Zulaykha Enam
بعد نشرنا لمقالة الدكتورة انعام الور عن الضاد والظاء ابتدأ حوار ثري بينها وبين الأديبة الكبيرة زليخة أبوريشة ذات الذائقة والخبرة اللغوية العظيمة والغنية عن التعريف. الحوار ابتدأ عن الضاد باضائات جميلة وتفرع الى زوايا غنية باللغة واللهجة وبطابع شخصي ثقافي راقي بين شخصيتين بهذه المرتبة، فوجدنا نشره ضرورة للباحثين والمهتمين بهذا العلم المهم.

 

 

الأديبة زليخةأبو ريشة:
شكراً عزيزتي الدكتورة إنعام على هذه المقالة التوضيحية والواضحة، والتي تحبب موضوعات علم اللغة إلى أبعد الناس عنها. وهي عطفٌ علميٌّ على ما جرى بيننا في بيتي ذلك المساء. وبالنسبة إليّ فقد اكتسبتُ معرفةً جديدةً تتعلَّقُ بعدم تخطيء من يكتب الضاد في ضوء مثلاً ظاءً (ظوء)، ولكن، ألا يُعتبَرُ هذا نتيجة فشل النظام التعليمي في نقل الطالب/ة من لغة الأم إلى لغة المجتمع؟

الدكتورة انعام الور:
شكرا جزيلا استاذة زليخة، وقد اعدت ذكرى تلك الامسية الرائعة في منزلك. بالنسبة لموضوع هذا المنشور القصير بالذات أردت ان اوضح ان موضوع الابدال في هذين الصوتين بالذات له عدة ابعاد، منها بُعد هام جداً وهو حقيقة ان لا لهجة عربية تحوي الصوتين معاً-يعني كلنا في الهوا سوا بالنسبة لهذين الصوتين-، وأن تاريخية التغيرات التي طرأت على هذه الاصوات تحتم علينا الاخذ بعين الاعتبار ان ما نسميه ‘اغلاط’ لا يعدو كونه نتاج طبيعي لمبادئ راسخة في نظريات علم اكتساب اللغة. هنالك مبدأ معروف وأساسي واصبح من البديهيات في علم اللغة التاريخي وهو انه اذا حدث اندماج فونولوجي بين فونيمين-ايّ صوتين كانا في سابق عهدهما متميزين- بحيث انتقلت عضوية مفردات هذا الى ذاك ، فلا يمكن اعادة فصلهما حسب الصورة الاصلية للفصل، وهذا هو بالفعل ما حدث ل ض-ظ العربيتين. الفصل الذي نجده في الفصحى المكتوبة كان فصلا تصنعه النحاة، ولم يكن طبيعيا بمعنى ان الكلمات التي نكتبها ض انحدرت الينا هكذا وذات الشيئ بالنسبة لكلمات ظ، وانما ما حدث انهم لعلمهم بوجود هذا الفصل سابقا رسمّوه عند تدوين العربية، ولربما بطريقة عشوائية-لا ندري. مثلا كلمتا {عريض} و {غليظ} في بعض المصاحف تتناغمان، ولكن لاحظي انه ان لفظت الاولى ض والثانية ظ لا تتناغمان، وأما ان لفظتا بذات الصوت، سواء ض او ظ فإنهما تتناغمان. بالنسبة لنظام التعليم، هو لا شك يُخفق في كثير من الاحيان، ولكن في حالة ض ظ بوسعنا القول، ونظراً للتاريخية والواقع الذي سردته، ان السليقة غالبة في كثير من الاحيان. انظري مثلا كيف لا يمكننا نحن ان نجيد لغة ثانية اذا كان في قواعدها ما يتعارض فونولوجيا مع لغتنا الام. انا مثلا بدأت تعلم الانجليزية من صف البستان، يعني بعمر ٤ سنوات، ورغم تعرضي المستمر للانجليزية منذ ذاك الحين لا زال عندي مشكلة في التفريق بين حرفي علّة قصيرين: i/e كما في كلمات
في التفريق بين حرفي علّة قصيرين: i/e كما في كلمات
bit-bet, disk/desk
لا شك ان السبب في ذلك ان القواعد التي ترسخت في كمبيوتر دماغي اللغوي تعتبر الفرق بين هذين المعتلّين على غير ذي اهمية بالنسبة لمعنى الكلمة، وهو كذلك في العربية -سواء لفظنا كلمة {زِت} بكسرة عادية او كسرة مكسورة اكثر لا يهم، ودماغي لم يرضى طوال هذه السنوات ان يغيّر هذه القاعدة مع انني حاولت اقناعه. الممارسة والتعليم والتعرّض يُفلحان احيانا، لذا حرصت على ذكر نتائج تحليلي للاصوات المرققة {ث ذ} مقارنة بالمفخمة. لاحظي ان لا احد في الاردن يدمج ث مع ت، او ذ مع د عند القراءة او الكتابة، مع ان {ث ذ} ايضا غير موجودات في اللهجات المدنية. السبب برأيي ان في الاردن لهجات لا تدمجهما فيتلقى/تتلقى المتحدث/المتحدثة جرعات يومية تبين كيفية الفصل بين الصوتين لغايات الكتابة او الخطابة باستعمال الفصحى. لاحظي معي ايضا ان افصح فصحاء المغرب، وسمعت بعضهم، لا يفصل بين اي من هذه الاصوات عند التحدث، ومثال اقرب للحالة الاردنية هي تونس، فلا يوجد في لهجة المدينة ض، جميعهم في نشرات الاخبار يقرأونها ظ. اذاً في هذه الحالة يمكن نظام التعليم بريء! هناك البعد الاجتماعي ايضاً وهو هام كذلك ولكني اطلت كثيراً وأعتذر منك.. اذا لم يكن عندك مانع استاذتنا ان ننسخ هذا النقاش على صفحة إرث الاردن نكون ممنونين، تحياتي ومحبتي

الأديبة زليخة أبو ريشة:
طبعا.. شكرا لك. في كلامك إضاءة مهمة على علم النحو العربي تستدعي التفكير فعلا: هل أرضى علماء اللغة والنحو الأوائل قبيلتين.. واحدة تلفظ الضاد ضادا والأخرى تلفظها ظاء؟ ألا يجب البحث عن السبب او اقتراح سيناريوهات؟

الدكتورة انعام الور:
استاذة زليخة، لكِ طريقتكِ الخاصة في اضفاء رونقٍ وبهجة على الاحاديث، مهما كانت طبيعتها، قرأت جملتك عن ارضاء قبيلتين، فجلبت البسمة اولا ثم التفكير، لم يخطر على بال اللغويين الذين كتبوا عن سيناريو محتمل التفكير بذلك، ولكن لما لا؟ القصة المتداولة أكاديمياً تقول التالي: عند كتابة قواعد العربية، حوالي القرن الثامن -في العراق طبعا وليس داخل الجزيرة- كان الصوت القديم فعلا قد انقلب من /ظ ل/ -الصوت الذي وصَفتُ مخرجه بانحرافي كاللام وهو الضاد الاصلية التي عُنيَت في القول المأثور، لغة الضاد- كان قد انقلب الى /ظ/ وبدأ مثلث { ظ ث ذ} بالانقلاب الى ال {ض} الحديثة التي نعرفها و {ت د} على الترتيب. النحاة كانوا على علم باللفظ القديم وبأن الاندماج الذي بدأ يسري كالسُم في قوام اللغة، تلقفوا هذا اللفظ الجديد للضاد، الذي نستعمله حالياً، وجيّروا له الكلمات التي ظنوا انها كانت تتبع الصوت القديم، بمعنى انهم اتبعوا اسلوباً توجيهياً/تلقينياً -عكس وصفي- بهدف الحفاظ، كما ظنوا، على ‘نزاهة’ اللغة العربية. مع تحفظنا على المنهج التوجيهي الذي اتبعوه ولكن ما فعلوه كان عبقرية لغوية بحد ذاتها، إذ اختلقوا بذلك توازناً في النظام الصوتي العربي، لم يكن موجوداً، حيث اصبح لكل صوت لثوي احتكاكي صوت اسناني انفجاري مقابل، كما تبيّن الثلاثية التالية: اللثوي ث يقابله الاسناني ت، لثوي ذ اسناني د لثوي ظ يقابله اسناني ض(هنا العبقرية بأن وضعوا هذا الصوت الجديد مقابلا لل ظ فأستوت المعادلة المثلثة)، مرتب وجميل:أصبحت العربية تحوي حرفين مرققين لثويين {ث ذ}، حرفيين مرققين اسنانيين {ت د}، حرف مفخّم لثوي {ظ}، حرف مفخّم اسناني {ض}.

وأزيدك من الشعر بيتاً، تلاحظين أن الحرف ض يصوّر كما الحرف ص، النقطة فقط هي التي تفرقهما. هذه ليست صدفة. السبب هو ان الصاد كان مخرجها يشبه الضاد القديمة ايضاً. وهذه قضية أخرى لن اخوض بها هنا.

انا لا اعارض الالتزام بقواعد لغة مرسّمة، فلكل لغة في العالم شكل مرسّم، ستاندرد، وهذا جيد وله فوائده. ما يؤلمني واعترض عليه هو التزمت، والايهام بأن اللغة بحاجة الى حرّاس، عادة يعيّنون ذواتهم، والانتقاص من لغات فئات اجتماعية معينة. الحق اللغوي لاي انسان بأن يتعامل باللغة التي اكتسبها طبيعياً جزء لا يتجزأ من حقوق الانسان. تُظهر نتائج الابحاث التي أجريت في الولايات المتحدة مثلاً ان ازدراء لهجة الافارقة الامريكان اجتماعياً سبب رئيسي في انخفاض التحصيل العلمي عند الاطفال من هذه الفئة الاجتماعية، وتركهم النظام التعليمي مبكراً، كما تَستنتج هذه الدراسات بأن الاثر النفسي السلبي على الطفل من جرّاء ازدراء الآخرين للهجته، اي الطريقة التي يتحدث بها، دائم او مستدام يترك جروحا مدى الحياة، تؤثر في مستقبل هذا الطفل العملية والاجتماعية. ذات النتائج توصلت اليها الابحاث بالنسبة للهجات الطبقات الاجتماعية العاملة في اوروبا. كما تُبين نتائج الابحاث التي حللت إجراءات سير المحاكمات الرسمية، والتحقيقات البوليسية، انه في كثير من الاحيان يُظلم المتّهمين المتحدثين بلهجات يزدريها المجتمع، ودراسات حديثة اخرى اظهرت أثر التمييز اللغوي في تلقّي العلاج في المستشفيات والعيادات.
اللغة ملك لجميع متحدثيها، من اي طبقة اجتماعية كانوا. لاحظي معي أن اللهجات التي يزدريها المجتمع هي عادة لهجات الفئات المهمّشة والفقيرة، وأن اللهجات التي تتمتع بمكانة اجتماعية رفيعة هي اللهجات التي تستعملها الفئات العليا القوية مادياً والمهيمنة اجتماعياً. هذه القضايا تعي لها المجتمعات الاوروبية، طبعاً لا يمكن تغيير المجتمع ولكن يمكن تغيير القوانين. مثلاً حتى وقت قريب، ربما السبعينات من القرن العشرين، لم نكن نسمع مذيع او مذيعة نشرة اخبار على المحطة الرسمية في بريطانيا سوى أولئك الذين باستطاعتهم تحدث اللهجة الرسمية، كما تتحدث الملكة، مما يعني حتمياً أن مجالات العمل تلك لم يكن الوصول اليها ممكناً الا لابناء الطبقات العليا اجمالا. وأما الآن ونتيجة للتقدم في شتى الميادين الحقوقية فإن حقوق الافراد محمية بقانون يجرّم التمييز بجميع اشكاله، فنجد الآن مثلاً مذيعين ومذيعات يقرأون الاخبار بلكنات متعددة، الحكم على كفائتهم لم يعد ‘كيف يتكلمون’.
الموضوع يتشعب كثيراً وها انّي قد استرسلت فسامحيني ثانية، خالص المحبة والتقدير

الأديبة زليخة أبو ريشة:
شرحٌ وافٍ ضافٍ واضح. عزيزتي دكتورة انعام. اطروحتك في هذا التعليق الذي يرقى الى مستوى مقالة، عظيمة. ولم أقرأ مثيلا لها في كتب النحو العربي. وراءها عقل ناقد وفكر حر واحترام عميق للإنسان. ولا أدري لو كان من علمني النحو في الجامعة (باستثناء استاذي الدكتور نهاد الموسى) علمني على هذا النحو، اين كنت ساكون الآن! أغبط تلامذتك عليك أستاذة. موضوع الصاد مثير. وموضوع النحاة وتدوين الضاد كما تحولت إليه مخارجها ما يزال يقلقني: كيف عرفوا مسقط راسها الأصلي؟ هل من مصدر يفيد بعثور أحدهم على متكلم “أصلي “؟ وبعد ذلك أرجو أن تبحثي لنا أمر الجيم الشامية والمصرية. وشكرا لكرمك.

الدكتورة انعام الور:
استاذتي زليخة، هذه شهادة اعتز بها حقا، شكرا جزيلا ومن الاعماق. الضاد الاصلية ما زالت تُنطق كما وصفها لنا سيبويه او وصف شبيه جدا بذلك، آخر الابحاث كان من قِبَل طالبتي الدكتورة خيرية القحطاني Khairia Al-Qahtani ، قامت خيرية بإنجاز بحث عظيم نالت عليه درجة الدكتوراة، حيث ركّز بحثها الميداني في جنوب الجزيرة على لهجة تِهامة قحطان في قريتين جنوبيتين، الفرشة-سميت كذلك لانها تقع على سفح الجبل، والجّوا -وهذه كانها في الجوّ، على ارتفاع ٣٠٠٠ متر. وجدت خيرية ان نطق الضاد الاصلي ما زال موجودا في هذين الموقعين وقامت باجراء مقابلات وتحليلها، لذا فلدينا تسجيلات تُثبت وجود هذا النطق. ثم قامت بتحليل التباين والتغير في استعمال هذا الصوت تبايناً مع استعمال ظ، والنتائج مبهرة من حيث انها تبيّن لنا الكيفية التي تم بها الانتقال الى النطق الحالي للصوتين، بمعنى ان السناريو الذي وجدته خيرية لربما هو ذات السناريو الذي أثر في العربيات الاخرى ربما منذ ١٢-١٦ قرن. الجميل جداً في بحث خيرية انها اختبرت النتائج احصائيا، باستخدام برنامج معتمد عالمياً، فلدينا اذا ارقام ومعادلات رياضية احصائية تدعم نتائج التحليل. بالنسبة لكيف عرَف اللغويون كيفية تحول مخارجها ومسقط رأسها فكان ذلك باتباع المنهج التاريخي-المقارن، وهو منهج معتمد في علم تاريخ اللغات وهو العلم الذي وفّر لنا معرفة ان اللغات تنتمي الى عائلات -لها ام واخوات وبنات عم وبنات بنات عم وحفيدات وحفيدات حفيدات الخ. كما فسّر لنا كيفية انتقال بنات الام الواحدة الى لغات مختلفة، ولكنها رغم التطور الى لغات يبدو انها مختلفة تماماً تحمل جينات الام الاصلية -ومن خلال هذا المنهج علمنا مثلا ان لغات تبدو لنا مختلفة تماما كالفارسية والانجليزية في حقيقة الامر تنحدران من ذات الاصل/القرمية، والتي تُسمى الاندو-اوروبية. إحدى هذه العائلات اللغوية هي العائلة السامية والتي فرّخت الكنعانية والارامية/السريانية والاوغارتية والفينيقية والاكادية والعبرية والعربية الجنوبية والعربية الشمالية-العربيات اللواتي نتكلمهن حديثا هن بنات العربية الشمالية. هذه العلاقة العائلية تتيح لنا ان نقارن بين المتقابل من الاصوات بين افراد العائلة الواحدة، مثلا تلاحظين ان السين العربية يقابلها شين في العبرية ، كما في {سلام-شلوم}؛ الام السامية الاصلية كان بها صوت p انقلب هذا الصوت ال ‘ف’ في العربية ولكنه بقي p في الآرامية وفي العبرية يقابل هذا الصوت اما p او ف -على فكرة القلب من p الى f حدث ايضاً في اللغات الاوروبية، لذا تجدين الكلمة اللاتينية pater يقابلها في الانجليزية father . باتباع هذا المنهج استطاع اللغوون التعرف الى النظام الصوتي عند الام السامية الاصلية وما يقابل كل صوت في هذا النظام عند بناتها وحفيداتها. بالنسبة للضاد الاصلية، ما من شك على الاطلاق انها تنحدر من صوت به صفات من احرف ال ‘لام’ و ‘ظ’، وهو الصوت الذي ما زال موجودا جنوب الجزيرة في لهجات منعزلة كما ان هذه المناطق في الجنوب قريبة من اللغات العربية الجنوبية مثل المهرية والحرصوصية واللواتي ما زلن يحتفظن بهذا الصوت كما بينت ابحاث البروفيسيرة جانيت واتسون من جامعة ليدز والدكتورة منيرة الازرقي من جامعة الدمام. بالاضافة للمنهج المقارن يمكن استنتاج هذه الصفة للضاد جزئياً من الكلمات السامية التي تم اقتراضها من قِبَل لغات اخرى، مثلا اليونانية القديمة اقترضت من العبرية القديمة الكلمة التي تظهر في اليونانية هكذا balsamon والتي منها الكلمة الانجليزية balsam، في العبرية القديمة الكلمة هي {ب ضاد م}، تلاحظين ان ما يحل مكان الضاد في اليونانية والانجليزية هو حرف L والذي اتى حتما من اللفظ الاصلي للضاد في الكلمة العبرية الاصلية. مثال آخر، الكلمة العربية ‘القاضي’ هي اصل الكلمة الاسبانية al-calde. هنا تلاحظين ان الاسبانية حولت ضاد الى لام دال، والسبب ان الضاد التي سمعها الاعاجم كان بها شيئا من اللام. وهناك عشرات الامثلة المشابهة من لغات اخرى، منها الماليزية. يُتبع
بالنسبة للجيم الحديثة التي نستعملها في الفصيحة فإن اصلها هو كما في الجيم القاهرية المصرية، وتجدين هذا اللفظ اضافة للقاهرية في اليمن وعُمان، مما يعني ان اللفظ للجيم الذي نستعمله في الفصحى ومعظم اللهجات العربية احدث من القاهرية بكثير -القاهرية هي الاقدم. تغيّر هذا الصوت، اي الجيم الاصلية والتي كانت تُلفظ كما في القاهرية وكما في الكلمة الانجليزية good ، تغيّر مخرجه بحيث انتقل الى الامام، من لهوي، اي عند الحلق، الى حنكي، اي اصبح مخرجه وسط الفم كما نلفظه في الاردنية والعربية الفصيحة -او هكذا عُلّمنا ان نلفظه قراءة- واما الجيم الدمشقية والتي تجدينها ايضا في لهجات الاغلبية العظمى من المدن في منطقتنا -عدا حلب- فإنها تطورت عن هذه الجيم التي نستعملها في الفصحى بأن ضَعُفَت، وهي على الاغلب التي سماها سيبويه ‘الجيم المعطشة’. عندما نحلل هذا الصوت وكيفية تطوره في العربيات باستطاعتنا استنبات جميع اشكاله الحديثة في العربيات المكتوبة والمحكية، بما فيها عربية مدن الخليج وفيها يلفظ ‘ي’. التطور ربما كان هكذا، بدْأ من الام السامية -لنسمها سامية من الآن فصاعدا وسأرمز للقاهرية بالحرف g وللفظ الموجود في الفصحى بالحرف j:
– سامية g ← لسبب ما انبتت نهاية ذلقية كالياء فاصبحت في العربية gy
– سقطت هذه الياء فأعطتنا اللفظ القاهري/اليمن/عُمان -مسقط- g وهذا هو اذا اللفظ الاقدم
– تطورت gy الى j وهذا هو اللفظ المعتمد في الفصيحة. هذا الانتقال من g الى j معروف في كثير من لغات العالم. تلاحظين مثلا ان كلمة garden الانجليزية يقابلها jardin بالفرنسية. هذا اللفظ نجده في الفصحى كما في الاردنية التقليدية والفلاحية الفلسطينية ولهجة مدينة حلب
– ضَعُفَت j فأعطتنا الجيم الدمشقية، ونجد هذا اللفظ ايضا في معظم المدن في منطقتنا كما في تونس والجزائر والرباط وجدة.
التضعيف ايضاً تطور لغوي معروف في لغات العالم. تلاحظين مثلا ان الفرنسية ليس فيها الجيم الشديدة مثل اخواتها من بنات اللاتينية، كالايطالية، وانما في الفرنسية فقط المضعّفة المعطشة.
-استمر تضعيف الجيم في بعض اللهجات فقطع شوطين بدل شوط واحد حتى وصل الى ‘ي’، وهو اللفظ الذي نجده في مدن الخليج، الكويت ولهجة العرب البحرينيين الخ. وذات التبادل بين الجيم والياء نجده ايضاً في بنات اللغات الجرمانية الغربية، مثلا الانجليزية مقارنة بالالمانية.
هنالك الفاظ اخرى للجيم، في السودان وصعيد مصر، لن اتطرق اليها الآن، فقد اسهبت واسهبت.
تحياتي ومحبتي

الأديبة زليخة أبو ريشة:
ما أكرمك! شكرا لك. الجيم الاوروبية ايضا أصابها تضعيف وتخفيف كما في الاسبانية بما يشبه حالها في الجيم الخليجية. اما الجيم اليمنية g أفلا يمكن الميل الى انها كذلك في لغة قحطان لا عدنان؟ لاني لاحظت ان المدن الساحلية في اليمن لديها هذه الجيم بينما صنعاء جيمها j ؟ يعني الأقرب إلى الحجاز غير جيمه والأبعد بقي عليها

الدكتورة انعام الور:
نعم، هي في بعض لهجات اليمن وليس جميعها. لا ادري ان كان لذلك علاقة بقحطان وعدنان، سأعود الى الدراسات التي غطت المنطقة واعلمك

وبالنيابة عن إرث الأردن نشكر القامتين العملاقتين على هذا الحوار الشيق وندعو أي مهتم لترك الأسئلة أسفل المنشور للاستزواد من هذا الاثراء اللغوي اللهجي الذي يقدران عليه.

حوارات زليحة & انعام بإرث اللهجة واللغة

 انعام الور.. استاذ مشارك في قسم اللغات واللغويات في جامعة اسكس، المملكة المتحدة وعملت سابقا في جامعة كمبردج وكلية بيركبك، جامعة لندن، وجامعة فيلادلفيا الاردنية. الور باحثة متخصصة في علم اللغة الاجتماعي. تركز ابحاثها على التباين والتغير اللغوي في اللهجات الأردنية، التقليدية منها والحديثة. ومن دراساتها الحديثة بحث ميداني في كيفية تشكّل اللهجة العَمّانيّة اعتمد على تتبع الخليط اللغوي الأصلي في المدينة والذي أظهر نتائج مهمة عن خليط لهجتي السلط ونابلس وتأثيرهما على لهجة عمان اليوم. ترأس حاليا ، بالتعاون مع بروفيسر عباس بن مأمون، تحرير سلسلة كتب متخصصة في مجال اللغويات العربية، تُنشر كتب هذه السلسلة تباعاً من قبل دار بنجامِن للنشر كما ولها العديد من الكتب والأبحاث والمقالات المنشورة. دكتورة انعام الور هي أيضاً مؤسِسة “رواق العربية” في المملكة المتحدة، وتقوم على ادارة برنامجي دراسات عليا في مجال علم اللغة الاجتماعي في جامعة اسكس.

 

 

 


يرصد الكثيرون ظاهرة ابدال الضاد ظاءً او الظاء ضاداً عند الاردنيين. هذه الظاهرة ليست حكراً على الاردنيين ولا هي بالمستهجنة او الغير متوقعة، كما سأبين في سياق هذا المنشور.

يمكن ان يحدث هذا الابدال كلاماً وكتابة، وهنا مثالٌ على كلتا الحالتين لتوضيح المقصود:

ايضاً > ايظاً

ظهر > ضهر

ومع أنَّ هذا الابدال يمكن ان يحدث كلاماً او قراءة او كتابة، فإنَّ الاعتراضات والتعليقات التي يمكن رصدها على صفحات التواصل الاجتماعي، واحياناً في الصحف الالكترونية، تتنبه لهذا الابدال عندما يحدث كتابة أكثر مما تتنبه له وتعترض عليه عند الكلام، وأظن ان سبب الاعتراض على الابدال كتابة بالذات هو ان للعربية نظاما كتابيا واحدا مصمم للعربية الفصحى فقط، فأي انحراف عن قواعد الفصيحة يلفت الانتباه مباشرة.

ولغايات تقديم تحليل علمي لهذه الظاهرة، سأقوم اولاً بشرح مقتضب لتاريخ هذين الحرفين الصامتين[1]، الضاد والظاء، مع التركيز على مراحل تطور الاول منهما، الضاد.

توصف العربية بأنها ‘لغة الضاد’، ولكون اللفظ الحديث لهذا الحرف الصامت هو كالدال المفخمة يعتقد العامة- وأعني بالعامة هنا ‘غير المتخصصين بعلم اللغة’- يعتقدون بأن المقصود من هذا الوصف ان العربية تتفرد بين لغات العالم باحتوائها هذا الحرف كما يلفظ حالياً، أيّ كالدال المفخمة، وهذا الاعتقاد خاطئ في شقيه:

اولاً، الحرف الصامت المقصود في عبارة ‘لغة الضاد’ والذي يكتب {ض} هو اللفظ القديم للضاد، كما وصفه سيبويه في ‘الكتاب’، صوت ‘جانبي احتكاكي ذا زائدة إنحرافية مطبق’. هذا الوصف يبين لنا التالي:

– أنَّ في نطق الضاد الاصلية  شيء من صفات اللام وهي ‘الانحراف’ أيّ أنَّ الهواء يخرج من طرف اللسان

-أنَّ في نطقها اشياء من صفات الظاء حيث يتم تقريب للسان من الثنايا عند اخراجها وبأنها كالظاء مطبقة ورخوة.[2]

 سأرمز الى هذا اللفظ  القديم الأصلي للضاد  بالرمز /ظ ل/ لأن اللفظ الاصلي قريب جدا لهذا التتابع، أيّ { ظ} متبوعة بلام {ل}.[3]

 إذاً الاعتقاد بأن الصوت المقصود في تعبير ‘لغة الضاد’ هو اللفظ الحالي إعتقاد خاطئ تماماً. وللتأكيد على هذه الحقيقة أُضيفُ بأنَّ اللفظ الحالي في الفصحى، أي كالدال المفخمة، لفظٌ سهلٌ على الانسان ان ينطقه من منظور علم الاصوات، كما أنّه موجودٌ بكثرة في اللغات الانسانية، ما يدعم حقيقة ان المقصود في العبارة لا يُعقل ان يكون هو اللفظ الحالي المألوف لدينا.

ثانياً، ظن النحاة القدماء بأن العربية تفرّدت بهذا اللفظ الأصلي القديم، نظراً للتعقيد النسبي في مخرجه وتالياً الصعوبة النسبية في نطقه، وأن الاعاجم لا قدرة لهم على النطق به. ظنّهم بتفرّد العربية به بين جميع اللغات مبالَغ به. الحقيقة أنَّ هذا الحرف، أو حروف مشابهة له، موجودة فعلاً في بعض اللغات القوقازية ولغات هنود شمال امريكا وبعض اللغات الافريقية، وهو ايضاً من ذات المجموعة التي ينتمي اليها الصوت المعروف في اللغة الكلتية الويلزية والذي يُرمز اليه في هذه اللغة بحرفي/ ll/.

أنتقل الآن الى سرد التطورات التي طرأت على هذا الحرف الساميّ العربيّ القديم تاريخيا والذي نرمز اليه كتابة بحرف {ض}، بالاعتماد على التحليلات العلمية المنشورة.[4]

 سأورد هذه التطورات حسب تسلسلها التاريخي وعلى مراحل

المرحلة الاولى:

ربما للعُسرة في نطق الضاد الاصلية، كما أسلفت، فقد تغير هذا النطق منذ قديم الزمان. حسب كوغن (٢٠٠٤) فإن هذا النطق بدأ بالتغيّر منذ القرن الرابع للميلاد. ومما ورد في ‘الكتاب’ لسيبويه عن وجود لفظ سمّاه ‘الضاد الضعيفة’ وكان مستعملاً حينئذ عند العرب يمكننا الاستنتاج بأنَّ اللفظ الاصلي كان فعلاً في طريقه الى الاندماج مع حرف الظاء في القرن الثامن الميلادي.

 وبناءً عليه يمكن تلخيص هذا التغيّر الذي اصاب لفظ حرف الضاد عند العرب كالآتي:

الضاد القديمة والتي كانت تلفظ تقريبا /ظ ل/ تحولت الى /ظ/ وبذلك تكون قد اندمجت كلياً مع حرف الظاء، مما يعني ان كلمات من مثل {ايضا، ضرير، ضلّ، عريض} اصبحت تلفظ {ايظا، ظرير، ظلّ، عريظ}، على الترتيب. وهذا هو اللفظ للضاد الذي نجده في اللهجات الاردنية التقليدية- مثلا السلطية والكركية-، كما نجده في لهجة تونس ولهجة بغداد ولهجة الرياض، الخ.

 فكانت النتيجة إذاً، في المرحلة الاولى، أنَّ اللفظ الاصلي للضاد اختفى تماما من اللهجات العربية عامة – بقاياه استمرت فقط في اللهجات المنعزلة المذكورة في الحاشية ٢ في منطقة عسير، وهو في هذه اللهجات في طريقه الى الاختفاء ايضا كما بينت الابحاث الحديثة. وباختفائه يصبح تعبير “لغة الضاد” مُبْهَم ومُضَلِل بعض الشيء.

المرحلة الثانية:

نتيجة للتغير في المرحلة الاولى اعلاه، اصبحت العربية تحوي صوت الظاء فقط، وجميع الكلمات التي كانت تلفظ بالضاد الاصلية انتقلت لتصبح كلمات تلفظ بالظاء، فباتَ حرف الظاء يحوي مجموعتين من الكلمات: تلك التي بها ظاء اصلية وتلك التي كان بها ضاد تاريخية، كالتالي:

ظ  = ⦗ ظ + ض⦘.

أيّ أنَّ جميع الكلمات التالية اصبحت تُلفظ بحرف ظ :{ضرب، عض، عريض، عوض}؛ اضافة الى الكلمات التي في اصلها تحوي ظاء مثل {ظرف، ظهر، غليظ، ظلام}. ويمكننا تمثيل هذا الاندماج في مجموعة واحدة كالتالي:

كلمات الظاء تضم: {ضلّ، ظلّ، ضعيف، ضرير، ظهر، ظلام، مضمون، ظلم، ضبط، غليظ، غضّ، عضّ، اظافر، الخ}

وبذلك اصبح النظام الصوتي في العربية يضم ثلاثة حروف لثوية او بين-اسنانية (ايّ تلفظ بوضع اللسان بين الاسنان الامامية) احتكاكية، منها اثنان مرققان هما {ث ذ} وواحدٌ مفخّم هو {ظ}، مع ملاحظة ان هذا الاخير المفخّم {ظ} يضم في عضوية كلماته تلك التي اصلها ضاد كما تلك التي بها ظاء أصلية.

مخرج حرف الظاء هو من بين الاسنان، وهو بذلك مطابق تماماً في هذه الخاصية لحروف {ث ذ}، الثاء والذال – يمكن للقارئ/القارئة ان يجرب/تجرب لفظ هذه الأحرف وسيجد/ستجد ان اللسان يُوضع بين الاسنان عند لفظ هذه الاحرف.

نظراً للتشابه الملحوظ في مخرج هذه الحروف الثلاثة، الظاء والثاء والذال، فإنها تشكل ما نسميه في علم اللغة ‘مجموعة طبيعية’. Natural Class (of interdental fricative sounds)

ومن الخصائص الرئيسية المعروفة للمجموعات التي بين افرادها تشابه في المخرج وكيفية النطق، انه إنْ تغيَّر احد اعضائها فإن ذات التغير يُصيب الاعضاء الاخرين في المجموعة، اي انهم يتغيرون بنفس الطريقة، بمعنى آخر انها تتغير جماعياً –  ‘ان تداعى طرف تداعت الاطراف الاخرى’.

وهذا هو بالفعل ما حدث للاصوات العربية التي تلفظ بين الاسنان، فقد تغيّرت جماعياً فانتقلت من كونها بين-اسنانية احتكاكية الى ما يقابلها من اصوات اسنانية انفجارية[5], كالتالي:

{ظ ث ذ} ← {ض ت د}.

 لفظ الضاد الحديث إذاً كان نتيجة لهذا التغير في هذه المرحلة. هنا أصل هذا الصوت الذي نسمعه ونستعمله حديثاً، وهو كما رأينا ليس الصوت/الحرف الأصلي القديم  والذي نسبت العربية اليه كونها ‘لغة الضاد’.

في هذه المرحلة، تغيرت الظاء لتصبح ضاد: ظهر > ضهر. ظ ← ض

من الهام جداً ملاحظة ان كلمات الضاد هنا تحوي كلمات اصلها ظاء كما تحوي كلمات اصلها الضاد الاصلية والتي كانت تُلفظ  /ظ ل/. إذاً المجموعة التي اسميناها اعلاه ‘كلمات الظاء’ اصبحت نتيجة لهذا التغيّر ‘كلمات الضاد الجديدة’ وتضم:

{ضلّ، ظلّ، ضعيف، ضرير، ظهر، ظلام، مضمون، ظلم، ضبط، غليظ، غضّ، عضّ، اظافر، الخ}

بما ان هذا التغير كان جماعياً كما اسلفت، فقد نتج عنه ايضاً أنْ:

تغيّرت الثاء لتصبح تاء: ثاني > تاني. ث ← ت

تغيّرت الذال لتصبح دال: ذنب > دنب. ذ ← د

فاختفت بذلك الاحرف/الاصوات بين-اسنانية{ ظ ث ذ} واندمجت الكلمات التي كانت تحوي هذه الاصوات مع ما يقابلها من مجموعات الاصوات الشديدة {ض ت د}

 تأثرت الكثير من اللهجات العربية بهذا التغيّر اللغوي الذي حدث في المرحلة الثانية، منها على سبيل المثال اللهجات المدنية في منطقتنا: نابلس والقدس ودمشق وحلب وبيروت، كما لهجات القاهرة ومكة وجدة والرباط حيث أُسقطت من هذه اللهجات جميع الاحرف التي تُلفظ بين الاسنان، ايّ ان النظام الصوتي فيها خسر ثلاثة حروف {ظ ث ذ}، بينما لم تتأثر بهذا التغيّر لهجات أخرى مثل اللهجات الاردنية التقليدية واللهجات الفلاحية الفلسطينية حيث ابقت هذه اللهجات على احرف {ظ ث ذ}.

كانت نتيجة التغيرين اعلاه أنْ انقسمت اللهجات العربية الى نوعين:

النوع الاول: لهجات تحوي اصوات بين- اسنانية ، {ظ  ث  ذ}. ولا تحوي {ض}. كما في لهجات السلط والكرك وعجلون

النوع الثاني: لهجات خالية من الاصوات بين-اسنانية حيث اندمجت هذه مع الاصوات الاسنانية، {ض ت د}

نستنتج اذاً انه وبالنسبة للحرفين {ظ} {ض} فإن اللهجات العربية تحوي واحد منهما فقط وليس كليهما معاً: إما {ظ} –كما في السلطية- وإما {ض} –كما في النابلسية- وأنْ لا لهجة عربية معاصرة تحوي الصوتين {ظ} {ض} معاً.

ننتقل الآن الى شرح الحالة الاردنية:

تنتمي اللهجات الاردنية التقليدية الى النوع الاول (انظر/ي اعلاه) مما يعني ان الفرد الذي نشأ في محيط عائلي يتحدث احدى اللهجات الاردنية التقليدية لا يكتسب صوت ال {ض} على السليقة ممن حوله، حيث ان من حوله يتحدثون لهجة لا تحوي هذا الحرف. يأتي هذا الفرد على اكتشاف هذا الصوت عندما يبدأ التعليم الرسمي في المدرسة، حوالي عمر ٦ سنوات. ويكون الفرد في هذا العمر قد اكتسب تماما واتقن لغته الأم، اي اللهجة التي تحدّث بها والديه. وبما ان اللهجة الام في هذه الحالة لا تحوي {ض}، يتحتم عليه انْ يتعلم كيفية النطق بهذا الصوت اولا ومن ثم محاولة اعادة توزيع/فصل الكلمات التي تلفظ في لهجته الام {ظ} الى مجموعتين واحدة تُلْفَظ كلماتها {ظ} وأخرى تُلفَظ كلماتها  بهذا الصوت الجديد الذي تعلّمه في المدرسة {ض}، وهذا التوزيع يكون حسب قواعد العربية الرسمية التي تُدرّس وتُكتَب ولكنه لا يتحدثها على السليقة. فيتحتم عليه اذاً ان يتعلم هوية كل كلمة تحوي هذين الصوتين على حدا، بحيث يَنقل الى مجموعة الصوت/الحرف {ض} كلمات من مثل {عريض ضابط  ضلع  أيضاً}، ويُبْقي على كلمات من مثل {ظهر ظلام} في مجموعة حرف ال {ظ}. عملية الفصل هذه معقدة جداً من ناحية علمية وتعتمد على الحفظ والتذكّر، لا على تطبيق قاعدة ما، فلا يوجد قاعدة يمكن اتباعها من اجل فصل هذه الكلمات. لذا من غير المستغرب، بل من المتوقع، ان يتم الخلط بين هذين الحرفين اذا اضطر الفرد ان يستعمل كليهما، مثلا عند كتابة العربية الفصحى.

وحتى يكون تحليلنا شاملاً، وجب النظر الى النوع الثاني من اللهجات، اي تلك التي ليس بها حروف {ظ ث ذ}، وتتأتى اهمية تحليل هذا النوع بالنسبة للظاهرة التي نناقشها في هذا المنشور من الحقائق التالية:

  • اللهجات الاردنية التقليدية حالياً في طريقها الى التحول من النوع الاول الى النوع الثاني، كما بينت في ابحاثي بالنسبة للهجات مُدُن السلط وعجلون والكرك[6]. كما ان لهجة عمّان تنحى الى ان تُصبح من النوع الثاني.
  • مع الاخذ بعين الاعتبار ان الانتقال من النوع الاول الى النوع الثاني هو انتقال طبيعي حسب مبادئ علم اللغة، ما دعم هذا التحول المشار اليه في بند ١ هو وجود اعداد كبيرة من المتحدثين باللهجات المدنية الفلسطينية في المدن الاردنية. فلهجة عمّان مثلاً هي نتاج تواصل وتفاعل بين لهجات اردنية تقليدية ولهجات مدنية فلسطينية.[7]
  • أن المتحدثين بهذه اللهجات ايضاً يخلطون بين الضاد والظاء، حيث يقلبون {ظ} الى {ض}، محتكمين بذلك الى قواعد لهجتهم الام التي لا تحوي اصوات تلفظ بين الاسنان

الطفل الذي ينشأ في محيط يتحدث لهجة من النوع الثاني، أيّ لا تحوي ايٍ من الاصوات بين-اسنانية {ظ ث ذ} ربما يواجه معضلة اكثر تعقيدا من الحالة التي شرحناها اعلاه. هنا يكتشف هذا الطفل في المدرسة ان ثمة اصوات ثلاثة تحويها لغة الدراسة ولكنها ليست موجودة في لهجته الأم وهي {ث ذ ظ}الثاء والذال والظاء. عليه إذاً ان يمر بذات المرحلة التعليمية كما الطفل في المثال الاول اعلاه، ولكن مكررة ثلاث مرات، حيث أنَّ عليه:

  • تعلّم نطق ال {ث}، وفصل المفردات التي في اللغة التي تعلمّها على السليقة من والديه تحوي {ت} فقط، الى مجموعتين. فكلمات مألوفة لديه، مثل {ثالث مثلاً ثعلب  ثور} عليه نقلها الى مجموعة حرف ال {ث} الذي لا يستعمله في لهجته، والابقاء على كلمات من مثل {تعال تلعب اترك كتب} في مجموعة حرف ال {ت}
  • تعلُّم نطق {ذ}، والقيام بعملية الفصل كما اعلاه
  • تعلُّم نطق {ظ}، والقيام بذات العملية في إعادة توزيع المفردات

في هذه الحالة الاعتماد يكون ايضاً على التذكّر والحفظ، فلا يوجد قاعدة يُمكن تعميمها حتى تُفصل هذه المجموعات حسب النسق الموجود في العربية الرسمية الفصيحة.

يمكننا رصد تداعيات هذه الحالة بوضوح إذا نظرنا الى المجتمعات العربية التي بها لهجات من نوع واحد فقط، مثل القاهرة والرباط وتونس.  في حالة الرباط، من الملاحظ ان الابدال يصيب جميع هذه الاصوات {ظ ث ذ} حتى عند القراءة، فتقرأ الثاء تاء والذال دالا، والظاء ضاداً؛ وفي القاهرة  تبدل الثاء اما تاء او سيناً {ت، س}، الذال اما دال او زاي {د ز}، الظاء اما ضاد او زاي مفخمة. واما اعلاميو تونس، وهي لهجة من النوع الاول مثل الاردنية التقليدية، فإنهم يقرأون ال {ض} ظاداً. هذا الوضع في الحقيقة لا يختلف نوعياً عما نجده عند الفرنسيين او الألمان عندما يتحدثون الانجليزية. فالفرنسية والالمانية تشبهان النوع الثاني من اللهجات العربية حيث لا تحويان {ث ذ}، ولكن الانجليزية تحوي هذه الاصوات. أحيانا كثيرة يلفظ الفرنسي مثلا الكلمة الانجليزية

 the > za

والملاحظة الاخيرة التي أود شرحها حتى يكون التحليل الذي أُقدمه معبراً قَدَر الامكان عن الواقع هي التالية. قد يلحظ القرّاء الكرام ان المتحدثين من الاردنيين او الفلسطينيين ممن اكتسبوا النوع الثاني من اللهجات، اي التي ليس بها مجموعة {ظ ث ذ} لا يُظهرون صعوبة في فصل الاحرف المرققة، اي {ت/ث د/ذ} حين يتحدثون العربية الفصحى مثلاً او حين يقرأون، ولكن الخلط عند الحديث يكون فقط في حالة الحرفين المفخّمين {ض/ظ}، وهذه الملاحظة  صحيحة تماماً. السبب في هذا الفرق من التمكّن في حالة الاحرف المرققة وعدمه او انخفاضه في حالة الأحرف المفخمة {ض ظ} برأيي هو التالي.[8] إنَّ وجود النوعين من اللهجات، الاول والثاني، في المجتمعين الاردني والفلسطيني ربما يسهّل عملية الفصل عند المتحدثين باللهجة المدنية والتي ليس بها {ث ذ}، حيث انهم يسمعون هذه الاصوات غير مدموجة مع {ت د} باستمرار ممن حولهم من المتحدثين بلهجات النوع الاول –مثلا الذي اكتسب اللهجة النابلسية او العكّاوية او المقدسية واللواتي من النوع الثاني ولا يحوين{ث ذ}  يتعامل باستمرار او يسمع مِن حوله متحدثين بلهجات من النوع الاول، كاللهجات القروية الفلسطينية او اللهجات التقليدية الاردنية والتي فيها {ث} مفصولة عن {ت}و{ذ} مفصولة عن{ د}، كما في {ثاني تعب} و {ذهب دار}. إذاً من اعتاد ان يقول {تاني} يسمع في مجتمعه افرادا يلفظون هذه الكلمة {ثاني} وبما انها ايضاً تُكتب {ث} يُسهّل ذلك عملية الفصل بنجاح ودقة-وذات الشيء ينطبق على {ذهب}{دهب}. هذه الممارسة اليومية في مجتمعاتنا ينتج عنها اولاً أُلفة بهذه الاصوات تساعد على تعلمّها دونما مشقّة وثانياً وهو الاهم يتطور شيئاً فشيئاً نوع من الحدس الطبيعي يعّوض في نهاية المطاف عن نتائج عدم اكتساب الاصوات {ث ذ} في الصغر، ويساعد على فصل هذه الاحرف بنجاح ودقة  عند الحاجة لذلك –في الكتابة او الخطابة مثلا. التعليم الرسمي قطعاً يُعين على ذلك ولكنه غير كافٍ، ولو كان كافياً لما استصعب الرباطيون الذين يقرأون النشرات الاخبارية الفصل بين هذه الأحرف. وأما إذا نظرنا الى الوضع بالنسبة للاحرف المفخمة {ض ظ} فإن الحالة مختلفة تماما: كما أسلفت، فلا المتحدثين بالنوع الاول ولا المتحدثين بالنوع الثاني من اللهجات يستعملون هذين الحرفين سوية ومفصولين في لهجاتهم الام، كما في الفصحى. فلا يتأتى للعمّانيين من اي اصول لهجية كانوا ولا للسلطيين ولا للكركيين سماع وأُلفة الصوتين مفصولين بشكل يومي ومن خلال التواصل اللغوي العادي بين افراد مجتمعهم، فهم يسمعون هذين الصوتين مخلوطين دائما، ولا يأتون عليهما مفصولين الا حين قراءة العربية الفصحى او سماعها.

في جملتي الأخيرة، وعودة الى الموضوع الأساسي، الظاهرة التي دعتني لكتابة هذا المنشور، أقول: إن من يخلط بين الصوتين {ض} و {ظ} لا يقترف خطأ لغوياً كما يظن البعض، وانما يُعيد انتاج ذات التباين الموجود في العربية منذ لا يقِلّ عن ستة عشر قرناً، وربما أكثر، ولا يختلف في ذلك البتّة عمن يخلط {ث}و{ت} او {ذ} و{د} او {ج شديدة} و {ج رخوة}.
———————————————————————————————
الحواشي

[1] تقّسم الاصوات في علم اللغة الى١.  صامتة: ض، ظ، ت، ث، ع، خ، د، ذ الخ. ٢. مصوّتة او معلولة وتضم هذه ما نسميه في العربية ‘الحركات’ اي احرف العلّة القصيرة فتحة وضمة وكسرة، كما تضم احرف العلّة الطويلة كالألف الممدودة والكسر الطويل والضم الطويل. يقابل هذا التقسيم في الانجليزية لفظي

 consonant, vowel

[2] لا زال هذا النطق، او نطق شبيه به، موجود في منطقة عسير (رجال ألمع مثلاً) ولهجات قحطانية في قريتي الفرشة والجوّا في عسير ايضاً، كما اثبتت عدة ابحاث حديثة ومنها رسالة دكتوراة قمت بالاشراف عليها للدكتورة خيرية القحطاني

[3] للقرّاء ممن على دراية بالكتابة بنظام الرموز الصوتية العالمي في علم اللسانيات فإنه الصوت الذي يرمز اليه هكذا: /ɮˤ/

ويسمّى

lateral fricative (emphatic)

[4]

الدراسات التي بحثت في تاريخ هذا الصوت متعددة وتعود الى القرن التاسع عشر، منها:

لبسيوس ١٨٦١،  يوشمانوف١٩٢٦، كوهين ١٩٢٧، كولين ١٩٣٠، كانتينو ١٩٦٠، شتاينر ١٩٧٦، كورينتي ١٩٧٨، الجندي ١٩٨٣، ولي بحث منشور عام ٢٠٠٤ في ذات الموضوع

[5] وهذا تغير معروف وسائد في لغات العالم، حيث ان الاصوات الاسنانية الانفجارية أسهل نطقا من  اللثوية بين-اسنانية. يمكن للقرّاء الملاحظة بأنَّ الاطفال الصغار طالما يستصعبون لفظ الثاء فيقلبونها فاء او تاء، ويحدث ذات الشيء عند الاطفال الانجليز في الصغر حيث يقلبون الكلمات هكذا:

teeth >teef; thank you >fank you

[6] Al-Wer 1991, 1999, 2007. كما بيّن ذلك في بحثه الدكتور محمود الخطيب عن مدينة اربد ١٩٨٨

[7] اضافة الى التواصل مع اللهجات المدنية الفلسطينية كسبب رئيسي للتحول كان التواصل موجودا منذ عقود ايضا مع لهجات دمشق وبيروت، والتي ايضا تُصنّف من النوع الثاني

[8] قدّمت شرحا وافياً بالاعتماد على بحث ميداني لهذه الظاهرة، للمهتمين يمكن قراءة التفاصيل في منشوري عام ٢٠٠٤


تقّسم الاصوات في علم اللغة الى١.  صامتة: ض، ظ، ت، ث، ع، خ، د، ذ الخ. ٢. مصوّتة او معلولة وتضم هذه ما نسميه في العربية ‘الحركات’ اي احرف العلّة القصيرة فتحة وضمة وكسرة، كما تضم احرف العلّة الطويلة كالألف الممدودة والكسر الطويل والضم الطويل. يقابل هذا التقسيم في الانجليزية لفظي

 consonant, vowel

 لا زال هذا النطق، او نطق شبيه به، موجود في منطقة عسير (رجال ألمع مثلاً) ولهجات قحطانية في قريتي الفرشة والجوّا في عسير ايضاً، كما اثبتت عدة ابحاث حديثة ومنها رسالة دكتوراة قمت بالاشراف عليها للدكتورة خيرية القحطاني

 للقرّاء ممن على دراية بالكتابة بنظام الرموز الصوتية العالمي في علم اللسانيات فإنه الصوت الذي يرمز اليه هكذا: /ɮˤ/

ويسمّى

lateral fricative (emphatic)

الدراسات التي بحثت في تاريخ هذا الصوت متعددة وتعود الى القرن التاسع عشر، منها:

لبسيوس ١٨٦١،  يوشمانوف١٩٢٦، كوهين ١٩٢٧، كولين ١٩٣٠، كانتينو ١٩٦٠، شتاينر ١٩٧٦، كورينتي ١٩٧٨، الجندي ١٩٨٣، ولي بحث منشور عام ٢٠٠٤ في ذات الموضوع

 وهذا تغير معروف وسائد في لغات العالم، حيث ان الاصوات الاسنانية الانفجارية أسهل نطقا من  اللثوية بين-اسنانية. يمكن للقرّاء الملاحظة بأنَّ الاطفال الصغار طالما يستصعبون لفظ الثاء فيقلبونها فاء او تاء، ويحدث ذات الشيء عند الاطفال الانجليز في الصغر حيث يقلبون الكلمات هكذا:

teeth >teef; thank you >fank you

 Al-Wer 1991, 1999, 2007. كما بيّن ذلك في بحثه الدكتور محمود الخطيب عن مدينة اربد ١٩٨٨

 اضافة الى التواصل مع اللهجات المدنية الفلسطينية كسبب رئيسي للتحول كان التواصل موجودا منذ عقود ايضا مع لهجات دمشق وبيروت، والتي ايضا تُصنّف من النوع الثاني

 قدّمت شرحا وافياً بالاعتماد على بحث ميداني لهذه الظاهرة، للمهتمين يمكن قراءة التفاصيل

 قدّمت شرحا وافياً بالاعتماد على بحث ميداني لهذه الظاهرة، للمهتمين يمكن قراءة التفاصيل في منشوري عام ٢٠٠٤

Continue reading “قضايا لغوية: الظاء والضاد”

قضايا لغوية: الظاء والضاد

ما هي لهجة عمان؟ من هم روادها؟ كيف تختلف عن لهجات روادها؟ كيف يتوقع تبلورها؟ 

30 عام من البحث بلهجات الأردن عموماً ولهجة عمان خصوصاً تستعرض أهم نتائجها الدكتورة إنعام بهذا الجزء من المحاضرة لمن فاتتهم المحاضرة, هذا الجزء الثالث والأخير

نعتذر عن الجودة التقنية, لم يكن لدينا كادر اعلامي بوقت المحاضرة

انعام الور ، استاذ مشارك في قسم اللغات واللغويات في جامعة اسكس، المملكة المتحدة وقد عملت سابقا في جامعة كمبردج وكلية بيركبك، جامعة لندن، وجامعة فيلادلفيا الاردنية.

الدكتورة الور باحثة متخصصة في علم اللغة الاجتماعي. تركز ابحاثها المنشورة بمقالات وكتب على التباين والتغير اللغوي في اللهجات الأردنية، التقليدية منها والحديثة. ومن دراساتها الحديثة بحث ميداني في كيفية تشكّل اللهجة العَمّانيّة اعتمد على تتبع الخليط اللغوي الأصلي في المدينة والذي أظهر نتائج مهمة عن خليط لهجتي السلط ونابلس وتأثيرهما على لهجة عمان اليوم.

ترأس حاليا ، بالتعاون مع بروفيسر عباس بن مأمون، تحرير سلسلة كتب متخصصة في مجال اللغويات العربية، تُنشر كتب هذه السلسلة تباعاً من قبل دار بنجامِن للنشر كما ولها العديد من الكتب والأبحاث والمقالات المنشورة.

دكتورة انعام الور هي أيضاً مؤسِسة “رواق العربية” في المملكة المتحدة، وتقوم على ادارة برنامجي دراسات عليا في مجال علم اللغة الاجتماعي في جامعة اسكس.

ما هي لهجة عمان

ما علاقة نقوش الصفاوي باللهجات الأردنية واستمراريتها ليومنا الحالي؟

لمن فاتتهم محاضرة الدكتورة إنعام الور, هذا الجزء الأول
نعتذر عن الجودة التقنية, لم يكن لدينا كادر اعلامي بوقت المحاضرة

ما علاقة نقوش الصفاوي بأصل اللغة العربية؟

Scroll to top