال الوطني الأردني في مواجهة قوى الاستعمار و الاحتلال.

الشيخ قدر المجالي

مولده ونشأته:
هو الشيخ قدر بن صالح بن محمد بن عبدالقادر المجالي، ولد في الربة في محافظة الكرك بتاريخ 25/حزيران 1851م، في ليلة 27 رمضان عام 1267هـ وهي ليلة القدر فسمي بهذا الإسم من قبل والده تيمناً بهذه الليلة الفضيلة، و أملا بأن يكون قَدَرا خيّرا لأهله و أرضه.
واجه الشيخ قدر الأمية المتستفحلة حدا بعيدا وتحدّاها رغم الاعتماد الرسمي لسياسة التجهيل من قبل الاحتلال العثماني وما رافقها من أوضاع مادية صعبة بسبب الضرائب وسياسة النهب العثمانية، فتعلم مبادئ القراءة والكتابة على يد شيخ الكّتاب في قريته، في حواضر المعرفة المحلية التي سميت بالكتاتيب في ظل غياب المدارس في الكرك حيث لم تبنَ أو مدرسة في المدينة إلاّ بعد عام 1893م بمبادرة شخصية من أهالي المنطقة، بدلا من انتظار قيام السلطة العثمانية بدورها الذي لم يتم.
أما من كان يطمح من أبناء العشائر الأردنية في تقلد مناصب رسمية في ذلك الوقت فكان عليه مغادرة الوطن الى الخارج من أجل تعلم اللغة التركية ذلك أن المادة 18 من الدستور العثماني تنص على أن معرفة اللغة التركية قراءة وكتابة شرطاً لتقلد وظائف الدولة، اذ اتخذت هذه المادة ذريعة لفرض تعلم اللغة التركية على جميع أبناء العشائر الأردنية الراغبين بالتقدم في المواقع الإدارية و العسكرية، فبقيت عائقا أمام أبناء العشائر الأردنية للخدمة في وظائف الدولة، خاصة في ظل مقاومة الأردنيين لتعلم هذه اللغة بسبب نزعة الاستقلال عن المحتل العثماني. ولهذه الأسباب مجتمعة رفض الشيخ صالح والد الشيخ قدر إرساله خارج الوطن لتعلم اللغة التركية، حيث ابقاه والده بين أهله لكي يتعلم الاعراف والعادات العشائرية الأردنية كمرجع أوفى وأهم للسمو و رفعة القيم.
بلغ الشيخ قدر من العمر 10 سنوات وبدأت تظهر عليه الفطنة وعلامات الذكاء الأمر الذي لفت أنظار جده الشيخ محمد وأخذ يقربه منه وينشئه على مبادئ الانتماء للأرض والعشيرة، وتعلم مبادئ الفروسية وركوب الخيل وعندما بلغ سن 15سنة بدأ يشارك في سباقات الخيل والهجن.
بدأت شخصية الشيخ قدر تبرز فكان الشاب المتواضع والشهم حيث الكبار يتباهون بأخلاقه ورجولته ويتمنون مصاهرته ليس لأنه الشيخ المنتظر لعشيرته بل لأنه صاحب الأخلاق الرفيعة والمتزنة، ولصفاته هذه كانت فتيات الربة تهواه، ويشهد الشاعر الكركي عبد الله العكشة على تنافس بنات الربة على قدر في قصيدة وصفية جميلة يقول في مطلعها:

لا يا قدر يا شوق مسلوب الأبدان   يا شيخ لا ترضى علينا الخرابا

ويقصد العكشة في بيته السابق أنه يستجير بقدر المجالي الذي تهواه جميلات النساء رشيقات الأجسام، ويطلب منه كزعيم و شيخ أن لا يرضى الخراب الذي ينصبُّ على الكرك من العثمانيين.

لقراءة نص القصيدة كاملة يرجى النقر هنا 

أوصافه وهواياته:
تزوج الشيخ قدر من مشخص فارس المجالي وهو ابن 20 عام وجرى سباق خيل في حفل زفافه اشترك فيه فرسان من السلط ومادبا والكرك ومعان .  كان الشيخ قدر متوسط القامة أسود العينين، كثيف اللحية والشارب، يفضل ارتداء العقال من الحرير الطبيعي ذي اللون الاسود ويفضل لبس الدامر والعباءة المقصبة بالذهب، يهوى ركوب الخيل والسباق والصيد، ويحب من الخيل ذات اللون الأبيض ومن الهجن اللون الجملي.  أما عن أسلحته فكان يحمل الخنجر والبندقية والسيف، ويفضل صناعة الكرك من الخناجر والشباري، وهي مشهورة بصناعتها منذ العصر الأيوبي والمملوكي.

تنصيبه شيخا للمشايخ
في السياق التاريخي للتسلسل في مشيخة الكرك، فإن الشيخ يوسف المجالي كان شيخا على منطقة الكرك في بداية القرن التاسع عشر، واستلم بعده المسؤولية الشهيد البطل الشيخ اسماعيل اليوسف المجالي الملقب بالشوفي، وبعده تولى المشيخة الشيخ عبد القادر يوسف اليوسف المجالي ومن ثم ابنه محمد بن عبد القادر المجالي فالشيخ صالح بن محمد بن عبد القادر المجالي شقيق الشيوخ رفيفان المجالي و دليوان و فريوان المجالي.
وبعد وفاة الشيخ صالح بن محمد المجالي تولى ابنه الشيخ قدر بن صالح المجالي المشيخة، ولم ينجب الشيخ قدر أولادًا فانتقلت الشيخة من بعده لأخيه الشيخ اعطوي بن صالح المجالي.
وعندما استلم الشيخ قدر المنصب العشائري في الكرك وحسب العرف العشائري المتبع في الكرك عبر القرون الماضية و ضمن الطقوس المتعارف عليها للتنصيب، قام رجال الدين المسيحيين في الكرك يتقدمهم الأعلى رتبة بينهم وربط منديلاً حول عنق الشيخ قدر دلالة على الاعتراف بزعامته، ومبايعته، وكان من الواجب أن يكون المنديل أحمر اللون كناية أن حياة أبناء العشائر و سلامتهم أمانة في عنقه، ولم يكن لإجراءات التنصيب أن تتم دون اتباع هذه الاجراءات .

شخصية القائد قدر المجالي
تمتع الشيخ قدر المجالي بصوت جهوري وشخصية كارزمية قوية حيث ساهمت الحقبة التي مرّ بها من ثورات أردنية على امتداد الوطن ضد الاحتلال العثماني من صياغة شخصيات فرسان العشائر الأردنية لتكون قادرة على مواجهة أشكال الاضهاد العثماني و التصدي له بدلا من أن تكون لقمة سائغة لولاته و عمّاله، ما جعل من الشيخ قدر واحدا من أبرز فرسان عشيرته اذ تمتع بالقدرة على صناعة القرار الجريء عبر الإرادة الجمعية للأهل والعشيرة والوطن يتفاعل مع القرار بروح القائد الحكيم.

كان قرار التخطيط لإعلان ثورة الكرك التي سميت بثورة الهية عام 1910م. واحدا من أبرز محطات هذا الزعيم الوطني و أكثرها تأثيرا على ساحة الأحداث في المنطقة لاحقا، اذ تحوّلت لتصبح موئلا لكل شيوخ العشائر الأردنية من الحويطات جنوبا حتى السرحان و بني خالد شمالا، في مواجهة الظلم الواقع من الاحتلال العثماني على أهالي الكرك من انظمة السخرى وحملات الإعدام و الإبادة الجماعية والتجنيد الاجباري، فكانت الثورة إحدى القرارات التي حولت مسار المنطقة تماما و ساهمت في قيام ثورات أخرى متتابعة من بعدها تكللت لاحقا بالثورة العربية الكبرى – ثورة الخلاص من منظومة ظلم واستبداد و تجارة بالدين .

هيّـــة الكــرك 
في تأريخ الثورة فمن المعروف أن هية الكرك انطلقت ضد الاحتلال العثماني عام 1910م لعوامل مختلفة تمثلت بازدياد وتيرة الطغيان والاستبداد العثماني من نهب وتخريب وتجنيد اجباري وضرائب شكّلت ثقلا كبيرًا على عشائر الكرك، أدت هذه الأوضاع مدفوعة بالسخط الشعبي الى اجتماع عشائر الكرك للخلاص من هذا القمع ووضع خطط استراتيجية للقضاء على العثمانيين وطردهم من المنطقة، وأسفر الاجتماع على أن يتزعم الثورة وأن يكون القائد العام لها الشيخ قدر المجالي، فقام الشيخ قدر بتحديد موعد انطلاق الثورة في تاريخ 23/11/1910 وبعد هذا القرار قام بجولة ميدانية مع عدد من الشيوخ و الفرسان زار فيها العشائر الكركية من أجل التنسيق على استراتيجات الثورة ضد سلطة الاحتلال.
وأثناء قيامه بالتبليغ والاتفاق مع شيوخ العشائر على خطة الثورة، طلبته الحكومة التركية من أجل أن تضعه في لجان تعداد الأنفس، وما كان من قدر إلا الموافقة من أجل التكتم والتمويه فيما يخص الثورة – كما أشار عليه عمه الشيخ ارفيفان المجالي وبعض زعماء العشائر الأخرى – وبدأ العمل مع اللجنة في تعداد الأنفس.

ولكن بعد أن رأى الشيخ قدر التجاوزات التي تقوم بها لجان التعداد تجاه الأهالي، لم يحتمل هذه الأمر وذهب الى المتصرف وأمير اللواء شاكر باشا وهددهم بالاستقالة إذا استمرت لجان الإحصاء بالتجاوزات وبإهانة شيوخ العشائر، فوعد المتصرف أن يقوم بنفسه بمراقبة أعمال اللجان، ولما علم (خيري بك) مأمور الإحصاء العام بانتقادات الشيخ قدر المجالي زاد من تجاوزاته، فأخذ يتعمد الإساءة للشيخ قدر شخصياً، ويتجاهل وجوده كعضو في اللجنة، وعندما كثرت تحدياته المقصودة للشيخ قدر، تأكد الشعور لدى شيوخ الكرك بأن الحكومة عازمة على الانتقاص من هيبتهم وسلبهم نفوذهم العشائري التقليدي، ولم تكن تصرفات (خيري بك) إلا بداية سوء النوايا تجاه الشيخ قدر وتجاه عشائر الكرك بعامة أخيراً، أمام هذا الوضع المأساوي قرر الشيخ قدر تقديم استقالته رسمياً من لجنة الإحصاء احتجاجاً على تصرفات مأمور الإحصاء العام (خيري بك) وعلى تصرفات أمير اللواء (شاكر باشا) الذي بدلاً من مسايرة وإرضاء مشايخ المنطقة، أرسل قوة من الجندرمة تزيد عن المائة عسكري لتعزيز لجنة الإحصاء في خربة أم الرصاص، ويمكن أن نوجز هذه التجاوزات بــ :

1. كان مأمور الإحصاء يتجاهل رأي ومشورة (العضو الأهلي)، بل كان يشعره بعدم فائدته للجنة الإحصاء، لأن الأوامر تقتضي أن يكون مرافقاً لا أكثر.
2. كان مأمور الإحصاء يبالغ عند تقدير السن، حيث يحسبه ضمن نطاق الخدمة العسكرية، أي بين سن 20 و45 سنة، فالشاب الذي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، يقدر ويسجل سنه بالعشرين عاماً، والشيخ الذي تجاوز سنه 55 عاماً، كان يقدر سنه بـ 45 عاماً، أو بأقل من ذلك وإذا اعترض الشخص على تقدير سنه تعرض للضرب والإهانة من قبل جنود المفرزة المرافقة، وإذا اعترض (العضو الأهلي) على هذه التقديرات غير الصحيحة، لا يقبل اعتراضه حتى ولو كان الشاب ابنه أو شقيقه .
3. قام مأمور الإحصاء المعين لإحصاء نفوس عشائر السلايطة والكعابنة في منطقة (خربة أم الرصاص) بإرهاب الشباب وزرع في أذهانهم الخوف وأبلغهم بصراحة أن الحكومة عازمة على تجنيدهم وسوقهم إلى الجندية ونقلهم إلى السفربرلك في ميادين الحرب في البلقان  وأظهر خشونة مع كبار السن، وقلل أدبه مع مشايخ ووجهاء العشيرتين.

مجريات الهيّة :
وقبل عشرة أيام من قيام الثورة قدم الشيخ قدر استقالته كما ذكرنا سابقاً من عضوية اللجان التي تقوم بإحصاء الأنفس من أجل التجنيد الاجباري وكان الهدف من تقديمه لاستقالته هو التفرغ والتخطيط من أجل الثورة وحتى يعظّم الهدف الوطني و الطموح الجمعي للأردنيين عبر الثورة فقدم قام بالتخطيط مع عشائر الطفيلة و قبيلة الحويطات التي كان لها أعظم الأثر في الثورة عندما قامت بمحاصرة الحامية التركية لمدة 14 يوم من أجل عدم امداد الجند التركي في الكرك من الحاميات التركية في معان.
وبتاريخ 14 من تشرين الثاني عام 1910، عقد الشيخ قدر اجتماعًا مع كل من الشيوخ ساهر المعايطة ومحمود طه الضمور وعبدالقادر المجالي وإبراهيم الضمور وكان اجتماعاً خاصًا بمناقشة مجريات الخطة العسكرية والقضاء على الطوابير العسكرية وتعطيل لجان إحصاء الانفس، وقبل انتهاء الاجتماع اقترح الشيخ قدر أن يتم عرض الخطة والأهداف على باقي العشائر الأخرى وأن يتم الاتفاق على اجتماع موسع ليتم فيه الشرح المفصل لتفاصيل ومجريات الثورة وأن يكون مكان الاجتماع ديوان الشيخ قدر المجالي .

في تاريخ 16 تشرين ثاني 1910 تم عقد الاجتماع الموسع في ديوان الشيخ قدر وحضره جميع شيوخ ووجهاء العشائر حيث قدم الشيخ قدر الخطوات المقترحة التي يجب اتباعها في الثورة وهي:

  1. ذهاب الشيخ قدر إلى المتصرف من أجل ابلاغه أنه يجب اخراج عدد من الجندرمه التركية مع كل لجنة تعداد وذلك من أجل توفيرالحماية لموظفي التعداد، وعندما ذهب الشيخ قدر الى المتصرف لم يكن الرد من قبله إلاّ : ( كلام صحيح شيخ قدر )، وكانت خطة قدر تقوم على تقليل عدد الجندرمه من الحامية التركية في القلعة من أجل سهولة الدخول عليها من قبل فرسان الكرك والقضاء على الحامية، أما فيما يخص الجنود الذين تم توزيعهم مع لجان التعداد فالقضاء عليهم يكون على كاهل أبناء كل منطقة من مناطق الكرك توجد بها لجنة لتعداد الأنفس.
  2. إعلان روح المهادنة والتظاهر بقبول الإجراءات المرافقة لعملية الإحصاء، خلال زيارة المتصرف وقائد القوات العسكرية وذلك من أجل إبعاد الشبهة عن تحركاتهم بين العشائر، وتأمين وسائل إنجاح الثورة، من سلاح ورجال.
  3. يكون يوم الثلاثاء 23/تشرين الثاني/1910 موعدًا لقيام الثورة، وأن تقوم كل قرية بمهاجمة الجنود المتواجدين فيها، ثم بعد القضاء على الجنود يتم التوجه الى القلعة لتحرير القلعة من أيدي الجنود العثمانيين.

وفي يوم 21 تشرين الثاني زار الشيخ قدر بعض العشائر في بلدة المزار وعقد اجتماعاً عشائرياً من أجل التأكد من إجراءات الثورة حيث بيّن لعشائر الكرك أنه وسّع الخطة الهجومية على العثمانين مع عشائر معان والطفيلة والمفرق والسلط وغيرها من المناطق وبيّن مهمة كل عشيرة من عشائر الكرك في يوم الثورة وبدأ يشحن ويزيد من حماس الرجال، حيث تعالت الأصوات في نهاية الاجتماع من قبل الرجال وهم يلوحون بأسلحتهم: ( طاب الموت يا عربان الكرك .. المنية ولا الدنية )

وعند الانتهاء من الاجتماع والأصوات تتعالى في سماء الكرك  وفي ذات التوقيت مرّت بالمنطقة سرية عثمانية يقودها سعيد بك ووجهتهم الطفيلة فسارع نشامى الكرك من شدة الحماس وقتلوهم في منطقة وادي الفلقة وأخذوا ما يمتلكون من أسلحة وبغال. انتشر الخبر بسرعة فائقة ووصل الخبر إلى الحاكم الاداري وأيقن الحاكم الاداري أنه بدأت ملامح للثورة، وحينها أعلن الشيخ قدر الثورة رغم أنه كان مقررًا لها ان تنطلق في 23/11/1910 ولكنها تسارعت وأعلنت في 21/11/1910. فأمر الشيخ قدر بإرسال الرسل إلى قريتي العراق وخنيزره .
وبدأ اطلاق الرصاص والهجوم على دار الحكومة التركية وقتلوا من فيها من جنود، ومن ثم أصدر قائد الثورة الأوامر بالتوجه إلى السجن وتحرير من فيه من السجناء وأسر الجنود الأتراك القائمين عليه، وتم مصادرة جميع الأوراق و الدفاتر العثمانية الخاصة بالتجنيد الإجباري وإحصاء الأنفس والضرائب من أجل حرقها.

البحث عن قدر المجالي
وحال وصول أخبار الثورة للقيادة العثمانية أرسلت قوات سامي باشا الفاروقي على عجل إلى الكرك ودقّت البيرزان معلنة الحرب على عشائر الكرك، فأعادت احتلال دار الحكومة ( السرايا ) في الكرك، وبعدها طلب قائد الحملة العثمانية اللواء صلاح بك من الأهالي العودة إلى منازلهم ومنعهم من ايواء الثوار وهددهم بإعدام أي شخص يثبت عليه إيواء الثوار، ويعدم حرقاً كل من يعرف معلومات عن الشيخ قدر المجالي ويخفيها.
وفي اليوم التالي من الحملة العثمانية على المدينة في تاريخ 30/11/1910 قام أحد عملاء العثمانيين بإخبار اللواء صلاح بك بأن الشيخ قدر ومعه مجموعة من الشيوخ قد لجأوا إلى مضارب العشائر الأردنية المحيطة بالكرك فجهز سرية من الجنود الأتراك وأعطاهم تعليمات بإحضار الشيخ قدر ومن معه من الزعماء أحياء أم أموات.
حيث ذكرت جريدة المقتبس أن الأهالي رفضوا رفضاً تاماً الإدلاء بأي معلومات تقود الحكومة إلى مكان اختباء الشيخ قدر المجالي، كما ذكرت الجريدة أن قوات الحملة العثمانية قد قامت بمهاجمة مضارب العشائر الأردنية المحيطة بالكرك بعد أن تم اتهامها بالاشتراك بالثورة ومساعدة الشيخ قدر والشيوخ المرافقين له ، كما قامت الحملة بإلقاء القبض على 100 من الثوّار و المدنيين العزّل ونفذت حكم الإعدام بـ 6 من الشيوخ.
أما مجلة العرفان فذكرت في إحدى أعدادها أن قوات الحكومة وأجهزتها من درك وفرسان وجيش ما زالت تبحث عن شيخ مشايخ العشائر الكركية، وقد أخفت العشائر المحيطة بالكرك والعشائر البدوية المعلومات عن الحكومة، لذلك هاجمت قوات الحملة مضارب البدو، ووجهت لهم تهمة تقديم وسائل الدعم المادي والمعنوي للمتمرد على الحكومة الشيخ قدر المجالي، الذي ما زال متوارياً عن الأنظار وتأديباً لتلك العشائر أعدمت الحكومة ستة من شيوخهم.

لم يتوقف الفاروقي عن ملاحقة الشيخ قدر فهو ما زال حراً طليقاً، استقر الشيخ قدر عند قبيلة بني حميدة وعندما وصل الخبر إلى الفاروقي أرسل حملة بقيادة أمير اللواء ناجي باشا إلى مضارب المجالي والحمايدة، وبدأ الاشتباك بين الطرفين وعمليات الملاحقة حيث تمكنت قوات ناجي باشا من قتل 6 رجال وأسر 60 أخرين، الأمر الذي اضطر بعضًا من فرسان المجالي إلى الهرب للشوبك وهنالك تم أسر عدد من النساء وسجنهم في معان وكان من بينهم زوجة الشيخ قدر النشمية مشخص فارس المجالي وشقيقاها بندر وشفق.
وقد أشار المؤرخ أحمد الخطيب في مذكراته ( حركة التنوير العربية ودورها في العمل الوطني ) إلى ثورة الكرك و حيثياتها بقوله :
( شهدت المنطقة حركات تنويرية ثورية بدأت في جبل الدروز في نهاية عام 1910 وامتدت إلى الكرك، وقد نجح قائد ثورة الكرك الشيخ قدر المجالي في توحيد العشائر تحت رايته، ولاحقته سلطات حكومة الاحتلال العثماني الحاقدة، ولكنها لم تفلح بإلقاء القبض عليه على الرغم من تفتيش بيوت ومضارب الكرك ونواحيها بيتاً بيتاً بحثاً عنه، وتجلت الشهامة العشائرية عندما خاطب أحد مشايخ البدو قائد الحملة ناجي باشا بلا خوف على روحه وعلى جماعته بقوله: يا باشا… الشيخ قدر المجالي كبير قومه وعشيرته ونحن نفديه بأرواحنا لو كان عندنا، وحياتنا لا تساوي بعيراً أجرباً، لو كان في إجارتنا ووشينا به، ولكن الشيخ قدر لا يعرف مكانه إلا الذي خلقه، وفشل ناجي باشا كما فشل الذين جاءوا قبله بإلقاء القبض على المجالي).

صورة للمغارة التي اختبئ فيها الشيخ قدر عندما كان ملاحقًا من قوات الاحتلال العثماني في منطقة الياروت في محافظة الكرك

قدر واسم الحركة ( علي):
كان ( علي ) هو الاسم الحركي للشيخ قدر اذ اختاره لنفسه كسياسة دفاعية وقائية ليبعد عيون العدو عنه و ليستطيع ارسال واستقبال الرسائل دون امكانية تعقبها، وبعدها أصبح الاسم متداولًا بين العشائر للحديث عنه أو لتعقب آثاره دون لفت انتباه القوات العثمانية المتربصة بالتقاط أي خيط يقود إليه، وكانت قد استمرت مدة تخفيه ثلاثة سنوات حتى وقت صدور العفو العام السلطاني
وكان الشاعر البدوي سالم أبو الكبائر من عشيرة الشرارات يخاطب الشيخ قدر عندما كان مطارداً من السلطات التركية، تحت اسم علي، تمويهاً وخوفاً من أن تعرف هذه السلطات مكانه.

وتاليا جزءًا من نص قصيدة الشاعر ابو الكباير الذي يؤرخ للحادثة :

انت قدر سميتك علي وانا خاف صيتك شهر قرناس صهراً مطل

تستاهل البيضا على كل مشراف نفعت ناس بالنظام تولي

نديت بشيوخ كاملين الأوصاف ونلت فخرا من وسط العرب والدول

ربابتي خرسا وطرشا بها انقاف وتقول يا هيل الملا ما حصل لي

وهيل الكرك غابوا ولا واحد انشاف ويوم الملازم يا علي ما حدا فطن علي

مار الغرطاف واعتلى فوق مشراف وهبيت يا للي بالملازم تذلي

استحمد الله يا علي خصمكم خاف ذبح العساكر والملا تشهد لي

من حدود سوريا لبلاد الأشراف الظلم زال والمصاعب تولى

وختمت قافي بخالق العين والكاف والخير اللي بالمجلي يهلي

لقراءة القصيدة كاملة انقر هنا

اعدام الشيخ قدر المجالي:
وعندما بدأت بوادر الحرب العالمية الأولى ودخلت القوات الانجليزية إلى مصر تخوفت الدولة العثمانية من الحركات الاستقلالية في المنطقة وخشيت من أن تتظافر جهود هذه الحركات والنزعات الاستقلالية مع وجود القوات البريطانية فأخذت باعتقال الزعماء ووجهاء العشائر وقادة الحركات الاستقلالية في المنطقة عبر استقطابهم و دعوتهم لاجتماعات بمبررات وهمية و أكاذيب، ولأن الكرك كانت تشكل آنذاك مركزاُ مهما ورئيسياً وبؤرة ساخنة لعدد من الثورات الصغرى التي انطلقت ضد الاحتلال العثماني فما كان من الإدارة العثمانية إلاّ أن أصدرت عددا من الأحكام السرية باستدعاء عدد من شيوخ المنطقة بأساليب التفافية ومن ثم اعتقالهم و تنفيذ الإعدام بحقهم للتخلص من الخطر الوشيك لاشتراكهم بالعمليات العسكرية للثورة العربية الكبرى على الأرض الأردنية حال انطلاقها، كما أن أنباء اتصالات الأمير فيصل مع بعض الشيوخ قد نمت إلى المسؤولين الأتراك، فأرادوا الاحتياط لذلك، وقد لبى الدعوة عدد كبير من الزعماء، وبعد أن قضوا مدة في دمشق فوجئوا باعتقال عدد منهم، كالشيخ قدر المجالي، والشيخ حتمل بن زبن، والشيخ تركي بن حيدر الزبن، والشيخ عبطان الفايز والشيخ شهاب الفقير، وقد وجهت إلى المشايخ تهمة الاتصال بالأمير فيصل وقبول هدايا وأسلحة، ونقودًا أرسلها إليهم،  ولم تستطع الحكومة إثبات التهم، فلم تلبث أن أطلقت سراحهم، ولأن الحقد العثماني بقي قائما لم ينس العثمانيون ما فعله الشيخ قدر إبان ثورة الكرك فأصروا على الانتقام حتى لو كان متأخرا، فبعد صدور الأمر بسجنه ومن ثم اطلاق سراحه اختفى الشيخ قدر وانقطعت اخباره .

وقد سجل الشعر الشعبي قصيدة رثاء للشاعر غنام المزارقة البطوش قالها في اختفاء الشيخ قدر المجالي شيخ مشايخ الكرك في دمشق عام 1917 م بعد توارد الأقاويل و الأنباء عن اغتياله على يد جمال باشا السفاح لقيامه بثورة الكرك؛ تقول القصيدة :

أمسى الضحى شاديت كورا نجيبه تمشي مع الدّيان مشيه عجيبة

العصر بشيحان ترعى العشيبة والصبح تلفي على دمشق الشام

لطل من بوابة الشام واصيح أصيح صوتا يجرح القلب تجريح

ما قول يا أهل الله يا أهل المساريح يا من يعدل حقنا عند حكام

يبكي اعطوي ودموع عينيه سكيبه على قدر يا نــاس طول المغيبة

مدري مع البدوان فوق النجيبة ولا تكسر مركبه بالبحر عام

جمال باشا ما يهاب الخطية كفار ما يعرفوا صلاة ولا صيام

كنكم تبيعـــوه بالمال نشتريه بالزلم والنسوان ناطي الغلابية

وتشير القصيدة الى الظلم والعسف من قبل الدولة العثمانية على عشائر الكرك وكما تشير على اختفاء قدر وفيها حالة تنبؤية لقدوم الثورة العربية الكبرى.
لقراءة نص القصيدة كاملة انقر هنا

وتورد الروايات الشفوية أيضا أنّ المرافق الشخصي للشيخ قدر في سوريا وهو سليمان السعيد يروي أنه في صبيحة إحدى الأيام قدّمت القهوة للشيخ قدر المجالي وبعدما شربها بساعات ساءت الحالة الصحية للشيخ قدر مع آلام شديدة في بطنه، ثم لم يلبث يومين حتى فارق الحياة فقد تم تسميمه عن طريق فنجان القهوة كما أكد الدكتور الذي أشرف على علاجه.

و الرواية الشفوية الأخرى الي تؤكد هذه الحادثة هي شهادة الشيخ تركي بن حيدر الزبن؛ حيث يقول الشيخ تركي:

بينما كنا في جلسة مع الحاكم التركي في دمشق بعد الإفراج عنا، وعدد من الشيوخ ومن ضمنهم الشيخ قدر المجالي شاهدت عسكرياً عربياً بباب قاعة الاجتماع يؤشر لي بوضع سبابة يده اليسرى على رقبته وتمريرها ويمد يده اليمنى كمن يقدم لي شراباً، وبعد قليل دخل شخص آخر يحمل القهوة العربية وفناجينها، وعندها فهمت إشارة ذلك العسكري، وحاولت جهدي أن ألفت انتباه الشيخ قدر أن يتجنب شرب القهوة إن أمكن إلا أن شربه لفنجان القهوة سبق تمرير فحوى الإشارة، وعندما جاء دوري تظاهرت بشربها، حيث وضعت فنجان القهوة ما بين فتحة ثوبي وصدري بدلاً من شربها .

وبين الشيخ تركي في حديثه لمشايخ الكرك بعد عودته من دمشق ودفن الشيخ قدر في مقبرة الشيخ (رسلان) جنوب شرق دمشق؛ معاناة الشيخ قدر لبضع ساعات بعد تناوله السم، فكان يصرخ بأعلى صوته، ويشد على بطنه، حتى أغمي عليه، وخرج من فمه السائل الأصفر، الممزوج بالقهوة، وعرف الطبيب الذي حاول إنقاذه أن السم انتشر في أحشائه، وأنه لا أمل من إنقاذه .

لم تكن تهمة الاتصالات مع الأمير فيصل هي السبب الوحيد فحسب، بل السبب الأهم هو قيادة الشيخ قدر لثورة الكرك على الأتراك عام 1910م، وكنت أنا وعشيرتي من بني صخر من المؤيدين لها، ودعمناها بالسلاح، لذلك كان محكوما علينا بالموت حتى بعد السنين التي مرّت على الثورة.

و لم يكتف جمال السفاح بهذه الجريمة النكراء بحق الشيخ قدر، بل مارس أساليب الغدر بمشايخ ووجهاء العشائر الأردنية فأمر بإلقاء القبض على مجموعة منهم ونفاهم إلى بلاد القفقاس ولم يعودوا إلا بعد انتصار الثورة العربية الكبرى ورحيل المحتل العثماني،فنفي من وجهاء السلط : صالح خليفة، مطلق المفلح، خليفة عبد المهدي، يعقوب السكر، صالح البخيت واخوانه الثلاثة، مفضي النجداوي، ونفي من وجهاء الكرك : عودة القسوس، خليل العكشة، عبد الله العكشة وغيرهم، ونفي من وجهاء مادبا : يعقوب الشويحات، إبراهيم جمعان، إبراهيم الطوال، يوسف معايعه، وسليم مرار وغيرهم، ونفي من وجهاء العقبة ومعان : عبد الرحمن ماضي، أحمد ماضي، محمد عبد الجواد، وغيرهم إلى مدينة حماة.

وهكذا كُتب لقصة حياة هذا البطل الأردني أن تنتهي بعيدا عن ثرى وطنه، ورغم هذا الغياب المحزن بقي حضوره منقوشا في الذاكرة كزعيم و ثائر أردني لوّع قلوب المحتلين وأوجع جنباتهم، ولم يتنازل لحظة عن مسؤوليته في حفظ كرامة أهله ووطنه، حتى لو كان الثمن حياته بعيدا في سجون ذات المحتل.

المصادر:

بحث منشور لإرث الأردن عن ثورة الكرك 

لقاء من قبل فريق إرث الاردن مع الباحث التاريخي فرّاس دميثان المجالي ،الكرك، تاريخ4-6-2016

ألفاظ وأشعار كركية، فراس دميثان المجالي، مطبعة السفير،2009.

جريدة المقتبس،عدد 651 ،الصادر يوم 15/نيسان/1911

مجلة العرفان، الصادر يوم 2/ كانون الثاني/1916، المجلد الثالث -الجزء الاول

مذكرات المرحوم عودة القسوس، صفحة 55.

كتاب العمليات الحربية، القسم الثاني من الجزء الثاني صفحة 217.

بحث منشور للمؤرخ محمود سعد عبيدات، 2008.

معلمة التراث الأردني، روكس بن زائد العزيزي، مطبعة السفير، الجزء الرابع

الموقع الالكتروني لقبيلة المجالي.

الشيخ قدر المجالي ، مقالة منشورة للدكتور احمد عويدي العبادي، موقع كل الاردن،تاريخ11-8-2015

الشيخ قدر صالح المجالي

%d9%83%d9%84%d9%8a%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b1%d9%8a%d8%af%d8%a9
االزعيم الوطني الاردني كليب الشريدة

مقدمة :

ينحدر نسب البطل الأردني كليب بن يوسف بن شريدة بن رباع من عشيرة حماد ، التي كانت تسكن في وادي بن حماد في الكرك جنوب الأردن ثم انتقلت شمالاً شأنها شأن العديد من العشائر الأردنية التي انتقلت بحثاً عن الأمن وهرباً من البطش والظلم في ظل انعدام الدولة إبان فترة الاحتلال العثماني الذي كان يحكم المنطقة بالوكالة، واستقرت بهم الأمور في بلدة “تبنه” التي كانت تقطنها عدة عشائر أخرى، وهي بلدة في لواء “الكوره” في محافظة اربد شمال الأردن وقد أثبتت دراسات قام بها باحثون من جامعة تورنتو الكندية أن أقدم علامات الاستيطان البشري في البلدة تعود للعصر الحجري، وتتميز منطقة لواء الكورة بطبيعة جغرافية مميزة ، حيث زنرتها الجبال و سيجتها الأودية والغابات المتشابكة ، مما جعل من محاولة السيطرة عليه من القوى الخارجية، ضرباً من ضروب المستحيل.

وقد قام كليب الشريدة خلال فترة الاحتلال العثماني بإنشاء حكم محلي ذاتي مكتمل الأركان في منطقة لواء الكورة الذي يشمل حالياً 22 قرية ، إضافة لقرى أخرى كانت تتبع له في ذاك الوقت أهمها دير يوسف وبيت يافا و زوبيا وعنبة، وقد نجح كليب الشريدة في الحفاظ على وحدة وتماسك مناطق وعشائر اللواء وكان له الدور الكبير في حماية السكان ومصالحهم والاهتمام بتوفير الخدمات لهم في ظل فشل العثمانيين في تلبية احتياجات السكان والقيام بمهماته وواجباته تجاههم والتي كان يفترض أن يقوم بها لو تعاملنا مع تواجده في الأردن كدولة.

لم ينصف التاريخ والمؤرخون الزعيم الوطني الأردني كليب الشريدة كما يستحق، ونقدم في هذا البحث تحليلاً لكافة جوانب شخصية كليب الشريدة والأحداث التي ارتبطت باسمه ، ولعل ثورة الكوره أكثرها إثارة للجدل ، نتيجة الغموض الذي لفها وعدم الدقة في طرح تفاصيلها خلال العقود الماضية.

الولادة والنشأة :

ولد كليب بن يوسف بن شريدة بن رباع في عام 1865 ونشأ وتعلم في مدرسة الزعامة التي لا تمنح بل تؤخذ، والتي ورث واكتسب صفاتها من والده الشيخ يوسف الذي كان مثالاً للدبلوماسية والحنكة، والتي مزجها كليب بما ورثه عن جده “شريدة بن رباع” من قوة وشجاعة وميل إلى الحزم والحسم ورفض الظلم ومحاربته، فقد قام جده برفض الضرائب العثمانية التي أرهقت السكان في ذاك الوقت، وردّ على رفع الضرائب بالدخول برفقة فرسان من لواء الكورة لدار سرايا في إربد والقضاء على الوالي العثماني بداخلها، كما انتصر وقواته على القوات العثمانية ودحروها في عدة مناسبات ، مرة عندما حاولت الدخول لمناطق نفوذه عن طريق “عنبة” ، وأخرى عندما أرسل الوالي العثماني أحمد الجزار قواته بقيادة “الوني” فهزمهم شريدة وفرسان الكورة وقتل ” الوني ” قرب منطقة كفريوبا وهربت قواته، فأثارت هذه الأحداث حقد العثمانيين ضده لما استشعروا خطره على تواجدهم وسلطتهم، فاستدرجه الوالي بالحيلة وبالغدر طالباً منه السلام عليه عندما سمع بمروره من منطقة المزيريب في درعا لحضور حفل زفاف، فقاموا بحبسه وصدر حكم إعدامه بالسيف، وتم تنفيذ الحكم بحقه عام 1831 بعد أن فشلت كل محاولات التفاوض مع العثمانيين من أجل الإفراج عنه وتحريره، ويذكر المؤرخون أن الناس قالوا له حين صدر الحكم ولم تنجح المفاوضات للإفراج عنه : “يا شريدة ما انقبل فيك رجا”  قال: “وأني ما كنتش أقبل رجا*” .                               ( * أني : أنا بلهجة أهل حوران الأردنية).

وقد جمع كليب أمجاد البطولة والرجولة من كل أبوابها ، فإلى جانب ما ورثه عن والده وأجداده ، فقد تربى كليب منذ طفولته في مدارس الزعامة التي لم يرثها من رجال عائلته فحسب ، بل كان لأخوال أبيه وأخواله الأثر في ذلك فجدته لأبيه هي موزة عبيدات التي كانت تحمل صفات الأميرة و الشيخة وتتميز بالكثير من الذكاء والحكمة كما وصفها المؤرخون والرواة، وكذلك أمه الشيخة فهيدة الزعبي التي كان عمها حسام الصالح الزعبي شيخ مشايخ حوران في عهده.

سبب التسمية :

تختلف الروايات حول سبب تسمية الشيخ كليب، لكن يبقى السبب الأبرز كما يعتقد أن تسمية كليب جاءت تيمناً بشخصية أردنية تاريخية هي الفارس البطل كليب بن سلامة بن رشيد الفواز، الذي انتصر على الوالي العثماني في معركة الجابية عام 1705 ، ثم قتله العثمانيون غدراً في خيمة الوالي عام 1709، وقد درجت العادة أن يسمي الأردنيون أبناءهم بأسماء كبار الشيوخ و الأبطال و الزعماء الأردنيين أملا وتفاؤلا باستمرار و انتقال الروح الوطنية الأردنية عبرهم .

شخصية كليب الشريدة :

تربى الشيخ كليب في سنين حياته الأولى في كنف والده الشيخ يوسف وكان يرافقه ويتعلم منه فدرج على مدارج العز والكرامة، وتربى على الخصال الأردنية الأصيلة كالشهامة والفروسية والكرم ورفض الظلم وحماية الجار والدخيل وإكرام الضيف، كما ساهمت وفاة والده يوسف عام 1877 في تحمله المسؤولية وتفتح مدارك الشباب والوعي لديه بالرغم من صغر سنه ، كما استفاد من التنوع الذي كان يلمسه ما بين حياته في تبنه وزيارات والدته لأخواله في خربة غزالة في حوران الأردنية والذين كانت لهم الزعامة في منطقتهم في ذلك الوقت، ولا بد للطبيعة أن  تترك أثرها في جبلة الناس وأخلاقهم وتكوينهم النفسي والجسدي ، فقد أثرت به وعورة التضاريس وصعوبتها وقسوتها، وعوّدته على تحمل المكاره والصعاب وقوة الشكيمة، ومضاء العزيمة وحب الحرية والاستقلال الفطري، والجهر بالقول والرأي، مهما ترتب على ذلك من مسؤوليات وأعباء، وإلى جانب كل هذا كان قوي البنية الجسدية وفارسا ماهرا ، يجيد ركوب الخيل في الأرض السهلة والوعرة وفي كل الظروف.

ومن الصفات الإنسانية المشهورة في شخصية الشيخ كليب والمعروفة عنه أنه كان لا يأكل مع الضيوف ولا المعازيب في مضافته، بل يبقى حتى يأتي وقت الأطفال والصغار ويجلس معهم ليطعمهم ويقطع لهم اللحم ، وكان يأكل مع ذوي الإعاقة ويطعمهم بيديه  وبعضهم معروف بالاسم حتى اليوم.

الحكم المحلي في العهد العثماني:

برزت ملامح الشخصية القيادية على الشيخ كليب منذ شبابه فقد كانت مضافته عامره بالضيوف والمستجيرين به ، ونتيجة لفشل الحكم العثماني والظلم الذي كان يمارس على المناطق الخاضعة للاحتلال، لجأت الزعامات المحلية في المنطقة لتقوية أركان الحكم وإنشاء مناطق حكم ذاتية، فبدأ كليب يشكل التحالفات مع القوى المحيطة، لتقوية الحكم وتوفير الأمن المفقود في ذاك الوقت في المناطق المجاورة، ونجح في حماية مصالح الكورة و أهاليها، الذين شكلوا العمود الفقري لاستمرار مشيخته وزعامته ومدها خارج حدود منطقته، وكان فخوراً بحب الناس له وولائهم وتقديرهم لما يقوم به لأجلهم، وقد اهتم كليب بأركان الحكم الذاتي من كافة الجوانب كما يلي:

%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%84%d9%8a-2
مضافة العلالي
%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%84%d9%8a
مضافة العلالي
  • الأمن والتحالفات :

كان من الضروري بالدرجة الأولى الاهتمام بالجانب الأمني في ظل غياب الدولة والافتقار لمبدأ سيادة القانون في العهد العثماني،  واعتماد العثمانيين على أسلوب إثارة الفتن لكسب ود بعض العشائر ومعاداة عشائر أخرى لتسهيل مهمتهم في الحكم بالوكالة، فاعتمد كليب على أسلوب بناء التحالفات ما بين عشائر الكورة من جهة، وعشائر وزعامات المناطق المجاورة من جهة أخرى، فأسس قوات من فرسان وشباب ومحاربي عشائر الكورة تجاوز تعدادها ألف بواردي (محارب مسلح) ، فشكل تحالف الإنسان مع الإنسان من جهة و ومن جهة أخرى تحالف الإنسان مع الطبيعة المحيطة به في المنطقة ذات التضاريس الوعرة التي تحيطها الأودية والجبال من كل جوانبها، عوامل تجعل منها لا تقهر وأفشلت كل محاولات اقتحامها من القوى الخارجية.

  • المضافة: 
  • قام كليب بإعادة  استخدام مضافة والده وأجداده (العلالي) التي حولها إلى مؤسسة حكم ذاتي
    %d8%ad%d8%ac%d8%b1-%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d8%a7%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d8%a1
    صورة قديمة لحجر الأساس في المضافة (العلالي) ويوضح تاريخ البناء

    ذات هيبة، فجعل لها خدماً وحرساً وعمالاً يقومون على خدمة الضيوف والمحتاجين ورواد المضافة، وقد تم تأمين ميزانية كافية من خلال مساهمة الفلاحين بالمال، مع تقديم الخدمات الأساسية لهم تشمل تأمين حمايتهم وصون ممتلكاتهم وتقديم العون عند الحاجة وحل مشاكلهم وتحصيل حقوقهم بشكل عادل، وكان ذلك شكلاً من الحكم الذاتي الحقيقي، نشأ في غياب سلطة الدولة العثمانية التي كانت تحكم بالوكالة، والتي كانت تفشل في السيطرة على كثير من المناطق الداخلية، ولم تكن قادرة على مواجهة الزعامات المحلية المتنامية آنذاك ولمواجهة ذلك الوضع  قررت الآستانة إنشاء مديرية ناحية الكورة، لتخلق نوعاً من الحكم اللامركزي الذي لم يرفضه الشيخ كليب، لكنه بحكمة وقوة تمكن من الاحتفاظ بأهم صلاحياته، ولم تجد المديرية الجديدة مناصاً من التعاون معه، والقبول بتدخلاته وإملاءاته المتواصلة، في سبيل تجنب الصدام معه ومع الأهالي الذين يدينون له بالولاء والمحبة، خصوصاً مع توحد عوامل التحالفات بين عشائر المنطقة وثقتهم بكليب الذي انتهج نهجاً ديمقراطياً مبكراً في الحكم، فكان نهج كليب في اتخاذ القرارات هو نهج الشورى و الحوار، حيث كانت المضافة مقراً للاجتماعات الدورية بين ممثلين عن بلدات وعشائر اللواء، فلم يكن الشيخ كليب بالحاكم المستبد المتزمت برأيه ، بل كانت القرارات تتخذ بالمشورة وهو ما جعل الحكم ثابتاً ومتماسكاً في وجه كل المحاولات الخارجية لزعزعته، وبذلك أصبحت المضافة توازي قوة وفعل السرايا بل تتفوق عليها بكل ما تقوم وتتميز به مؤسسة الحكم المدني والشرعي.

 

%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%ac%d8%af
المسجد الذي تم بناءه في عهد كليب الشريدة كمركز ديني و اجتماعي وتعليمي
  • التعليم: 
  • عرف الشيخ كليب الشريدة باهتمامه بالتعليم و نظرا لأن النظام التعليمي المحلي المتبع كان يقوم على الكتاتيب و حلقات العلم التي كان يقودها الخطيب داخل المسجد، فقد أخذ الشيخ كليب من منطلق مسؤولياته زمام المبادرة وقام ببناء المسجد وجعله ملحقاً للمضافة بعد أن هدمت الزلازل المسجد الوحيد في البلدة في ذاك الوقت، وجعل من المسجد منارة للعلم والمعرفة ونشر مفاهيم التسامح والتعايش وليس بيتاً للعبادة فقط، فقد استقطب المعلمين والخطباء من المناطق المجاورة والذين كانوا قلة في ذاك الوقت، واستقدمتهم المضافة في إطار منظومة العون العشائري السائدة في ذلك الوقت والتي ابتكرها الأردنيين في كنف الاحتلال العثماني لمقاومة محاولات التجهيل ، وكانت تقوم على أن يتم إنشاء الكتاتيب بتمويل ذاتي من الأهالي في ظل رفض العثمانيين لبناء المدارس في المنطقة، فقام هؤلاء المدرسون بتعليم الطلبة العلوم الدينية والدنيوية، وقد أرسل ابنه عبدالله لاكمال تعليمه الثانوي في دمشق بمدرسة عنبر ، كما كانت المضافة تجمع أهل العلم والأدب والشعراء أمثال الشيخ سعيد الهامي والشاعر أبو عصبة من بلدة بيت ايدس والشاعر الدوقراني إبراهيم عبد الرزاق الشلول والشاعر مصطفى السكران وغيرهم.
%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%84%d9%8a-3
أطفال أثناء لعبهم على أطلال المضافة (العلالي) التي كانت تحرص على تعليم آبائهم وأجدادهم
  • الاقتصاد: 
  • اهتم كليب بالجانب الاقتصادي الذي يعتبر من أهم جوانب الحكم والحفاظ على ديمومته واستقلاليته فبقوته يقوى الحكم، فأنشئ وفي نفس إطار منظومة العون العشائري نوعاً من العلاقة بين الفلاحين والمضافة ، فكانت المضافة تدعم المزارعين والفلاحين في سنوات القحط والجفاف والمواسم السيئة، وهو ما زاد من ثقة المواطنين في المضافة بمقارنتها مع السرايا العثمانية التي لم تكن تقدم سوى السجن و التعذيب و استدعاءات التجنيد الاجباري، بل أنهم حتى لم يسلموا من الضرائب المتصاعدة التي كانت ترهقهم في كل المواسم.

القضاء والعدل: 

كانت إغاثة الملهوف وحقن الدم وصون الأعراض من أهم صفات كليب الشريدة وركائزه في الجانب القضائي حتى أصبحت عبارة “أخذ الحق على صفاة ابن رباع” مضرب للأمثال، ويقصد بصفاة ابن رباع مكان إصدار الأحكام والتقاضي بجوار العلالي، التي أصبحت محجاً للمظلومين ومناط الرجاء لذوي الحاجات والخائفين، فيفدون إليها من جميع المناطق الأردنية، وكذلك من فلسطين وسوريا ، كما كان كليب قاضياً عشائرياً ومصلحاً لذات البين ، ولا يكون لقضائه معقب ، وكان يأتيه المتقاضون من الكوره وخارجها ، فينعقد لهم مجلس القضاء بحضور عدد من الوجهاء ، وبعد الاستماع لحجج المتخاصمين بكل أناة وطول بال وصبر، ينتقل مع المجلس القضائي المكون من الوجهاء لمكان آخر ليتم التشاور والاتفاق على الحكم والقضوة، ثم يعودون للمضافة لإبلاغ المتخاصمين بالحكم، كما كانت له جولة شهرية على باقي قرى لواء الكوره، فيجلس مع الناس ويقضي على المشاكل في مهدها قبل أن يستفحل الخرق ويصعب على الراثي، أما المشاكل الحادة والخطيرة فكانت تأتيه إلى مقر الحكم في العلالي على وجه السرعة للاستعجال في حلها والقضاء على مسبباتها.

الشيخ كليب والثورة العربية الكبرى:

طوال فترة الاحتلال العثماني للمنطقة والذي استمر لأربعة قرون من الظلم على سكان المنطقة نكّلت القوات العثمانية بالكبير قبل الصغير ولم يسلم من أذى وبطش الجيوش العثمانية أحد، مما أثار حنق الأردنيين ضدهم فما من منطقة في شمال أو جنوب أو وسط الأردن إلا وخرجت في ثورات صغرى ضدهم انتهت جميعها بقمع المدن والقرى الثائرة وإبادة أهلها والانتقام منهم وتهجيرهم وملاحقتهم، وهو ذاته ما كان يحاول العثمانيين فعله في الكوره بعد افتتاحهم لمديرية الناحية التي عمل الشيخ كليب على الحد من نفوذها ، فحاول العثمانيون استمالته واسترضائه من خلال جعله عضواً في مجلس إدارة القضاء، المكون من ثلاثة أعضاء ، فكان كليب وأخيه عبد القادر الشريدة في بعض الفترات أعضاء في آن واحد، ومع انطلاقة الثورة العربية الكبرى وتواجد قواتها في منطقة أبو اللسن جنوب الأردن وتواصل رسلها والمبشرين بها مع الزعامات العشائرية المحلية، تصاعدت حدة التوتر بين الأردنيين والعثمانيين، فقام الحاكم العثماني مدير ناحية الكوره “تقي الدين أفندي” أسوة بغيره من الحكام والمندوبين الممثلين للوالي العثماني، بحلق شوارب ولحى بعض الرجال في الكوره من خلاف، وهو عرف درج على استخدامه العثمانيين إمعاناً في محاولة إذلال السكان وكسر أنفتهم، كما قام تقي الدين وما معه من عصابة القوات العثمانية بقتل السيد محمود جاد الله من بلدة بيت إيدس عند محاولته الهرب، فبلغ النبأ للشيخ كليب عن طريق ابنه عبد الله وابن أخيه رشيد الجروان، وكان كليب في ذاك الوقت عضواً في مجلس إدارة القضاء، فثارت ثائرته وقال جملته المعروفة : “من يحلق لحى أهل الكورة فكأنه حلق لحيتي” وصمم على الانتقام من مدير الناحية العثمانية “تقي الدين” واشتكاه إلى قائم مقام إربد في ذاك الوقت “محمود راغب” فقال : “يمكن لحاهم طالعة على نجاسة وبعد حلقها تطلع على طهارة” فزاد هذا القائم مقام الطين بلة، وقام كليب بالتصعيد وبالمقابل كان الرد العثماني بالتآمر ضده والسعي للتخلص منه، فهم الذين لم يرغبوا يوماً بمن يحاول وضع حد لظلمهم ، فأسندوا لكليب وابنه جملة من التهم ، أهمها التآمر ضد الدولة العلية والتواصل مع جيش الأمير فيصل، وبذلك حكم على الثلاثة “كليب وابنه عبد الله وابن أخيه رشيد” بأنهم “يطق أشقياء” أي بمعنى خارجين عن القانون، وكانت هذه الاتهامات التي هي وسام فخر في جوهرها؛ كفيلة بايصال المذكورين لحبل المشنقة وهذا ما حصل، حيث تم ترحيلهم من اربد لدرعا ومن ثم للشام وسجنوا في سجن القلعة وتم تحويل أوراقهم إلى ديوان الحرب (المجلس العرفي) برئاسة جمال باشا الذي حكم عليهم بالإعدام في أيلول عام 1917، وقد كاد الإعدام أن يتم وأن تمتد يد الغدر والظلم العثماني للبطش بأبطالنا ورجالنا، لولا العناية الإلهية وتدخل أخوال كليب من عشيرة الزعبي ، الذين نجحوا في رشوة العثمانيين بـ 100 دينار ذهب مجيدي، مقابل إطلاق سراح الشيخ كليب ومن معه، وعند عودتهم لإربد استغرب مدير الناحية والقائم مقام، وتساءل القائم مقام العثماني ومدير الناحية كيف خرجوا مستغربين ومتعجبين، ولم يطل الزمان بهؤلاء الظلمة فما لبث حطب الثورة أن لملم نفسه وكانت السلوكيات التي انتهجها العثمانيون تزيد من اشتعال النار وانتشارها حتى أحرقت العثمانيين وكسرت شوكتهم.

فتزامناً مع انطلاقة الثورة العربية الكبرى  ، قامت القوات التي تضم أبناء الكوره ويبلغ عددها ألف “بواردي” مدربين ومسلحين كما أسلفنا بالاشتراك مع المتطوعين من الأهالي بتنفيذ العديد من العمليات ضد القوات العثمانية، فقطعوا إمداداتهم واستولوا على أسلحتهم واستثمروا العامل الجغرافي وسخروا الطبيعة وطوعوا التضاريس في خدمة الثورة العربية الكبرى، فعامود ابن رباع قرب بيت يافا ما زال شاهداً على ما ألحقه رجال الكوره المشاركين في الثورة العربية الكبرى بالقوات العثمانية هناك من هزائم، حيث نجحوا بتطهير المنطقة من فلول القوات العثمانية التي أنهكتها معارك التحرير في جنوب ووسط الأردن والتي كانت تتوج بانتصارات عظيمة لقوات العشائر الأردنية المشاركة في الثورة العربية الكبرى، وقد مهّد الدور الذي قامت به العشائر الأردنية في الشمال في استكمال مسيرة تحرير الأشقاء في سوريا بعد الانتهاء من تحرير الأرض الاردنية فتم تحرير درعا ووصول قوات الثورة العربية الكبرى لدمشق وتطهير سوريا، وإعلان الأمير فيصل ملكاً عليها.

موقف الشيخ كليب من الاحتلال الفرنسي والبريطاني  والهجرة اليهودية :

واستكمالاً لما اتهمه به العثمانيون، واصل كليب الشريدة وقوات الكوره دعمهم للثورة العربية الكبرى وأهدافها ، ورفضهم لكل أشكال الاحتلال ، فبعد انكشاف المؤامرة التي كانت تحيكها بريطانيا وفرنسا في الخفاء، تم تجهيز جيش من فرسان ومحاربي الكوره وإرسالهم بقيادة عبد الله كليب الشريدة لدعم ومؤازرة الأمير فيصل في معاركه ضد الفرنسيين، ورفض كليب الشريدة كل الإغراءات والعروض والمحاولات الفرنسية في استمالته لجانبهم في ظل التنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا للسيطرة على أكبر مساحة من المناطق ومن ضمنها المناطق الأردنية، كما قام كليب الشريدة بإرسال فرسان ومحاربي الكوره للمشاركة في مقاومة الجيش البريطاني في فلسطين رفضاً لأطماع الفرنسيين والبريطانيين في تقاسم الاحتلال والنفوذ على دول المنطقة ووعدهم بوطن قومي لليهود في فلسطين، فشاركت قوات العشائر بقيادة عبد الله كليب الشريدة في معركة تل الثعالب التي قضى فيها أول شهيد أردني على ثرى فلسطين في العصر الحديث وهو الشهيد كايد مفلح عبيدات، وكتب كليب عند وفاة العبيدات رسالة أشاد بها بهذا البطل الأردني وشجاعته وتضحيته ، وهذا  كله سنرى أثره على حياة كليب لاحقاً فقد ازداد حقد الانجليز ضده وحاولوا تصفيته والحد من تأثيره عبر أدواتهم من الشخصيات التي كان لهم كلمة وتأثير عليها في الحكومات المركزية المتعاقبة.

وصول الأمير عبد الله للأردن وتأسيس الحكومة الوطنية:

كانت في الكوره عام 1921حكومة محلية رفضت التعاون مع الاستعمار البريطاني، وعند قدوم الأمير عبد الله بن الحسين إلى شرق الأردن، أراد توحيد البلاد تحت حكومة مركزية، فقام وفد من رجالات الكوره وعلى رأسهم كليب الشريدة وابنه عبد الله بالتوجه لعمان ومشاركة جموع الأردنيين في استقبال الأمير عبد الله المؤسس عند وصوله لعمان عام 1921، وأعلن الولاء للأمير (آنذاك) عبد الله بن الحسين بعيد وصوله إلى عمان، وأعلن دعم الحكومة المركزية، لكنه رفض الانضمام لحكومة اربد، وقام بتأسيس حكومة دير يوسف التي ضمت مناطق الكوره وبني عبيد وكان مقرها في دير يوسف وطالب بأن تكون منطقة الكوره وبني عبيد على اتصال مباشر بالحكومة المركزية في عمان، احتجاجاً على تدخلات البريطانيين في عمل حكومة اربد وبقية الحكومات المحلية من خلال وجود عدد من المعتمدين الانكليز الذين يدافعون عن مصالح بريطانيا وسياساتها ويمهدون الطريق لأهدافها غير نظيفة ، وكان من جملة هؤلاء “الماجور سمرست” الذي كان معتمداً من حكومة بريطانيا في حكومة اربد المذكورة وأصبح لاحقاً عضواً في مجلس اللوردات البريطاني، إلا أن البعض استغل هذه النقطة لمحاولة الإيقاع بين كليب والحكومة الجديدة فرفض طلبه، خاصة أن الرفض الشعبي والرسمي في ذاك الوقت كان ضد كل ما له علاقة ببريطانيا والتدخلات الخارجية، وكان الهدف الذي يسعى جميع الشيوخ و الزعماء الأردنيين لتحقيقه هو التخلص منها ونيل الاستقلال بشكل تام لكن كل منهم كان يرى من زاويته وبطريقته.

ثورة الكوره :

تعددت التسميات حول الحركة التي حصلت في الكوره عام 1921 من مناوشات واشتباكات بين الحكومة المركزية ورجال الكوره فبعض المؤرخين يصفها بأنها ثورة وآخرون أسموها عصياناً، إلا أن الأقرب هو ما وصفه الأمير عبد الله في حينه بكونها ردة فعل تجاه “خطأ إداري”، حيث  قامت الحكومة المركزية بإنشاء حكومة عجلون وجعلت مقرها اربد، واستمر الانجليز بسعيهم لتصفية حساباتهم مع الشيخ كليب ومحاولة تحجيمه والحد من تأثيره على مصالحهم والانتقام منه من خلال التحريض ضده ومحاولة إظهاره وإقناع الحكومة المركزية والحكومات المحلية بالتعامل معه كمتمرد، وقد كادوا ينجحوا بذلك، واستغل معتمديهم في حكومة اربد حادثة عرضية عابرة وأصبغوا عليها صفة الثورة أو التمرد، فحدث أن أرسلت الحكومة  مفرزة من الدرك برفقة موظفين حكوميين مهمتهم تعداد الأغنام في لواء الكوره، وكاد الفريق ينهي مهمته، حيث أرسل موظف تعداد برفقة اثنان من الدرك لتعداد الأغنام في بلدة زوبيا فقام أحد العسكر بالتعامل مع الأهالي بما عهده وما زال يتأثر به من أفكار وأساليب رسخت خلال فترة الاحتلال  العثماني، حين كان الموظف والعسكري يبطش ويظلم الناس دون مساءلة ودون رقيب وحسيب، وهو الأمر الذي لم يعتده ولم يقبله أهل الكوره خصوصا والأردنيين عموماً في عهد الاحتلال العثماني فكيف سيطيقونه في عهد الثورة والحرية والحكومة الوطنية، فتذكر الروايات أن العسكري المذكور قد قام بالإساءة لإحدى النساء على نبع رغم أنهن أكرمن الضيوف وقمن بسقاية خيولهم، فصاحت المرأة وكان أحد أفراد عائلتها قريباً، فأخذ العسكري بالشتم والانتهار، فاستفز أحد رجال المنطقة سريع الغضب الذي أطلق رصاصة أصابت العسكري وقتلته ففر الجابي والعسكري الآخر لبلدة المزار، وتواصلوا مع الحكومة في اربد، التي قامت بدورها وبتدخلات بريطانية بنقل الصورة إلى عمان بشكل مبالغ به، وانتشرت الإشاعة بأن “الكوره قامت . . . الكوره ثارت” ، ولم تقم حكومة اربد بإرسال أي قوة أمنية أو لجنة للتحقيق بالحادث مبالغة بسوء الظن بأهل الكوره، فأحس كليب ورجالات المنطقة بما يحاك لهم، وحملهم إحجام الحكومة وترددها على اتخاذ الحيطة والحذر، لأنهم أدركوا أن سكوت الحكومة قد يكون معناه أنها تتجمع لتثب وأنها تعد العدة لضربهم باعتبار أنهم ثائرون ضدها، واستثمر أعوان الشر والعملاء الموقف وأشاعوا في صفوف الأهالي أن الحكومة تعد العدة لانتقام شديد ينكل بجميع قرى لواء الكوره ورجاله، وألحت حكومة اربد على الحكومة المركزية في عمان بإرسال القوات لاعتقال من وصفتهم بالعصاة، فاشتبكت كشافة القوة مع بعض المسلحين الذين كانوا يترصدونها في وقت الفجر، ثم اشتبكت القوة بأكملها مع المسلحين من الأهالي وهبت القرى المجاورة للتصدي للقوة العسكرية، وتمت محاصرة القوة وقتل عدد من أفرادها، وتم أسر وجرح الباقين، وتعامل معهم أهل الكوره بكل إنسانية وفقاً لشهادة “فؤاد سليم” قائد القوة، التي تعتبر شهادة براءة بحق المشاركين في الثورة من التهم التي حاول البعض إلحاقها بهم، وقد سارع الأمير عبد الله المؤسس بالاجتماع بكليب شريدة في بلدة سوف بتوسط من الشيخ علي الكايد العتوم الذي أراد توضيح الحقيقة، وكادت الأمور أن تحل حيث طلب الأمير من كليب أن يتم الإفراج عن الأسرى وخيولهم، فأجابه كليب الشريدة بأن ذلك حدث فعلاً، إلا أن الحكومة المركزية الخاضعة للانتداب البريطاني و قراراته فرضت مبالغ وغرامات مالية على رجال الكوره كديّة للقتلى، وهو مبلغ كبير بلغ 4500 جنيه، فعجز الجميع عن جمعه، وتفاجؤا بعد فترة بمهاجمة قوات الحكومة المركزية للكورة من جديد بتغطية من الطيران البريطاني الذي قصف “العلالي”، عشية اجتماع كان مقررا بين كليب الشريدة والحكومة المركزية في دير يوسف مما يبين أن هناك أيدٍ خارجية كان لها يد في التحريض وإشعال نار الفتنة لعل أبرزها رجالات الحكومة – الفارين من سوريا إبان الانتداب الفرنسي- والمفروضين بالقوة من سلطات الانتداب البريطاني على الحكم الناشئ.

%d8%b9%d9%84%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%83%d8%a7%d8%a8%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d8%b1%d8%a8%d8%af-%d8%a7%d8%ab%d9%86%d8%a7%d8%a1-%d8%ab%d9%88%d8%b1%d8%a9-%d9%83%d9%84%d9%8a%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b4
رئيس الوزراء علي الركابي في اربد اثناء العمليات العسكرية

ويذكر “عبد الله كليب الشريدة” أنه وبعد أن تجمع مئات المقاتلين من مختلف بلدات اللواء واعتزموا صد القوات المهاجمة التي كانت في منطقة الطيبة تستعد لاقتحام الكوره ، ويقول عبدالله الشريدة وفقاً لمقابلة أجراها معه أخوه عبد العزيز بن كليب أنه اجتمع بوالده وسأله إن كان هدفه الحكم أو المنصب أو النفوذ فأجاب بالنفي فاقترح عليه أن يعود المقاتلين لبلداتهم وأن لا يحدث اشتباك حفاظاً على الدم الأردني ووحدة التراب الوطني وتماسكه، واقترح أن يغادر هو ووالده لمضارب الشيخ حديثة الخريشا، وهو الاقتراح الذي لاقى استحسان الشيخ كليب فوافق عليه، فخرج عبد الله وشكر المؤازرين على دعمهم وطلب منهم العودة إلى منازلهم حقناً لدماء الأردنيين وحفاظاً على تماسكهم، وانطلقا برفقة 40 من الفرسان باتجاه مضارب الشيخ حديثة الخريشا ، الذي تواصل مع الأمير وتواسط لديه لحل مسألة الشيخ كليب، فوعده الأمير بأن لا يمس كليب سوء سوى انفاذ القانون، ولبث كليب وابنه عبد الله في السجن بالسلط حيث أشادا بعد خروجهم بكرم وحسن تعامل جميع عشائر السلط معهم أثناء فترة تواجدهم في السجن الذي تحول لمضافة نتيجة علاقة الصداقة والأخوة المميزة التي كانت تجمع بين الشيخ محمد حسين العواملة والشيخ كليب الشريدة، وبالفعل بعد فترة قصيرة تم إصدار العفو الأميري عن كليب الشريدة تزامناً مع اعتراف بريطانيا بالاستقلال الأولي للأردن في حينه.

%d9%83%d9%84%d9%8a%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b1%d9%8a%d8%af%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d8%a8%d9%86%d9%87-%d8%b9%d8%a8%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%87

العلاقة مع الملك عبد الله المؤسس :

سادت علاقة صداقة حميمة بين الشيخ كليب الشريدة والأمير عبد الله المؤسس بعد ذلك ، فكان الأمير لا ينادي كليب إلاّ ” يا عود ” كناية عن مكانته وقدره، كما زار الأمير عبد الله بلدة تبنة وبات في ضيافة الشيخ كليب عدة ليالي، واصطحب كليب وزوجته إلى الحج بحراً في عام 1934، وتواسط كليب لأصدقائه الشيخ محمد حسين العواملة والبطل علي خلقي الشرايري لدى الأمير في حوادث منفصلة، وتولى ابنه عبد الله كليب الشريدة منصب وزير في الحكومة الوطنية، ثم أصبح لاحقاً وصياً على العرش قبل استلام الراحل العظيم الملك الحسين بن طلال مقاليد الحكم في خمسينيات القرن الماضي.

%d8%b9%d8%a8%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%87-%d9%83%d9%84%d9%8a%d8%a8-%d8%b4%d8%b1%d9%8a%d8%af%d8%a9
عبد الله بن كليب الشريدة، وزير أسبق ووصي على العرش الملكي أبان تولي الملك حسين بن طلال

وفاة كليب الشريدة

في آخر أيامه مرض الشيخ كليب مرضاً شديداً بعد أن تعرض لإصابة تسببت له بنزيف داخلي أفقدته الوعي لعدة أيام، ثم ما لبث في 1/1/1941 أن فارق الحياة التي عاشها بطلاً وطنياً حراً مدافعاً عن قضايا وطنه وهمومه وحامياً وحريصاً على مصالح أبناء شعبه وكرامتهم، رافضاً لكل أشكال الاحتلال عثمانيا كان، فرنسيا، بريطانيا أو اسرائيليا، وترك خلفه 11 إبناً، وتولى منهم العديد من المناصب في الدولة وكان لهم كما كان لوالدهم وأبناء الأردن، الدور الكبير في بناء الأردن الحديث والحفاظ عليه.

%d9%82%d8%a8%d8%b1-%d9%83%d9%84%d9%8a%d8%a8-%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af
ضريح الشيخ كليب الشريدة في مقبرة بلدة تبنة

 

المراجع :

  • عدد من المقابلات الميدانية المسجلة مع أبناء وأحفاد كليب الشريدة – فريق عمل إرث الأردن.
  • ﻣﺬﻛﺮﺍﺕ عامين في عاصمة شرق الأردن ، خير الدين الزركلي 1925
  • سيرة حياة الشيخ كليب الشريدة ، عبد العزيز كليب الشريدة 2000
  • تاريخ شرق الأردن وقبائلها ، فريدريك بيك.
  • تاريخ الإدارة العثمانية في شرق الأردن ، أحمد صدقي شقيرات.

الشيخ كليب الشريدة

 الشيخ مثقال الفايز – عقيد الصخور

methgal-1

 

اسمه و نسبه

هو الشيخ مثقال بن سطام بن فندي بن عباس بن سلامة بن ذياب بن عواد بن فايز ادبيس بن فضل بن رحمه بن غبين بن امجيد بن طويق.

ولادته و نشأته

ولد عام 1885، على وجه التقريب، عاش فترة صباه في كنف خاله (هجهوج بن حزام أبو الوكل – شيخ الكواكبة (فخذ من قبيلة الرولة)، حيث تزوج من ( الخنساء بنت مزهي أبو الوكل )، وحين بلغ العمر قرابة الثلاثين سنة عاد الى ديرة أهله (الفايز) من بني صخر ليصبح بعدئذ شيخ مشايخ بني صخر، ونظرا لنشأة الشيخ مثقال الفايز بكنف أخواله من الرولة فقد تعلم من حياة البادية الشيء الكثير الأمر الذي أكسبه صفات عديدة، فبالإضافة إلى بنيته الجسمانية الرشيقة تعلم أيضا فنون الفروسية والعادات البدوية الأصيلة حتى أنه كان يتكلم بلهجة الرولة لفترة طويلة من حياته.

بعد أن عاد مثقال لمضارب أهله، تزوج من أرملة اخيه شبلي السيدة (شاهه البخيت ) والتي ترملت بعد مقتل اخيه شبلي، ثم رزق بابنه (سلطان)، وبحلول 1917، توفي أخوه الشيخ فواز الفايز، وتولى الشيخة ابنه مشهور، لكن الأيام لم تطل لمشهور حيث توفي مبكرا فانتقلت الشيخة إلى مثقال (عواد صياح البخيت و عمر محمد العرموطي: ص 56  – 57).

سماته وصفاته الحميدة

كان مثقال يتمتع بذكاء كبير، و رؤية بارعة صاحب نخوة ومروءة، يدير شؤون العشيرة بحكمة وفطنة، وغض الطرف عن اساءات البعض اذ لا تغضبه صغائر الامور، وكان يملك مساحة كبيرة من الاراضي والتي تزودة بالغلال وهو المصدر الأساسي لمعاش الناس، وقد اعتمد على سياسة توزيع جزء من هذا الناتج على الفقراء والمحتاجين، وكذلك قام بمد شيوخ القبائل الأردنية الأخرى بالمؤن والحبوب عندما يكونون بحاجة لذلك كتعبير عن الشعور الجمعي بالمصير المتبادل و المشترك وخاصة في مواجهة ارتفاع الضرائب العثمانية و استمرار مصادرة محاصيل القبائل و مؤنها و رحيلها هربا من البطش العثماني خارج أراضيها الزراعية، وهذا ما جعل شيوخ العشائر و أهلها تشهد لمثقال بالكرم والطيبة.

7.indd
الشيخ مثقال الفايز متوسطا لضيوفه على مأدبة الطعام

ونظرا لأن العُرف الاجتماعي كان يقضي بأن العزوة الكثيرة والقوية من أهم أساسيّات القوة لأي شيخ عشيرة فقد قام بمصاهرة عدد من عشائر بني صخر والقبائل الأخرى، وكان له ذلك، فقد تزوج من عدد من النساء لتمتين الروابط الاجتماعية مع عدد من شيوخ العشائر الأردنية عبر المصاهرة بالنسب، وأنجب أربعة عشر من الأبناء الذكور وعددا آخر من الاناث، وكان من أبرزهم الشيخ سلطان وهو اكبرهم ، ودولة عاكف الفايز ، و الشيخ سامي الفايز و الشيخ طايل والشيخ طلال .

7.indd
دولة الشيخ عاكف مثقال الفايز

اهتم الشيخ مثقال الفايز بالأرض وارتبط بها ارتباط كبيرا، إذ ورث حبه وتعلقه بالأرض و الزراعة عن والده سطام، حيث ذكر أن سطام هو أول رجل من بني صخر اهتم بالزراعة في القرن التاسع عشر وعُني بها، وقد ترك مثقال عند وفاته عام 1967، ارثا كبيرا من الأراضي والقرى وكان ذلك نتيجة طبيعية لحرصه و اهتمامه بالأرض وعدم التفريط بها أو بيعها، وقد قدرت مساحتها عند وفاته بأكثر من مئة وعشرين الف دونم.

الألقاب و الكُنى التي اشتهر بها

  1. راعي البلها: والبلها هي اسم ناقة
  2. مثقال باشا: لقب بذلك من قبل الحكومة العثمانية، وكذلك نال هذا اللقب من سمو الأمير عبدالله بن الحسين بعد وصولة الى عمان 1921. (خير الدين الزركلي، ص 106).
  3. شيخ المشايخ: كونه قد اعتبر شيخا على مشايخ بني صخر قاطبة، وقد ورد ذكر (شيخ الشيخان )، عن مثقال في كتاب سيبروك (وهو مستشرق امريكي عاصر مثقال).
  4. أبوسلطان: نسبة الى ولدة البكر (سلطان).
  5. أخو ذهيبة: ذُكر أن الشيخ مثقال كانت له اخت اسمها (ذهيبة)، وهذه التسمية يطلقها الفرسان و الشيوخ على انفسهم اعتزازا بأسماء أخواتهم اللواتي ينتخون بهن في كل موقعة أو موقف.
7.indd
الشيخ مثقال الفايز متوسطا ضيوفه في تعليلة مسائية

دوره في الثورة العربية الكبرى

عانى بنو صخر وغيرهم من أهالي شرقي الأردن في العهد العثماني مرارة الحكم التركي وتسلطه وجوره وملاحقته لهم، بسبب رفضهم الذل والاستعباد، وامتناعهم عن دفع الضرائب الباهضة التي كانت مفروضة على أراضيهم ومواشيهم، وكانت بلادهم مقطعة الأوصال مشتتة الأحوال، وكان بنو صخر يومَ شبّت الثورة على مستوى لابأس به من اليقضة والوعي، بفعل احتكاكهم بغيرهم ممن يعيشون في الحواضر القريبة منهم، كما أن ثورة الكرك 1910، زادت من وعي الناس وتصميمهم على الخلاص من الحكم التركي.

وحين وصلت الى الشيخ مثقال الفايز وشيوخ بني صخر دعوات الانضمام للثورة العربية الكبرى هبوا هبّة رجل واحد، فكان شيوخ بني صخر يجمعون الفرسان ويحثونهم على المشاركة في الثورة و يزودوهم بالسلاح و يقودوهم بالعمليات العسكرية خلال الثورة، وقد تمكّن رجال من بني صخر  وبمساعدة قوات الثورة من قطع خط القطار العسكري العثماني الموصل بين عمّان ودرعا ودمشق لقطع الإمداد عن القوات التركية المتحصنة وحلفائها الألمانيين و النمساويين في معان، وكان لبني صخر شرف التصدي للقوات التركية وحلفائها المحتلة المنسحبة من معان في 22 أيلول 1918، كما اشترك عدد من فرسان بني صخر في حملة سيارة بقيادة الأمير فيصل بن الحسين فقامت بتطهير تل عرار من العثمانيين شمال الحدود الأردنية.

9.indd
وثيقة استسلام القوات التركية في منطقة زيزياء موقعة من القائد التركي علي بيك 1918

وانضم فرسان بني صخر إلى قوات الحلفاء المساندة لقوات الثورة التي نظمت لقطع خط رجعة القوة التركية المرابطة في شونة نمرين عام 1918، وعهد إليهم بحراسة طريق شونة نمرين وادي السير ليمنعوا الأتراك من سلوكها. وشاركو بعملية تحرير درعا في أيلول 1918، واستمروا يناصرون قوات الثورة حتى دخلت دمشق كما وقفوا إلى جانب اخوتهم العرب في معركة ميسلون.

مثقال باشا يسجن جنرالا بريطانيا

يورد خير الدين الزركلي في كتابة عامان في عمان قصة حادثة سجن بيك باشا[1]، فقد قال له يوما صديقه المرحوم كامل البديري[2] : ( إن وزارة أم العمد لأقوى والله من هذه الوزارة التي ألفها الفرنسيون في سوريا)، فقال له خير الدين الزركلي : ( وما وزارة ام العمد ؟ ) فقال البديري : ( تلك الوزارة ألفناها في قرية أم العمد من قرى بني صخر، وقد عاشت أيام )، يقصد إبان بدء عهد الانتداب البريطاني للأردن.

  تعجب خير الدين الزركلي من قصة الوزارة فاسترسل كامل البديري يحدثه عنها فقال: ( نشأ خلاف بين إحدى العشائر المجاورة و مثقال الفايز على أرض ادعت الأولى أن الثاني اغتصبها ورفعت العشيرة أمرها الى حكومة (الصلت)، فطلبت محكمتها مثقال للمحاكمة، فامتنع فرأى وكيل المعتمد البريطاني ومفتش درك شرق الأردن بيك باشا أن الفرصة سانحة لإذلال بني صخر في شخص شيخهم فألح بوجوب جلبه للمحاكمة، ثم زحف بيك بقوة إلى اليادودة القريبة من أم العمد ، ورأى ضعفا فيمن معه فاضطر أن يعدل عن فكرة الضرب بالقوة، وذهب منفردا إلى أم العمد ليعتقل الشيخ مثقال، فحجزه مثقال في مخزن التبن و لم يسئ معاملته ، وأعلنّا في أم العمد استقلالنا عن الانتداب البريطاني، وقد توسط الشريف علي بن الحسين الحارثي في الصُلح أثناء وجوده بالسلط قبل إعلان إمارة شرق الأردن، فأطلقه الشيخ مثقال إكراما للشريف (خير الدين الزركلي: ص 40). (منيب الماضي و سليمان الموسى، ص 140).

المسيرة الوطنية للشيخ مثقال الفايز

لمّا احس الأردنيون بالفراغ السياسي بعد هزيمة المحتل التركي و رحيله عن البلاد بعد أربع قرون من السلطة الهمجية الموغلة بالقمع و الحقد، سارع شيوخ مناطق السلط وعمان والكرك إلى عقد اجتماع في منتصف كانون اول 1919، لجمع التبرعات وإعداد المتطوعين للدفاع عن البلاد، وشكلت لجنة أطلق عليها اسم لجنة الدفاع الوطني وانتخب مثقال رئيسا لها. (مفلح الفايز : ص 122).

انخرط الشيخ مثقال الفايز بكل قوة في هموم أمته ولفحته حرارة الأحداث التي تجري في المنطقة في ذلك الزمن، لقد احس بعظم المسؤولية وخطورة الوضع الذي بدأ يتشكل على الأرض، سارع مثقال الفايز ومعه نفر من وجاء و شيوخ العشائر و المدن الأردنية إلى استقبال الأمير عبدالله وسافر إلى معان لاستقبال الأمير ووضع يده بيده وعاهده على الإخلاص والولاء للعرش الهاشمي.

و كبطل أردني شارك في معارك الثورة للوصول إلى حلم الحرية و الاستقلال من الصلف و الطغيان العثماني من أجل العرب جميعا، فقد كان الدفاع عن الأرض الأردنية و العربية أيضا ومد يد المساعدة للأشقاء العرب في فلسطين وسوريا حجر الأساس في سعيه ودعواه، فقد استقبل الشيخ مثقال الفايز وشيوخ بني صخر الشريف علي بن الحسين الحارثي بعد انتهاء عمليات الثورة لاستكمال المشروع النهضوي التحرري و بمعيتهم نحو ألف فارس وبعدها استقبل الأمير عبدالله المؤسس في عمان بعد قدومه اليها من معان عام 1921 لبناء الدولة الأردنية الحديثة. (عواد صياح البخيت و عمر محمد العرموطي: ص 168، 173، 175).

وعندما ابتدأ تشكيل الامارة وبدأت تسير في خطواتها الأولى نراه وقد انتخب عضوا في المجلس التشريعي الأول 1929 – 1931، (ساكب ابوكوش: ص85)،

3.indd
الأمير عبدالله بن الحسين و الشيخ مثقال الفايز يشاهدون مسيرة عرس الأمير طلال مع عدد من الوجهاء أمام قصر رغدان العامر 1935

 وقد عمل مدافعا عن حقوق المواطن وتنبيه الحكومة عن أوجه التقصير، كما انتخب نائبا عن بدو الشمال في المجلس التشريعي الثالث (1934 – 1937)، (ساكب ابوكوش: ص 150).

فروسيته في مواجهة الوهابيين

تعتبر غزوات الخوين سلسلة من الغزوات التي شنتها القوات الوهابية من نجد هدف بها الوهابيون لتوسيع امتدادهم الجغرافي وسيطرتهم على المنطقة عبر احتلال عمان عاصمة الإمارة الجديدة، ومن ثم تحطيم أية قوة تقاوم هذا اتجاههم هذا.

وشملت غزوات الإخوين غزوتين رئيسيتين الأولى عام 1922، والثانية عام 1924، واللتان جاءتا متتابعتين ومتزامنتين من حيث التوقيت، لم تكونا بالطبع بلا أهداف سياسية محددة، ولم يأت توقيت القيام بهما جزافا وليد الصدفة، وهذا يدل على أن وراءهما تخطيطا محكما ودقة متناهية في بلوغ اهدافها (التي فشلت)، بسبب صمود رجالات الأردن الابطال وفي مقدمتهم فرسان قبيلة بني صخر.

يروي خير الدين الزركلي انه في 15 آب عام 1922، نهض الناس على دوي الطبل الشديد، فتسابقوا اليه يسألون عما حدث، ولم يلبثوا أن سمعوا النذير يصيح بأن الوهابيين أغاروا على قرى بني صخر على حدود عمّان وأن القتال لا يزال ناشبا بينهم وبين بني صخر.

وما انتصف النهار حتى كانت الحكومة قد سيرت ما عندها من القوة العسكرية ومن انتخى من العشائر الأردنية القريبة، نجدة لبني صخر، ودام القتال من فجر الثلاثاء الى ضحى الاربعاء وقد تغلبت العشائر الأردنية على المغيرين من الوهابيين، وقد أبلى رجال بني صخر في تلك الواقعة بلاءاً عجيبا ولا سيما الشيخ مثقال باشا، وكان إلى جانبه الشيخ حديثة الخريشا وعدد كبير من شيوخ و فرسان بني صخر و عقداء الخيل فيها، وكان لبني صخر الدور الأكبر في صد العدوان الوهابي، وقد بلغت خسائر القوات الوهابية حوالي (300) قتيل وأسر منهم حوالي (30) مقاتلا، معظمهم من الجرحى.

وحينها أرسل الشاعر عبد المحسن الكاظمي منها قصيدة للأمير ( آنذاك عبد الله بن الحسين ) يمدح بها بني صخر والشيخ مثقال ومنها:
وليحيا أقوام مثقال فقد وزنوا    من الرجال بمثقال قناطيرا

فيما بدأت الغزوة الثانية صباح الخميس 14 آب 1924، و التي لم يشارك بها الشيخ حيث ذكر المؤرخ مفلح الفايز أنه في اليوم الثاني من المعركة كان سمو الأمير عبدالله ومثقال باشا الفايز قد وصلا الى البلاد بعد عودتهما من أداء فريضة الحج. (عواد صياح البخيت و عمر محمد العرموطي: ص 151 – 153). و (مفلح عطالله الفايز، ص 129 – 145).

رفضه للمعاهدة البريطانية الأردنية عام 1928.

رفض الأردنيون المعاهدة البريطانية الأردنية عام 1928، وطالبوا بإلغائها وجرت مظاهرات حاشدة للمطالبة بذلك، وفي عام 1931 طالب مثقال الفايز بإلغاء المعاهدة ودعم الثورة السورية عند لقائه شيخ عربان مصر حمد باشا الباسل، كما عقد الأردنيون المؤتمر الوطني الاردني الأول 1928، إذ لم تكتف العشائر الأردنية بالاحتجاجات بل تحرك زعماء وشيوخ ومفكرو الأردن بشكل منظم وذلك بعقد مؤتمرهم في مقهى حمدان بعمان بتاريخ 25 تموز 1928، وكان هذا أول مؤتمر وطني في تاريخ الاردن الحديث، تحت عنوان (المؤتمر الوطني الأول للشعب الاردني)، وحضر المؤتمر (150) مائه وخمسون مندوبا من الزعماء والشيوخ والمفكرين والأدباء الذين يمثلون مختلف العشائر و المناطق الاردنية. وقد أعلن المؤتمر رفضه للمعاهدة سنة 1928، وتم اصدار أول وثيقة وطنية أردنية باسم (الميثاق الوطني)، الذي عمل على انتخاب لجنة تنفيذية كان الشيخ مثقال من بين أعضائها إلى جانب عدد من أعيان الاردن وزعمائه لمتابعة قراراته. (ساكب ابوكوش: ص51).

كما كان له دورٌ كبير في انعقاد مؤتمر أم العمد (مؤتمر الشيوخ) في حزيران عام 1937، فقد عقد في قرية أم العمد مؤتمرا لشيوخ الأردن وزعمائها، وقدمت اللجنة التنفيذية لذلك المؤتمر مذكرة لوزارة الخارجية البريطانية ومذكرة أخرى لسمو الأمير، وفي هاتين المذكرتين ندد المؤتمرون بوسائل العنف التي تلجأ اليها حكومة الانتداب وبسياساتها الخاطئة، ووقع المذكرة عدد من الشيوخ منهم: حمد بن جازي، مثقال الفايز، كليب الشريدة، رفيفان المجالي، صالح العوران، حامد الشراري. (منيب الماضي و سليمان الموسى: ص 455).

وفاته

توفي الشيخ مثقال الفايز 1967، عن عمر يناهز الثانية والثمانين عاما، بعد حياة حافلة بجليل الأعمال، شكلت وفاته خسارة كبيرة للأردنيين، نظراً للدور الكبير الذي اضطلع به، وللمكانة التي حققها طوال سني عمره، وقد دفن في بلدة أم العمد، المكان الذي أحبه، وأمضى فيه معظم حياته، وبالرغم من مرور عقود على رحيله فما زال ذكره بين الناس حياً، وستبقى ذكراه ما بقي الخير بين الناس عامراً، فالرموز الوطنية كالأشجار تثبت واقفة ما دامت أرض الوطن تحتضن أجسادهم الطيبة.

 

المراجع

  1. عواد صياح البخيت و عمر محمد العرموطي، سيرة حياة الشيخ مثقال سطام الفايز (شيخ مشايخ بني صخر)، (عمان، المؤلفين، 2009).
  2. مفلح عطالله الفايز، عشاءر بني صخر – تاريخ ومواقف حتى سنة 1950، ط1، (عمان، المؤلف، 1995).
  3. خير الدين الزركلي، عامان في عمان – مذكرات عامين في عاصمة شرق الاردن 1921 – 1923، ط1، تحقيق ومراجعة عيسى الحسن، (عمان، الاهلية للنشر والتوزيع، 2009).
  4. منيب الماضي وسليمان الموسى، تاريخ الاردن في القرن العشرين 1900 – 1959، ط2، (عمان، مكتبة المحتسب، 1988).
  5. حازم مبيضين ، ( راعي البلها عقيد الصخور مثقال الفايز ) ، وكالة عمون الاخبارية ، 26-10-2009.

[1] بيك باشا: ضابط بريطاني يمثل الانتداب البريطاني على شرق الاردن (كقائد عسكري)، والذي بدأ بعد انسحاب الاتراك ، وقاموا بتنفيذ خطة لتطويع العشائر والقبائل البدوية، ومن ضمنها قبيلة بني صخر، وكان هذا القائد الانجليزي يعتقد بأنه صاحب الامر والنهي، ويستطيع ان يفعل مايشاء، وهو مدعوم بالقوة العسكرية فاعتقد بأنه يستطيع احضار هذا الزعيم الوطني بمجرد ان يبلغ الشيخ مثقال بهذه الاوامر من قائد انجليزي لايرد له طلب (كما يعتقد).

[2] شاب متعلم من أعيان القدس أصدر جريدة الصباح

الشيخ مثقال الفايز – عقيد الصخور

النائب الشيخ توفيق المجالي

الشيخ البطل توفيق المجالي

 

مقدمة

رائد وعميد البرلمانيين الاردنيين في مجلس المبعوثان العثماني، كان من رواد الممثلين لبلاده وهو من منارات الأردن الذين شاركوا بهمة واقتدار في المشروع النهضوي والتحرري من الاحتلال العثماني .

 بقيت شخصية الشيخ توفيق المجالي محفورة في الذاكرة الوطنية لأنه صاحب موقف مفصلي و تجربة عميقة بحيث لا يمكن تناولها إلاّ في سياقها الثقافي والاجتماعي والسياسي.

نشأته

هو توفيق بن عيسى بن يونس المجالي ولد عام 1880م ، كان معروفا بحنكته بكافة المقاييس، فقد ولد في بيت كركي يمتاز بالشجاعة والفروسية وتعلم القراءة والكتابة صغيرا قبل أن يكمل مشاوره التعليمي في مدرسة الكرك التي بنيت على نفقات عشائر المنطقة.

ثم انتقل الى مدرسة عنبر في دمشق وأكمل تعليمه مع المثقفين والسياسيين والمفكرين فكان قلم الحرية في الكتابة بالكلمة والموقف عن النهضة والكفاح ضد أفعال الاحتلال العثماني.

عاش الشيخ توفيق المجالي في منزل والده الشيخ عيسى المجالي وتعلم مبادئ الشجاعة والفروسية بالسيف والبندقية والكرم الذي أكسبه معرفة واسعة في شؤون حياة بيئته العشائرية وغيرها من الأمور في وقت مبكر من عمره .

يعتبر الشيخ توفيق أول عضو من منطقة الكرك في مجلس المبعوثان، حيث قدم حياته في سبيل وطنه من أجل النهضة والتحرر من الاستعمار العثماني، وكانت فطنته واحتكاكه بالمراكز السياسية والثقافية مؤهلا لأن يجعله في بؤرة الأحداث الاقليمية والعالمية في عاصمة الدولة العثمانية، استطاع الشيخ توفيق المجالي أن يخوض الأحداث الصعبة والحاسمة بذكائه العميق ووعيه النادر.

قلعة الكرك مطلع القرن العشرين

توفيق والبرلمان العثماني

مثل توفيق المجالي لواء الكرك في مجلس المبعوثان العثماني لدورتين، حيث فاز في انتخابات العام 1908، والعام 1914 حيث ضم اللواء كل من : السلط، ومعان، والطفيلة والكرك.

في 20 أيلول سنة 1908م أُعيد نشر قانون الانتخابات، وهو قانون الانتخابات الثاني الذي صدر أصلا في شهر حزيران 1877م، وأجريت بموجبه الانتخابات لسنة 1908م على اعتبار أن كل لواء يمثل دائرة انتخابية، على أن يكون نائب واحد لكل خمسين ألفاً من الذكور، وإذا كان عدد الذكور في اللواء أقل من العدد المذكور وأكثر من خمسة وعشرين ألفاً يكون لهم نائب واحد، ويكون نائبان لكل لواء يفوق عدد الذكور فيه خمسة وسبعين ألفاً، وثلاثة نواب إذا فاق العدد مئة وخمسة وعشرين ألفاً. وتجري الانتخابات علـى درجتين ينتخب في الأولى الذكور الذين أتموا الخامسـة والعشريـن من العمـر، والمنتخبين الثانويين الذين ينتخبون بدورهم نواب اللواء.

كانت تركيبة النواب من الطبقة المقتدرة، فقانون الترشيح اشترط مؤهلات مالية للمرشح، جعلت من يخوضون الانتخابات من علية القوم، كانت طريقة الترشيح تتم بواحدة من ثلاث طرق: أن يتقدم المرشح بطلب مباشر من الوالي، أو أن يرشحه 300 من الأهالي على الأقل، أو أن يقوم حزبه بترشيحه.

لم يتم ترشيح الشيخ توفيق المجالي الى مجلس المبعوثان عن طريق الانتخابات لأن من فاز بالانتخابات فعليا هو الشيخ قدر المجالي وذلك عندما اعلنت الانتخابات في الكرك عمن يمثل الاردن لدى مجلس المبعوثان العثماني بأكثر الاصوات، ولكن الشيخ قدر المجالي تنازل بها إلى توفيق المجالي باعتباره صاحب علم و ثقافة وخبرة سياسية ولأن الشيخ قدر أراد أولاً أن يتفرغ لشأن عشائر الكرك و ثانيا وقوف عشائر الكرك في وجه الشيخ قدر ومنعه من الذهاب الى تركيا خوفا من غدر السلطات العثمانية به نظير مواقفه الصلبة في وجه المحتل العثماني .

الشيخ الفارس قدر المجالي يتوسط فرسان و أبناء عشيرته ابان ثورة الهية-1910

وكان الاتفاق بين أهالي الكرك والشيخ قدر أن يمثل صوت أهالي الكرك بينما يقوم توفيق المجالي صوت الأردنيين الحر في معركتهم السياسية مع الاحتلال التركي، وأصبح الشيخ توفيق بك المجالي ممثل ولاية الكرك في مجلس المبعوثان العثماني، وكان الشيخ توفيق المجالي عند حسن ظن وثقة الأردنيين، فبنى علاقات متينة مع نواب الدول العربية الاخرى كأولى الخطوات التكتيكية لبناء حلف سياسي يضم نواب المنطقة تجاه منظومة السياسة التركية العثمانية.

دوره المحوري في حركة التحرر في المنطقة

يعتبر الشيخ توفيق المجالي من الشخصيات الاردنية التي اعتمدت على ذكائها الفطري وشخصيتها الوطنية الفذّة، حيث انتخب كنائب عن الأردن لدورتين الأولى في عام 1908م والثانية كما تؤكد بعض الوثائق عام 1914، فكان على عاتقه مسؤولية كبيرة ومرهقة لأنه النائب الوحيد عن الأردن في مجلس النواب العثماني التركي، استوعب الشيخ توفيق المجالي أن هنالك لعبة سياسية قذرة تقوم بها حكومة الاحتلال العثماني التي على اثرها بدأ التفكير بفكرة اللامركزية فقام بتوطيد علاقاته مع نواب الدول العربية الاخرى، ومن النواب الذين بنى معهم الشيخ توفيق المجالي علاقات سياسية وعلاقات جيدة مع سعد الدين (نائب حوران) و خالد البرازي(نائب حماه) و رضا الصلح (نائب بيروت) و شكري العسلي (نائب دمشق) .

كان الشيخ توفيق المجالي يتقن فنون الدهاء السياسي، وصاحب رؤى استراتيجية سياسية في مجلس النواب التركي اذ قام بنقل أفكار ومعاناة النواب العرب بطرق اتصالية تحفظ لهم حقوقهم وكرامتهم فكان البرلماني الناجح موضع الإعجاب والتقدير من قبل النواب العرب.

كما ساهم النائب الفذ توفيق بك المجالي بنقل التوجهات والأفكار السياسية الخبيثة للحكومة العثمانية إلى النواب العرب وإلى أبناء وطنه والتي تمثلت في :

  1. سياسة التتريك
  2. ابعاد العرب عن وزارتي الخارجية والداخلية
  3. إبعاد الضباط الأردنيين و العرب من مواقع خدمتهم العسكرية الإجبارية الداخلية وإرسالهم إلى مواقع البؤر المتوترة في البلقان واليمن ونجد وغيرها.
  4. التجارة بالدين كغلاف لجرائمها.
  5. تدمير المسيرة الحضارية للأردن وأهلها عبر سياسات التجهيل و القمع .
  6. الإهمال المقصود والممنهج المفضي لتدمير المجتمعات وسرقة اموال الناس باسم الضرائب .

مثل هذه التوجهات وغيرها من الأفكار و الحقائق التي ساهم الشيخ توفيق المجالي في ايصالها إلى النواب العرب وأبناء وطنه والتوعية بخطورتها والتهديد الذي تشكله على وجودهم ومسيرتهم الانسانية، جعلت دوره التنويري يعاد صياغته من قبل ابناء الأردن في معركتهم ضد الاحتلال العثماني من أمثال الشيخ قدر المجالي وعودة القسوس في الكرك ويوسف السكر الدبابنة في السلط وعبد المهدي من الطفيلة وخليل التلهوني من معان، فقد تأثر الشيوخ بالمفاهيم السياسية التي كان ينقلها لهم الشيخ توفيق المجالي عن الأحوال والظروف و السياسات التركية وما يخططون له من أعمال خطيرة.

وفي تاريخ 20/آذار/1911م  قدمت المرافعات من قبل النواب العرب في مجلس المبعوثان العثماني ومن بينهم توفيق المجالي على ما يحدث في الكرك من تدمير وتشريد وقتل لأهالي المنطقة على إثر ثورة الكرك التي شملت كل مناطق الأردن، وكان الشيخ توفيق الأكثر حماسا وانفعالاً في المرافعة التي قدمها في مجلس المبعوثان.

كما قدّم نائب بيروت رضا الصلح بيانا بيّن فيه أن فساد الإدارة العثمانية في الكرك هي سبب ما يحصل بها وأن ما يقومون به بالكرك من تجنيد اجباري وإحصاء للأنفس ما هي إلا اجراءات ظالمة وما يشملها من فرض ضريبة العشر والغرامات على أهل الكرك بحيث أصبحت وكأنها تفرض الغرامة على المقتول من قبل القاتل.

 وقدم نائب دمشق شكري العسلي مرافقعة طالب فيها الدولة العثمانية بوقف حمام الدماء ضد الأردنيين والتوقف عن ملاحقة شيوخ العشائر، ووضّح أن السبب الرئيسي فيما يحدث في الكرك هو غياب الحكمة والضمير من أصحاب القرارات والقيادة في السلطة العثمانية.

وهاجم نائب حماه خالد البرازي كلا من الوالي اسماعيل فاضل وسامي الفاروقي واتهمهم بأنهم رجال انتهازيون ولا يهمهم سوى المال ولا يحترمون موقعهم، وقال أن الجرائم التي يقوم بها جنود الدولة العثمانية في الأردن ستبقى وصمة عار في تاريخ الدولة العثمانية، كما أن أهل  الكرك لن ينسوا قذف شيوخهم من أعلى قمم القلعة الى الوادي وتحطم جماجمهم، ونوّه أن الهجوم على مدينة الكرك التي كانت دوما عاصمة حضارية في المنطقة هي جريمة بحق الحضارة و الانسانية.
وعلى هامش هذه الجلسة النيابية عقد النواب العرب جلسة خاصة مع وزير الداخلية ( جلال بك) وذكرت جريدة (المقتبس) في عددها الصادر رقم 694 تاريخ 22/آذار/1911م، أن وفد النواب العرب تشكل من : شكري العسلي، وشفيق مؤيد العظم، و توفيق المجالي، وطالبوا وزير الداخلية بتعيين حاكم إداري جديد في الكرك واستبدال الوالي بآخر يعرف العربية وبسحب القوات العسكرية من الأحياء السكنية في الكرك وبقية المدن في اللواء.
لم يستجب وزير الداخلية لمطالب النواب العرب، بل تأثر كثيراً بالمقالات الصحفية التي تناولت شخصية توفيق المجالي، وبخاصة جريدة (اقدام) التي طالبت بإلغاء الحصانة النيابية عنه ومحاكمته عرفياً.

وكان الشيخ توفيق المجالي  مبعوث الكرك في مجلس النواب العثماني كما ذكرت جريدة المقتبس بتاريخ 3/12/1912 قد قدّم وصفا لبشاعة الجريمة في مداخلته في مجلس المبعوثان جاء فيها بأنها كانت الأكثر عنفا حيث اتهم الحكومة التركية بالكفر والزندقة، وبأنها تسعى إلى قتل العرب و الأردنيين و أهالي منطقته وطمس هويتهم إنسجاما مع عقيدتهم الملوّثة بالدم، وقال الشيخ توفيق المجالي في مُداخلته : ( إن الأساليب التصفوية بحق أهلي وعشيرتي وبلدتي جريمة خطط لها كهنة لا يعرفون الله، صدورهم مليئة بأحقاد جنكيز خان وهولاكو لأنهم بطبعهم لا يعيشون إلا بالفتن والنعرات وتصفية الآخر) ، وبعد تلك الجلسة شدَّدت الحكومة التركية من اجراءاتها في مضايقة النوَّاب العرب وأصدر الديوان العرفي أمرا بإلقاء القبض على الشيخ توفيق المجالي وإرساله بحرا إلى بيروت لينقل منها إلى دمشق لمحاكمته بالإعدام.

ضابط من الجيش العثماني متسلحا أمام أحد بيوت الكرك في أعمال مراقبتها لأسر الفرسان حال عودتهم لمنازلهم إبان أحداث قمع الثورة

وكان الشاعر سالم أبو الكباير قد كتب قصيدة داعمة لموقف توفيق المجالي عضو مجلس
المبعوثان عندما حكم عليه بالإعدام سنة 1911 م، تاليا نصها :

أبدى بذكر الله على كل معبود          الواحد الموجود ماله شريكين
يشفق لقلباً من غثا البال ملهود          جوده ولطفه واكرم دوم راجين
سبحان من شرف حبيبه شرف زود    نورا ظهر به النبي واظهر الدين
سبحان من خلق نصارى ويهود        حبوسا يبلمها ابلام الفراعين
سبحان من حط بالناس حاسود          يكتب خطايا و لاكسب نية الزين
سبحان من عطا سليمان داود            واحد يسد بيدل عشره وثلاثين
سبحان من فرح الملك بوجود             الحمد لله شفتنا البيك بالعين
توفيق كما سيفاً مصقول بالزود         ابواب خشبها ما يخشاه رديين
حطوه بالمركب على الشام مردود     تسليم يد اللي على القطع ناوين
جلس مجالس شيبت كل مولود        بيهن ترى صلف الرجاجيل مسكين
حرا شهر للبيض ما ايداني السود      صفق بيده وارتفع للقوانين
شهر من بيروت لمصر معمود          رجع على اسطنبول قابل سلاطين
خش الابواب العالية بطرز وبنود      محل تكميل الشرف حافظ الدين
روح كما حصان البحر سنسل الجود    متساميا لون القمر والميازين
اظن قمرنا عقب الياس وجحود          الحمد لله بمجازي الملاعين

ملاحقة العثمانيين لتوفيق المجالي.

وبسبب السياسة التركية التي تميزت بالقمع والسرقة والقتل والمؤامرة لاحقَ الاحتلال العثماني الشيخ توفيق المجالي لتقديمه إلى المحاكمة، وخلال ذهابه الى بيروت عن طريق البحر ونفيه لإعدامه في دمشق، تمكن الشيخ توفيق المجالي من اللجوء إلى إحدى السفن الانجليزية التي ذهب من خلالها الى مصر – الاسكندرية وأعتبر أول لاجئ سياسي أردني في القاهرة حتى صدور العفو عام 1912.
يقول الشيخ توفيق عن رحلة اعتقاله هذه :

 ( فحاولوا أن يقفوا في طريق انتخابي، واتحد الاتحاديون في مطامعهم لإصدار الأمر من الديوان العرفي بالقبض علي وإرسالي تحت الحفظ إلى دمشق وعلى ذلك أرسلت مخفورا إلى بيروت، إن من الأمور الطبيعية والمعقولة أنني لا أسلم حياتي لمخالب المتظاهرين بحب الانتقام مني، وبالرغم من براءتي مما نسب الي اضطررت للذهاب إلى مصر صيانة لشرفي وكرامتي ليس إلا ) .

وقام الشيخ توفيق في القاهرة بالمناداة بالاحزاب العربية وإقامة حزب عربي ضد السياسات التركية وجرائمهم ضد البشرية .

كان عند توفيق المجالي استراتيجة بتجنب النزاع العسكري المسلح كما حصل في ثورة الكرك (الهيّة) ضد أرتال الاحتلال العثماني عبر التدرج بنزع سلطة الاحتلال، فكانت رؤيته  السياسية تقضي  بالانتقال إلى الاستقلالية عبر اللامركزية والتي تعني نقل السلطة من مركزها في دولة الاستعمار بالعاصمة الأستانة ( استنبول ) الى الدول الواقعة تحت الحكم العثماني في ذلك الوقت و تعتبر هذه الرؤية تدرج في رؤية سياسية ذكية في إضعاف قبضة الاحتلال على الدول.

وفي جريدة المقتبس الدمشقية في ايلول 1911 كتب توفيق بك المجالي مقالاً يتطرق فيه لما تعرضت له مدينة الكرك من تدمير وتخريب من قبل قوات الاحتلال العثماني بعد ثورة الكرك بعنوان (اصلاح الكرك) حيث تمثلت مطالب الشيح توفيق في المقال بــ ـ:

  1. افتتاح المدارس في كل من الطفيلة ومعان والكرك والسلط
  2. انشاء طرق بين الكرك – القطرانة والكرك – البحر الميت ، والطفيلة – جرف الدراويش و طريق السلط – الاغوار.
  3. إعادة اعمار البيوت التي هدمها الاستعمار في الكرك
  4. ايصال المياه من عين سارة الى قصبة الكرك
  5. استكمال بناء الجامع العمري في المدينة

كان الشيخ توفيق يرغب بتحويل بلاده و مدينته الكرك إلى جنّة تحفظ كرامة أهلها كما تم وعده من قبل السلطة العثمانية، لكن الواقع أن سمة الخبث بالاحتلال العثماني حولت هذه الجنة الى جحيم.

توفيق المَجالي يفتح النّار

وحيث كان النائب توفيق المجالي لاجئاً في القاهرة، رافضا تنفيذ أوامر توقيفه من الديوان العرفي في دمشق، الذي طلبه قبل أيام، بعد اسقاط حصانته النيابية، للتحقيق معه في التهم الموجهة له، فقد نشرت الصحف العربية في دمشق، نقلاً عن صحيفة (المؤيّد) المصرية، بتاريخ 13/ 3/ 1912، خِطابُ النائب البطل (توفيق المَجالي) إلى الصدر العثماني الأعظم سابقاً (حسين حلمي باشا) عشيّة آخر انتخابات عثمانيّة عام 1912 ، هذا الخطاب بالغ الأهمية، لما فيه من معلومات أولاً، ولشرحه بعض الملابسات الخاصة بثورة الأردنيين الوسطى  في الكرك على السلطات العثمانية، ومن وجهة نظر أحد أبنائها، ونائبها في مجلس المبعوثان.

ومما جاء في هذا الخطاب الناري المفتوح :

  • ( ….فالتهب الحريق في أطراف البلاد، وتهدّمت أركانها، وأهرقت دماء كثيرين.. (ما) جعلنا ندعو بالرحمة للفراعنة ونيرون والحجّاج وجنكيز وهولاكو)
  • (… وعدم اكتفائهم بقتل وتعذيب الذين وقعوا في أيديهم، فقاموا يذبحون الذين يسلّمون أنفسهم بأمان الله )
  • (  اذهبوا إلى الكرك المسكينة وانظروا حولها وما حولها.. هي مقبرة.. الكرك اليوم .. خرابة يأوي إليها الغراب والوحش.. تلك حالة نبكيها بالدماء )

العفو السلطاني العثماني

وبسبب خوف الدولة العثمانية جاء العفو السلطاني عام 1912 بمناسبة إعلان إيطاليا الحرب على (ليبيا) واحتلالها ومهاجمة ولاية طرابلس، فاضطرت الحكومة العثمانية لإصلاح الأوضاع الداخلية وبخاصة في مناطق البؤر المتوترة، والعمل على تهدئة الخواطر.

وقد شمل العفو السلطاني السجناء من أهل الكرك وحوران وجبل الدروز، ولكنه لم يشمل الشيخ توفيق المجالي وأبناء عشيرته ، حيث شمله العفو الثاني وكانت تهمته من قبل حكومة الاحتلال أنه يقوم بدعم ثورة الكرك من خلال تحريض النواب العرب واتهامه للجنرال سامي الفاروقي وبقية جنرالات الجيش العثماني بالقتل العشوائي.

وفاته

 بعد عودة  الشيخ توفيق المجالي إلى الكرك وقعت الحرب العالمية الاولى وتسلم رئاسة بلدية الكرك لثلاثة اعوام، وفي عهد الحكومة العربية الفيصلية عمل معاونا لمتصرف الكرك إلى أن توفي وقد أعقب ابنة واحدة ، ودفن في مقبرة النبي نوح وما يزال قبره موجودا حيث نقش عليه بيت من الشعر يقول :

 بكت عين المكارم والمعالي  على المفضال توفيق المجالي

المصادر:

  1. جريدة الدستور، ثقافة وفنون، منتدون: توفيق المجالي منارة كركية بارزة،  2012-09-29
  2. ثورة الكرك 1910 في سياقاتها العربية، د.بسام البطوش، زاد الاردن الاخباري.
  3. الشيخ هايل عزام المجالي، ص 17 من أوراقه الخاصة .
  4. دلال سلامة ، السجل، العدد 72، 2009
  5. منتديات أبناء الاردن، محمود سعد عبيدات، 12-03-2008
  6. موقع قبيلة المجالي، توفيق بك المجالي
  7. موقع وزارة الثقافة ، منتدون: توفيق المجالي منارة نضالية بارزة، نسرين الضمور .
  8. ثورة الكرك 1910 “الهيَّة” ، إرث الأردن
  9. أثر وإنسان، محمد رفيع ، صحيفة الرأي، 13- 10- 2017.

توفيق المجالي – نائبٌ في وجه احتلال

Scroll to top