صورة للجزء الشرقي من العاصمة عمان ، تصوير : David Bjorgen

مقدمة

كانت عمان منذ القدم حاضنة بواكير التحضر والمجتمعات الإنسانية، فقد منح نهرها الأرض خصوبة تجعلها كنزاً طبيعياً، ذلك النهر الذي امتد من رأس العين مروراً بعين غزال، ليصب في نهر الزرقاء، فرسم خط التواجد الحضاري الزراعي للأردنيين الأوائل حول مجراه، وكما كانت أوديتها مفعمة بالحياة، كانت جبالها محطّ الأنظار منذ القدم، فترى عمان تتربع على عرشها العالي، والذي يتكون من 7 جبال تشكل جبال عمان السبعة، وتُطلق هذه التسمية على سلسلة التلال التي شكلت فيما مضى ما يعرف حالياً بشرق العاصمة عمان، والتي كانت أساس العاصمة حتى بداية ثمانينيات القرن الماضي، حين بدأت العاصمة بالتوسع بشكل كبير نحو الغرب، وهذه الجبال هي: القصور، الجوفة، التاج، النزهة، النصر، النظيف، الأخضر.

أما بخصوص مناخ تلك المناطق، فيعتمد ذلك على إرتفاع المنطقة، إذ يبلغ مُعدل إرتفاع تلك الجبال قُرابة 825 متراً عن سطح البحر، وتمتد من إرتفاع 750 متراً وحتى 870 متراً. ويبلغ مُجموع الأمطار السنوي في تلك المناطق قرابة الـ375 ملم. أما مُعدل درجة الحرارة العظمى في شهر آب فيبلغ 31 مئوية وفي شهر كانون ثانٍ يبلغ 11 مئوية لنفس الإرتفاع. وفي وسط عمان يتربع الجبل الأخضر، كجارٍ للنهر يحمي منبعه، فيشكل مع بقية جبال عمان مزية مهمة لها ، تعطيها نوعاً من الحماية الطبيعية كما تؤثر في مناخها  لتجعله أكثر رطوبة واعتدالاً.

الموقع والخصائص الجغرافية

نشأت عمان على حافة الصحراء الأردنية في كلتقى ما بين الأخضر والأصفر ما بين الصحراء والسهل وفي رقعة انتقالية تربط بين الإقليمين، الصحراوي والمتوسطي شبه الرطب ، وفي الوقت الذي كانت فيه أودية عمان تمتاز بالخصب نتيجة مرور سيل عمان فيها، ونتيجة لكثرة العيون المائية، كانت جبال عمان دوماً يانعة وخضراء تتلقى نسبة من الهطولات المطرية العالية تساهم في خصوبتها، واعتدال مناخها.

وفي المنطقة الوسطى من عمان يقع الجبل الأخضر، ولعل اسمه يوحي بطبيعته الخصبة النابضة بالحياة ، وهو من أكثر جبال عمان ميلاً وانحداراً، ويصل ارتفاعه في أعلى مناطقه إلى  890 م، وهو يحاذي منطقة رأس العين التي كانت منبع نهر عمان أو ما يسمى بمية عمان، الأساس الذي قامت حوله نواة مدينة عمان الحديثة، التي توسعت لاحقاً واستقبلت المهاجرين الشراكسة.

منطقة الجبل الأخضر – خرائط جوجل

التقسيم الإداري

بدأت مدينة عمان الحديثة عام 1921 كمدينة صغيرة تقوم على الزراعة وتنتج كميات من الحبوب والخضراوات، لكنها توسعت بشكل سريع جداً عقب إعلانها عاصمة لإمارة شرق الأردن فبدأ السكان بالتوافد إليها من داخل الأردن وجواره، و كانت حينها تشتمل على مناطق القلعة واللويبدة وجبل عمان والأشرفية والجوفة، وشيئا فشيئا بدأت تحول نشاطها الأكبر من الزراعة إلى النشاط التجاري، واستمرت المدينة بالتوسع مع تدفق اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة، وكان التزايد في أعداد المهاجرين إلى عمان نتيجة الهجرة الاختيارية أو القسرية  يفرض التوسع في حدود المدينة فاتسعت حدودها الإدارية لتشمل بالإضافة إلى السفوح المطلة على الأودية، أعالي الجبال، ودخل الجبل الأخضر في حدود عمان في التوسعة الثالثة خلال الأعوام  (1959-1968)، أما في الوقت الحاضر فيتبع الجبل الأخضر في التقسيم الإداري لأمانة عمان لواء قصبة عمان، كحيّ من أحياء منطقة بدر التي يبلغ عدد سكانها حسب التعداد العام للسكان والمساكن لعام (2015) 229308 نسمة.

الكثافة السكانية

على الرغم من خصوبة التربة في الجبل الأخضر، ونسب الهطولات العالية وإن كانت غير منتظمة، وعلى الرغم من أنها بيئة ملائمة للزراعة، حال التوسع العمراني دون استغلال هذه الأرض بالزراعة، فتحول الجبل إلى منطقة سكنية ذات كثافة سكانية عالية، نظراً لقربه من وسط المدينة، الذي شكل بؤرة التوسع السكاني، إذ تتوافر معظم المرافق والخدمات و تنتشر الأسواق الشعبية التي يعمل فيها قطاع عريض من أبناء المجتمع وفئاته، ونظراً للكثافة السكانية فإن تنظيم المباني والسكن فيها يتبع للقطاعين (ج) و (د)، بيوت صغيرة المساحة، ومتقاربة بشكل كبير.

العمران

كانت بيوت الجبل الأخضر في بداية التوسع العماني إسمنتية بسيطة، ثم ازدادت أشكالها تعقيداً وتطوراً مع التوسع بعيداً عن مركز المدينة، وازداد بناؤها متانة وصار الحجر ومواد البناء الحديثة تدخل في بنائها، ولا يزال الجبل الأخضر محتفظاً بالإضافة إلى المباني الحديثة ببيوته القديمة، في بعض حاراته وأحيائه كحي العماوي، وكثير من هذه البيوت بحاجة إلى ترميم لاستدامتها، خصوصا أنها ما تزال مأهولة بأصحابها .

 وتتميز المنطقة المنحدرة من الجبل بأدراجها القديمة الطويلة التي تقطع مناطق مختلفة من الجبل هبوطاً إلى سفوحه، فتوفر وسيلة مناسبة للتنقل في المناطق المنحدرة بأمان حتى الوصول إلى مناطق عمان الأخرى، وتتفاوت هذه الأدراج في عمرها وشكلها ومواد بنائها، فمنها القديمة الخرسانية التي تعرضت لتأثيرات كثيرة بفعل عوامل  الزمن جعلتها بحاجة إلى الترميم، ومنها التي بنيت من الحجر لتكون قادرة على الصمود مدة أطول.

 ولهذه الأدراج قيمة عالية فهي تشهد لعمان بهويتها الجبلية، وفي هذه الأيام تحظى الأدراج القديمة بمحاولات للعناية بها وتجميلها من قبل أمانة عمان وبعض الشباب المبادرين، لتصبح مظهراً فنياً بالإضافة إلى كونها مظهراً تاريخياً، أدراج بقيت قائمة منذ عقود لتوثق نشأة عمان الحديثة وتوسعها وتطورها .

المراجع

صالح،حسن1980 : مدينة عمان دراسة جغرافية منشورات الجامعة الأردنية

موسى،سليمان 1985:عمان عاصمة الأردن ، منشورات أمانة عمان

 مجموعة مؤلفين ، واقع الزراعة الحضرية في مدينة عمان ، منشورات مؤسسة ruaf

http://alrai.com/article/10443242/محليات/أدراج-عمان-ارث-عريق-ومقصد-لاختصار-أزمات-وسط-البلد تم النشر في 8-7-2018

جبال عمان السبعة – الجبل الأخضر

مقدمة

من أعلى مشارف عمان، يطل  كتميمة قديمة تحرس الوادي، ذلك الجبل الذي حفظ آثار عصور كثيرة مرت وعهود طويلة من الحضارة، و شهد تحولات كثيرة، واحتضن الرجاءات لآلهة اتخذه مؤمنوها معبداً لهم، فكان جبل القلعة محضناً لآمال الأردنيين الأوائل فمن معبد ملكوم إلى هيكل هرقل، معابد تبنى على بقايا معابد، ومن الكنائس البيزنطية إلى المساجد الأموية، عصور من التاريخ الحافل لم يتوقف دفقها مطلقاً .

معبد هرقل -موقع رحلاتك

الموقع والتضاريس

يطل جبل القلعة، المسمى أيضاً بجبل الطهطور (الرجم)  على منتصف وادي عمان، تحيط به الأودية من جهاته الثلاث ويتصل بالهضبة (جبل الحسين) من الجانب الشمالي ، مما يكسبه حماية طبيعية، تجعل من الوصول إلى قمته أمراً شاقاً، ويحرك موازين القوة لتتركز في يد المقيم في الجبل، لذلك كان محط أنظار كثير من الشعوب والقوى التي حاولت التوسع على مر العصور.

عصور ما قبل التاريخ

شهد جبل القلعة تراكمات آثارية امتدت من عصور ما قبل التاريخ وصولاً إلى يومنا هذا، فقد عثر فيه على كهف عائد إلى العصر البرونزي يعتقد أنه كان يستخدم كمدفن آنذاك، ويحتوي على أكثر من قبر، كما تشير البقايا الأثرية إلى وجود مدينة عامرة في جبل القلعة في العصر الحديدي الأول، ما يزال جزء منها قائماً في الزاوية الشمالية الشرقية .

الأردنيون العمونيون في جبل القلعة

أقام الأردنيون العمونيون في عمان منذ سنة 1200 وحتى 332 ق.م، واتخذوها عاصمة لدولتهم وأطلقوا عليها اسم ربة عمون، التي وصفت في التوراة بأنها المدينة الملكية أي العاصمة، ومدينة المياه، نسبة إلى مياهها المتدفقة من العيون والسيل، وقد كانت المدينة مؤلفة من جزأين : المدينة السفلى وهي القائمة على ضفاف السيل، يمارس الناس فيها الرعي والزراعة والتجارة، والمدينة العليا: وهي القائمة على جبل القلعة، وترتفع نحو 130 متراً عن السيل، وتضم مقر الحاكم والقصور والمعابد ومساكن المواطنين، وقد احتوت على نظام لتخزين الماء في آبار وبرك محفورة في الأرض تصل بينها قنوات مائية تعتمد على مياه المطر وتستخدم احتياطاً في حالات الحصار، وتمكن الأردنيون العمونيون من ربط المدينة العليا بخارجها عن طريق ممرات سرية، ويذكر أن السلوقيين فشلوا في حصارهم لربة عمون حتى توصلوا عن طريق الأسرى إلى معرفة سر السرداب الذي يعتمد عليه أهل القلعة في توفير المياه، وقد كانت المدينة محصنة بأسوار عالية، وأبراج للمراقبة.

وأظهرت التنقيبات والحفريات وجود كثير من الآثار العمونية المهمة في جبل القلعة، ومن أبرزها قبر الملك العموني عمي ناداب، وكتابة تذكر بناء هيكل للإله العموني ملكوم، وعثر أيضاً على أربعة رؤوس حجرية متشابهة في الشكل والحجم يعتقد أنها كانت في أحد المعابد الدينية، وقد تمثل للعمونيين آلهة شبيهة بالآلهة عشتار التي عبدها السوريون القدماء، كآلهة للخصب والأمومة والشرف.

اليونانيون في جبل القلعة 

خضعت عمان للحكم اليوناني طيلة ثلاثة قرون (330-63 ق.م) وأعاد الملك بطليموس الثاني فيلادلفيوس إعادة إعمار ربة عمون وأطلق عليها اسم فيلادلفيا نسبة إليه، وتعني مدينة الحب الأخوي، وكانت إحدى مدن الديكابوليس العشرة التي تمتلك حكمها الذاتي وتسيطر على المناطق المجاورة لها.

وتعود بقايا الأسوار الموجودة حالياً في الشمال الغربي من جبل القلعة إلى العهد اليوناني، وترتفع حوالي 22 مدماكاً أي 22 صفاً أفقياً من الحجارة الكبيرة المستخدمة في البناء، حيث كان السور يمتد شمالاً نحو 50 متراً، وجنوباً نحو 100 متر، وقد أقيمت الأسوار من الناحية المتصلة بالهضبة لتأمين الحماية اللازمة لها .

الرومان في جبل القلعة 

شجع الرومان بناء وتعمير المدن التي اختصها اليونانيون باهتمامهم ومنها عمان، فبنوا فيها كثيراً من مرافقهم وتركوا كثيراً من الآثار في جبل القلعة، ومن أبرز هذه الآثار هيكل هرقل الذي صمم بطريقة مماثلة لطراز الهياكل الأخرى، التي تتميز بفخامة بنائها وعلوها الشاهق إذ كان الهيكل يمتد 22 متراً من الشرق إلى الغرب و52 متراً من الشمال إلى الجنوب  وكانت أروقته الخارجية تنتصب على صفين من الأعمدة طول كل عمود منها تسعة أمتار وقطره متر ونصف، وفوق هذه الأعمدة تيجان من الطراز الكورنثي، ينتصب إلى جانب الهيكل تمثال لهرقل وقد كلل رأسه بالغار ولفّ على عنقه جلد أسد ليظهر جبروته، ولا يقل طول هذا التمثال عن 30 قدماً، ففي الحفريات عثر على قطعتين من المرمر وفخذ إنسان ضخم يعتقد أنها تعود للتمثال، ويرى بعض الباحثين أن هذا الهيكل قائم على أنقاض هيكل أنشأه الأردنيون العمونيون لإلههم ملكوم .

ومن أهم الآثار التي عثر عليها في بعض التنقيبات  تمثال للآلهة تايكي حارسة عمان وحاميتها تحمل على رأسها مجسماً للقلعة، وتايكي هي آلهة الحظ السعيد والنجاح والازدهار عند الرومان  .

وعندما أصبحت الديانة المسيحية هي الرسمية للدولة الرومانية تحولت المعابد الوثنية إلى كنائس وإبراشيات ، وذلك ما حصل للمعبد الذي أنشئ في العصر الروماني للآلهة فينوس (الزهرة) وتحول فيما بعد إلى كنيسة العذراء ، وقد هدمته الزلازل عام 747 م .

الأمويون في جبل القلعة

  بعد قرون طويلة من تغيير اسمها استعادت عمان اسمها الأصيل الذي لم يغب عن قلوب الأردنيين الأوائل من سكانها .

وقد شهدت عمان ازدهاراً كبيراً في العصر الأموي ، إذ كان يؤمها كثير من الخلفاء، كما وجدت بيوت أموية كثيرة  في جبل القلعة شيدت من الطين والحجارة تحتوي على أدوات عديدة كالمباخر والقدور والقوارير والأباريق، وبعض النقود النحاسية .

ومن أبرز الآثار الأموية في جبل القلعة القصر الذي يحتوي ثلاث مناطق رئيسية، الأولى وهي المسماة  بالديوان العام، وهي فضاء واسع فيه حوض ماء كبير يؤدي إلى صالة استقبال أخذت حجارتها من مبانٍ رومانية قديمة، وزينت جدران الصالة الداخلية بزخارف ورسومات طغى عليها الطابع الإسلامي، تتوسطها قبة خشبية أو حجرية هدمت بفعل الزلازل، وجرى ترميمها حديثاً .

وفي المنطقة الأولى كان الوالي يستقبل ضيوفه المهمين وكبار الوزراء، أما المنطقتان الثانية والثالثة فتتوزع فيهما مبانٍ مختلفة لبيوت وقصور كان الوالي يقيم فيها مع عائلته، ويتصل بالقصر الأميري صالة العرش التي لا يدخلها سوى حاشية الوالي، وهناك حجرة أخرى بجوارها تتصل بباب صالة الاستقبال .

القصر الأموي في جبل القلعة – ويكيميديا

الأيوبيون في جبل القلعة

كانت عمان تحتل مكانة مهمة لدى الأيوبيين وكانت موطناً لتجمع الجيوش الأيوبية في معركة حطين خاصة، ومن آثارهم في جبل القلعة البرج الجنوبي وهو البرج الوحيد المتبقي من سور القلعة، وقد أعيد بناؤه في العصور من حجارة مختلفة النحت والشكل والوضع، ويبدو من هذا البرج مشهد المدينة السفلى، وخصوصاً المدرج الروماني .

حاضر جبل القلعة

ما تزال مكانة جبل القلعة حاضرة في وجدان الأردنيين، إذ إنهم لا يزالون يتطلعون إليه بوصفه قطعة عظيمة من تاريخهم، تحظى بأهمية خاصة، فنرى الروائي زياد قاسم يكتب رواية ” أبناء القلعة ” التي يظهر فيها تفاصيل حياة أهل الجبل مضفياً عليها نوعاً من الارتباط العميق بالمكان، كما نرى أن مدفع الإفطار الرمضاني ما يزال يطلق من أعلى قمة في جبل القلعة ، ليعيد مع صداه حكاية سلسلة من التتابع الحضاري العظيم .

المصادر والمراجع

الصفدي ، علي (2006) ، درج فرعون الشاهد التاريخي سيرة عمان في الخمسينيات ، مطابع الدستور

العابدي ،محمود (2002) ، عمان ماضيها وحاضرها ، منشورات أمانة عمان

أبو عريضة، محمد (2013) ، أسرار عمان تحقيقات في ذاكرة المدينة ، فضاءات للنشر

غوانمة ، يوسف (2002) ، عمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية ، دار الفكر

الكردي ، محمد (1999) ، عمان تاريخ حضارة وآثار المدينة والمحافظة ، دار عمار للنشر

الموسى ، سليمان (2010 ) ، عمان عاصمة الأردن ، منشورات أمانة عمان

جبل القلعة

مقدمة

من بين أشجار الزيتون المعمرة، والسنديانات العتيقة المتراصة كتفاً إلى كتف كما كان الأردنيون دوماً، تطل جبال الشمال كراية شامخة، تقف في وجه الريح بلا وجل، جبال كانت على مرّ العصور حصناً منيعاً لمن لاذ بها، ومنطلقاً للأردنيين المدافعين عن أرضهم في كل حين، ومن سوف الجرشية يخطف جبل المنارة بصر الناظرين بعلوّه وخضرته وربيعه الأبدي الذي تضفيه عليه أشجار الزيتون، فتجعله أسطورة من الجمال الساحر.

جبل المنارة – صورة من صحيفة الدستور

الموقع والتسمية

يقع جبل المنارة في جرش وتقوم على سفحه مدينة سوف العريقة، وهو من أعلى جبال المنطقة إذ يتراوح ارتفاعه ما بين 1184 و1230 م، ويروى أن تسميته جاءت من ارتفاعه الشاهق الذي كان الأردنيون السوفيون يستفيدون منه، فيوقدون النار على قمته، إعلاما لأهالي دمشق وحوران والضفة الغربية ببدء موسم العنب والزبيب والقطين، تلك المحاصيل التي كانت سوف تنتجها بوفرة، بالإضافة إلى الزيتون واللوزيات.

البيئة والمناخ

يتمتع جبل المنارة بمناخ البحر الأبيض المتوسط، الذي يكون ماطراً شتاء بنسب عالية للمطر تؤدي إلى اعتماد السكان في كثير من الأحيان على الزراعة البعلية في المناطق العالية من الجبل تحديداً، ويكون المناخ جافاً صيفاً ولكن وجود الأشجار وانتشار الأحراش في الجبل تخفف من حدة هذا الجفاف.

ويعد جبل المنارة من المناطق الخضراء التي تتميز بتنوع بيئي هائل، فتنتشر فيه الغابات وأشجار السنديان والقيقب والصنوبريات بأنواعها، مما يجعله موئلاً لعدد كبير من الطيور التي تبني في أحراشه أعشاشها.

بلدة سوف

تتربع بلدة سوف على سفح جبل المنارة، ويتضح من الاطلاع على تاريخها أنها بلدة قديمة يعود تاريخ بنائها إلى القرن الثالث قبل الميلاد، إذ نجد فيها خربة قديمة تسمى خربة سوف، تعود في آثارها إلى العهدين اليوناني والروماني، وفيها آثار أرضيات فسيفسائية، وآثار كنيسة عليها نقوش دينية، تم تحويلها إلى مسجد في عهد عمر بن عبد العزيز كما هو موضح في الكتابات الموجودة هناك.

ومن الطبيعي وجود مثل هذه الآثار في منطقة سوف، فهي منطقة جاذبة بطبيعتها، تحوي الكثير من الينابيع والعيون كعين الفوار وعين القرفة وعين المغاسل التي كان الأردنيون السوفيون يغسلون عندها أصواف الأغنام.

محمية المأوى

تعلو محمية المأوى قمة جبل المنارة وقد انطلق مركزها في 2010 ثم توسعت شيئا فشيئاً، وهي المحمية الأولى من نوعها في الشرق الأوسط التي توفر العناية للحيوانات التي تعيش ظروفاً صعبة، وتحاول هذه المحمية إعادة الحياة البرية إلى طبيعتها، فهي تؤوي كافة الحيوانات البرية التي يتم صيدها أو العثور عليها من قبل الصيادين ومنها الضباع والسباع وأنواع الثعالب البرية، كما ترعى الحيوانات المهددة في بعض البلاد المجاورة التي تعيش حالة من الصراع والحروب، وتضم  المحمية سبعة عشر أسدا ونمرين وأربعة دببة تم جلب بعضها من بلدان مجاورة، وضبط بعضها في محاولات تهريب وتجارة غير مشروعة، وتشكل المحمية بيئة مناسبة لحياة هذه الكائنات إذ يعتقد أنها كانت تعيش في هذه المناطق قديما.

أسد في محمية المأوى -الرأي

  المصادر والمراجع

البحيري، صلاح الدين (1998)، الأردن: دراسة جغرافية، ط2، منشورات لجنة تاريخ الأردن

حتاملة، محمد (2010)، موسوعة الديار الأردنية ج2

الزقرطي، إبراهيم (2004)، موسوعة محافظة جرش، منشور بدعم وزارة التخطيط

العدوان، مفلح(2008 )، بوح القرى، ج2، مركز الرأي للدراسات

جبل المنارة في جرش نشر في 1 نيسان 2016 ، تم الاطلاع عليه في 30 تموز 2019

محمية المأوى نشر في 12 إبريل 2019 تم الاطلاع عليه في 30 تموز 2019

 

جبل المنارة

المقدمة

عبر التاريخ، لعبت سهول حوران الأردنية دورا مفصليا في تاريخ الحضارات في الأردن. وقد كانت السهول الأردنية عامرة بالمدن ذات البصمة الثقافية والأثرية التي نلمسها حتى اليوم. ضمن سلسلة أبحاثنا في مدن الديكابولس الأردنية، نستعرض في هذا البحث مدينة كابتولياس أو كما تعرف اليوم باسم “بيت راس”.

إطلالة لبيت راس

الموقع

تقع مدينة كابتولياس (بيت راس) 5 كلم شمال محافظة إربد. على هضبة عالية ترتفع بمقدار 600 متر عن سطح البحر (الشامي: 2002) أما المدينة القديمة فقد جاءت بين مدن الديكابولس الأردنية الأخرى فمن الجنوب حدتها أبيلا (طبقة فحل) ومن الشمال مدينة بيلا (حرثا/القويلبة) ومن الشمال الغربي مدينة جدارا (أم قيس) وقبل تأسيس المدينة كانت مدينة كابتولياس إضافة لمدينة أرابيلا (إربد) ضمن سلطة مدينة بيلا (طبقة فحل). (Lenzen & Knauf: 1987)

خريطة توضح موقع مدينة كابتولياس من مدن الديكابوليس الأردنية وامتداد الطرق الرومانية التجارية القديمة. المصدر: – الشامي، أحمد. (2002)؛ مشروع التنقيبات الأثرية في بيت رأس- إربد موسم 2002، حولية دائرة الأثار العامة،

التسمية

 تعود تسمية المدينة بكابتولياس نسبة إلى المعبد الذي أنشئ فيها للإله “جوبيتر وسمي المعبد  جوبتير كابيتوليانس Gupiter Capitolinus يظهر المعبد منقوشا على العملات النقدية التي اكتشفت في المدينة والتي تؤرخ للسنوات 165-166 م.

من عملات مدينة كابتولياس ويظهر فيها معبد جوبيتر كابتوليانوس. المصدر: – الشامي، أحمد. (2002)؛ مشروع التنقيبات الأثرية في بيت رأس- إربد موسم 2002، حولية دائرة الأثار العامة،

ويعتقد  بأن الاسم الروماني جاء ليناسب الوضع الجغرافي للمدينة. حيث تعني كابيتو تعني الرأس (الأعلى) ولياس تعني المنزل أي السكن في المكان العالي (البكري: 1947) وقد ثبت هذا الاسم في منتصف القرن السادس الميلادي. (Lenzen & Knauf: 1987)

ويطابق الاسم الحالي “بيت راس” المعنى السابق ذكره. ولكن ما يستغربه الباحثون هو عدم وجود اسم للمدينة من قبل تأسيس مدينة كابيتولياس (بيت راس) في الحقبة الرومانية. إن “بيت” و “راس” هما كلمتان تشتركان في جذر عربي وآرامي. إلا أن خلو المقطع من أل التعريف يرجح أن هذا الاسم ربما يكون أقدم من العربية التي نستخدمها اليوم. (Lenzen & Knauf: 1987)

تاريخ البحث الأثري

 حظيت مدينة كابتولياس (بيت راس) باهتمام الرحالة والمستكشفين منذ مطلع القرن التاسع عشر. فكان الرحالة سيتزن من أوائل من زاروها عام 1806 وتبعه المستكشف شوماخر عام 1878 الذي أعد بعض المخططات وأشار إلى أن المدينة محاطة بسور. (الشامي: 2002)

بعدها زارها المستكشف ميرل عام 1885، وعام 1951 كانت مدينة كابتولياس من ضمن المدن التي خضعت للمسح الأثري الذي أجراه الباحث نلسون جلوك. وتبع جلوك الباحث ميتمان الذي أجرى مسحا أثريا آخرا كانت المدينة من ضمنه عام 1970. وفي الثمانينات جاء الباحثة شيري لينزن  التي قامت بعدة مسوحات أثرية موزعة على مواسم بين الأعوام 1985-1987 ركزت على أقبية المدينة (الشامي: 2002)

الأقبية التي درستها الباحثة . شيري لينزن المصدر: – كراسنة، وجيه وفياض، سلامة. 2005؛ مسرح بيت راس الأثري، حولية دائرة الأثار العامة

التاريخ

 كما أسلفنا فمن غير المعلوم تاريخ الاستيطان البشري في المدينة، ولكن بحسب القطع الفخارية والعملات التي وجدها الباحثون في المدافن والكنائس ومعاصر العنب والزيتون تؤرخ المدينة إلى 98/97 ميلادي أي في عهد الإمبراطور تراجان (الشامي: 2002)

جاء الإمبراطور الروماني بومبي  عام 63 ق.م وسيطر على المشرق وأسس حلف مدن الديكابولس، ديكا تعني عشر وبولس تعني الحرة. وتمتعت هذه المدن باستقلال ذاتي وبعلاقات تجارية قوية مع المدن الأخرى.

ضمت مدن الديكابولس جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى))  وكما نرى ثمان أردنية، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) ومملا لا شك فيه أن مدينة كابتولياس (بيت راس) كانت واحدة من هذه المدن فقد ذكرت في أعمال المؤرخ ألكسندريان كلاوديوس بطليموس التي تعود لمنتصف القرن الثاني الميلادي.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية

عمد الأردنيون الغساسنة   في مطلع القرن الثاني الميلادي وحتى القرن السادس إلى تأسيس حكومة مركزية تكون انطلاقة مملكتهم وتكون أيضا ممثلة عن أطياف الشعب الأردني الرافض للولاية الرومانية. فأسبغوا على هذه المدن صبغة تجارية وزراعية، فأصبحت مراكز لا مثيل لها، وظلت المدن والحواضر التي بنيت على أنقاضها مزدهرة حتى يومنا هذا. وكان لمدينة كابتولياس مركز مرموق بين جميع المدن، ويعود السبب لاشتهارها بزراعة العنب وصناعة النبيذ إضافة لزراعة الزيتون وصناعة زيته. وقد كانت هاتان الصناعتان عمودان أساسيان في ازدهار المملكة الأردنية الغسانية.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

في منتصف القرن الثاني بلغت مدن الديكابولس ازدهارا كبيرا واستقلالا لا مثيل له، فبدأت المدن الأردنية الحرة بسك عملاتها الخاصة. فوجدت في كابتولياس (بيت راس) عمل سكت في عام 165 ميلادي تقريبا ومنقوش عليها المعبد الذي سميت على اسمه المدينة وكذلك كان الحال في كبرى المدن الأردنية الحرة كفيلادلفيا (عمان).

دخلت المسيحية إلى المدينة بقوة واعتنق أبناؤها الديانة الجديدة وكانت محركا للثقافة والمعمار. وصحيح أن المسيحيين الأوائل قد تعرضوا للاضطهاد الديني من الإمبراطورية الرومانية  إلا أن المسيحية ترسخت أكثر. في القرن الثاني وما بعده لعب الأردنيون الغساسنة دورا حاسما في إيقاف الاضطهاد الديني على أساس اختلاف الدين أو الطائفة المسيحية. عن طريق تفعيل علاقاتهم مع الأباطرة الرومان خصوصا الإمبراطور جوستنيان والإمبراطورة ثيودورا، هدأ فتيل الاضطهاد الديني وأتيح المجال للازدهار التجاري والصناعي بأن يزداد وينمو.

الإمبراطور الروماني جستنيان الذي تمتع بعلاقات قوية مع الأردنيين الغساسنة

في القرن الرابع الميلادي 325 كان لأسقف أبرشية كابتولياس حضور في مجمع نيقية وعام 451 ميلادي شارك أيضا في مجمع خليقدونية. (Lenzen & Knauf: 1987) وفي الفترة الممتدة بين تأسيس المدينة في القرن الثاني حتى القرن السابع تقريبا، بنيت عدة كنائس على طراز مميز.

النبيذ البتراسي

عدت الزراعة واحدة من أعمدة الاقتصاد في المملكة الأردنية الغسانية. فمنذ مطلع القرن الثاني حتى السابع الميلادي تنامت شهرة منتجات مدينة كابتولياس الأردنية. ساعدت خصوبة الأرض على الزراعة أما الموقع الاستراتيجي على طول خطوط التجارة القديمة والحديثة فقد ساهم على تسويق هذه المنتجات الزراعية وقد كان النبيذ من أهمها حيث يذكر ياقوت الحموي في مصنفه أن بيت راس “اسم لقريتين في كل واحدة منهما كروم كثيرة” (ملحم: 1995)

تصلنا أنباء شهرة المدينة بالزراعة عن طريق أمرين مختلفين، المعاصر الحجرية والشعر العربي. تناول الشعراء العرب منذ القرن السابع الميلادي فها هو الشاعر حسان بن ثابت يتغنى  بنبيذ بيت راس فيقول

كَأَنَّ خَبيأَةٍ مِن بَيتِ رَأسٍ …….. يَكونُ مِزاجها عَسَلٌ وَماءُ

وأنشد أبو نواس قائلا:

وتبسم عن أغر، كأن فيه……مجاج سلافة من بيت راس

وقال المعري:

كأن سبيئة في الرأس منها …..ببيت فم سبيئة بيت رأس

أما شاعر الأردن عرار فقال في نبيذ بيت راس:

واحنيني إلى كأس مشعشعة …. والدنان بتراسي (أي بيت رأسي)

أما المعاصر الحجرية فقد اكتشفت عدة معاصر تتبع نمطي الحفرة المدورة في الأرض و النمط الثاني أحواض هرس مربعة تتصل بأحواض أخرى للترسيب ومن ثم إلى أحواض تخمير مدورة والنمط الثالث أحواض صغيرة مثلثة الشكل. (ملحم: 1995)

الآثار

بدأت مواسم التنقيبات بشكل رسمي مع العالمة شيري لنزن 1988. وهدفت التنقيبات إلى الكشف عن معالم المدينة. اكتشفت أجزاء واسعة من الجدار الذي كان يحيط المدينة. (كراسنة وفياض: 2005)

مخطط عام لآثار المدينة. المصدر: – الشامي، أحمد. (2002)؛ مشروع التنقيبات الأثرية في بيت رأس- إربد موسم 2002، حولية دائرة الأثار العامة،

عام 2000 اكتشفت أجزاء من الجدار الشرقي والشمالي إضافة إلى عدد من  الأبراج والأقبية التي تتواجد بكثرة في المدينة وقد وجد على واحد منها نقش على حجر كلسي متآكل يعتقد بأنه يؤرخ لاسم المدينة (كابيتولياس) في الحقبة الرومانية. (كراسنة وفياض: 2005)

نقش وجد على أحد الأقبية يرجح أنه يحمل اسم المدينة. المصدر: – كراسنة، وجيه وفياض، سلامة. 2005؛ مسرح بيت راس الأثري، حولية دائرة الأثار العامة

المسرح

عام 2001 اكتشفت أجزاء من الجزء الشمالي. واستمر العمل على المسرح عام 2003 حيث اكتشفت المنصة التي تتصل بنفق محفور بالصخر بطول 19 متر وعرض 90 سم وارتفاع 1.85 متر ينفذ إلى خارج المسرح ويعتقد بان هذا النفق كان لاستخدام الممثلين والمؤديين حيث يوصلهم إلى منتصف المنصة لإضافة عنصر المفاجأة . (كراسنة وفياض: 2005)

مخطط المسرح المصدر: – كراسنة، وجيه وفياض، سلامة. 2005؛ مسرح بيت راس الأثري، حولية دائرة الأثار العامة
مدخل النفق الأرضي

ومن ثم تم اكتشاف جدار داخلي للمنصة وغرفة يعتقد بأنها لتغيير الملابس، ولاحقاً اكتشف جدار المسرح والذي يتصل بجدار المدينة الكبير. عام 2003، أي في الموسم الرابع في التنقيبات، تم الكشف عن الكثير من عناصر معمار المسرح كالأقبية وأدراج المشاهدين وأبراج المراقبة. بني المسرح من الحجر الكلسي وقد تعرض لكثير من التهدم بفعل العوامل الطبيعية إضافة لكونه محاطا بالطمم نتيجةً لأعمال التنقيب السابقة. (كراسنة وفياض: 2005)

المدرج بعد التنقيب والترميم

الكنائس

دخلت بيت راس في الحقبة البيزنطية عام 323 م عندما أعلن قسطنطين الكبير بأن المسيحية دين رسمي للإمبراطورية إضافة لنقله العاصمة إلى بيزنطة (القسطنطينية) على مضيق البسفور وبهذا انقسمت الإمبراطورية إلى شرقية وغربية سميت الشرقية بالبيزنطية، أثر هذا على الدين والحضارة في المشرق بأكمله. دخلت المسيحية أرض الأردن منذ انطلاقها وكانت مدن الديكابوليس من أوائل المدن التي اعتنقت المسيحية حيث جال المسيح في هذه المدن ناشرا رسالته. واجه المسيحيون الجدد اضطهاداً دينيا فظيعا مارسته الإمبراطورية الرومانية الوثنية عليهم وقدمت أرض الأردن شهداء كثر في سبيل الحرية الدينية كالقديسين زينون وزناس وجراسيموس الأردني واليان العماني.

آثار لكنيسة مقابل الأقبية. المصدر: – كراسنة، وجيه وفياض، سلامة. 2005؛ مسرح بيت راس الأثري، حولية دائرة الأثار العامة

وتأثرا بالديانة الجديدة انطلق الأردنيون وأسسوا الكثير من الكنائس التي زينت بأبهى صور الفسيفساء الملوّنة والتي تحوي زخارف هندسية وحيوانية ونباتية وآدمية. كانت كابوتولياس واحدة من هذه المدن التي احتضنت ثورة في المعمار الديني المتمثل في بناء الكنائس. اكتشفت فيها حتى الآن ثلاثة كنائس سنعترضها في ما يلي:

الكنيسة قرب الجامع: بنيت الكنيسة على الطراز المستطيل (البازليكا) واكتشف منها محرابان توقع الباحثون وجود محراب ثالث. تفاوت تأريخ الكنيسة فوفقا للعالمة لينزن أرختها للقرن الخامس الميلادي بالاعتماد على اللقى الأثرية فيها. أما أقدم تأريخ آخر فهو للقرن الثالث الميلادي. تعذر وضع مخطط للبناء لسوء حالته. (قاقيش: 2007)

الكنيسة الشمالية: اكتشف في موقع الكنيسة قطع رخامية من ألواح وأعمدة تعود للهيكل وقد نقش على أحد الألواح باليونانية “أبناء أركاديوس” إشارة على الأغلب إلى المتبرعين. (قاقيش: 2007)

كنيسة عطروز: كنيسة على الطراز المستطيل (البازليكا) وهي مكون من صالة وجناحين وأرضيتها مزخرفة بالفسيفساء. (قاقيش: 2007)

المدافن

وجد العديد من المدافن في مدينة كابوتلياس (بيت راس) والتي تدل على الرخاء والرفاه الاقتصادي الذي نعمت به المدينة زمن الأردنيين الغساسنة  من القرن الثاني حتى السادس ميلادي. لا زالت دائرة الآثار الأردنية بالتعاون مع هيئات ومؤسسات متخصصة مهتمة بآثار وحضارة الأردن تنقب عن المزيد من المدافن كان آخرها مدفن بيت راس المميز.

لوحات فريسكو مليئة بالتفاصيل وجدت سليمة في المدفن

 إن اكتشاف هذا  الموقع يلقي الضوء على فترة مهمة من التاريخ الأردني خلال العصر الروماني خصوصا لاحتوائه على 52 نقش يوناني وآرامي وتشير إلى أن الميت كان مقدرا من قبل المجتمع ويتمتع بمكانة مجتمعية عالية.

وجدت الكثير من قطع الفريسكو بتفاصيل دقيقة واضحة لم تذكر سابقا في السجلات التاريخية. يمتد المدفن على أكثر من 60 متر مربع وقد حظي بتوثيق مكثف وعمليات ترميم ومحافظة ودراسة علمية من قبل عدد كبير من العلماء الأردنيين والإيطاليين والفرنسيين والأمريكيين.

الخاتمة

استعرضنا في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابوليس الأردنية تاريخ مدينة كابيتولياس (بيت راس) المدينة التي فاجئتنا بالكثير من الآثار التي تعكس الحضارة والثقافة التي تمتع بها أجدادنا الأردنيون عبر التاريخ وتمكنوا من أن ينقلوها لنا في معمارهم وفنونهم. تعتبر بيت راس واحدة من الوجهات المميزة في شمال الأردن والتي تحتاج إلى المزيد من الاهتمام على صعيدي السياحة والتنقيب الآثاري.

المراجع

  • الشامي، أحمد. (2002)؛ مشروع التنقيبات الأثرية في بيت رأس- إربد موسم 2002، حولية دائرة الأثار العامة،
  • ملحم، إسماعيل (1995)، تقنيات معاصر العنب في الأردن وفلسطين في العصرين الروماني والبيزنطي، حولية دائرة الآثار العامة
  • البكري، أبو عبيد الله. 1947؛ معجم ما استعجم، القاهرة: مطبوعات لجنة التأليف والنشر.
  • كراسنة، وجيه وفياض، سلامة. 2005؛ مسرح بيت راس الأثري، حولية دائرة الأثار العامة
  • قاقيش، رندة. 2007؛ عمارة الكنائس وملحقاتها في الأردن في العهدين البيزنطي والأموي، عمان: دار ورد.
  • اكتشافات جديدة فريدة من نوعها بالمنطقة في بيت راس، مقال مترجم منشور على موقع إرث الأردن. http://jordanheritage.jo/new-findings-in-bait-ras-tomb/
  • Lenzen, C., Knauf, E. (1987) Biet Ras/ Capitolias a preliminary evaluation of the archeological and textual evidence, In Syria. Tome 64 de fascicule 1-2

مدن الديكابولس الأردنية: مدينة كابتولياس ذات الكروم

المقدمة

لعب شمال الأردن في مسرح التاريخ دورا هاما للغاية، فقد كان مركزا تجاريا ومحطا للنزاعات بين القوى العظمى في المشرق بسبب موقعه الاستراتيجي وغناه بالموارد الطبيعية. في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابولس الأردن سنستعرض مدينتين أردنيتين انضمتا لحلف الديكابولس (حلف المدن الحرة) وهما دايون (إيدون) وهيبوس (الحصن).

الموقع

تقع مدينة دايون (إيدون) على مرتفع صخري يحدها من الشمال مدينة إربد ومن الجنوب مدينة هيبوس (الحصن)  تبلغ مساحتها 14.5 كلم مربع. تشتهر إيدون بزراعة الزيتون. أما جيولوجيا فهي خليط من الحجر الأبيض سهل التفتيت (الروسان: 2011)

أما هيبوس (الحصن) فهي تقع 8 كلم جنوب مدينة إربد وهي الآن أكبر المناطق التابعة لبلدية إربد الكبرى. قامت المدينة القديمة على تل يسمى “تل الديون”. وهي الآن مقسمة إلى المدينة القديمة ذات الطابع الريفي في الجزء الغربي والمدينة الحديثة في الجزء الشرقي (الروسان: 2011)

مدينة الحصن ربيعا

التسمية

غالبا ما كان يشار إلى المدينتين باسم واحد “ديون- ديوم”  وقد التبس على العلماء والباحثين تسمية “هيبوس” حيث ذهب بعضهم إلى أن هيبوس هي مدينة شمال بحيرة طبريا تعود للقرن الأول الميلادي وهذا كان رأي المستكشف شوماخر الذي قال بإن مدينة “إيدون” هي مدينة ديكابولس أردنية ولكنها تقبع تحت تل الحصن الاصطناعي الأثري. بينما أكد الباحث لويس مخلوف أن إيدون هي ذاتها دايون وأنها مدينة ديكابولس مستقلة عن هيبوس (الحصن) (الروسان: 2011)

تعددت أسماء مدينة إيدون فسميت دايون ودينون ديون وديون. أما الحصن فيعتقد بأنها سميت نسبة لبناء حصن عسكري أموي فيها. (غوانمة: 2008)

التاريخ

يعود تاريخ المنطقة إلى العصر البرونزي 3000 سنة قبل الميلاد حيث  سكنت المغر والكهوف في المدينتين. وفي تل الحصن وجدت مقبرة بئرية (محفورة بشكل عامودي بالأرض كالبئر) وهي تعود للعصر البرونزي.

صورة جوية لتل الحصن الأثري

احتل الإسكندر المقدوني المشرق عام 333 ق.م. وتنازع خلفاؤه (السلوقيون والبطالمة) على حكم المدن التي فتحها وظل النزاع قائما بين السلوقيين والبطالمة ولكن غالبا ما كان الحكم السلوقي أكثر استقرارا في شمال الأردن. لم يقتصر الأمر على السلوقين والبطالمة إنما امتدت أطماع الحشمونيون اليهود إلى مدن الديكابولس الأردنية فمنذ عام 149 ق.م.  بدأ الحشمونيون بشن حملات غزو عديدة انتهت عام 84 ق.م. باحتلال جدارا (أم قيس) وبيلا (طبقة فحل) وأبيلا (حرثا) وهيبوس (الحصن) وديون (إيدون) (غوانمة: 2008)

صورة للملك الحشموني ألكسندر جانيوس الذي احتل مدن الديكابولس الأردنية ودمر كثيرا منها

حتى جاء الإمبراطور الروماني بومبي  عام 63 ق.م وسيطر على المشرق وأسس حلف مدن الديكابولس، ديكا تعني عشر وبولس تعني الحرة. وتمتعت هذه المدن باستقلال ذاتي وبعلاقات تجارية قوية مع المدن الأخرى. وكان (جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى))  وكما نرى ثمان أردنية، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) وكابتولياس (بيت راس).

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية

في الحقبة الرومانية والبيزنطية زادت الكثافة السكانية كثيرا وقد وجدت العديد من الآثار منتشرة بين البيوت وبعض أرضيات الفسيفساء التي تدل على انتشار بناء الكنائس في تلك الحقبة. (غوانمة: 2008)

عمد الأردنيون الغساسنة   في مطلع القرن الثاني الميلادي وحتى القرن السادس إلى تأسيس حكومة مركزية تكون انطلاقة مملكتهم وتكون أيضا ممثلة عن أطياف الشعب الأردني الرافض للولاية الرومانية. فأسبغوا على هذه المدن صبغة تجارية وزراعية، فأصبحت مراكز لا مثيل لها، وظلت المدن والحواضر التي بنيت على أنقاضها مزدهرة حتى يومنا هذا. وكانت مدينتي هيبوس ودايون إحدى هذه المدن لكونها واقعة على خطوط التجارة التي استحدثها الأردنيون الغساسنة وعملوا على تقويتها.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

 وللأسف فقد ساهم التطور العمراني والسكاني منذ العصر الإسلامي حتى اليوم بطمر الكثير من آثار هيبوس ودايون.

تاريخ البحث الآثاري

حظيت مدينة هيبوس (الحصن) بنصيب جيد من البحث الآثاري على عكس توأمها مدينة دايون (إيدون). فقد ذكرت هيبوس في كتب المستكشفين والرحالة والمستشرقين الذين شغفوا بآثار الأردن. ذكرها المستكشف السويسري بيركهارت لأول مرة واصفا موقعها. وبعده ذكرها المستكشف بيكنغهام وليندسي وستزين ولكنهم اكتفوا بذكر الموقع والخصائص الاجتماعية.

أما من قام بأول مسح آثاري فيه المنطقة فكان الباحث نلسون جلوك تبعه ماكدونالد ولكن بحثهما كان منصبا على مرحلة العصر البرونزي بشكل خاص. حتى جاء الباحث لانكستر هاردنج الذي كتب كتابا كاملا أسماه “آثار الأردن” ودرس الموقع وأجرى عليه مسوحا مكثفة واستنتج أن المدينة كانت مأهولة بكثافة في العهد الروماني والبيزنطي وقد أكد ذلك باستناده لمجموعة من النقوش والمصادر الرومانية التي تؤكد وجود هاتين المدينتين، يقول في كتابه واصفا تل الحصن:

“هنالك دلائل عديدة عثر عليها  في الأضرحة الأخرى وفي نقوش وكتابات سواها على أن ذلك التل كان قائما في أيام الرومان والبيزنطيين. وهذا الموضع هو أحد المواقع التي يتأرجح بينها وبين موقع مدينة ديون، وهي المدينة الوحيدة من مدن الديكابولس  التي لم يحدد مكانها تحديدا قاطعا” (هاردنج:1967)

الآثار

 الكنيسة

مخطط عام للكنيسة المكتشفة. المصدر حوليات دائرة الآثار العامة 1993

عام 1992 قامت دائرة الآثار بحملة  تنقيبات أسفرت عن الكشف عن كنيسة بيزنطية بديعة الفسيفساء تعود للقرن السادس الميلادي الذي تجذرت فيه المسيحية. في خربة الجدة على بعد 1 كلم عن تل الحصن الأثري، تقع الخربة على مرتفع صخري بارتفاع 640 متر عن سطح البحر. وهي محاطة بالبساتين المزروعة من كل جانب.

فسيفساء حيوانية تصور طائرا من كنيسة الحصن البيزنطية المصدر حوليات دائرة الآثار العامة 1993

بعدما أخبر أحد المواطنين عن اكتشافه لرقعة من الفسيفساء أجرت دائرة الآثار العامة حملة إنقاذية. اكتشفت الحملة كنيسة بيزنطية على نظام البازليكا (الكنيسة المستطيلة) ولكنها متهدمة ومعالمها غير واضحة، أما الفسيفساء فقد تجرفت ولم يبق منها غير قطع متفرقة. يبلغ طول الكنيسة 20 مترا شرق غرب و10 أمتار شمال جنوب أما قطرها 4 متر تقريبا.

لوحة فسيفسائية من كنيسة الحصن تصور إنسانا يقطف العنب بالمنجل

بجانب الكنيسة حددت مرافق أخرى كالخزانات المائية المحفورة بالصخر والتي ينزل إليها بأدراج ومداخل. إضافة لقبر فردي مقطوع من الصخر أيضا. الفسيفساء المكتشفة غنية بالرسوم الحيوانية والآدمية والهندسية.

من الزخارف الهندسية في الكنيسة المصدر حوليات دائرة الآثار العامة 1993

البركة

انسجاما مع فكرة الأنظمة المائية التي بنيت في عهد الأردنيين الغساسنة في الحقبة الكلاسيكية كان ولا بد من بناء بركة لتجميع مياه الأمطار ولتخدم الحركة الزراعية في المنطقة. وللأسف فإن المعلومات عن البركة ضئيلة وهي الآن تعاني من إهمال شديد جعلها تتحول لمكرهة صحية.

البركة الرومانية عند اجتماع مياه المطر فيها.

 الخاتمة

في الختام، نجد أن شمال الأردن ومنذ مطلع القرن الثاني حتى السادس الميلادي قد لعب دورا جوهريا في حركة التجارة العالمية، فقد ازدهرت المدن والقرى الأردنية حتى تلك التي نعتبرها اليوم مدنا صغيرة كانت مراكز حيوية كالحصن وإيدون ورغم أن التوسع المدني قد حرمنا من استكشاف أعمق لتاريخية هذه المدن إلا أن ماضيها يظل محل تقدير.

المراجع

  • الروسان، عاطف و الرجوب، عبد الكريم (2011) إربد الكبرى، دراسة الواقع الأثري والتاريخي والتراثي، وزارة الثقافة، الأردن: عمان
  • غوانمة، يوسف (2008) مدينة إربد ماضيا وحاضرا- أعمال مؤتمر مدينة إربد، ج1، وزارة الثقافة،  الأردن: عمان
  • هاردنج، لانكستر (1967) آثار الأردن، تعريب سليمان الموسى، منشورات وزارة السياحة الأردنية، الأردن: عمان
  • ملحم، إسماعيل وخصاونة، ناصر، حفرية كنيسة الحصن/خربة الجدة لعام 1992، حوليات دائرة الآثار العامة 1993

مدن الديكابوليس الأردنية: هيبوس ودايون المدينتان التوأم

المقدمة

تعد أم قيس (جدارا) إحدى أهم الوجهات السياحية في الأردن، إنها مدينة متكاملة ومحتفظة بأغلب بمعالمها رغم العوامل الطبيعية التي أدت إلى تهدم بعض مبانيها الأثرية. حظيت أم قيس (جدارا) بالكثير من الاهتمام على صعيد البحث والتنقيب الآثاري وفي رحلة تتبعنا لمدن الديكابولس الأردنية كان لا بد أن نقف على أطلال جدارا المدينة السوداء الجميلة.

إطلالة من الأكروبولس الجبل الذي بنيت عليه مدينة جدارا، وفي الأفق نرى جبال الجولان المحتل وطبريا

الموقع والطبوغرافية

تقع مدينة أم قيس (جدارا) شمال الأردن على بعد 120 كلم من العاصمة. وتتبع إداريا للواء بني كنانة وتعد من أكبر مدنه.  تتخذ المدينة موقعها على مرتفع يبلغ 364 مترا فوق سطح البحر. يفصلها عن الجولان نهر اليرموك ومن الجنوب وادي العرب ومن الغرب بحيرة طبريا، حيث ينحدر سهل أم قيس (جدارا) حتى بداية نهر الأردن عند طبريا. (بيضون: 1997)

تقع المدينة الأثرية غربي مدينة أم قيس الحديثة. تبلغ مساحتها 1600 متر من الشرق إلى الغرب و450 متر من الشمال إلى الجنوب. أما طبيعة جدارا فهي تجمع ما بين طبيعة الهضبة العالية وبين التربة الخصبة ويقول عنها المستكشف غوتليب شوماخر “من الصعوبة أن تجد في هذه البقعة من جبال عجلون مكانا يجمع بين التربة الرائعة والمكان القيادي مثل أم قيس.” (بيضون: 1997)

التسمية

أطلقت عدة تسميات على أم قيس، ولكن الاسم الأكثر التصاقا بها هو “جدارا” وقد حاول الباحثون إيجاد تفسيرات لهذا الاسم. ربط الباحثون اسم جدارا بمنحدر وادي العرب الذي يطلق عليه “جدر” (العوض: 1993) أما البحث في أصل الكلمة فجدارا مأخوذة من الجذر “جَ دَ رَ” وهو جذر سامي الأصل يعني الحصن أو التحصين وعند تحويل الاسم ليناسب اللفظ الروماني أو اليوناني أصبح جدارا.  (بيضون: 1997)

ونقلا عن الباحثين شوماخر وهنري سكين فإن اسم جدارا محفوظ في تسمية كهوف مدينة أم قيس حيث يسمي الأردنيون المنطقة الشرقية من المدينة والمليئة بالكهوف “جدور أم قيس” (بيضون: 1997)

ومن الأسماء الأخرى “أم قيس ومكيس” بوضع السكون على الميم والسين فهو يعني “التخم” أي الحد الفاصل وهو يعكس الدور السياسي والتجاري والعسكري الذي لعبته المدينة فيما سبق. (بيضون: 1997) بينما يقترح آخرون بأن مكيس تعود للفظة المكوس والتي تعني الضرائب حيث كانت المدينة نقطة لجمع الضرائب. (العوض: 1993) إضافة لتلك الأسماء فقد أطلق عليها “بومبيا” تيمنا بالإمبراطور الروماني بومبي الذي دخل المنطقة عام 63 ق.م. وأسس تحالف المدن العشر “الديكابولس”.

ذكرت جدارا في المصادر التاريخية اللاحقة كمعجم البلدان للحموي “جدره هي قرية في الأردن” وقال الشاعر أبو ذؤيب “فما أن رحيق سبته التجار…. من أذرعات فوادي جدر” (العوض: 1993)

تاريخ البحث الأثري

جذبت جدارا أنظار الكثير من الرحالة والمستكشفين. زارها لأول مرة المستكشف الألماني ستزن  عام 1806 وكان أول من صنفها كواحدة من مدن الديكابولس العشر. ومن بعد زارها المستكشف فيتنستاين ووصف القناة المائية التي كانت تغذي المدينة  من عين التراب والتي لا يزال القطع الحجري ظاهرا منها على طول الشارع  الأسفلتي الحديث ويسميه الأهالي قناة فرعون (بيضون: 1997)

وزارها الرحالة بيركهارت عام 1912 وكتب عن المسرحين اللذان فيها. وزارها المستكشف بانك أيضا. أما من درسها دراسة معمقة فكان المستكشف غوتليب شوماخر عام 1886 الذي قام برحلة في شمال الأردن ووثق مدينتي أم قيس وملكا. وبالنسبة لجدارا عمد على صنع مخطط للمدينة ووثق مبانيها وآثارها كما أرفق كتابته بوصف للثقافة والحياة اليومية الأردنية آنذاك (بيضون: 1997)

أعمدة أم قيس البازلتية

أما في القرن العشرين فقد بدأت أعمال التنقيب والترميم منذ عام 1930. تعاونت دائرة الآثار العامة مع عدد من الباحثين والعلماء لإجراء التنقيبات. فكشف الباحث ميتمان عام 1959 عن الحمام (سبيل الحوريات) وعن أرضية فسيفسائية ووصف الطريق المرصف بين جدارا ودرعا إضافة لتوثيقه عددا من النقوش. (بيضون: 1997)

عام 1961 كشفت دائرة الآثار العامة عن أرضية فسيفسائية غربي المدينة الأثرية في بيت حسين الفرج. وعام 1968 وجراء القصف الإسرائيلي للمنطقة اكتشف المدفن الأرضي. توالت مواسم التنقيب ولكن التنقيبات الأساسية أجرتها دائرة الآثار العمة بالتعاون مع المعهد البروتستانتي للآثار منذ سبعينات القون الماضي على عدة مواسم تم الكشف عن أغلب معالم المدينة، توثيق القطع الفسيفسائية والنقوش والتماثيل. (بيضون: 1997)

تاريخ المدينة

سُكنت أرض الأردن منذ فجر التاريخ، فقد وجدت عدة دلائل على الاستيطان البشري الأول كالمدافن والكهوف التي تنتشر في محافظة إربد وما حولها. إلا أننا في هذا البحث سنتبع تاريخ جدارا منذ الحقبة الهلنتسية. قام الإسكندر المقدوني بغزو المشرق في القرن الرابع قبل الميلاد 333 ق.م. وعقب وفاته انقسمت البلاد التي خضعت لحكمه بين السلوقيين والبطالمة (العوض: 1993)، ودارت معارك عدة بين الطرفين على حكم المدن الأردنية كفيلادلفيا (عمان ) وجراسا (جرش) وغيرها. وضع كل من البطالمة والسلوقيين بصمتهم الحضارية على حضارة وعمران المدن الأردنية.

عندما حكم البطالمة مدينة جدارا أعادوا بناءها وجعلوها حصنا قويا في وجه أعدائهم السلوقيين. لقد عرف عن البطالمة اتخاذهم المدن كحاميات عسكرية وثغور تحصينية ضد العدو وقد كانت جدارا بموقعها الاستراتيجي حصنا ممتازا (العوض: 1993).

دارت حروب عديدة بين البطالمة والسلوقيين بهدف مد النفوذ وقد أحصاها المؤرخون أربعة حروب. ويأتي ذكر جدارا في الحرب الرابعة عام 217-218 ق.م. حيث قاد الحاكم السلوقي أنطيوخوس الثالث جيشا فيه 162 ألفا من المشاة و102 فيلا من الهند واحتل جدارا (أم قيس)  وأبيلا (حرثا) وقد أعاد أنطيوخوس احتلال المدينة مرة أخرى عام 198 ق.م. بعد انتصاره على البطالمة في حرب بانياس (قرب منابع نهر الأردن) وقد أحكم قبضته على جدارا وسميت حينها “سلوقيا وأنطاكية” وهما لقبان شاع استخدامها في عهد السلوقيين للمدن المهمة (العوض: 1993).

لم تهنأ مدينة جدارا بالسلام فقد قام الملك الحشموني ألكسندر جانوس باحتلالها إذ حاصرها مدة عشرة أشهر بغية إخضاعها، هي ومدينة أبيا (حرثا) التي دمرها لأنها لم تتحول لليهودية أو تخضع للزي اليهودي.  دمر جانوس الكثير من معالم جدارا أيضا أثناء الحصار ولكنه استطاع دخولها وضمها مع مدن شمال الأردن تحت منطقة سمها بيرابا (العوض: 1993).

صورة للملك الحشموني ألكسندر جانوس الذي دمر أرابيلا عام 80 قبل الميلاد لعدم خضوعها له.

يذكر المؤرخون توطد العلاقات بين ثلاثة مدن أردنية في تلك الفترة فيلادلفيا (عمان) وجدارا (أم قيس) وبيلا (طبقة فحل،) أسست المدن الثلاث أحلافا تجارية وعسكرية جعلتها تنهض وتزدهر. ولكن قبل عام 34 ق.م شن الحارث الرابع، الملك الأردني النبطي، حملة للسيطرة على مدن شمال الأردن ومن بينها جدارا. (العوض: 1993)

ضعف الحكم السلوقي شمال الأردن، واستغل الرومان الصراعات التي شبت بين السلوقيين والبطالمة والحشمونيين وعمدوا إلى شن حروب عدة انتهت بسيطرة الإمبراطور الروماني بومبي على المشرق بأكمله عام 63-64 ق.م. خلص بومبي مدينة جدارا من احتلال الحشمونيين وأعاد بناءها تكريما لصديقه ديميتريوس الجداري الأصل وقد لقبت جدارا في تلك الفترة “بومبيا” نسبة لبومبي وبدأت باستخدام التقويم البومبي أيضا (العوض: 1993).

أسس بومبي حلف المدن العشر الحرة (الديكابولس) ديكا تعني عشر وبولس تعني الحرة أو المستقلة. وقد ضم الحلف عشرة مدن في البداية وما لبث أن توسع حتى امتد ليشمل 14 مدينة أغلبها أردنية. شكلت هذه المدن حلفا تجاريا وعسكريا قويا. واتصلت جدارا بطرق تجارية قوية مع بوسطرا (بصرى) وكابتولياس (بيت راس) وبيلا (طبقة فحل) وفيلادلفيا (عمان) وجراسا (جرش).

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية ثابتة

كانت المدن العشر ملزمة بدفع ضريبة للإمبراطورية الرومانية وكانت جدارا مركز جمع الضريبة وقد ذكر المؤرخ جوزفيوس “إن فيها مواطنين أغنياء يسكنون الفلل والقصور التي تحيط بالمدينة “(العوض: 1993)

انتصر الرومان بقيادة اكتافيوس على انطيونيوس وكليوبترا عام 30 ق.م. في معركة اكتيوم التي شارك فيها الأردنيون الأنباط. أعطى أكتافيوس هيرود الملك اليهودي الحشموني السلطة على المناطق التي أخذتها كليوبترا منه وكان من ضمنها جدارا وهيبوس (الحصن). صار هيرود تابعا للإمبراطور اكتافيوس في روما. عانى أهالي جدارا من تدخلات هيرود وظلمه وقد اشتكوا كثيرا للإمبراطور الروماني ولكنه لم يعر انتباها، ولكن بعد وفاة هيرود وذهاب جدارا لابنه اركلوس الذي كان أشد ظلما من أبيه أقام الأردنيون في جدارا ثورات عديدة وبعدها أخذت السلطة من أركلوس وأعيد الحكم الذاتي والاستقلال لمدينة جدارا (العوض: 1993).

في القرن الأول الميلادي، ازدهرت مدن الديكابولس كثيرا ونعمت بالاستقرار التجاري والعسكري، وكانت جدارا المدينة التي تجمع الضرائب من المدن الأخرى. استرجعت جدارا مكانتها التجارية، فصارت طريقا رئيسا للتجارة مع الحواضر المحيطة، كما أعيد بناؤها واستأنف سك العملات الخاصة فيها. (العوض: 1993)

في القرن الثاني لمع نجم الأردنيين الغساسنة وقد استطاعوا تشكيل حكومة مركزية تجمع مدن الديكابولس واستحدثوا طرقا تجارية وحافظوا على أمن القوافل لمدة أربعة قرون 2-6 ميلادي. ولكن جدارا كانت مطمعا على الدوام، في القرن الأول (68م) أعاد الحشمونيون احتلالها ولكن الإمبراطور فسبسيانوس حررها مرة أخرى. وفي القرن الثاني، عمل الأردنيون الغساسنة والجيوش الرومانية على تخليصها من الحملة الفارسية 162 م. التي دمرت كثيرا من معالمها وقتلت كثيرا من أهلها. (العوض: 1993)

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

استقرت الأمور حتى عاودت الهبوط بسبب الحروب الأهلية وضعف التنظيم وقام حينها الإمبراطور دكلتيانوس  بإعادة التنظيم الداخلي للمشرق بأكمله. كانت المسيحية في الأردن قد انتشرت سرا منذ مطلع القرن الأول الميلادي، ولكنها كانت تنتشر ببطء في جدارا على عكس مدن الديكابولس الأردنية الأخرى التي كانت مسيحية بشكل شبه كامل في نهاية القرن الثاني. مورست شتى أنواع العذاب على معتنقي الديانة المسيحية في البداية، وقد قدم الأردن شهداء كثر في سبيل حرية المعتقد. في القرن الثالث بدأت الأمور تتحسن مرة أخرى، حيث بدأت الحقبة الكلاسيكية البيزنطية، حيث أعلن  الإمبراطور قسطنطين أن الديانة المسيحية هي ديانة الإمبراطورية ونقل العاصمة إلى مدينة بيزنطة (القسطنطينية) على البسفور عام 312 م. (العوض: 1993)

بذل الأردنيون الغساسنة وقتهم وجهدهم لتحسين أوضاع الأردنيين المسيحيين وقد رفضوا الخضوع لأي نوع من أنواع الاضطهاد الذي تحول من أن يكون (وثني-مسيحي) إلى اضطهاد بين المذاهب المسيحية. في القرن الرابع كانت المسيحية قد تجذرت في المدينة، وأصبح لها أسقف خاص بها ومثلها في مجمع نيقية[1] وفيما بعد أصبحت جدارا مقرا لأبرشيه مقاطعة فلسطين الثانية. ولكن لم يدم الأمر كثيرا فعام 612 م. شن الفرس أعنف حملة عسكرية على جدارا أدت لتدمير أغلب معالمها وقتل الكثير من أهلها. (العوض: 1993)

الثقافة والعلم

كانت جدارا مركزا للثقافة والفن والحضارة على مر التاريخ. ومنها لمع نجم العديد من الفلاسفة والأدباء وتخلد اسمهم كمساهمين في إرث الحقبة الكلاسيكية. ونذكر منهم الشاعر ميلياغروس الجداري الذي كان من أهم شعراء عصره. ولد في القرن الأول الميلادي، كان شاعرا وجامعا للقصائد وقد جمع 134 قصيدة كانت هي نواة الأنثولوجيا اليونانية وسماها الإكليل [2]، كتب القصيدة الساخرة والقصيدة الأيروسية وقد اختار هذه القصيدة كي تنقش على قبره وتظل حتى يومنا هذا:

أيها العابر من هنا

لا تخف من مرورك بين أجداث الموتى

فهنا يرقد عجوز مسالم رقدته الأخيرة

إنه ميلياغروس ابن أوقراطس

الذي تغنى بالحب

وجعل الدموع السعيدة تهطل من المآقي

لأنه وقف واسطة

بين ربات الشعر وتجسيد الجمال الساحر

لقد كان رجلا من مدينة صور

التي باركتها الآلهة

ولكن مدينة جدارا المقدسة

كانت هي مسقط رأسه

ويونوماوس المولود في القرن الثاني والذي اشتهر بمهاجمته للأوراكل (التنبؤ والوساطة الروحية في الحضارة اليونانية) له كتب عديدة في السخرية والسياسية والفلسفة.

والشاعر أريبوس الذي له نقش شهير محفوظ في متحف أم قيس:

أيها المارّ من هنا.. كما أنت الآن كنتُ أنا، وكما أنا الآن ستكون أنت، فتمتّع بالحياة لأنك فانٍ“.

نقش أريبوس المحفوظ في أم قيس

وأبسينس الجداري المولود في القرن الثالث الميلادي فقد درس علم البلاغة اليونانية وصار معلما في أثينا  وكان عسكريا رقاه الإمبراطور ماكسيمينوس إلى رتبة القنصلية.

 أما مينييوس الجداري الذي لقبه المؤرخون بالمهرج الجاد فقد ناقش في كتبه أمورا جدية ومهمة ولكن بقالب من السخرية والتهكم وكان يسخر ويرد على الأبيقوريين[3] والرواقيين[4]. وللأسف ضاعت أشعاره وأعماله إلا أننا نعلم أنه كتب عدة كتب منها: كتاب استحضار الأرواح، كتاب رسائل الآلهة، كتاب الردود على الفلاسفة والطبيعيين والرياضيين والنحويين، ولادة أبيقور.

رسم للأديب مينبيوس

والأديب تيودوروس الجداري الذي كان معلما للإمبراطور الروماني تيبيريوس الذي ترك الكثير من الكتب منها:  أسئلة في النطق (في 3 كتب)، كتاب عن التاريخ، الأطروحة، عن التشابه بين اللهجات وعرضها (كتابان)، عن الدستور (كتابان)، عن قدرة الخطيب.

مصادر وأنظمة المياه

تعد جدارا من المدن الأردنية كثيرة المصادر المائية. حيث تسقط الأمطار عليها بمعدلات عالية مقارنة بباقي المدن 400-500 ملم، إضافة للأمطار تشتهر المنطقة بالينابيع والعيون ومن أشهرها عين العسل جنوبي منطقة القبو وهي عين غزيرة تحوطها عدة مصاطب. وعين أم قيس التي ترتفع عن سطح البحر 220 متر. وفي المنحدر السحيق جنوبي عين أم قيس تقع عين الفخت التي تصب مياهها متحدة مع مياه عين أم قيس في وادي العرب. وهناك ينبوع خنيزير وهو صغير جدا وعين ماقوق في المنحدر الشمالي الغربي وترتفع العين عن سطح البحر بمقدار 100 متر. وهنالك عيون أخرى في أماكن منخفضة في المدينة متل عين شيحان وعين الطبق وعين حية وعيون قرط وأغلبها قد جف في وقتنا الحالي (العوض: 1993)

كما تطل المدينة على عدة أودية خصبة تغذيها مياه الأمطار والينابيع مثل وادي الفخت ووادي العين (عين أم قيس) ووادي خنيزير. غذت هذه الينابيع حركة الزراعة في المدينة إلا أنها لا يمكن أن تكون قد غذت المدينة نفسها بماء الشرب نظرا لانخفاضها عن مستوى بناء المدينة. ولكن عينا غزيرة تدعى عين التراب تقع على ارتفاع 470 متر عن سطح البحر كانت تغذي المدينة عبر القنوات بماء الشرب، هنالك عيون أخرى مرشحة لهذا الغرض كعين الخراج وعين الشيخ 450 متر فوق سطح البحر وعين الحراثين 350 متر فوق سطح البحر.(العوض: 1993)

نفق جدارا المائي

بدأ نظام القنوات والأنفاق المائية منذ العصر البرونزي ولكنه ازدهر وبلغ أوجه في العصور الكلاسيكية، حيث كانت الأنفاق المائية التي تزود المدن بالماء أمرا ضروريا، كانت تلك الأنفاق سرية تحت الأرض ويدخل إليها المهندسون للصيانة عبر مداخل منحدرة وبعيدة عن أعين العدو في حالات الغزو والحصار. بنيت الأنفاق المائية في الصخر عبر نحتها وفي التراب عبر إنشاء قناطر. (العوض: 1993)

تعد شبكة المياه والحصاد المائي التي توجد في جدارا واحدة من أعقد وأبرع الشبكات التي أنشئت في الحقبة الكلاسيكية. فهي تعتمد على نظام الجسور، حيث صنع جسر يحمل قناة مائية، عثر على 60 متر متبقي من هذا الجسر وقوس بطول مترين تقريبا. وعبر هذا الجسر نقلت المياه من تلة إلى تلة، بأمان حيث كان الجسر مدعما بالحجارة الضخمة وبالأقواس. (العوض: 1993)

نفق جدارا المائي من الداخل

وفي هذه القناة تم التحكم بتدفق الماء عبر محابس حجرية ضخمة. تتصل هذه القناة بقنوات أصغر سميت محليا بقنوات فرعون لأنها وحسب قصة متداولة بنى أحد الفراعنة هذه القنوات وصادر قمح سهول حوران الأردنية بأكمله وأمر بأن يكوم على شكل جبلين وعندما أرسل عماله ليجلبوا القمح إلى جدارا تحول جبلا القمح إلى جبلين من الصخور البازلتية السوداء. (العوض: 1993)

واليوم بجهود علماء آثار أردنيين افتتح جزء من نفق جدارا العظيم عام 2019 والذي يصل مدن الديكابولس ببعضها ويمتد عبر المدن بشبكة قنوات دقيقة.

تخطيط المدينة

كباقي مدن الديكابولس الأردنية هناك مخطط رئيسي تشترك فيه المدن. عادة ما يكون للمدينة شارعان متعامدان (كاردو وديكامانوس) ويشكلان قلبا للمدينة ومحورا للحركة فيها، حيث تقع على جانبيهما المباني الأثرية كسبيل الحوريات 21 والساحة المعمدة والبوابة التذكارية وغيرها (بيضون: 1997) ولا توجد في المدينة سوى كنيسة واحدة صغيرة كانت قبرا بيزنطيا.

الأدراج النازلة من الساحة المعمدة ومقابلها يأتي سبيل الحوريات

بنيت المدينة على مرتفع جبلي سمي بالأكروبولس وقد تم تحصينه بسور حجري دفاعي بني في الحقبة الهلنستية وأعيد ترميمه في الحقب اللاحقة. إضافة إلى البوابات التي لم يبق منها الكثير.

الأبواب البازلتية محفوظة في متحف أم قيس

الآثار

المنحوتات

أثناء عمليات التنقيب والترميم وجدت الكثير من المنحوتات في المدينة وقد قسم هذه المنحوتات حسب موضوعاتها فالمنحوتات التي تصور الميثيولوجيا الإغريقية بلغ عددها 19 منحوتة 12 منها للآلهة، 1 منها لشخصية أسطورية، و6 تتعلق بشخصيات شهيرة. صنعت هذه المنحوتات من الحجر الرخامي الأبيض المبلور عالي الجودة ومن المرجح أن هذه الخامة قد تم استيرادها من الخارج لقلة توفرها محليا، عرضت هذه التماثيل في الأماكن العامة والساحات وقد وجدت مبعثرة بجانب أماكن عرضها  (بيضون: 1997)

تمثال الآلهة تايكي ربة الحظ والعناية وهي تحمل قرن الوفرة، وجد هذا التمثال في تنقيبات المسرح الغربي وهو محفوظ في متحف أم قيس

ووجدت منحوتات آدمية يقدر عددها 40 منحوتة نصفية و22 منحوتة أنثوية نصفية وتخدم أغراضا جنائزية وقد وجدت في المقابر الفردية والجماعية. وتشكل هذه المنحوتات الآدمية تشكيلا رمزيا للفرد حيث تصور المنحوتة الرأس والرقبة والكتفين دون الاهتمام بالتفاصيل والملامح، استخدمت هذه المنحوتات لإبراز مكانة الميت فإن كان التمثال النصفي يحمل كتبا أو لفائف فمن المحتمل أن يكون الميت فيلسوفا أو أديبا، وإن كان التركيز على إبراز الحلي التي يرتديها فهي إشارة على ثرائه ومكانته الاجتماعية. صنعت هذه المنحوتات من الحجر المحلي البازلتي، وتحمل كثير منها ملامح شرقية فهي تصور أبناء جدارا أنفسهم (بيضون: 1997)

وجد أيضا تمثالان حيوانيان يصوران ثورا وأفعى وتعود قلة هذه التماثيل لاهتمام الثقافة آنذاك بالآلهة على شكل الإنسان وبالأساطير التي تمتلك الآلهة حياة تشبه حياة البشر. (بيضون: 1997)

المسارح

في جدارا مسرحان، المسرح الشمالي الذي بني في الجزء العلوي من المدينة، استخدمت حجارة هذا المسح في بناء المدينة التي بنيت على انقاض مدينة جدارا، كما استخدمت أقبيته كثكنات عسكرية مما زاد في تهدمه مع الوقت. كان الباحث والمستكشف غوتليب شوماخر أول من درس هذا المسرح فقد قدم وصفا شاملا له ولأبعاده وللمواد المستخدمة في بنائه (حجر البازلت والحجر الجيري) وقد ذكر بأن جدار المسرح كان متصلا بجدار المدينة. ورجح شوماخر أن جدارا كانت “منتجعا” حيث عرف عنها الثراء والغنى وبعدما ينتهي الناس من الاستمتاع بالمياه الكبريتية حول المدينة يصعدون لها ويمارسون نشاطات ترفيهية كالمسرح.(الدهش: 1993) المسرح الشمالي مسرح كبير يبلغ قطره الخارجي 85 متر والداخلي 49 متر وقد اقتطع جزء منه من الصخر. يرجح أن المسرح بني في نهاية القرن الأول الميلادي وبداية القرن الثاني. (الدهش: 1993)

المسرح الغربي واكتشاف تمثال الآلهة تايكي

أما المسرح الثاني فهو المسرح الغربي ويزوره آلاف السياح حتى يومنا هذا، ولا يزال المسرح محتفظا بشكله على عكس المسرح الشمالي، وربما يعود السبب إلى بعده عن الطريق العام وإلى صعوبة الوصول إليه فكان من الصعب أخذ حجارته لبناء البيوت. يبلغ قطر المسرح الخارجي 58 متر. وجد في المسرح تمثال رخامي بديع يصور الآلهة تايكي ربة الحظ والرعاية وهي تمسك قرن الوفرة والخير دلالة على ثراء المدينة وجرت عملية نقل التمثال وعرضه في متحف أم قيس. (الدهش: 1993)

المسرح الغربي بعد الترميم

مجمع الحمامات

شرق الشوارع المبلطة وفي طريق ترابية تقبع هنالك عدة حمامات على الطراز الروماني، تحوي الحمامات غرفا للماء الساخن وأخرى للبارد وغرفا لتغيير الملابس. بنيت هذه الحمامات في القرن الرابع الميلادي وظلت تستخدم حتى القرن السابع الميلادي. على بعد 500 متر نجد نصبا تذكاريا متصلا من الخلف بصهريج ماء كبير.

المقابر

تعد المقابر الفردية والجماعية إحدى أهم الدلائل على رخاء المدينة، وتنتشر المقابر العائلية في جدارا فنجد مقبرة عائلة جيرماني ومقبرة موديستوس ومقبرة تشيرياس ومقبرة كرياس وفي هذه المقابر، وجدت المنحوتات النصفية والمتعلقات الشخصية وأغراض أخرى للاحتفالات الجنائزية.

بوابة طبريا

 على بعد 800 متر من تقاطع شارعي الكاردو والديكمانوس، توجد آثار أساسات لبوابة المدينة الغربية وتحيط بها أبراج عديدة. وعلى بعد 400 متر من أساسات البوابة الأولى تقابلنا آثار البوابة الثانية على شكل قوس ثلاثي، ويدلنا هذا على التوسع والازدهار الذي عاشته المدينة في النصف الأخير من القرن الثاني الميلادي.

الخاتمة

 استعرضنا في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابولس الأردنية تاريخ وحضارة مدينة جدارا، المدينة التي عاشت أحداثا مفصلية كثيرة وعظيمة وضعتها بجدارة واستحقاق على خارطة السياق الحضاري العالمي والتي ما زلنا نرى آثار صمودها وعظمتها حتى يومنا هذا.

المراجع:

  • بيضون، غادة (1997) المنحوتات الحجرية في أم قيس، دراسة أثرية فنية  مقارنة، رسالة ماجستير منشورة، جامعة اليرموك.
  • العوض، عمر (1993) الأنظمة المائية في أم قيس، رسالة ماجستير منشورة، جامعة اليرموك.
  • الدهش، منذر (1993) طرق بناء المسارح الرومانية في عمان وفي أم قيس، دراسة مقارنة، رسالة ماجستير منشورة، جامعة اليرموك
  • زريقات، ميساء ( 2011) أم قيس مدينة تروي قصة حضارات مختلفة، مقال منشور على صحيفة الرأي

[1] مجمع نيقية الأول أو المجمع المسكوني الأول هو أحد المجامع المسكونية السبعة وفق للكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة وأحد المجامع المسكونية الأربعة، سُمي مجمع نيقية بهذا الاسم نسبة إلى مدينة نيقية التي عُقد فيها وهي العاصمة الثانية لولاية بيثينية وتقع في الشمال الغربي لآسيا الصغرى. للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%AC%D9%85%D8%B9_%D9%86%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D9%84

[2] الأنثولوجيا، أو المختارات الأدبية، أو المقتطفات أو المقتطفات الأدبية المختارة هي مجموعة منتقاة من الأعمال الأدبية للكاتب، يتم تجميعها من قبل المؤلف الذي يقوم باختيار اعماله وتنسيقها

[3] الأبيقورية أو المذهب الأبيقوري (بالإنجليزية: Epicureanism) يُنسب إلى الفيلسوف اليوناني أبيقور (340 ق. م ـ 270 ق. م)، الذي أنشأه وقد ساد لستة قرون، وهو مذهب فلسفي مؤداه أن اللذة هي وحدها الخير الأسمى، والألم هو وحده الشر الأقصى، والمراد باللذة في هذا المذهب ـ بخلاف ما هو شائع ـ هو التحرر من الألم والاهتياج العاطفي.

[4] الرواقية بضم الراء وتشديدها مذهب فلسفي، وإحدى الفلسفات المستجدة في الحضارة الهلنستية، أنشأه الفيلسوف اليوناني زينون السيشومي.

مدن الديكابولس الأردنية: جدارا حصن الشمال

مقدمة

أرخت عمان جدائلها، ولربما إن أمعنا النظر لكان لنا أن نرى في كل جديلة تاريخا تليدا. وقع اختيار الأردنيين عبر التاريخ على عمان مرارا لتكون واحدة من أبرز حاضراتهم إذ كانت ولا زالت مركزا حيويا مهما ومدينة تعيد رسم التاريخ الأردني البهي. في هذا البحث، سنتعرف على العاصمة الأردنية من جديد، وسنسلط الضوء على حقبة ذهبية عاشتها، حينما كان اسمها “مدينة الحب الأخوي فيلادلفيا”

ما قبل فيلادلفيا: موجز تاريخي

يعود تاريخ الوجود البشري في عمان للعصور القديمة ولأكثر من عشرة آلاف عام حيث خطا الإنسان الأردني الأول أولى خطواته نحو تأسيس أول مجتمع زراعي في العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري في موقع عين غزال. ولم تقتصر المكتشفات الأثرية على موقع عين غزال إنما امتدت لاكتشاف مواقع أثرية للثقافة النطوفية[1] (10-8 آلاف ق.م) ومواقع أثرية أخرى للثقافة الغسولية[2] أو الغسولينية وموقع تليلات الغسول جنوب البحر الميت. وتظهر هذه المواقع ثراء وتطورا كبيرا في الأدوات التي ابتكرها الأردنيون الأوائل إضافة لتطور أولى الممارسات الدينية كدفن الموتى وتقديس الجماجم والحيوانات وغيرها.

المواقد الحجرية الدائرية في موقع الشبيقة حيث وجدت بقايا الخبز. المصدر: موقع مشروع الشبيقة الآثاري وهو أحد مواقع الثقافة النطوفية في الأردن

منذ بداية العصر الحديدي الثاني (1200-330 ق.م.)  ظهر اسم عمون والذي اشتق منه اسم المدينة الحالي عمان. استقر الأردنيون العمونيون (1250 ق.م) في المدينة واتخذوها عاصمة لهم تحت اسم “ربة عمون” أي “عاصمة العمونيين”. تنتشر آثار العمونيين في ربة عمون، فنرى آثار جبل القلعة المطلة على وسط المدينة ماثلة أمامنا لتشهد على عظمة ما بنوه، إضافة لجبل القلعة، تنتشر الأبراج التي استخدمت لغايات دفاعية كبرج رجم الملفوف وبرج خلدا. وأكدت المسوحات الأثرية أن المدينة في ذلك العصر شُيّدت على 245 دونما قسمت مناصفةً بين القسم السفلي والعلوي من المدينة. (غوانمة: 1979)

صورة لتماثيل عمونية، متحف الآثار الأردني/ جبل القلعة

 

اتسمت المملكة الأردنية العمونية باقتصاد جيد معتمد على الزراعة والتجارة، وذلك لوفرة مصادر المياه ووقوعها على طريق التجارة الواصل بين الحضارة المصرية وحضارة بلاد الرافدين. وبسبب ذلك، كانت المملكة العمونية مطمعا لكل الحضارات المجاورة بما فيها الحضارة اليونانية والمصرية لذلك كانت محاطة بالأسوار والأبراج الدفاعية (غوانمة: 1979).

فيلادلفيا: التسمية والمكانة

مع اجتياح الإسكندر الكبير للمنطقة عام 333 ق.م بدأت المملكة الأردنية العمونية بالاضمحلال ككيان سياسي، و خضعت المنطقة للحكم الإغريقي وعند موت الإسكندر الكبير، اختلف ورثته بطليموس وسلوقيوس على الأردن، واستطاع السلوقيون السيطرة على المنطقة لمدة من الزمن، إلا أن البطالمة سرعان ما استطاعوا السيطرة على الأردن من جديد وبدأت حقبة جديدة في تاريخ المدينة. (غوانمة: 1979)

 دخلت المدينة حقبة جديدة، كما أسلفنا، في عهد الحاكم بطليموس فيلادلفيوس الثاني ابن الملكة كليوبترا السابعة والإمبراطور بطليموس الأول. حيث اعتلى عرش مصر عام 285 ق.م. وكانت حقبته تمثل أبهى عصور التلاقح الحضاري بين حضارتي المشرق والغرب، في جو ثقافي حيوي قل مثيله.

عملة ذهبية وجدت في فيلادلفا منقوش عليها وجه بطليموس فيلادلفيوس

تولع بطليموس فيلادلفيوس بربة عمون فأمر بإعادة بنائها وسماها تيمنا باسمه حيث انه اشتق من اسمه اسم المدينة –فيلادلفيا- وتعني الحب الأخوي في اللغة اللاتينية وهي مكونة من شقين فيلا (Phila) وتعني المحبة وديلفيوس (delphios) وتعني الأخوة.

 عام 218 ق. م. استعاد السلوقيون السيطرة على المنطقة واستطاعوا احتلال فيلادلفيا، بعد مدة طويلة من الحصار كادوا أن ييأسوا من دخولها خلاله، إلا أن أحد سكان المدينة وقع في أسرهم واستطاعوا أن يحصلوا منه على المدخل السري الذي تتزود منه المدينة بالماء، واستطاعوا قطع المياه عن المدينة التي استسلمت لاحقاً. (غوانمة: 1979)

واستمر حكم السلوقيين لفيلادلفيا، إلى أن سيطر أجدادنا الأردنيين الأنباط على المنطقة من البتراء جنوباً حتى دمشق شمالاً، وقد وجدت العديد  من الآثار الأردنية النبطية في فيلادلفيا واشتملت على الفخار الأردني النبطي عالي الجودة وتماثيل الآلهة والقبور النبطية كالقبر المكتشف عام 1943 في سفح منطقة جبل عمان (العابدي: 2009)

نماذج متنوعة من الفخّار النبطي الملوّن عالي الجودة

  ظل اسم فيلادلفيا ملازما للمدينة حتى انتهاء الحقبة الهلنستية ودخولها الحقبة النبطية التي انتهت باضمحلال المملكة الأردنية النبطية على يد الإمبراطور الروماني تاراجان، الذي غيّر طريق التجارة مما أضعف الاقتصاد الأردني النبطي. وبكل الأحوال، كان طريق تراجان الجديد يمر بفيلادلفيا فلم يتأثر اقتصادها إنما ازدهر. (غوانمة: 1979)

حلف الديكابولس

انطلقت فكرة الديكابولس في الحقبة الهلنستية لغايات تنظيمية سياسية، ومن ثم اكتسبت أهمية عسكرية عام 64 ق.م.  عندما اتخذها الإمبراطور الروماني بومبي كحصون دفاعية في المشرق. تعني “ديكا” العشر أما بوليس  فتعني “المدن” ومجتمعة تعني مدن الحلف العشرة. ضمت المدن العشر في البداية (جراسا (جرش) ، فيلادلفيا (عمان)، جدارا (أم قيس)، كانثا (أم الجمال)، هيبوس (الحصن)، دايون (ايدون)، بيلا (طبقة فحل)، سكيثوبوليس (بيسان)، أبيلا (حرثا)، دمشق، وبوسطرا (بصرى))  وكما نرى ثمان أردنية، لاحقا انضمت مدن أخرى كجادورا (السلط) وبيت راس.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة وثباتا ثمان منها أردنية

ظلت فيلادلفيا تتمتع باستقلال ذاتي نسبي في الحقبة الرومانية هي ومدن الديكابولس الأردنية الأخرى. حتى جاء  القرن الثاني الميلادي وما تلاه، عمد الأردنيون الغساسنة  إلى تأسيس حكومة مركزية تكون انطلاقة مملكتهم وتكون أيضا ممثلة عن أطياف الشعب الأردني الرافض للولاية الرومانية. فأسبغوا على هذه المدن صبغة تجارية وزراعية، فأصبحت مراكز لا مثيل لها، وظلت المدن والحواضر التي بنيت على أنقاضها مزدهرة حتى يومنا هذا. وكان ذلك لفيلادلفيا الواقعة على سيف البادية الأردنية الشرقية. لهذا اعتبرت فيلادلفيا المرفأ البري الأهم لكل القوافل التجارية القادمة من اليمن والصين والهند وروما ومصر (غوانمة: 1979)

فيلادلفيا مدينة المياه ومعدن الحبوب

إطلالة أخرى على نهر عمان- المصدر: مكتبة الكونغرس

تميزت فيلادلفيا بموقعها الاستراتيجي، فهي تقع في قلب الخطوط التجارية في العالم القديم؛ وهذا ما جعلها من أكثر مدن الديكابولس ثراء وازدهارا، حيث شكلت مجلسا خاصا للمدينة وصكت فيها نقودها الخاصة (أبو حمدان: 2016) إلا أن ما جعلها أكثر تميزا هو وفرة المياه فيها، خصوصا في وادي عمان، الوادي الذي بنيت على التلال السبعة المحيطة به المدينة القديمة والحديثة.

صورة لنهر عمان – المصدر: مكتبة الكونغرس

وصفت فيلادلفيا في المصادر التاريخية بكونها مدينة المياه، حيث احتوت على مصادر مياه متجددة وطبيعية. كان أهمها نهر عمان الذي سمي في بدايات العصر الحديث بسيل عمان العمومي وهو يمر في منتصف المدينة وفي سفح جبل القلعة ليصب في نهر يبوق (نهر الزرقاء)، وينبع من أحد جبال عمان وسمي منبعه برأس العين. يذكر أن هذا الرافد كان مصدرا مهما لمياه الشرب إضافة للري، حيث زرعت الأراضي حوله، والتي كانت مزروعة بالقمح بالكامل، وانتشرت مطاحن القمح في المدينة منذ القدم لتضيف لها لقبا آخرا وهو “معدن الحبوب” دلالة على إنتاجها الوفير من الحبوب (غوانمة: 1979)

الزرقاء 1900 إطلالة على وادي الزرقاء ونهر الزرقاء – مجموعة إرث الأردن الصورية

أما في جبل القلعة، مركز فيلادلفيا وربة عمون سابقا فقد وجدت العديد من البرك لجمع مياه الأمطار إضافة لوجود ممر مائي ضخم يصل جبلة القلعة في الوادي. (غوانمة: 1979)

بناء وتخطيط المدينة

بنيت المدينة على غرار تخطيط مدن الديكابولس والتي يشابه تخطيطها معكسر الجيش. حيث يأخذ التخطيط أقرب نقطة إلى الهيكل (هيكل هرقل في جبل القلعة) ويصير مركز المدينة ومن ثم يرصف شارعان كبيران متقاطعان في زاوية قائمة وعلى جوانبهما صفين من الأعمدة، وخلف الأعمدة يقام شارع مسقوف للمارة وعند تقاطع الشارعين وعند كل بوابة هنالك قوس نصر. يسمى الشارع الرئيس (ديكيومانوس) ورصف بموازاة نهر عمان والشارع الثاني يسمى (كاردو) ويسير من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي وكان مركز تقاطعهما قرب سبيل الحوريات ويسمى هذا التخطيط “هيبودامي” (أبو حمدان: 2016)

المدرج الروماني 1927

 وحتى عام 1860 كان هنالك شارع يمتد من منطقة راس العين حتى منطقة جسر رغدان ويقاطعه شارع آخر يأتي من طريق السلط (بعرض 37 قدم)  ليلتقي الشارعان في ساحة الجامع وسط المدينة. وكان هذا الشارع مزدانا بصفين من الأعمدة وعلى جانبه طريق آخر مسقوف (بعرض 16 قدم). وعلى غرار باقي مدن الديكابولس، فالشوارع مرصوفة ببلاط صخري أملس. وهنا نرى أن تخطيط فيلادلفيا الأول استمر حتى العصر الحديث. (العابدي: 2009)

أما بالنسبة للخطوط التي تصل فيلادلفيا بغيرها من المدن فهي ثلاث طرق رئيسة الأول قادم من جراسا (جرش) عابرا سيل الزرقا والرصيفة ومن ثم يدور حول الجبل حتى يصل ماركا ومن ثم فيلادلفيا. الثاني طريق فيلادلفيا-القدس وقد أقيم في عهد الإمبراطور أنطونيوس بيوس في القرن الثاني ميلادي. والثالث هو طريق فيلادلفيا إلى الجنوب والذي سارت عليه سكة القطار العسكري العثماني ( سكة الحديد ) في عهد الاحتلال العثماني. (أبو حمدان: 2016)

وكانت فيلادلفيا محاطة بسور دفاعي قوي اندثرت معالمه بفعل الزمن. (غوانمة: 1979) ومن المتوقع أن المدينة توسعت عدة مرات لتغطي المساحة الواقعة ما بين نهر الزرقاء ونهر الأردن ويقطعهما نهر عمان. ويصعب الوصول لمعلومات أكثر دقة عن المدينة وتخطيطها وطبوغرافيتها بسبب وقوعها في الوادي بجانب نهر، الذي بلا شك، ساهم فيضانه بمحو وطمس آثار المدينة (غوانمة: 1979)

نقود الفيلادلفيين

لتمتع فيلادلفيا باستقلال ذاتي، كان لابد لها من صك نقودها الخاصة. في نقود ومسكوكات وجدت في عدة مواقع أثرية في المدينة، كانت عبارة “نقود للفيلادلفيين” منقوشة عليها باللغة اليونانية. وقد وجدت عدة نقود أخرى تحمل صورة أباطرة الرومان مثل طيطوس وأدريانوس وأوريليوس وفيروس وكوموذس وكركلا واليوغابل وأنسنازيوس. (العابدي: 2009)

عملة صكت في فيلادلفيا حصرا، “تدرا دراخما” أي عشرة دراهم”

 قد وجدت عملة “تدرا دراخما” أي عشرة دراهم في قصر العبد في عراق الأمير. ولهذه العملة أهمية كبيرة إذ أنها ضربت من الفضة وقد وضع عليها صورة بطليموس  فيلادلفيوس الشخصية مما يدل أنها العملة الرسمية في تلك الحقبة، أما جمالياً فقد تميزت هذه العملة من جهة بصورة بطليموس التي احتوت طابع البعد الثلاثي إذ يمكن ملاحظة تقاسيم الوجه النابزة على العملة، ومن الجهة الأخرى فقد ضُربَ النسر البطلمي التقليدي –نسر زيوس-  كبير آلهة الإغريق.

تتنوع النقوش على عمل فيلادلفيا، وغالبا ما كانت صورا للأباطرة أو رسوما للآلهة كالإله هرمس والإله مركور إله الفنون والتجارة. ونجد في بعضها صورة الآلهة مينرفا آلهة الحكمة والفنون، ونلحظ أيضا كثرة تواجد عنقود العنب على المسكوكات أو على الآثار بشكل عام، حيث كان عنقود العنب رمزا محببا في فيلادلفيا دلالة على الخير والخصب. (العابدي: 2009)

الدين في فيلادلفيا

رأس تايكي المعروض في متحف الأردن

مرت فيلادلفيا بمرحلتين أساسيتين يمكن تصنيف الدين فيهما: الأولى وثنية والثانية مسيحية. في الحقبة الهلنستية والرومانية شاعت عبادة الآلهة الرومانية واليونانية كالآلهة أثينا المنحوتة من الرخام وهي آلهة الحرب، كما حضرت آلهة الأولمب بشكل عام في التماثيل والنقوش والمسكوكات. أما في الحقبة الرومانية فكان إله فيلادلفيا الأهم هو هرقل أو (هيركليس) الذي أقيم له هيكل ضخم للغاية على جبل القلعة، كما عبدت الآلهة تايكي وهي آلهة الحظ والرعاية والسعادة وقد عثرت دائرة الآثار العامة في حفريات 1957 على تمثالها المنحوت في القرن الثاني ميلادي.[3] (غوانمة: 1979)

منظر عام لمعبد هرقل في جبل القلعة عام 1950
قبضة يد هرقل الرخامية الضخمة كما تظهر في أعالي جبل القلعة قرب هيكله

أما الحقبة الثانية فهي حقبة المسيحية وكانت شديدة الازدهار في فيلادلفيا، نظرا لكونها واحدة من مدن الديكابولس التي رعاها الأردنيون الغساسنة. اعتنق الأردنيون الغساسنة المسيحية على المذهب المونوفيزي وكانوا مؤمنين مخلصين، وقد جاهد حكامهم أمثال الحارث الأردني الغساني لإيقاف اضطهاد البيزنطيين للمسيحين في المشرق.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

وبوصفها مدينة ذات حكم ذاتي كان لها أبرشيتها الخاصة وقد حضر مجمع نيقية[4] وخلقدونية[5] عدد من أساقفة فيلادلفيا. (MacAdam: 1992) وازدادت أهمية أسقفية فيلادلفيا مع الزمن حتى تحولت إلى بطركية، فبعد موت بطريرك بيت المقدس انتقل مركز البطريركية إلى يافا ومن ثم إلى مدينة دورا إلا أن بطريركية فيلادلفيا كانت هي المسؤولة عن شؤون مسيحي بيت المقدس.  (غوانمة: 1979) كما كانت فيلادلفيا مركزا لأبرشية البترا، وتذكر بعض المصادر التاريخية أن مطران حسبان قد تسلم رسالة من بابا بطريركية أنطاكيا يعلمه فيها أنه عين أسقف فيلادلفيا نائبا عنه (العابدي: 2009)

قدمت فيلادلفيا العديد من شهداء الاضطهاد الديني الذي مارسته الإمبراطورية الرومانية على المسيحيين في القرون الميلادية الأولى ومنهم من خلد اسمه إلى الآن. وتذكر المصادر التاريخية قصة ستة شباب اجتمعوا للصلاة وقد وشى بهم أحد ما فأخذوا وعذبوا ونقلوا إلى سجن فيلادلفيا وتم إعدامهم هناك (MacAdam: 1992) إضافة لهؤلاء الشباب الستة كان هنالك شهداء وقديسون من فيلادلفيا وأهمهم إليان (إيليانور أو إيليانوس) العماني والقديسان زينوس وزينان.

القديس إليان العمّاني 

تصوير للقديس إليان العمّاني

من فيلادلفيا انطلقت تمجيدات القديس الأردني إيليان العمّاني الذي استشهد بعد رفضه تقديم القربان للإله خرونس في جرش. كان للقديس العمّاني دكان قرب كنيسة جرش يحيك فيها الثياب وعندما بدأ الإمبراطور ماكسيموس (245- 313) بجمع الناس لاضطهادهم وإجبارهم على تقديم القرابين كان القديس من ضمنهم ورفض ذلك فقيّدوه، وتذكر الروايات الدينية عدة معجزات على تحرر القديس من قيوده وعلى نطق الوثن أمامه. استشهد القديس في الثامن والعشرين من تشرين الثاني حافرا اسمه في سجل شهداء الأردن المبجّلين. (MacAdam: 1992)

 

القديسان زينون وزيناس

(القديسان زينون وزيناس، من رسم جداري في كنيسة الراعي الصالح في مركز سيدة السلام، عمان، الأردن)

في عهد الإمبراطور ميكسيمانوس الذي أمعن في الاضطهاد الديني وفي منطقة زيزياء جنوب فيلادلفيا، وقف زينون أمام ظلم الإمبراطور وإجباره للشعب على الوثنية. أما زيناس فهو خادم وتلميذ زينون وقد عذبا بطريقة وحشية ونالا “إكليل الشهادة والخلود” سويا. سطر القديسان مثالا في القوة والصمود يحتذي به الأردنيون حتى اليوم. (MacAdam: 1992)

الكنائس

نظرا للأهمية الدينية التي تمتعت بها فيلادلفيا كان لا بد أن تنتشر الكنائس فيها، رافق انتشار الكنائس انتشار فن الفسيفساء الذي استخدم لإضفاء لمسة جمالية على أرضية الكنيسة. اشتهرت كنيسة البازليكا وهي نمط معماري مستطيل الشكل.

نقش كنيسة نتل الغسانية وقد كتب باليونانية ويقرأ “أوه يا حارث يابن الحارث” والمقصود الملك الأردني الغساني الحارث ابن مارية

وجدت العديد من الكنائس الأثرية، ككنيسة مارجاورجيوس في اللويبدة، التي اكتشفت في ساحة بيت السيد عبد الله الحمود. كما اكتشفت ثلاثة كنائس من القرن الخامس على أطلال نهر عمان. كما اكتشف كنسية كرسي الأسقف التي لا تزال بقايا جدرانها وأعمدتها الرخامية موجودة ومبعثرة. (العابدي: 2009)

الآثار في فيلادلفيا

أدخل لفيلادلفيا عبر العصور أنماط معمارية جديدة هلنستية ورومانية، فبنيت فيها الحمامات والملاعب والمسارح والساحات العامة والهياكل الوثنية وكما ناقشنا في فصل تخطيط المدينة فقد أعيد تخطيطها وتوسعتها بشكل كبير.  تعد أغلب آثار فيلادلفيا مرافق اجتماعية وترفيهية تعنى بالاجتماعات الثقافية الكبيرة كالمسارح ودور الموسيقى والملاهي والحمامات إضافة إلى المدافن العائلية التي تدل جميعها على مقدار الرخاء الذي عاشه الأردنيون في المدينة. وفيما يلي استعراض لأهم وأبرز الآثار المكتشفة في فيلادلفيا.

جبل القلعة

عمان كما نراها من جبل القلعة 1944

تقع آثار جبل القلعة على واحد من جبال المدينة الشوامخ، يسمى الجبل جبل الطهطور والطهطور هو رجم الحجارة الذي عبده العمونيون. كان الجبل محاطا بسور دفاعي أسس في زمن بطليموس فيلادلفيوس (285-257 ق.م.) تظهر آثاره إلى اليوم،  تعاقبت الحضارات على جبل القلعة منذ العصور الحجرية، واتخذه العمونيون مركزا لعاصمتهم، كما كان مركز مدينة فيلادلفيا. فلذلك يحوي الجبل عدة آثار تتبع لعدة عصور، فوجدت تماثيل عمونية وأدوات تعود للعصر الحجري، كما وجدت المساكن البيزنطية وهيكل هرقل إله فيلادلفيا مكان إله العمونيين السابق ذكره، ونرى يد هرقل الرخامية الضخمة على قمة الجبل إضافة لبقايا الأعمدة الكورنثية والبوابة التي ظلت حتى عام 1911. (الغوانمة: 1979)

إطلالة على هيكل هرقل
نموذج ثلاثي الأبعاد لهيكل هرقل كما يعتقد أن يكون

وفي جبل القلعة العديد من الكهوف التي تعود للعصور الحجرية ولكن أعيد استخدامها كمدافن في العصر الروماني. كما تنتصب بعض الجدران التي تحوي محاريبا كانت توضع فيها تماثيل الآلهة. وفي جبل القلعة هيكل آخر لعبادة فينوس (الزهرة) آلهة الخصب والجنس والذي أمر ببنائه الإمبراطوران بيوس وأوريليوس ومن ثم تحول إلى كنيسة العذراء مريم وقد تهدم الهيكل بفعل زلزال عام 747 م.

الحمام (سبيل الحوريات)

سبيل الحوريات – عمان – 1879

يشكل بناء الحمام في فيلادلفيا مزيجا من الجمنازيوم (القاعة الرياضية) والحمام الساخن وأحواض السباحة والنوافير ذات الشكل الجمالي. وسبيل حوريات فيلادلفيا يتبع هذا النمط مما يجعله شديد التميز والجمال. وكما أسلفنا، فقد كانت فيلادلفيا مدينة المياه وتميزت بهذا الحمام الذي ارتاده الأردنيون في فيلادلفيا لغايات الترفيه والاستجمام. (العابدي: 2009)

المدرج والساحة

 يعد المدرج الروماني الذي يتوسط قلب عمان أحد أهم آثار المدينة، بني على شرف الإمبراطور أنطونيوس بيوس (138-161 م) وتشير إلى ذلك اللوحة المثبتة على المدخل المنقوشة باليونانية. يقع المدرج على السفح المقابل لجبل القلعة، وبني عن طريق اقتطاع الصخر على شكل نصف دائرة. المدرج مقسم لثلاثة أقسام، القسم الأول يحوي 15 صفا لعلية القوم ويحوي هذا الصف أيضا ثلاثة مداخل ومخارج للمشاهدين، والقسم الثاني يحوي 14 صف أما الثالث فيحوي 17 صفا وهو لعامة الشعب. وفي المدرج ممرات للمشاهدين وثلاثة بوابات تنفذ إلى ساحة الفورم وشارع الأعمدة. يتسع المدرج لعشرة آلاف متفرج ومهو مصمم بطريقة توزع الصوت. أطلق على المدرج عدة أسماء في العصور اللاحقة فبعض المؤرخين العرب أسموه مدرج سليمان والبعض الآخر أسموه مدرج فرعون. (الغوانمة: 1979)

إطلالة على المدرج الروماني عام 1880

أقيم في المدرج الاحتفالات الوثنية في البدء ومن ثم بدأ يأخذ المسرح غايات تثقيفية وترفيهية أخرى، كعرض المسرحيات والمبارزات والمصارعة وغيرها. أما أمام المدرج فكانت الفورم أو الساحة، بطول 180 قدما، تستخدم لغرض استقبال القوافل التجارية والاجتماعات العامة  (العابدي: 2009)

الملهى أو قاعة الموسيقى

شرق المدرج الكبير يوجد مدرج صغير (بقطر 38 متر ويتسع لستمائة شخص) مختلف قليلا في الشكل والحجم عن المدرج الكبير. يرجح أن هذا المبنى هو الملهى أو قاعة الموسيقى. كان المبنى مسقوفا ويتجه تجويفه نحو الغرب على عكس المدرجات الأخرى التي تتجه نحو الشمال.

الأوديون كما يظهر من جبل القلعة

قسم المدرج الصغير إلى درجتين، تحوي العلوية على سبعة صفوف والسفلية على اثني عشر صفا، إضافة لثلاثة ممرات طويلة. وله خمسة بوابات. بني هذا الملهى في القرن الثاني الميلادي وكان يستخدم للقراءات الشعرية والمسرحيات الدرامية الخاصة بالطبقة المثقفة في فيلادلفيا. (الغوانمة: 1979)

قبو السيل

شاهد العديد من المؤرخين أمثال كوندوز بقايا نهر عمان والقناطر الرومانية التي كانت تعتليه. عام 1881، تم توثيق آخر 100 متر من هذه القناطر، ويوصف هذا العمل بأنه إبداع هندسي لا مثيل له في فيلادلفيا، حيث كانت القناطر تغطي النهر من منبعه في راس العين إلى منطقة رغدان. (العابدي: 2009)

سيل عمان 1890 وما تبقى من القناطر الرومانية فوقها

المقابر والأضرحة العائلية

منظر عام لوسط مدينة عمان ويظهر في الصورة بقايا ضريح روماني قديم والمدرج الروماني وخلف المدرج الروماني جبل الجوفة وجبل التاج عام 1930

انتشرت المقابر والأضرحة العائلية كدلالة على الثراء والرفاه الذي عاشه الفيلادلفيون. وقد اكتشفت أربعة مدافن رئيسة في المدينة:

ضريح نويجيس: في الطريق إلى خربة طبربور وعين غزال، تقع خربة نويجيس أو “قصر النواقيس” الذي يعود إلى القرن الثاني أو الثالث ميلادي. وترتفع قبته المزينة منطلقة من الجدران الأربعة المزينة بشتى أنواع الزخارف النباتية والحيوانية. (العابدي: 2009)

ضريح النويجيس

القويسمة: تقع قرية القويسمة التي تعود إلى العصر البيزنطي جنوب العاصمة عمان. اكتشفت في هذه القرية لوحات فسيفسائية رائعة الجمال، كما يوجد فيها بناء يسمى “قصر السبع” وهو بناء مستطيل يرتفع جداره عشرين قدما بمساحة 33 متر يعود للقرن الثاني ميلادي. في القصر تابوت مزخرف لطفل. وقد كشفت تنقيبات دائرة الآثار عامل 1967 عن وجود درجات حجرية على جانبها مذبحان، ينتهي الدرج بفتحة باب قليلة الارتفاع لإدخال الميت. (العابدي: 2009)

مدفن الدوار السادس: عام 1982 بدأ العمل على تنقيبات مدفن الدوار السادس في عمان قرب المركز الأمريكي للدراسات، اكتشف في المدفن 11 تابوت حجري والبناء مربع بأبعاد 190 سم × 190 سم.[6]

مدفن الجوفة: اكتشف هذا المدفن أثناء عمليات حفر الصرف الصحي في الجوفة، ويتميز بجدارياته الملونة التي تصور معجزة المسيح في إحياء الموتى. المدفن عبارة عن حجرة صغيرة بأبعاد لا تتجاوز الثلاثة متر وجدرانه مغطاه بالجص. [7]

مدفن خربة عثمان: اكتشف هذا المدفن في منطقة خلدا أثناء عملية تجهيز لبناء منشأة سكنية عام 2002، الحجرة بأبعاد 60× 180 سم. كما اكتشفت حجرات أخرى لاحقا تحوي عدة توابيت وأسرجة للإنارة وفخار ونقوش متنوعة. [8]

خاتمة 

فيلادلفيا معدن الحبوب ومدينة المياه ومدينة الحب الأخوي، لا زالت إلى اليوم تحمل ألقابها ببهاء. تقيم عمان العاصمة الحديثة على ذات الأرض التي سخرها الأردنيون عبر التاريخ منذ العصور الحجرية إلى الحقب الكلاسيكية وحتى يومنا هذا.

المراجع العربية

  • الغوانمة، يوسف (1979) عمان حضارتها وتاريخها، دار اللواء: عمان
  • أبو حمدان، تيسير (2016) فيلادلفيا المدينة والفندق، دار أزمنة: عمان
  • العابدي، محمود (2009) عمان ماضيها وحاضرها، منشورات وزارة الثقافة الأردنية
  • بطليموس المخلص، أبحاث إرث الأردن المنشورة انظر http://jordanheritage.jo/ptolemy-the-saviour/
  • أبو شميس، أديب (2003 ) اكتشاف قبر بيزنطي مبكر في خلدا خربة عثمان، حوليات دائرة الآثار الأردنية
  • زيادين، فوزي (1982) حفريات جبل الجوفة- مدفن روماني مزين بالرسوم الملونة، حوليات دائرة الآثار الأردنية
  • الرشدان، وائل (1984) قبر روماني في منطقة الدوار السادس، حوليات دائرة الآثار الأردنية
  • تدرا دراخما- عمان مدينة الحب الأخوي، أبحاث إرث الأردن المنشورة، انظر http://jordanheritage.jo/ammanphelphdlios/
  • العاصمة الأردنية العمونية-ربة عمون، أبحاث إرث الأردن المنشورة، انظر http://jordanheritage.jo/ammonit-capital/
  • الفخار الأردني النبطي، أبحاث إرث الأردن المنشورة، انظر http://jordanheritage.jo/nab-pottery/
  • الأردنيون الغساسنة: الترف الحضاري والحرية والعقلية العلمية، أبحاث إرث الأردن المنشورة انظر http://jordanheritage.jo/social-life-of-the-ghassinids/
  • الأردنيون الغساسنة: مدخل عام، أبحاث إرث الأردن المنشورة http://jordanheritage.jo/ghassanid-an-introduction/
  • الدين عند الأردنين الغساسنة: المسيحية كثقافة وحضارة غسانية، أبحاث إرث الأردن المنشورة انظر http://jordanheritage.jo/christianity-and-the-ghassanids/
  • الدين عند الأردنيين الغساسنة: مدخل عام، أبحاث إرث الأردن المنشورة http://jordanheritage.jo/ghassanids-religion-introduction/

المراجع الأجنبية:

-MacAdam, H., Bowsher, J. and Hubner, U (1992) Studies on Roman and Islamic Amman, VI, The British institute in Amman for Archeology and History

[1] اسم لثقافة سادت في العصر الحجري امتازت بقرى ومساكن حجرية على شكل تكتلات تحوي 200 فرد تقريبا، للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9_%D9%86%D8%B7%D9%88%D9%81%D9%8A%D8%A9

[2] الحقبة الغسولينية أو الغسولية أو الغازولية هي مرحلة ثقافية وتاريخية تعود إلى أواسط  العصر النحاسي وأبرز مواقعها هو موقع تليلات الغسل الأثري في وادي الأردن جنوب البحر الميت، للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9_%D8%BA%D8%B3%D9%88%D9%84%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9

[3] انظر: حولية دائرة الآثار العامة، مجلد 4/5 لسنة 1960، ص23

[4] مجمع نيقية الأول أو المجمع المسكوني الأول هو أحد المجامع المسكونية السبعة وفقا للكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة وأحد المجامع المسكونية الأربعة، سُمي مجمع نيقية بهذا الاسم نسبة إلى مدينة نيقية التي عُقد فيها

[5] انعقد سنة 451م يُعتبر من أهمّ المجامع، إذ نجم عن هذا المجمع انشقاقٌ أدّى إلى ابتعاد الكنائس المشرقيّة عن الشراكة مع الكنيستين الرومانيّة والبيزنطيّة الذين يرون أن مجمع خلقيدونية هو المجمع المسكوني الرابع

[6] راجع حولية دائرة الآثار الأردنية 1984

[7] راجع حولية دائرة الآثار الأردنية 1982

[8] راجع حولية دائرة الآثار الأردنية 2003

مدن الديكابوليس الأردنية: فيلادلفيا مدينة الحب الأخوي

المقدمة

في حقبة ذهبية من تاريخ الأردن، تطل علينا مدن الديكابولس الأردنية الحرة وتقدم لنا نموذجا حضاريا قل مثيله. فهي مدن حرة ذات سيادة واستقلال يتناسب مع طبيعة الأردنيين الماضية منذ القدم نحو تأسيس كيانهم السياسي المستقل إضافة لكونها مراكز اقتصادية لامعة في العالم القديم. في هذا البحث سنستعرض مدينة كانثا (أم الجمال) التي زينت آثارها وفسيفساؤها البادية الأردنية الشمالية.

الموقع  والطبوغرافية

 تقع كانثا (أم الجمال) في شمال شرقي الأردن وتتبع إداريا لمحافظة المفرق حيث تبعد عنها 20 كيلو باتجاه الشرق وعلى الطريق الواصل إلى بغداد والمدينة الأثرية كانثا التي كانت كبيرة المساحة وتصل إلى جبل الدروز. ولكن المدينة تعرضت لكثير من الدمار ونقلت حجارتها واستعملت في أماكن أخرى (حداد: 1997)

تقع كانثا (أم الجمال) في البادية الشمالية الشرقية وبشكل أكثر تحديدا فهي تقع في المنطقة البازلتية الكبرى وهي منطقة تكونت في مراحل تطور القشرة الأرضية في العصور الجيولوجية القديمة وخاصة العصر الثالث والرابع 1-25 مليون سنة من عمر الأرض؛ وكانت نتيجة هذه العصور تدفق كميات هائلة من الحجر الناري الأسود من الشقوق الأرضية والبراكين المخروطية التي تنتشر في البادية وفي سهول حوران الأردنية المتاخمة (الحصان: 1999) ينعكس هذا التكوين الجيولوجي على المعمار في المدينة.

الحجارة البازلتية السوداء التي تتوافر بشكل طببعي في كانثا

التسمية

سميت المدينة (أم الجمال) نسبة إلى الحركة التجارية القوية التي شهدتها خصوصا في عهد الأردنيين الأنباط وعهد الأردنيين الغساسنة حيث استخدموا الجمال في القوافل التجارية لنقل البضائع.  وكما أسلفنا تقع المدينة في منطقة غنية بالحجر البازلتي ذي اللون الأسود ولهذا لقبت بالواحة السوداء.

أما كانثا فهو بحسب المعاجم العربية القديمة كمعجم لسان العرب لابن منظور الأنصاري فلها معان متعددة  الليث الكُنْثة نَوَرْدَجَة تُتَّخذ من آسٍ وأَغصانِ خِلافٍ، تُبْسَطُ وتُنَضَّدُ عليها الرياحينُ ثم تُطْوَى وإِعرابه كُنْثَجةٌ وبالنَّبَطيَّة كُنْثا” فاللفظة تعني الليث وتعني البساط الذي يصنع من الأعواد الجافة لتبسط عليه الرياحين.

ويقول الباحث الأردني الدكتور عبد القادر الحصان في آخر أبحاثه عن اسم أم الجمال القديم هو “بيت جامول” أي بيت الجمال. وقد اعتمد الدكتور على اكتشافه لخارطة قديمة من القرن التاسع عشر منقولة عن خارطة أقدم تعود للعصر الروماني. وكتب الاسم بأحرف لاتينية ولكنه يقرأ بالسريانية Bath Gamal  أي بيت الجمال. وهو رأي اقترحه عديد من الباحثين السابقين مثل جراهام Grahum وميرل Merril ودوتي Doughty بربطها مع مدينة Beth Gamul المذكورة في الكتاب المقدس (حداد: 1991)

إطلالة على جزء من مباني أم الجمال ونلحظ جمال الفن المعماري وتفرده

أما الباحث والمستكشف بتلر Butler فقد قال بأن اسمها “ثانتيا  thantia” وذلك بالاعتماد على الخرائط الرومانية القديمة التي تضع مدينة ثانتيا جنوب مدينة بصرى بحوالي عشرين كيلومترا وقد ظهر اسم ثيانثيا المشتق من ثانتيا في الخرائط الرومانية العسكرية أيضا. (حداد: 1991) فرضية أخرى بأن كانثا تسمية أطلقت نسبة لمدينة يونانية مشابهة ولكن حجارتها بيضاء.

تاريخ البحث الأثري في المدينة

بدأ الاهتمام في  مدينة كانثا في القرن التاسع عشر حيث زارها المستكشف جراهم Grahum عام 1857 ونشر وصفا مختصرا لها. وعام 1960-1861 قام المستكشف وادينغتون Waddington  بزيارتها ونسخ النقوش التي وجدت فيها. (حداد: 1991)

توالت زيارات الباحثين والرحالة إليها، عام 1876 زارها دوتي Doughty وفي السنة نفسها زارها ميرل Merril  القنصل الأمريكي في القدس. وفي السنة التالية زارها ثومبسون Thompson. بعد 13 سنة زارها باحثون آخرون مثل فراوبيرغر Frauberger وليز Lees. أما أولى المخططات المكتملة للمدينة فكانت من صنع شوماخر Schumacher . (حداد: 1991)

من نقوس أم الجمال التي وثقتها حملات البحث والتنقيب

وأول من قام بعملية بحث أثري مكثف كانت بعثة جامعة برنستون 1904-1905. أما أهم من درس أم الجمال فكان العالم والباحث بتلر Butler  ابتداء من عام 1909 حيث رسم مخططات مفصلة للمدينة إضافة لتوثيق نقوشها وخصص لها مجلدا من مجلداته للحديث عن تاريخها وآثارها وتعد دراساته من أهم الدراسات الشاملة (حداد: 1991) (مصطفى: 2014)

ازدادت أهمية المدينة الأثرية فجذبت أنظار الباحثين أكثر، قام هورسفيلد Horsfield  بنشر بعض الصور الجوية للمنطقة والتي ساعدت في دراستها. وزارها المستكشف نلسون جلوك Glueck وبين أهميتها التجارية والتاريخية. درست الكنائس والبيوت الأثرية وبدأت البحوث العلمية التي تناولتها تنشر في مجلات عالمية مرموقة (حداد: 1991) (مصطفى: 2014) ومنذ 1970- 2000 م.، تعاونت دائرة الآثار العامة مع عدد من الباحثين والآثاريين للكشف عن المزيد من الآثار إضافة لتوثيق النقوش وترميم المباني.

التاريخ

مرت كانثا بثلاث مراحل تاريخية مهمة يمكن تقسيمها وفقا للحقب الكلاسيكية، فقد تأسست المدينة في عهد الأردنيين الأنباط ومن ثم دخلت في العهد الروماني ومن ثم البيزنطي وهنا خضعت للنفوذ الأردني الغساني.

الفترة النبطية (312ق.م. – 106م.) :

يرجع تأسيس المدينة إلى القرن الأول قبل الميلاد، وتحديدا إلى الفترة النبطية حيث لا توجد أي دلائل على كون المدينة أقدم من ذلك (حداد: 1991) (الحصان: 1999) على الرغم من أن الأردنيين الأنباط قد انتشروا في  سهول حوران من القرن الثالث قبل الميلاد حيث ورد ذكرهم في بردية زينون [1]zeno عام 259 ق.م. (حداد: 1991)

خريطة توضح خطوط التجارة الأردنية النبطية ومدى توسعها

أقام الأردنيون الأنباط مملكتهم على أرض الأردن وامتد نفوذهم إلى دمشق والبحر المتوسط ووصلت تجارتهم إلى كل بقاع العالم القديم. تتسم المملكة الأردنية النبطية بحضارة ثرية وقوية على جميع الأصعدة.  كان الأردنيون الأنباط تجارا محترفين، فبعدما قام الملك الأردني النبطي الحارث الثالث  بفرض نفوذه على دمشق عام 85 ق.م. فتحت أمام الأردنيين الأنباط أبواب تجارية أبعد، استحدثوا طريقا جديدا يمتد من وادي السرحان الأردني إلى سهول حوران وصولا إلى شواطئ البحر الأبيض. فيصل بين الهند والصين وأوروبا مارا بالأردن. وعلى طول طريق وادي السرحان أنشئت المدن النبطية كمراكز تجارية وحاميات عسكرية في آن واحد خوفا من تكرر حملات غزو السلوقيين واليهود. (حداد: 1991) وكشفت المسوح الأثرية التي قام بها الباحثون على مدار سنوات عديدة أن الاستيطان البشري في الفترة النبطية كان ذو كثافة عالية جدا (مصطفى:2014)

العملة التي سكها الملك الحارث الرابع و تحمل صورته و صورة الملكة شقيلات مما يدل على مدى التطور الحضاري التي وصل إليه الأنباط

كانت كانثا من ضمن عدة مدن أنشأها الأردنيون الأنباط (بصرى وأم الجمال وخربة السمرا وغيرها) (حداد: 1991) ترك الأردنيون الأنباط بصمتهم في مدينة كانثا سواء في العمران المتطور الذي أقاموه أو في المعابد والمعتقدات أو في حركة التجارة المزدهرة التي ضمنت لكانثا موقعا متميزا في خارطة العالم القديم.

 الفترة الرومانية (312-106م.):

عام 63-64 ق.م. قام الإمبراطور بومبي بفرض الولاية الرومانية ولكن من ناحية عسكرية وتجارية تضمن للإمبراطورية أمان قوافلها. وفي تلك الفترة، ظلت كانثا مدينة نبطية بامتياز ولكن التفاعل التجاري  بين الأردنيين الأنباط والإمبراطورية الرومانية ازداد. وقد اعتمد بومبي نظام مدن الديكابولس الحرة وهو نظام يجعل المدن أشبه بالدول المستقلة ذات السيادة ولكن مع الإبقاء على الطرق التجارية والصلات وثيقة فيما بينها وبين الإمبراطورية وهو ما يعني إقامة مناطق عازلة بين النفوذ الروماني والأردني النبطي عبر إقامة دويلات موالية سياسيا للإمبراطورية الرومانية.

خريطة توضح مدن الديكابولس الأكثر شهرة ثمان منها أردنية

 بعد مدة جاء الإمبراطور تراجان  في منتصف القرن الثاني الميلادي وغير طرق التجارة من البترا إلى تدمر ولم تتأثر الحركة التجارية في كانثا حيث أنها ظلت مدينة ديكابولس حرة وذات طابع نبطي. ازدادت أهمية سهول حوران الأردنية في حركة التجارة في العالم القديم منذ تأسيس طريق تراجان الجديد عام 111 م. (حداد:1991)

 انهارت معالم نفوذ وسيطرة المملكة الأردنية النبطية عام 106 بعد الحصار الاقتصادي الذي مورس عليها لسنوات من قبل الرومان. وهنا صعد نجم الأردنيين الغساسنة الذي استغلوا فكرة حلف الديكابولس ووحدوا صفوف الأردنيين وشكلوا حكومة مركزية تجمع  مدن الديكابولس الأردنية الثمانية إضافة لتلك غير الأردنية.

عمل الأردنيون الغساسنة على تمكين مدن الديكابولس الأردنية وتقوية اقتصادها عبر استحداث شبكة تجارة قوية وعن طريق حماية القوافل من قطاع الطرق. ازدهرت المملكة الغسانية لمدة الخمسة قرون تقريبا  (2-7 ميلادي) تقريبا وقد نالت كانثا اهتماما كأخواتها من مدن الديكابولس الأردنية.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

في حقبة الأردنيين الغساسنة تم تحصين المدينة بأسوار منيعة لكي لا تتعرض لحملات الغزو التي كان المناذرة والفرس يشنونها. بنيت في هذه الحقبة عدة مبان رئيسة في كانثا كبوابة كومودوس التي بنيت في الفترة (176-180م).

واجهة بوابة كومودوس التي بنيت في القرن الثاني الميلادي حقوق الصورة محفوظة للدكتور عبد القادر الحصان

الفترة البيزنطية (324- 636م):

بدأت الحقبة البيزنطية عندما قام الإمبراطور قسطنطين باعتبار الدين المسيحي دينا للدولة ونقل عاصمة الإمبراطورية إلى بيزنطة (القسطنطينية) الواقعة على مضيق البسفور. وحينها قسمت الإمبراطورية الرومانية إلى رومانية (غربية) ورومانية(شرقية) سميت الشرقية بالبيزنطية ابتداء من العام 324م.

من فسيفساء كنائس أم الجمال

استمر حكم الأردنيين الغساسنة حتى بدايات القرن السابع. وقد شهدت كاثنا نهضة عمرانية كبيرة خصوصا في العمارة الدينية.

كما أسلفنا، أسس الأردنيون الأنباط مدينة كانثا في قلب الصحراء الأردنية الشرقية، وسكنوها لقرون امتدت حتى بعد انهيار الدولة النبطية ككيان سياسي. شارك الأردنيون الأنباط كمكون سكاني فاعل في التغيرات السياسية والثقافية التي حصلت في أرض الأردن عقب تولي الأردنيين الغساسنة زمام الأمور السياسية وبنائهم للمملكة الأردنية الغسانية عن طريق تشكيل حكومة مركزية تجمع بين مدن الديكابولس الأردنية، وهكذا ظلت كانثا محتفظة بجوهرها النبطي الأصيل رغم تفاعلها مع الثقافات المحيطة لمدن الديكابولس الأخرى.

الزراعة ومصادر المياه

تعاني مدينة كانثا من نقص في مصادر المياه وذلك لطبيعتها حيث يطول فصل الجفاف. الاعتماد الرئيسي على مياه الأمطار المتساقطة على جبل الدروز جعل من الأردنيين على مدار التاريخ يهتمون أكثر بكيفية استدامة هذا المصدر وبكيفية الحد من هدره بكل الوسائل الممكنة. ولهذا أنشأ الأردنيون عددا كبيرا من السدود على الأودية ونظام شبكات مائي معقد وقد أتاحت هذه الوسائل للقطاع الزراعي بأن يزدهر. (خوير: 1990)

أم الجمال كما تبدو من الأفق

شمال المدينة وعلى مجرى وادي اللص اكتشف سدان كبيران مصنوعان من الحجارة البازلتية ولم يكن المستكشفون والرحالة قبل القرن العشرين قد ذكروهما. إن التقنية العالية التي تم بناء السدين بها مثيرة للانتباه حيث أن السد الأول يجمع المياه بينما تندفع نحو السد الثاني الذي يحول ويغير مجراها كي لا تهدر (خوير: 1990)  وفي نهاية وادي اللص أقيم سد ثالث يحجز المياه القادمة من واد آخر يسمى العاقب، عند تقاطع السدين الثاني والثالث اكتشفت منطقة دائرية مكونة من حجارة بازلتية متراكمة تستخدم كمحبس حجري ضخم يتحكم بتصريف المياه المجمعة إلى الأراضي الزراعية داخل المدينة. وعند توسع المدينة لغي السد الثاني واستعيض عنه بالثالث  (خوير: 1990)

بجانب السدود كان هناك قنوات الماء الضخمة فمن السد الثاني تنطلق قناة رئيسة بطول 4 كلم تفرع منها عدة قنوات أخرى. وما يميز هذه القنوات أنها تدخل إلى داخل المباني الأثرية (خوير: 1990) لقد نقل الأردنيون الأنباط خبرتهم في نظام شبكات الري والحصاد المائي في عاصمتهم البترا إلى كانثا. ففي عهد الملك الأردني النبطي الحارث الرابع (9-40 ق.م) بلغت المملكة النبطية أشد حالات ازدهارها التجاري والزراعي وأسفر هذا الازدهار عن بناء البركة النبطية (حداد: 1991)

 انتشرت الأحواض المائية والصهاريج (حداد: 1991) إضافة لشبكة قنوات مائية وجدران استنادية علاوة على المجاريش والمطاحن التي استخدمت لطحن الحبوب وإسطبلات الحيوانات التي تدل على كثافة التدجين (الحصان: 1999) والجدير بالذكر بأن الأردنيين الأنباط قد نقلوا التربة الحمراء الخصبة من سهول حوران إلى المدينة (الحصان: 1999) بمعنى آخر لقد استزرعوا الأراضي الأقرب للطبيعة الصحراوية.

صناعة الزجاج

تشتهر مدينة كانثا بالزجاج الذي وجد فيها. لقد بدأت صناعة الزجاج في الشرق الأدنى (الأردن وسوريا وفلسطين) منذ 7 آلاف سنة قبل الميلاد. (مصطفى: 2014) في القرن الأول قبل الميلاد أي في الحقبة الرومانية، تطورت تقنية صناعة الزجاج عبر النفخ وعبر قالب الصب والجدير بالذكر أن صناعة الزجاج بالقالب قد تطورت من سهول حوران الأردنية منذ 1500 عام قبل الميلاد. (مصطفى: 2014)

تتطلب هذه الصناعة حرفية عالية فقد استطاع الأردنيون أن يولدوا حرارة تفوق 1000 درجة تستطيع صهر الرمال والسيليكا لصنع الزجاج كما استطاعوا استخراج مركبات كيميائية معقدة كأكاسيد الحديد والنحاس لصبغ الزجاج وقد وصلوا أيضا لكيفية جعل الزجاج معتما عن طريق خلطه بعدة مواد كيميائية (مصطفى: 2014).

عينات زجاج من مواقع أثرية في أم الجمال. حقوق الصورة محفوظة للباحثة شذى مصطفى

ازدادت أهمية صناعة الزجاج بعدما انتشرت المسيحية في الإمبراطورية الرومانية وبعدها البيزنطية. لقد كان الزجاج المصنع في مدن الديكابولس على نمط صناعة الفخار فهو مجوف مزين بزخارف نباتية وحيوانية. بعدما انتشرت الكنائس تعززت هذه الصناعة وانتشرت عن طريق طرق التجارة التي مهد لها ورعاها الأردنيون الغساسنة. لدرجة أن الأباطرة الرومان قد دعوا صناعا محليين من مدن الديكابولس كي يصنعوا الزجاج الملون والمزخرف في الكنائس والقصور الرومانية. (مصطفى: 2014)

ولارتباط هذه الصناعة بشكل أساسي بالكنائس انتشرت زخارف معينة كالحمامة والسفينة (رمز الكنيسة) والصليب والأسماك والأيقونات. (مصطفى: 2014) وتتنوع العينات التي وجدها الباحثون في مواقع مختلفة من كانثا بين الأوعية الزجاجية وزجاجات العطر والكؤوس والنوافذ. والمثير للانتباه مدى التباين اللوني في العينات المكتشفة حيث وجدت بألوان أساسية كالأحمر والأزرق والأصفر وألوان ممزوجة كالأخضر المزرق والفيروزي والبنفسجي محمر وأصفر مخضر وغيرها. (مصطفى: 2014)

الدين

 مرت كانثا حالها حال كل مدن الديكابولس الأردنية بتجربتين دينيتين: الأولى هي الوثنية والثانية هي المسيحية. بكونها واحدة من المدن الأردنية النبطية شاعت عبادة الآلهة النبطية فيها كذو الشرى، أهم إله نبطي. وقد ترك الأردنيون الأنباط لنا من هذه الحقبة معبدا نبطيا جنوب غرب المدينة، وإلى شماله بقايا منازل وجدت فيها نقوش تمجد الإله ذو الشرى “دوشرا” باللغتين اليونانية والنبطية (حداد: 1991) كما وجدت أساسات  وأعمدة لمعبد نبطي آخر شمال شرق المدينة. (حداد: 1991)

واجهة المعبد النبطي حقوق الصورة محفوظة للدكتور عبد القادر الحصان

أما المسيحية فقد بدأت كديانة سرية منذ القرن الأول الميلادي وقد تعرض معتنقوها للكثير من حملات التعذيب والاضطهاد. (حداد: 1991)  قدم الأردن الكثير من الشهداء والقديسين الذين رفضوا الخضوع لجبروت الإمبراطورية الرومانية كالقديسين زينوس وزينان وجراسيموس الأردني وإليان العماني وغيرهم. حتى عام 324م وإعلان الإمبراطور قسطنطين التحول إلى المسيحية، ظلت ديانة مضطهدة ولكنها سرعان ما أمست دافعا نحو تشكيل حضارة وثقافة لا مثيل لها.

جزء من الكاتدرائية وهي أكبر الكنائس في أم الجمال ويلاحظ الصليب المنقوش على العمود

كانت مدن الديكابولس الأردنية حاضنة للمسيحية الأولى، ورغم الخلافات المذهبية التي صعدت إلى السطح في مناطق النفوذ البيزنطي بحلول القرنين الثالث والرابع الميلادي، كان الأردنيون الغساسنة مدافعين شرسين عن معتقداتهم الدينية ومذهبهم المونوفيزي المسيحي الذي تعرض أيضا لاضطهاد الإمبراطورية البيزنطية.

دخلت كانثا النبطية في المسيحية، وقد أسفر هذا عن إنشاء عدد كبير من الكنائس بلغ عدد المكتشف منها 15 كنيسة حتى الآن. وقد جعل هذا بعض الباحثين يرجحون كونها مدينة دينية متكاملة أكثر من كونها مدينة عادية.

الآثار

تتكون المدينة الأثرية كانثا من عدد من المباني التي تعود إلى الحقب الثلاث (النبطية، الرومانية والبيزنطية) والتي تتوزع على مساحة لا تزيد عن 800 دونم. (حداد: 1991) ولا تتبع المدينة التخطيط التقليدي لمدن الديكابولس الأردنية (الشارعان المتقاطعان الكاردو والديكمانوس) وربما يعود هذا للطابع النبطي الأردني المتأصل في المدينة.

قناطر وأقواس أم الجمال

تتميز المباني والمرافق جميعها بعدد من الصفات التي لم يجدها الباحثون في مدن أثرية أخرى، فمثلا تمتاز المنازل والكنائس على احتوائها على مغاسل متصلة بالجدران عند المداخل ( الحصان: 1999) ومن المؤكد أن هذه المغاسل قد اتصلت بشبكات صغيرة متفرعة عن الشبكة الرئيسة في المدينة.

وتدلنا طريقة بناء الجدران والقصارة على ذكاء الإنسان الأردني وعلى تفاعله القوي مع الطبيعة المحيطة به إضافة إلى التطور العالي في تقنيات المعمار. في كانثا، استخدم الحجر البازلتي المحلي والمتوافر بكثرة في المنطقة. أما بناء الجدران فكان عن طريق وضع صفين من الحجارة حيث يكون للجدار وجهان خارجي وداخلي وبينهما فراغ بسيط يتم حشوه بالطين والقطع البازلتية الصغيرة. ينعم الوجه الخارجي من الجدار أي يسنفر. تساعد هذه الطريقة على إبقاء المنزل دافئا شتاء وباردا صيفا (الحصان: 1999)

ومن الأمور التي تثير الانتباه أيضا والتي كشفت عنها التنقيبات الأخيرة هو أن كل الجدارن كان مقصورة من الداخل والخارج. وكان الأردنيون في كانثا قد طوروا طرقا لصبغ القصارة وجعلها كالدهان وكان من الألوان التي اكتشفتها التنقيبات اللونين الأحمر والخمري ويعتقد بأنه اختيار هذين اللونين كان لتمييز المدينة عن بعد. (الحصان: 1999)

 المنازل الأثرية:

في كانثا عدد لا بأس به من البيوت الأثرية التي وجدت في مواقعها الكثير من الجرار الفخارية واللقى الأثرية الأخرى. ومن هذه البيوت استدل الباحثون على كيفية البناء وطريقة القصارة وغيرها.

الكنائس:

بلغ عدد الكنائس في كانثا 15 كنيسة وهو عدد كبير مقارنة بغيرها من المدن. لقد تحولت المدينة النبطية الوثنية إلى المسيحية بشكل كامل وقد اقترح الباحثون أن هذا العدد لا بد أن ينم عن مكانة دينية مرموقة كانت المدينة تمثلها في وقت سابق.

  • كنيسة جوليانوس
  • كنيسة ماسيخوس
  • الكنيسة الشمالية الغربية
  • كنيسة القديسة مريم
  • الكنيسة الشمالية
  • الكنيسة الشمالية الشرقية
  • الكنيسة المزدوجة
  • الكنيسة الجنوبية الشرقية
  • الكنيسة الجنوبية الغربية
  • الكنيسة الغربية
  • كنيسة كلاوديانوس
  • كنيسة نورماريانوس
  • الكتدرائية
  • الدير البيزنطي المتصل بالثكنة العسكرية.
  • الكنيسة خارج الجدار الشرقي
من حملة ترميم سابقة للكاتدرائية

من المميز في كنائس كانثا أنها قد بنيت على نظام الطابقين وقد استدل الباحثون بالحجارة التي تحمل علامات شبائح حجرية تثبت بعضها على بعض. (الحصان: 1999)

يمكن تقسيم كنائس كانثا بحسب موقعها إلى كنائس مستقلة وكنائس ملحقة. ولكن التقسيم الأكثر شيوعا هو التقسيم حسب الطراز المعماري: البازليكا (الكنيسة المستطيلة) وذات القاعة الواحدة. (حداد: 1991)

واجهة الكنيسة الغربية، حقوق الصورة محفوظة للدكتور عبد القادر الحصان

رغم البحث المكثف الذي خضعت له المدينة الأثرية في كانثا إلا أن 3 فقط من أصل 15 من الكنائس تم تحديد عمرها بدقة: كنيسة جوليانوس م345 والكاتدرائية 557م والكنيسة الشمالية الشرقية 460م. ويرجح أن أغلب الكنائس قد بنيت في الحقبة البيزنطية المتأخرة. و سميت الكنائس وفقا للمعماري  أو القديس الذي وردت اسمه في نقوش الكنيسة وهناك كنائس أخرى لم يتم الكشف عن اسمها فسميت وفقا لموقعها (حداد: 1991)

الاستراحة النبطية:

الاستراحة النبطية أو ما يعرف بالخان وهو مبنى معد لاستقبال التجار المرتحلين مع مرافق كالإسطبلات للخيول والإبل. أثناء التنقيب عثر على عدد من المكتشفات القيمة كالمغسلة البازلتية المغروسة في الجدار والتي تتصل بقناة ماء فخارية داخل الجدار نفسه. وقد عثر فيه على مذبح بازلتي توضع فيه تماثيل الآلهة والتي من المرجح أن يكون ذوالشرى المذكور في نقوش المدينة.(الحصان: 1999)

مقر الحاكم الإداري (البورتوريوم):

بني هذا المبنى في القرن الرابع ليكون مقرا لحاكم المدينة وهو مبنى متكامل وبحالة جيدة حتى اليوم. يتكون من عدة غرف وقاعات يتوسطها قاعة سماوية مسقوفة بالشبائح الحجرية. وللمبنى سور يحيط بع من ثلاث جهات شرقا وجنوبا وغربا. كما عثر على خزان مياه متصل بقناة المياه الرئيسة. وللمبنى ساحة كبيرة استخدمت كإسطبل. ومن المرافق المهمة في هذا المبنى “قاعة العرش” أو “القاعة الأميرية” وهي غرفة واسعة مزينة بالأقواس وبوابتان مميزتان وكانت مخصصة لجلوس الحاكم.  وهناك “الساحة السماوية ذات الأعمدة” هي غرفة لها بوابة جنوبية رئيسية تعلوها طاقة كاشفة للمراقبة في حالة الحرب. أعيد استخدام هذا المبنى في العهد الأموي واستعمل كقصربعد إضافة الحمامات وإعادة رصف الأرض وقصر الجدران وإضفاء بعض الزخارف على المعمار الداخلي (الحصان: 1999)

الخاتمة

 لا تزال كانثا ماثلة أمامنا كواحة سوداء جميلة، رغم تهدم معالم المدينة بفعل العوامل الطبيعية وبفعل الإهمال الذي عانته عقب نقل مركز الدولة العباسية إلى بغداد، فهي لا تزال من أروع المدن الأردنية التي بناها أجدادنا الأنباط وتابع رعايتها الأردنيون الغساسنة.

المراجع

[1]

زينون كان مسئولا عن التجارة في زمن “أبولونيوس”؛ وزير الاقتصاد في عهد بطلميوس الثاني (284-246 ق.م.)

مدن الديكابولس الأردنية: كانثا الواحة السوداء

Scroll to top