Interdum et malesuada fames ac ante ipsum primis in faucibus. Morbi tristique mauris nec arcu rutrum, vel egestas sapien fermentum. Vestibulum a dui in nunc sollicitudin imperdiet. Integer lacinia ac neque nec cursus. Phasellus semper a nibh vel malesuada. Maecenas ut libero ultrices lacus sodales porttitor. Suspendisse a quam in risus molestie iaculis non nec nisi. Aliquam pretium libero vitae lectus imperdiet maximus. Fusce convallis tortor nec mattis dapibus. Aliquam finibus magna eu purus lacinia gravida. Nullam eu sem consequat, molestie est at, tincidunt nulla Maecenas vel nibh vitae massa tempus congue
Nulla ultricies quis justo non fringilla. Mauris pellentesque sodales risus a tincidunt. Etiam neque ligula, malesuada non neque vulputate, ullamcorper maximus dui. Donec viverra arcu nec eros aliquet vestibulum. Sed odio neque, vestibulum vitae lorem mattis, lobortis sollicitudin elit. Pellentesque tempor ex nec viverra elementum. Fusce aliquet, lectus in venenatis sollicitudin, risus erat venenatis ante, sed blandit tortor sapien ac ipsum. Morbi non leo luctus mi pharetra egestas. Ut non lacus neque. Donec ac cursus massa. Praesent eget neque elementum, finibus arcu interdum, condimentum felis. Phasellus a consectetur mi, vitae vestibulum enim. In vitae arcu ante. Nunc non aliquam mauris. Aenean commodo viverra ex sed rhoncus. In hac habitasse platea dictumst. Aenean in efficitur urna, a iaculis elit. Nullam auctor in orci non suscipit. Sed efficitur aliquam ipsum in suscipit.

Focusing on work on a Sunday morning

Interdum et malesuada fames ac ante ipsum primis in faucibus. Morbi tristique mauris nec arcu rutrum, vel egestas sapien fermentum. Vestibulum a dui in nunc sollicitudin imperdiet. Integer lacinia ac neque nec cursus. Phasellus semper a nibh vel malesuada. Maecenas ut libero ultrices lacus sodales porttitor. Suspendisse a quam in risus molestie iaculis non nec nisi. Aliquam pretium libero vitae lectus imperdiet maximus. Fusce convallis tortor nec mattis dapibus. Aliquam finibus magna eu purus lacinia gravida. Nullam eu sem consequat, molestie est at, tincidunt nulla Maecenas vel nibh vitae massa tempus congue
Nulla ultricies quis justo non fringilla. Mauris pellentesque sodales risus a tincidunt. Etiam neque ligula, malesuada non neque vulputate, ullamcorper maximus dui. Donec viverra arcu nec eros aliquet vestibulum. Sed odio neque, vestibulum vitae lorem mattis, lobortis sollicitudin elit. Pellentesque tempor ex nec viverra elementum. Fusce aliquet, lectus in venenatis sollicitudin, risus erat venenatis ante, sed blandit tortor sapien ac ipsum. Morbi non leo luctus mi pharetra egestas. Ut non lacus neque. Donec ac cursus massa. Praesent eget neque elementum, finibus arcu interdum, condimentum felis. Phasellus a consectetur mi, vitae vestibulum enim. In vitae arcu ante. Nunc non aliquam mauris. Aenean commodo viverra ex sed rhoncus. In hac habitasse platea dictumst. Aenean in efficitur urna, a iaculis elit. Nullam auctor in orci non suscipit. Sed efficitur aliquam ipsum in suscipit.

Taking time to make colorful art

مقدمة

تقدم مؤسسة إرث الأردن سلسلتها البحثية الجديدة المتعلقة بالإرث الغذائي والإنتاجي الأردني تزامناً مع افتتاح مطعم إرث الأردن والذي جاء ليتوّج جهود خمس سنوات من العمل والزيارات الميدانية لمختلف المناطق الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية المصنوعة من منتجات محلية، وطرق إعدادها الأصلية كما عكفت على ذلك الجدّات والسيدات الأردنيات لسنين طويلة، بشكل يضمن استدامة هذا الإرث والحفاظ عليه، من خلال حرص المؤسسة على الحصول على المنتجات من السيدات الأردنيات اللاتي ما زلن يحافظن على أصالة هذه الأطباق ويقمن بإنتاج المواد اللازمة لذلك منزلياً في تسع محافظات أردنية، تتناول هذه السلسلة البحثية كافة تفاصيل المطبخ الأردني، وما يلتصق بعملية إعداد وتناول الطعام من أبجديات الضيافة وطقوس اجتماعية تمتد لتاريخ طويل من الإسهام في الإرث الغذائي الإنساني الممتد لأكثر من أربعة عشرة ألف سنة  وهو تاريخ أقدم بقايا خبز تم العثور عليها في العالم على الأرض الأردنية.

تمهيد

يعتبر المنسف سيد المائدة الأردنية والحاضر الأول في كل الطقوس والمناسبات الاجتماعية، ويرتبط المنسف بالعديد من الطقوس والدلالات والمعاني، فإلى جانب الدلالات على كونه من أقدم الأطباق التي عرفتها التجمعات الإنسانية في المنطقة والتي ارتبطت بالمناسبات الاجتماعية وتقاسم الطعام وتشارك الموارد والأكل من نفس الطبق، فهو يعكس أيضاً بنية المجتمع الأردني التي تبرز فيها قيم الأرض والإنتاجية من خلال تمازج المكونات والمنتجات الزراعية والرعوية، فالمنسف لا يمكن أن يكون طبقا صحراويا، فالقمح والأرز لا ينبت في الصحراء بالحد الذي يجعل منه جزءاً أساسياً من الغذاء اليومي للبدوي، ولا المزارع المتفرغ لعملية الزراعة في حقوله وبساتينه قادر بسهولة على تأمين لحم الضأن ولبنها، لكن عندما تلتقي نكهة صحراءنا وجميدها مع حبوب سهلنا وصنوبر ولوز جبلنا فيسيل اللبن نهراً خالداً يروي قصة الكرم الأردني الذي لا يجف والتاريخ المستمر من الوجود الإنساني الذي لم ينقطع على الأرض الأردنية.

تاريخ المنسف . . . حكاية نصر ومجد

تشير الرواية الشعبية المتداولة حول المنسف بالاسم الحالي إلى ما قبل نحو 3200 عام، خلال فترة المملكة الأردنية المؤابية على وجه التحديد حين نجح الملك الأردني ميشع في تحميل الغذاء مضامين سياسية واستخدمه كوسيلة للاستفتاء الديمقراطي ليتمكن بحكمة القائد الذكي من معرفة مدى استعداد الرأي العام والرضا الشعبي لخوض معركة مصيرية ضد خصومهم التاريخيين بني إسرائيل في مملكة يهوذا على جزء من أراضي غرب نهر الأردن (الأراضي الفلسطينية المحتلة)، والذين كانوا في حالة حرب وعداء دائم مع الأردنيين المؤابيين، وكانت عقيدتهم تحرّم طهو اللحم باللبن فبحسب التوراة  وفي سفر الخروج الإصحاح (23) تقول آية (19): :أَوَّلَ أَبْكَارِ أَرْضِكَ تُحْضِرُهُ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ. لاَ تَطْبُخْ جَدْيًا بِلَبَنِ أُمِّهِ.” ، وكانت العلاقات الأردنية المؤابية مع الجار السيء تمر بفترات من الشد والرخاء كما هي السياسة  في كل مكان فبعد سنوات من الحرب والدماء والتضحيات، كانت تمر فترات من الهدنة والمعاهدات، وخلال احدى تلك الفترات اكتشف الأردنيون المؤابيون نوايا بني إسرائيل للغدر والانقضاض على المملكة الأردنية المؤابية ، فما كان من الملك الأردني ميشع حين وصل الخبر الى مسامعه إلا الإعداد لحرب استباقية.

الكرك 1900 – مدخل مدينة الكرك عبر نفق يؤدي إلى القلعة وسورها الممتد حول المدينة وهو نفق يعتقد بأنه يعود لحقبة المملكة الأردنية المؤابية

 لكن هذه الحرب كانت تتطلب استعداد الجميع وموافقتهم وبالتالي التضحية من الجميع والاستعداد لتحمّل النتائج وأولهم الملك الأردني ميشع نفسه الذي ضحّى بأحد أبناءه على أبواب قلعة مؤاب التاريخية في الكرك، فأمر الشعب بطهو اللحم باللبن وفي ذلك نسف لعقيدة بني إسرائيل، فتم ذلك وأرسل أعينه بين الناس وتأكد أن الجميع مستعد للمعركة المصيرية، وكان الانتصار المخلّد حتى يومنا هذا في مسلّة ميشع الحجرية المحفوظة في متحف اللوفر والذي دوّن فيها الملك الأردني المؤابي ميشع انتصاره على بني إسرائيل بقيادة ملكهم “عمري” ، وكتبت باللغة المؤابية القديمة، وجاء فيها ما يلي وفقاً لترجمة النقش كما وردت عند الدكتور يحيى العبابنة في كتابة اللغة المؤابية في نقش ميشع:

مسلة الملك الأردني المؤابي ميشع الموجودة حالياً في متحف اللوفر في باريس وهناك جهود متواصلة لاستعادتها

” أنا ميشع بن كموش ملك مؤاب الدبياني ، أبي ملك على مؤاب ثلاثين سنة، أنا ملكت بعد أبي، وأنشأت هذا المكان المرتفع نصب لكموش “إله المؤابيين” بقرحة ، لأنه أعانني على كل الملوك ، ولأنه أراني في أعدائي (أتاح لي فرصة التغلب على أعدائي) ، أما عمري ملك إسرائيل فانه عذب مؤاب أياما كثيرة ، حتى غضب كموش على أرضه ، فأعقبه ابنه وقال سأعذب مؤاب في أيامي ، قال :فنظرت إليه وإلى بيته ، وإسرائيل باد باد إلى الأبد (ضربتهم ضربه قاضية ) ورث عمري كل أرض مهدبا ، وسكن بها في أيامه ، ونصف أيام ابنة أربعين سنة ، وأرجعها كموش في أيامي ، فبنيت بعل معان ، أنشأت بها اشوح (بركة ) ، وبنيت قريتان وكان آهل جاد (من بني إسرائيل ) يسكنون في أرض عطرت (مدينه) من زمن بعيد ، فعمر ملك إسرائيل عطرت ، فحاربت المدينة أخذتها (فتحتها) وقتلت كل آهل المدينة ، فقرت عين كموش ومؤاب ، ورددت من هناك هيكل دوده، وسحبته أمام كموش بقريت (اسم مدينة ) وأسكنت آهل شران وأهل محرت ، فقال لي كموش اذهب وخذ نبه (اسم جبل) من بني إسرائيل ، فسرت بالليل ، وحاربت بها من مطلع الفجر إلى الظهر ، وأخذتها ، وقتلت جميعهم وهم سبعة آلاف رجل وامرأه وجارية ، وأحرمتهم (قدمتهم قربان) لعشتر كموش ، وأخذت من ذلك المكان يهوه وآتيت بها إلى كموش ، وملك إسرائيل عمر يهص (اسم مدينة ) وسكن بها وهو يحاربني ، فطرده كموش من أمامي ، وأخذت من مؤاب مائتي رجل من عظمائهم ، وسيرتهم إلى يهص وأخذتها (فتحتها) فضمتها إلى ديبان ، وأنا بنيت قرحة وحمت هيعرن ، وحمت هعوفل (أسماء ثلاث مدن ) فبنيت أبوابها وبنيت أبراجها ، وأنا بنيت بيت الملك ، وأنشأت البركتين بقرب المدينة ، ولم توجد بئر في داخل قرحه ، فقلت لشعب: اجعلوا لكم آباراً في بيوتكم ، وأنا قطعت الأشجار على أيدي الأسرى من بني إسرائيل ، وأنا بنيت عراعر (مدينه ) وأنا مهدت الطريق إلى أرنن (وادي الموجب كان قديماًً يسمى نهر أرنن أو نهر أرنون) ، وأنا بنيت الأنصاب ، لأنه كان (تخرب) ، وبنيت بصرى (مدينه )لأنها كانت خرابا ديبان خمسين ، لأن ديبان خضعت لي وأنا حكمت وأنا بنيت الأنصاب ، لأنه كان (تخرب ) ، وبنيت بصرى (مدينه ) لأنها كانت خرابا  مائة المدن إلى ضمتها إلى الملكة …وانا بنيت مهدبا وبيت دبلتان وبنيت بعل معان ، وسيرت إليها ..غنم البلاد وحورنان (مدينه )  وأسكنت و.. فقال لي كموش انزل لتقابل كموش، فنزلت.. كموش في زمن و.. من ثم ..وأنا.. “

وادي الموجب 1900 نهاية القرن التاسع عشر شمال الكرك وعرف بنهر أرنون وقد تم ذكره في مسلة ميشع

ومن هنا كانت إحدى العوامل التي ربطت المنسف بالمجد والنصر والفخر في تاريخ الأردنيين الناصع بالتضحية والاستبسال في رد المطامع والاعتداءات والحفاظ على سيادتهم الوطنية في وجه أعتى الممالك والإمبراطوريات بما فيها الإمبراطورية الرومانية التي منحت الأردنيين حكمهم الذاتي رغم امتدادها الشاسع.

أدلة فخارية: المنسف الأردني طبق تاريخي جماعي عمره 7000 عام على الأقل

كان ما تقدم جزءاً من السردية الشعبية الأردنية المتداولة حول المنسف والمدعومة بنصوص دينية، لكن من وجهة نظر علمية نجد أن الأدلة الأثرية والدراسات الإثنو-أثرية لا تنفي ذلك بل تؤكده وتزيد عليه بأن جذور المنسف أقدم من ذلك التاريخ وتمتد لتصل الى 5000-6500 ق.م (أي قبل أكثر من 7000 سنة من الآن على الأقل)، وذلك مع ازدهار المجتمعات الزراعية على الأرض الأردنية والتي تعتبر عين غزال في عمان الشرقية أولها وأقدمها عالمياً.

ووفقاً لدراسة إثنو-أثرية أعدّها الأستاذ في علم الآثار أ.د زيدان الكفافي والتي استندت على عدة دراسات وتقارير عن فحوصات الكربون المشع المعاير، تشير النتائج أن الأواني الفخارية والمكوّنة من أطباق كبيرة الحجم والتي ظهرت لأول مرة في المنطقة الأردنية تعود لفترة العصر الحجري الحديث الفخّاري نحو 6000-6500 قبل الميلاد، حيث تتجاوز أقطار الأطباق أكثر من 30 سم، وهو ما يعني أن المجتمعات الأردنية الزراعية القديمة عرفت الأكل الجماعي واستخدمت أطباق تتسع لكميات من الطعام الكافي لأكثر من شخص يأكلون من نفس الطبق في ذات الوقت، وفي الدراسات الإثنو-أثرية يتم الاستناد لمثل هذه الأدلة في تحليل السلوكيات الاقتصادية والاجتماعية للحضارات والجماعات التي صنعت هذه الأدوات واستخدمتها في حياتها اليومية ومناسباتها الاجتماعية وطقوسها الدينية، وبمقارنة الأواني الفخارية الواسعة التي تم اكتشافها بكثرة في مناطق خربة الزريقون شمالاً وتل أبو الخرز في وادي الأردن نرى أنها تشبه إلى حد كبير طبق تقديم “سدر” المستخدم حالياً، وتشبه إلى حد أكبر النسخة الأقدم والأكبر من سدر المنسف الذي كان مستخدماً خلال القرن الماضي وما سبقه.

نماذج الأطباق التي تم العثور عليها في موقع عين غزال شرق عمان والتي تعتبر الأقدم من نوعها بهذا الحجم على مستوى العالم

نماذج من الأطباق التي تم العثور عليها في موقع تل أبو الخرز في الأغوار الأردنية والتي تؤرخ لـ 5000 ق.م

وكما هو معلوم يجب تقديم وجبة المنسف في طبق دائري كبير يسمح بتناول عدة أشخاص للطعام في نفس الوقت وتؤكد الدراسة أن هذا الوعاء صُنع لأول مرة في المنطقة خلال فترة العصر الحجري الحديث ما قبل الفخاري ب (حوالي 7200 – 6500 ق.م.) حيث تم إثباته في المواقع المذكورة، وفي دراسة إثنو-أثرية سابقة للدكتور زيدان عن عين غزال تم نشرها عام 1986، يتأكد أنه وخلال الفترة نفسها تم تدجين الماعز والأغنام والخيل في موقع عين غزال، وكانت نسبة 71٪ من العظام المكتشفة هناك تعود إلى حيوانات مدجّنة ومستأنسة، وتمثل عظام الماعز 95٪ من اجمالي ما تم العثور عليه من عظام الحيوانات، وهذا يعني أن السكان كان لديهم فائض من هذا الحيوان “الماعز” في ذلك الوقت بالشكل الذي يسمح لهم باستخدامه كمصدر للغذاء، حيث لم يكن يؤذ اقتصادهم أن يقوموا باستهلاكه إذا تم ذبح بعض منها في مناسبات خاصة. وبعبارة أخرى، يمكن القول إن أوائل من قاموا بتحضير وجبة المنسف كانوا أولئك الذين يستطيعون صنع مثل هذا القدر الكبير، وهم الأردنيين القدماء الذين جمعوا ما بين الفلاحة والبداوة في آن واحد (مزارعي حبوب ومربي ضأن وماعز) وهنالك، بالطبع، انزياحات بدوية (يربون الإبل أيضاً. وهو ما يسمح لهم بمساحة تحرّك أوسع) وفلاحية (يزرعون البساتين والخضروات ويربون البقر والدجاج أيضاً كما، تحديداً، في الشمال الأكثر اقتراباً من عالم الفلاحين) ولكن الجدير بالملاحظة أنه لا يوجد دليل حتى الآن على وجود مثل هذه الأواني الكبيرة في المناطق الصحراوية، حيث يستخدم البدو من سكان هذه المناطق لحم الجمل بشكل أكبر في مناسباتهم وذلك بعد طهوه بالماء ويكون بذلك طبق الثريد المختلف عن المنسف، لأن لحم الجمل إذا تم طهوه باللبن يشد ويقسو ويصبح من غير المستساغ أكله.

عمان 1936 – الولائم التي اعدت لضيافة الأمير سعود – الملك لاحقا – ولي عهد المملكة العربية السعودية آنذاك أثناء زيارته إلى الأردن

مراسم تحضير وتقديم المنسف

يترافق تحضير المنسف مع أجواء خاصة، فالمنسف هو سيد المائدة كما ذكرنا ويندر أن يقدم لجانبه طبق آخر في نفس التوقيت، ويتشارك الجميع متعة تحضيره، فيتولى الرجال مهمة ذبح الأغنام أو الماعز وتقطيعها وطهوها في حين تقوم النساء بالعجن والخبز وتحضير الأرز، ويعتبر المنسف أداة للتعبير عن الشعور، فهو حاضر في المناسبات السعيدة والحزينة، ففي الفرح يقدم المنسف ويعتليه رأس مرفوع الرأس للأعلى وفي العزاء يكون الرأس منكس للأسفل تعبيرا عن حالة الحزن، وحين يقدم للضيف يترافق ذلك مع أجواء من البهجة والترحيب، وحين تطبخه الأسرة يكون ذلك في يوم الجمعة وهو نهاية الأسبوع ويوم اجتماع العائلة، حيث يندر فعلاً أن يتم تناول المنسف بشكل فردي باستثناء بعض المطاعم الحديثة اليوم، وفي المناسبات الاجتماعية الكبرى درجت العادة أن تقوم العائلات الأردنية باختيار أكثر أفرادها خبرة لإدارة عملية تحضير المنسف أو استئجار أمهر الطهاة المختصين بالذبح وإعداد المنسف من المشهود لهم بالخبرة والكفاءة في الجودة والمذاق، وفي الأفراح تحديدا تقدم المناسف ترافقها الأهازيج الشعبية .

عمان 1935 – تحضير المناسف لتقديم الولائم بمناسبة زفاف الأمير طلال – الملك لاحقا

تقنيات التعامل مع المنسف كطعام للضيافة

ومن التقنيات والقواعد التي يجب الإحاطة بها والانتباه لها عند دعوتك لتناول طعام المنسف ما يلي:

  • يقدم المنسف في سدر دائري مفتوح كدلالة على المشاركة والمساواة، ويوضع تحته خبز الشراك الرقيق ثم الأرز أو البرغل، ويكلل بقطع اللحم ومن ثم يغطىّ بأرغفة خبز الشراك من الأعلى، ويقدم اللبن جانباً.
  • يؤكل بأصابع ثلاثة من اليد اليمنى (الإبهام والسبابة والوسطى) أو بأصابع اليَد كلها ويُعاب أن يصل الطعام إلى بطن اليد أو ظهرها، وفي وضع انتصاب القامة ” وقوفاً “، ويفضّل وضع اليد اليسرى الى الخلف.
  • يبدأ تناول المنسف بعملية ” الفجولة ” وهي بضع حركات لتحريك الغماس سواء كان من الجريش أو الأرز، ليتشرّب اللبن ويتمازج معه ويبرد قليلاً.
  • يتم سحب كمية بسيطة من الغماس باستخدام طرف الأصابع وبعض من الآدام (خبز الشراك) وصناعة كرة صغيرة من الأرز والخبز واللحم، ويتم دفعها بأصابع اليد لتدخل في جوف الفم، دون أن تلمس الأصابع الشفاه.
  • يتولى المعزّب مهمة استدامة تشريب (سكب) لبن المنسف للضيوف بناء على رغبتهم وبعد سؤالهم.
  • يُراعى أثناء تناول الطعام الحفاظ على جودته ونظافته ووفرته، حيث يؤكل المنسف على طورات (جولات أو مجموعات) متتالية من الآكلين، وهي عادة درجت قديماً يتم تشارك الطبق “السدر” الواحد من عدة مجموعات، في المناسبات الاجتماعية ذات الحضور الواسع، تعرف المجموعة الواحدة من الآكلين بـ “الطور أو الطورة”.
  • يوضع رأس الذبيحة مطهواً على المنسف في وضع الإعلان عن المناسبة، فيكون مرفوعاً لأعلى في الأفراح (قِرى العرس)، ومعكوفاً للأسفل في الأتراح (العزاء).
  • من المعيب عموما على الضيف أن يمس رأس الذبيحة، ومن المتعارف عليه أن يتولى هذه المهمّة المعزب أو كبير القوم، نظراُ للدلالة الرمزية للرأس، كما يعتبر قطع لسان الذبيحة وتقديمه للضيف نوعاً من التوجيب له، ولذلك دلالة رمزية أحياناً حينما يقدم اللسان لشاعر أو خطيب مشهود له بالفصاحة، كذلك لا ينبغي أن تُمد يد الآكل إلى اللحم في أعلى سدر المنسف أو اللحم عند جاره، لكن الرجل الكريم هو الذي يقطع اللحم من أمامه ويدفنه تحت الجريش ( مشتقات القمح المطهو ) أو الأرز، ليجد الآكل اللاحق – الطورة – شيئاً يأكله، أو أنه يعطي اللحم لمن هو خلفه من المنتظرين في الطورات التالية ومن الأمثلة الأردنية الدارجة عن هذه الحالة ؛ المثل القائل : ( اقعد خلف الرجال، وشوف ويش يمدّولك ) .
  • يعاب على الضيف إذا بان قاع الطبق ( بطن السدر ) لما فيه من دلالة على جشع الضيف، بل يستخدم الآدام (ما يغمس به من خبز الشراك)، ولا تغمس اللقمة كاملة بالخبز، بل طرفها فقط، ولذلك يعتبر في قانون الضيافة الأردني أن نقص الخبز عار على المعزّب، بينما نقص الغماس عارٌ على الضيف.
  • من دلالات كرم المعزّب تشريب ( سكب ) السّمن الذائب ( السّمنة السائلة ) أمام الضيف إضافة إلى عدد جيّد من أرغفة خبز الشراك، ومن زيادة كرم المعزّب عند بعض العشائر الأردنية وضع الزُّبد ( الزبدة ) أمام الضيف، وذلك لأن هذه المواد الثلاثة هي مونة أبناء العشائر الأردنية – تحديدا القبائل البدوية – لما تمثله من رمزية لأمنهم الغذائي.

مادبا 1937 – ضيوف في ضيافة الشيخ مثقال الفايز بني صخر يتناولون طعام الغداء

ومن محظورات أكل الطعام عموما والمنسف تحديدا:

  • اللهمطة: السرعة وعدم التركيز
  • الفغم: أكل الخضار بصوت مرتفع
  • اللغ: سكب اللبن بسرعة ولهوجة
  • الفنش: التغميس بلا أدب
  • اللشوطة: التعجّل على الأكل الحار (الساخن)
  • اللش: كثرة الأكل
  • مسح اليد بطرف الطبق
  • إعادة اللقمة أو بعضها بعد أخذها
  • إعابة الطعام بعد تناوله سواءً بحضور المعزّب أو غيابه؛ يقول المثل الأردني : ( الزاد ما يتفتّش ) أي لا يصح ذكر تفاصيله وعيوبه؛ ومن أجل ذلك يقول المعزّب ( كُل من حلالها وأترك حرامها ) كناية عن حُرمة إعابة الطعام.

للمزيد عن قواعد وأبجديات وآداب الضيافة والطعام عند الأردنيين أنقر هنا .

فرصة للتذوق

يمكنكم الاستمتاع بتجربة منسف العيش الأردني – أحد الأشكال الأكثر قدما للمنسف – بطعمه المميز وبطريقة تحضيره الأصلية في مطعم إرث الأردن، والذي تم افتتاحه مؤخراً بعد رحلة بحثية استمرت لأكثر من 4 سنوات في المطبخ الأردني والهوية الغائية تم جمع أكثر من 63 طبق متنوع من مختلف المحافظات الأردنية ويتم إعدادها بمنتجات بيتية من 9 محافظات وعلى يد أمهر الطهاة من أبناء هذه المناطق.

المراجع:

  • حتّر، ناهض ، أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان: الأردن
  • بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة، مؤسسة أهلنا للعمل الاجتماعي والثقافي. عمان: الأردن
  • خريسات، محمد عبد القادر (2012) المسيحيون في قضاء السلط، عمان، الأردن
  • عبابنة، يحيى. (26-5-2009)، مقال منشور في صحيفة الدستور الأردنية بعنوان ” مسلّة ميشع الحجر المؤابي نقشُ الكرامة لملكٍ حرّر أرضه من الاحتلال
  • الزعبي، عبد الناصر (17-6-2013) مقال في موقع جراسا بعنوان: ” طهي المنسف الأردني.. معاداة سافرة لليهود”
  • Kafafi, Zeidan (2014)Sharing Food Eating from One Plate: An Ethno-Archaeological Study, Adumatu.
  • العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.

دراسة إثنو-أثرية: الأردنيين القدماء تناولوا المنسف قبل أكثر من 7 الآف عام

مقدمة

تقدم مؤسسة إرث الأردن سلسلتها البحثية الجديدة المتعلقة بالإرث الغذائي والإنتاجي الأردني تزامناً مع افتتاح مطعم إرث الأردن والذي جاء ليتوّج جهود خمس سنوات من العمل والزيارات الميدانية لمختلف المناطق الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية المصنوعة من منتجات محلية، وطرق إعدادها الأصلية كما عكفت على ذلك الجدّات والسيدات الأردنيات لسنين طويلة، بشكل يضمن استدامة هذا الإرث والحفاظ عليه، من خلال حرص المؤسسة على الحصول على المنتجات من السيدات الأردنيات اللاتي ما زلن يحافظن على أصالة هذه الأطباق ويقمن بإنتاج المواد اللازمة لذلك منزلياً في تسع محافظات أردنية، تتناول هذه السلسلة البحثية كافة تفاصيل المطبخ الأردني، وما يلتصق بعملية إعداد وتناول الطعام من أبجديات الضيافة وطقوس اجتماعية تمتد لتاريخ طويل من الإسهام في الإرث الغذائي الإنساني الممتد لأكثر من أربعة عشرة ألف سنة  تاريخ أقدم بقايا خبز تم العثور عليها في العالم على الأرض الأردنية.

تمهيد

يعتبر حليب الضأن والماعز والإبل والبقر المقوّم الأساسي الثاني في الغذاء الأردني بعد الحبوب، ويندر أن يتم شربه طازجاً ولكنه يُقدّم أثناء مواسم الحلب دافئاً ومحلّى أثناء الفطور، ويخضع إلى سلسلة من التحولات في عملية المعالجة، وقد ابتكر الأردنيون عبر العصور أساليب لحفظه واستدامته لاستخدامه طوال العام، فمنه الجميد والكشك والزبدة والسمنة وغير ذلك مما سيتم تناوله في هذا البحث المفصل والذي سيتم التطرق من خلال عناوينه إلى الثروة الحيوانية وأهميتها في المجتمع الأردن وسلوكياته الإنتاجية، مروراً بطرق استدامة موارد هذه الثروة واستثمارها، وصولاً لطرق حفظ منتجاتها وتطويرها واستخدامها في الأطباق المتنوعة التي تشكّل جزءاً كبيراً وهامّاً من المطبخ الأردني الغني بالوصفات والمكونات والنكهات.

الثروة الحيوانية في الأردن

في مجتمع انتاجي مزيج ما بين الفلاحة والبداوة كما تم شرحه في بحثنا السابق: ديموغرافيا الهوية الغذائية الأردنية، يُنظر للثروة الحيوانية بأهمية توازي الأرض وذلك في مشهد آخر من تجلي قيم الإنتاجية لدى الأردنيين القدماء الذين كانوا من أوائل المجتمعات الإنسانية التي قامت بتدجين الحيوانات للاستفادة منها، وذلك في منطقة عين غزال الأردنية، والتي تعتبر شاهدة على أهم التحولات الجذرية في حياة المجتمعات البشرية والأنماط المعيشية للناس مع بداية الألف العاشر قبل الميلاد، بعد أن بلغت قرى الصيادين، وتَمثل هذا الانعطاف في الانتقال من حياة الصيد وجمع القوت والتنقل إلى التدجين والزراعة والإنتاج والاستقرار في قرى ثابتة، تعتبر عين غزال أقدمها، ويقع موقع عين غزال، الذي شهد نشأة أول مجتمع زراعي منظم عاش قبل حوالي عشرة آلاف عام، في المنطقة الشرقية من العاصمة عمّان. وتشكل هذه المنطقة نقطة التقاء بين سكان المناطق الجبلية في الغرب والبادية الأردنية في الشرق.

عمان 1936 – سوق الحلال وتباع فيه الأحصنة والمواشي والبقر

وعلى مر العصور، حافظ الأردنيون على الثروة الحيوانية وأحسنوا استدامتها واستخدامها وتدبيرها بما يلبي احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتعلقة بالزراعة من حراثة الأرض ودراسة المحاصيل للحصول على الغذاء وصولاً للأمن والمحافظة على مناطقهم في ظل هجمات احتلالية استعمارية متتالية، وصولاً لاستخدامها في التنقل وحتى في المناسبات والطقوس الدينية قبل الديانات السماوية وما بعدها وكذلك فيما يتعلق بالمناسبات الاجتماعية من المهور وطعام الأفراح والأتراح، وحتى فيما يتعلق بالمخلّفات التي يتم استخدامها كأسمدة عضوية أو مصدراً للطاقة، ونستعرض أدناه أبرز وأهم عناصر الثروة الحيوانية في الأردن:

  1. المواشي:

تنتشر تربية المواشي في مختلف أنحاء الأرض الأردنية، وتمتاز المناطق السهلية بتربية الأغنام فيما تكثر تربية الماعز في المناطق الوعرة والجبلية لمقدرتها على التسلّق والتكيّف مع تضاريس تلك المناطق، وقد استفاد الأردنيون من المواشي بكامل تفاصيلها، فمن ألبانها ولحومها صنعوا الغذاء وطوروا منتجات الحليب بشكل يضمن إمكانية الاستفادة منها طوال العام وهو ما سيأتي ذكره لاحقاً بالتفصيل ضمن هذا البحث، واستفادوا من صوفها في لباسهم وأثاثهم المنزلي، وأما من جلودها فقد صنعوا الأحذية والفراء والأدوات المنزلية اللازمة لعمليات تحضير الغذاء.

عمان 1936 – سوق الحلال ويعج بحركة البيع والشراء للمواشي

  1. الإبل

وجدت الإبل في الأردن بأعداد كثيرة، وقد استُفيد منها في التجارة والتنقل والحرب لخفتها في الحركة وتحمّلها للمسافات الطويلة والأحوال الجوية الصعبة، ولما كانت العشائر الأردنية قديماً هي المسؤولة عن تنظيم قوافل الحج وحمايتها وتأمين الحجيج وتلبية احتياجاتهم، من خلال استلامهم من مناطق شمال حوران الأردنية وصولاً للمدينة المنورة جنوباً، في رحلة تتضمن تأمين النقل والحماية والمأكل والمشرب والإقامة في النزل التي تم بنائها على امتداد طريق الحج الملوكي التاريخي بفاصل مكاني يبلغ حوال 50 كم وهي المسافة التي تعادل مسير الإبل في اليوم الواحد، وحتى اليوم توجد فرقة خاصة من القوات المسلحة الأردنية هي فرقة الهجّانة التابعة لقوات البادية الأردنية والتي كانت نواة تأسيس الجيش الأردني.

كما استخدم الأردنيون حليب الإبل ( النوق ) ، وقدموا لحم الإبل في المناسبات الكبيرة ، وفي ولائم عزاء كبار الشيوخ، وفي استقبالهم لكبار الضيوف والوجهاء لديارهم ومضاربهم.

عمان 1941 – قوات الهجانة (فرسان الصحراء) نواة تأسيس الجيش الأردني

  1. الأبقار

اهتم الأردنيون بتربية الأبقار، للاستفادة من لحومها، وحليبها ومشتقاته حيث تمتاز الأبقار بوفرة حليبها طوال العام على عكس المواشي التي يتوفر حليبها خلال مواسم معينة، كما استفادوا من الأبقار والثيران في حراثة الأرض ودرس المحصول وجرّ العربات.

  1. الحمير والبغال

اهتم الأردنيون بتدجين الحمير والاستفادة منها لحاجتهم لها في التنقل وحمل الأثقال وخصوصاً المياه في ظل مرحلة غياب الدولة والخدمات خلال الاحتلال العثماني، كما استخدمت في بعض مجالات الزراعة حيث تتطلب بعض الأراضي حراثة خاصة باستخدام هذه الحيوانات تبعاً لحجم الأرض ومساحتها وتضاريسها ونوع المحصول، كما كانت الحمير تؤجر لنقل البضائع، وتعتبر خياراً اقتصادياً أقل تكلفة مقارنة بالخيول والجمال.

  1. الخيول

ينظر للخيل في الأردن بكونها رمز للفروسية والشهامة والشجاعة، وللخيل رمزية خاصة في وجدان الأردني وأهمية لا تقل أهمية عن الشرف والعرض، وترتبط بها الكثير من الأمثال والقصائد والقصص في الذاكرة والموروث الشعبي الأردني، وقد استخدمت الخيل في الحرب والتنقل، وكانت هناك منافسة لا تقل عما هي عليه اليوم في عمليات بيع وشراء الخيل الأردنية الأصيلة، ولم يقتصر حب امتلاكها على الرجال فقط، بل تعدّى ذلك ليشمل النساء والسيدات وفقاً لما تشير له سجلات دفاتر الضرائب العثمانية كما أن الشراء كان يتم أحياناً على جزء من الفرس أو الحصان بالشراكة مع الآخرين، وتوجد فرقة خاصة بالخيّالة ضمن تشكيلات القوات المسلّحة الأردنية حاليا.

عمان 1918 – فرسان العشائر الأردنية العمود الفقري لقوات الثورة العربية الكبرى

السلط 1920- فرسان من مدينة السلط لحظة وصول المندوب السامي البريطاني

  1. النحل

تشير الكثير من سجلات دفاتر الضرائب العائدة لفترة الاحتلال العثماني أن الأردنيون قاموا بتربية النحل في مناطق عديدة خلال العقود الماضية، وقد ورد في هذه السجلات الإشارة للقواديس والتي تعني خلايا النحل، ولأجران النحل، مما يدل على اهتمام الأردنيين بهذه المادة الغذائية وفوائدها الكثيرة.

  1. الطيور الداجنة

تنوعت اهتمامات السكّان في تربية الطيور الأليفة والداجنة، كالدجاج والأوز والحبش وغيرها، وذلك بهدف الحصول على لحومها وبيضها أو حتى لمجرد التسلية والاهتمام بها.

  1. الحيوانات والطيور البرّية

بالإضافة للحيوانات الأليفة والمدجنة، أشار الكثير من المؤرخين والرحّالة الذين زاروا المنطقة الى العديد من الحيوانات والطيور البرّية، ومنها: الغزلان، وبقر المها، والماعز البرّي (البدن)، والثعالب، والنمور، والفهود، والذئاب، والخنازير البرّية، والضباع، ومن الطيور: الحباري، والحمام، والنعام، والحجل، والقطا.

الرعي

نظراً لأهمية الحيوانات عموماً والمواشي خصوصاً في الاقتصاد الأردني الإنتاجي، أنشأ الأردنيون منظومتهم الاجتماعية الخاصة بهم لإدارة شؤونهم الاقتصادية هذه فوضعوا القواعد والمهام والقوانين والعادات التي تحكم تعاملاتهم المتعلقة بـ “الحلال” وهي لفظة أردنية تعني المواشي في إشارة لأهمية ومكانة وقداسة الثروة الحيوانية كوسيلة للعيش والبقاء، وكانت عملية تربية المواشي والاعتناء بها على شكل “قطعان” مفردها قطيع ويتكون بالمتوسط من مائة رأس يتوكل راعي بمهمة حمايتها والسير بها للمراعي الخصبة في رحلة تمتد لأسابيع، ويحرص الرعاة على إبقاء المواشي في المناطق المنخفضة والدافئة خلال أشهر الشتاء والخريف ويحتمون بالمغر من البرد القارص، وفي أشهر الربيع والصيف يخرج الناس بمواشيهم الى المناطق المرتفعة.

الطفيلة 1916 اطلالة على جبال الطفيلة وراعي غنم يعزف على المزمار

1914 – راعي شاب يعزف ألحانه بالغور الأردني 

وتعتمد عمليّة توظيف الرعاة على عدد الأغنام فإذا كثر عددها (أكثر من 150 غالباً) يتم تعيين راعيين، واذا قلّ العدد وكان متوسطاً يُكتفى براعِ واحد ويمكن ان يتشارك أبناء القرية راعِ واحد لكل مواشيهم اذا كانت قطعانهم صغيرة، ويحصل مقابل عمله لمدة عام في العادة على “فطيم – من الفطام وهو صغير الغنم حديث الولادة الذي انقطع شربه للحليب وبدأ بتناول الأعلاف  ” و 10 شياه، بالإضافة لحصوله على “منايح – من المنحة بدون مقابل” وهي المواشي التي تمنح لفترة مؤقتة لأهل الراعي بغرض رعايتها والاستفادة من حليبها ولبنها وسمنها وصوفها، ويمنح الراعي كذلك الكسوة التي تشمل اللباس والحذاء، وفي الموسم يعود الراعي بأغنامه لبيت صاحبها ليتم حلبها، أما اذا انتهى الموسم فيبقى الراعي مع الحلال في مناطق التعزيب ويتم تزويده بالغذاء والزوّادة من قبل صاحب الحلال.

أما الإبل فلا تحتاج الى الرعي بشكل عام، وكانت تسمّى “إبل همال” حيث يتركها صاحبها في المرعى ويتفقدها بين الحين والآخر وفي ذلك دليل على الثقة والأمان الذي كانت تمنحه المنظومة الاجتماعية لأفرادها، وتوسم المواشي والإبل خصوصاً بوشم العشيرة الخاص، وتمنع قيم الأردنيين الاعتداء على الابل التي ترعى بعيداً عن أصحابها، كما كان يعتبر امتلاك الإبل دلالة على الأصالة، وكانت العشائر الأردنية البدوية تتمايز في عدد الإبل التي تمتلكها، فالأسرة العادية تمتلك حوالي 10 رؤوس بينما الأسر الأقوى مكانة كانت تمتلك ما بين مئة وثلاثمائة رأس منها.

أنظمة التكافل الاجتماعي

في ظل حالة غياب الدولة خلال أربع قرون من الاحتلال العثماني أنشأ الأردنيون العديد من أنظمة التكافل الاجتماعي التي تتضمن مساعدة الفقراء والمحتاجين بطريقة تحفظ كرامتهم، وهنا نستعرض بعض هذه الأنظمة المتعلقة بتربية المواشي وآليات إدارتها واستدامتها وكيفية تشارك الموارد في الاقتصاد الأردني الإنتاجي:

  • المنايح: يعطي للشخص الميسور الفقير عدداً من رؤوس الماشية في بداية موسم الحلب (رأس أو رأسين)، وذلك للاستفادة من انتاجها من الحليب ومشتقاته، وغالباً ما تصبح هذه الأعطية دائمة ولا تسترد.
  • العدايل: وفيه يمنح الشاوي (مالك المواشي الكثيرة)، الشخص المحتاج عدداً من الأغنام يصل لعشرة للاستفادة من حليبها ومشتقاتها ومواليدها الذكور، بينما تعود المواليد الإناث إلى الشاوي.
  • شاة الوحدة: تعطى للفقير كزكاة ولا تسترد.
  • وهناك نظام الشراكة الذي يفوض فيه صاحب الحلال راعياً للاعتناء بأغنامه مقابل نصف الإنتاج من الحليب والصوف والشعر ونحوه وكذلك المواليد.
  • الفلاج / الخدامة: وهو من أساليب المشاركة الرعوية وفيه يأخذ شخص عدد من رؤوس الحلال من صاحبها ويقوم بالاعتناء بها مقابل ثلث انتاجها من الحليب ومشتقاته، بينما باقي الإنتاج من الصوف والمواليد يكون لصاحبها.

عمان 1935 – نحر الجمال وسلخها لتحضير الولائم لضيوف حفل زفاف الأمير طلال بن عبدالله ونلاحظ بالخلفية مصابيح معلقة على أعمدة لإنارة الشوارع

  • ذبائح الولائم وأنواعها

في مجتمع قائم على الاقتصاد الإنتاجي لن يكون من السهل التضحية بوسائل الإنتاج بشكل عبثي وغير محسوب وبدون ضمان الاستدامة للموارد، الشحيحة أصلاً، فكان اللحم لا يعتبر جزءاً من الوجبات اليومية للأردنيين لإتاحة الفرصة للاستفادة من المواشي كمصادر للإنتاج بدلاً من كونها موضع للاستهلاك أما طعام الولائم والمناسبات الخاصة فيتضمن اللحم كمكوّن أساسي، كما جاء في بحثنا السابق عن أبجديات الضيافة في قاموس الكرم الأردني، وفي ذات القاموس نجد أن الذبيحة لدى الأردنيين مرتبطة بِبُعد ميثولوجي صريح وحتى بالنظر في العادات الإيمانية نجد ان الذبيحة تحتل الموقع المركزي فيها قبل الصلاة والصيام ف قد تجد من هو غير ملتزم دينياً بهذه المهام والفروض لكنه يقوم بالذبح والتضحية خلال الأعياد والمناسبات الدينية، والذبيحة الدينية مرتبطة بمناسبات محددة قليلة التكرار، بينما ذبيحة إكرام الضيف هي الأكثر تكراراً واحتمالاً ولا ترتبط بمناسبة معينة أو حدث ما، بل هي جائزة للمعزبين الذين بقيامهم بواجب الضيافة المقدس يربحون مناسبة أخرى لتناول الذبيحة واللحم، وهنا نستعرض مناسبات الذبائح الأردنية التي حصرها العلّامة روكس بن رائد العزيزي على النحو التالي:

  1. المسكن: ذبيحة العقد، ولاحقاً ذبيحة الباطون، ذبيحة الصبّة (سقف البيت)، ذبيحة البيت- الدار- العتبة عند السكن في بيت جديد، ذبيحة النزل – الجيرة للجار الجديد.
  2. في الزراعة: ذبيحة الحصيدة، ذبيحة البيدر، ذبيحة الجورعة (عند نهاية الحصيدة تترك بواقي الزرع للفقراء وتذبح لهم ذبيحة)، ذبيحة الطاحونة.
  3. العرس: ذبيحة الجاهة، ذبيحة الفاردة، ذبيحة القرى، الدخلة، الزوّارة (زيارة العروس لأهلها).
  4. المولود: ذبيحة المولود ذكراً أو أنثى بدون تمييز، وتسمّى عقيقة – ذبيحة الطهور عند المسلمين، وذبيحة العماد عند المسيحيين، وبالنظر لعادات شعوب دول الجوار نجد أن هذا النوع والذبائح غير متعارف عليه لدى المسلمين والمسيحيين على حد سوّاء إلا في الأردن، مما يعني خصوصية وأردنية هذا الموروث أكثر من كونه موروث ديني، ويستدل على ذلك من خلال وجوده وذكره في سجلات الأردنيين الغساسنة مما يرجّح أن يكون هذا الفعل طقساً أردنياً غسّانياً في الأصل وحافظ عليه الأردنيون لاحقاً رغم اختلاف دياناتهم.
  5. الغنم والحليب: ذبيحة متعلقة بمواسم الرعي والإنتاج.
  6. المعاملات: ذبيحة الشراكة (في التعاملات المالية، عند القيام بصفقة او اتفاق شراكة بين شخصين على نية التوفيق) ، ذبيحة الصفاح (في التعاملات الاجتماعية تتم هذه الذبيحة بعد الاتفاق على الخطبة ومصافحة والد العريس ووالد العروس)، ذبيحة الكسب (ذبيحة ما بعد الانتصار والفوز في معركة).
  7. الدين والمعتقدات: ذبيحة الضحية (عيد الأضحى)، ذبيحة سماط الخضر (نسبة لسيدنا الخضر الموجودة مقاماته في عدة مناطق أردنية أهمها السلط والفحيص)، ذبيحة سليمان بن داهود، ذبيحة دانيال، ذبيحة الحليّة، ذبيحة النذر.
  8. الموت: ذبيحة القبر وولائم العزاء ويكون رأس الذبيحة منكّس للأسفل دلالة على الفقد والحزن.
  9. الفرس: عند شراء الفرس.
  10. الضيف: عند قدوم الضيف وهي أحد أهم أركان عملية الضيافة.

الحليب والألبان بأنواعها

يستخدم الحليب ومنتجاته بكثرة في المطبخ الأردني، وكما أوردنا سابقاً أنه قلّما يُشرب طازجاً إلا أنه يقدّم في موسم الحلب دافئاً ومحلّى أثناء الفطور، ويستهلك أكثره معالجاً حيث يخضع الى سلسلة من التحوّلات، في سياق هذه العمليّة التي سنقوم بتتبعها وتوضيحها في سياق هذا الجزء من البحث، وتعتمد وفرة الحليب على عدة عوامل، أهمها المباعدة بين الأحمال بين المواشي للاستفادة من إدرار الحليب لأطول فترة ممكنة، وعلى وفرة الرعي الربيعي، وتمارس الأسر أشكالاً متعددة من عملية الحلب، فمنها من يقوم بالحلب مرتين يوميا صباحاً ومساءاً، ومنها يكتفي بمرة واحدة يومياً، وإجمالاً يتم الحلب مرتين خلال فترة ذروة الموسم (فصل الربيع)، ثم يتم تقليل عدد مرّات الحليب فيما يليه من الأشهر، وقد يطول موسم الحليب حتى شهر تموز في أفضل الأحوال، ولا يتم معالجة حليب النوق (الجمال) إنما يشرب طازجاً أو دافئاً فلا يتم تخثيره ولا مخضه.

الكرك 1939 – صورة للثروة الحيوانية من الماشية التي اقتناها أهالي الكرك ويلاحظ القدرة على التكيف ففي الخلفية بيوت الحجر يتقدمها بيوت الشعر وأمامها يلاحظ وجود السيارة

أبرز منتجات الحليب:

  • اللبن الرائب: يُصفّى الحليب بكيس قماش ويترك جانباً حتى يخثر أو يروب فيصبح لبناً، وتختلف طرق تحضيره تبعاً للمنطقة، فيقوم البعض بغليه والآخر يكتفي بدون ذلك، وكذلك الحال فيما يتعلق بإضافة “روبة” وهي كمية من لبنة معدّ سابقاً لتسريع عملية التخثر / الترويب، ويعتمد الوقت الذي يحتاجه اللبن حتى يتشكّل على الأحوال الجوية السائدة ويستغرق ذلك أحياناً ساعات أو يستمر لنحو ثلاثة أيام.
  • اللبنة: يتم وضع اللبن في كيس من القماش يسمى “خريطة” حتى يتصفى من السوائل ويصبح أكثر تماسكاً ولزوجة وبذلك يشكل اللبنة الحامضة المميزة في المذاق وتشتهر بها محافظة جرش.
  • الزبدة: يخضّ اللبن في وعاء مخصص لهذه الغاية يسمى “السّعن” مرفوع على منصب خشبي ثلاثي القوائم “رويجة” مع إضافة الماء البارد أو الثلج إن توفّر، وتستمر عملية التحريك “الخضّ” لمدة ساعة تقريباً حتى تتشكل من الزبدة كريّات صغيرة ثم تضغط لتكوّن كتلة جامدة.
  • لبن المخيض/ الشنينة: هو السائل منزوع الدسم وهو الناتج المتبقي من عملية استخراج الزبدة ويمكن خزنه طويلاً ويستهلك شراباً أو في إعداد المنسف.
  • السمنة: هي زبدة مصفّاة يستخلص منها الماء إلى حد بعيد، ثم تمزج بالمنكهات وكلما قل مقدار الماء في الدسم زادت إمكانية خزن السمنة لمدة أطول، ويمكن ذلك من خلال سلسلة من عمليات التصفية والتسخين والتبريد والقشد وإضافة الطحين أو الجريشة، وكذلك الأعشاب التي تلوّن السمنة وتمنحها النكهة عبر عملية ( التحويج )، وتختلف هذه الأعشاب باختلاف المنطقة مما يكسب السمن خصائص وسمات إقليمية ومنزليّة، ومن أهم النباتات المستخدمة: في حواجة السمنة: الفيجن، والحندقوق، والعصفر وغيرها.
  • الجميد: يُعدّ من لبن المخيض الذي يُغلى ثم يخثّر ويصفى بكيس قماش ما بين يومين الى ثلاثة أيام، ويعجن بالملح قبل نقله إلى كيس آخر أكثر رقّة، ويثقل عليه بحجر حتى يتصفّى تماماً، ثم يجعل على شكل أقراص ويتم تجفيفه في مكان مشمس، ويحتوي الجميد على كمية قليلة من الدهن، بينما يحتوي على نسبة عالية من البروتين استناداً لتحليلات تم اجرائها على عينات من الجميد.
  • الكشك: وهو مزيج من الحبوب، ومشتقات الحليب من خلال إضافة البرغل الناعم “السميد” إلى الشنينة، وجعلها أقراصاً حتى تجف.
  • الجبنة المالحة: يستعمل الحليب مع إضافة مادة “الإنفحة” التي تؤخذ من معدة الماعز أو الخروف يوم ولادته أو من بعض المكونات النباتية مثل عصارة التين، وتساعد عند إضافتها للحليب الساخن أو الدافئ، على تخثّر الحليب بشكل سريع فيما بين 15-30 دقيقة ثم تعجن الخثارة وتوضع على قطعة قماش، وتضغط تحت أثقال لتصفية السوائل ويحفظ الجبن لاحقاً في ماء شديد الملوحة للحفاظ عليه وتخزينه.

عمان 1922 – سيدة تقوم بتحضير اللبن “خض السعن” في وادي السير

أطباق أردنية بمنتجات الحليب :

  1. المنسف
  2. الرشوف
  3. المجللة
  4. الهيطلية
  5. المحاشي البردقانية
  6. الكشكية
  7. فطائر الكشك
  8. التشعاتشيل

فرصة للتذوق

كل هذه الأطباق وغيرها يمكنكم الاستمتاع بتجربتها في مطعم إرث الأردن، والذي تم افتتاحه مؤخراً بعد رحلة بحثية استمرت لأكثر من 5 سنوات في المطبخ الأردني والهوية الغذائية تم جمع أكثر من 63 طبق متنوع من مختلف المحافظات الأردنية ويتم إعدادها بمنتجات غذائية عبر سيدات المجتمع المحلي من 9 محافظات وعلى يد أمهر الطهاة من أبناء هذه المناطق.

المراجع

  • حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان:الأردن
  • بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة, مؤسسة أهلنا للعمل الإجتماعي والثقافي.عمان: الأردن
  • العبادي، احمد (1979) المناسبات البدوية، عمان: الأردن
  • العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.
  • العزيزي، روكس (2012) الطبعة الثانية، الجزء الثالث، معلمة للتراث الأردني، مطبعة السفير، عمان: الأردن
  • فريق باحثين (2013) أطلس الأردن – التاريخ، الأرض والمجتمع، المعهد الجغرافي الملكي والمعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، عمان: الأردن

منتجات الحليب والألبان في المطبخ الأردني

تقديم

تقدم مؤسسة إرث الأردن سلسلتها البحثية الجديدة المتعلقة بالإرث الغذائي والإنتاجي الأردني تزامناً مع افتتاح مطعم إرث الأردن والذي جاء ليتوّج جهود خمس سنوات من العمل والزيارات الميدانية لمختلف المناطق الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية المصنوعة من منتجات محلية، وطرق إعدادها الأصلية كما عكفت على ذلك الجدّات والسيدات الأردنيات لسنين طويلة، بشكل يضمن إستدامة هذا الإرث والحفاظ عليه، من خلال حرص المؤسسة على الحصول على المنتجات من السيدات الأردنيات اللاتي ما زلن يحافظن على أصالة هذه الأطباق ويقمن بإنتاج المواد اللازمة لذلك منزلياً في تسع محافظات أردنية، تتناول هذه السلسلة البحثية كافة تفاصيل المطبخ الأردني، وما يلتصق بعملية إعداد وتناول الطعام من أبجديات الضيافة وطقوس اجتماعية تمتد لتاريخ طويل من الإسهام في الإرث الغذائي الإنساني الممتد لأكثر من أربعة عشرة ألف سنة تاريخ أقدم بقايا خبز تم العثور عليها في العالم على الأرض الأردنية.

تمهيد

كنا قد تناولنا في بداية هذه السلسلة موضوع ديموغرافية الهوية الغذائية الأردنية التي تشكلت ملامحها عبر قرون متواصلة من البحث والتجريب ومزج المكونات للوصول الى أفضل نتيجة من ناحية القيمة الغذائية والطعم وتوفر المكونات والمواد في البيئة المحيطة، هوية يتوحد فيها الإنسان مع المكان والزمان، وخلصنا الى أن الهوية الغذائية الأردنية تتكون بشكل أساسي من ثلاثة مكونات: الحبوب مثل القمح والشعير والأرز، ومنتجات الحبوب المعالجة مثل البرغل والجريش والفريكة والخبز بأنواعه، ومنتجات الحليب من سمن وجميد ولبن ونحو ذلك، وسنتناول في هذا البحث مراحل انتاج الحبوب، وكيف أبدعت اليد الأردنية المنتجة في تحويل الحبّة إلى محبة.

عمّان 1900 – استخدام العربات الزراعية والادوات الزراعية المصنوعة محليا في محاولة الأردنيين البقاء والصمود خلال الفترة العثمانية

 

حراثة الأرض وتجهيزها

تعرف حراثة الأرض أو فلاحتها بأنها عملية زراعية تهدف إلى إعداد التربة الزراعية عن طريق تحريكها ميكانيكيًا، وهي عملية يتكفل بالقيام بها الرجل لما تتطلبه من جهد بدني عالٍ، وقد تتم لمرة واحدة أو بشكل دوري متكرر على فترات طوال الموسم، وتتنوع الأساليب المستخدمة في عملية الحراثة سواء من خلال التوقيت وعدد المرات، أو من خلال اختلاف الحيوانات المستخدمة والأدوات وذلك بحسب الهدف من الحراثة وطبيعة المكان الذي تتم العملية فيه، وقد شاع في السابق استخدام الفدان الذي تجرّه الدواب مثل الثور أو الحمار قبل أن تتطور تزامناً مع الثورة الصناعية التي نتج عنها تطور هائل في مجال تصنيع الأدوات الزراعية والمعدات، ويبدأ موسم الحراثة غالباً قبل بداية هطول المطر من منتصف شهر تشرين الأول ولغاية منتصف شهر شباط، كما أن هناك نوع آخر من الحراثة يسمى بـ “الكراب” وهي عملية حراثة تتم في نهاية الربيع بهدف تنظيف الأرض وتخليصها من الأعشاب والشجيرات غير المفيدة وتجهيزها للموسم القادم.

عمد الفلاح الأردني إلى استخدام أكثر من حيوان معاً في عملية الحراثة، لتسهيل العمل، ولزيادة الانتاجية، فذلك يعطي المزيد من القوة والكفاءة في عملية تسمى: “قَرَن” من اقتران، لأن الفلاح يَقْرٍن الحيوانات، أي يربطها معاً. وتستخدم الحمير لحراثة المناطق الوعرة او الضيقة أو بين الأشجار، لسهولة التحكم بها وبطئها، مما يتيح مجالاّ أكبر من الدقة دون الحاجة لكثير من الجهد، بينما تستخدم الخيول والبغال في المهام التي تتطلب جهداً أكبر، مثل البيادر الكبيرة، أو للدراسة (عملية معالجة القش)، وقد يتم في بعض الحالات قرن عدد كبير جداً من الحيوانات تصل الى نحو العشرين، وعرف ذلك في بيادر كبار الملّاكين في مناطق سهل حوران الأردنية، وفي حالة وجود أكثر من حمارين، فإن على الفلاح أن يحسن اختيار موقع كل حمار بحسب قوته، ذلك أن الحمار في الدائرة الأبعد، يكون الجهد المطلوب منه كبيراً مقارنة بالحمار في مركز الدائرة، ولهذا تتعد التسميات: فالحمار القوي في الموقع الأبعد عن المركز يسمى ” شوّاحي“، أمّا حمار المركز الضعيف فيسمى ” رابوط “، لأن مهمته لا تتجاوز الدوران حول نفسه، أما باقي الحمير فيسمى الواحد منها ” لوّاحي “، وهي تتسلسل بحسب قوتها.

جرش 1925 – فلاح يواصل شق الأرض وفلاحتها باستخدام الثيران وبالخلفية آثار جرش العريقة مع ملاحظة استعمال عملية “القرن” وربط الحيوانين معاً

وتعتبر الحراثة أولى خطوات التحضير والعمل للحصول على محصول جيد في الموسم القادم وتدل على ملامح التخطيط الاستراتيجي الطويل المدى للفلاح الأردني، والذي تحتم عليه ظروف عملية الزراعة المحفوفة بالمخاطر واحتمالات النجاح والفشل أن يعمل بكل طاقته وأن يحسب كل خطوة يقوم بها لما لها من نتائج في المستقبل، ويمكن تلخيص الأهداف المرجوة من الحراثة بكونها عملية لتنعيم التربة وتهيئة الأرض لعملية البذار أو الزراعة، ومكافحة الآفات وبالذات الأعشاب، وخلط الأسمدة بالتربة، والتخلص من مخلفات المحصول السابق.

البذار

وهي عملية وضع البذور في التربة بهدف نموها. وتتم من خلال وضع البذار على عمق مناسب وبتوقيت مناسب بهدف تسهيل إنباتها وظهورها فوق سطح التربة، وتتم العملية بطقوس مميزة تبدأ بالبسملة وبضع البذار في الثوب، وتترافق بعد ذلك مع الدعاء الممزوج بالأهازيج الشعبية، التي تقول إحداها:

يا الله الغيث يا ربي  تسقي زرعنا الغربي

 وكان يبلغ معدل زراعة الأسرة الأردنية ثلاثين نصمداً (نصف مد) من القمح ومثلهاة من الشعير ونصف المد ( نصمد بالعامية) هو وعاء برميلي الشكل يستوعب نحو 10 كغم من الحبوب، وغالباً ما كانت الأسرة تعزب في منطقة الزراعة طيلة مدة الحراثة والبذار، ثم تعود للتعزيب مرة أخرى للقيام بتعشيب الأرض والتخلص من الأعشاب غير المفيدة.

عمان 1900، أردني من بلقاوية عمّان ، ينثر الأرض حُباً وحباً في المدرج الروماني في مشهد يوضح ترسخ قيم الانتاجية عند الأجداد الأردنيين

 


لوحة للفنان ومختص الآثار الأردني نصر الزعبي وهي مستلهمة من الصورة الأصلية

الحصاد

يعتبر الحصاد مسؤولية جماعية، يتشاركها كل أفراد الأسرة القادرين على العمل، بغض النظر عن الفوارق العمرية والجندرية، وتتم بالأيدي والمناجل معاً، ومن الجدير ذكره في هذا السياق أن الأردنيين كانوا أول من ابتكر المنجل تاريخياً، من خلال استخدام الأدوات الصوانية بتصاميم تشبه المنجل الحالي ولنفس الغاية، ويعتبر المنجل ضرورياً لحصاد القمح خصوصاً لكون عود القمح أقسى من عود الشعير.

تبدأ طقوس الحصاد منذ الفجر وحتى مغيب الشمس في محاولة للاستفادة من كل دقيقة من الوقت، وتترافق أيضاً مع الأغاني والأهازيج ومنها:

منجلي وا منجلاه    راح للصايغ جلاه

ما جلاه الا بعلبة     ليت هالعلبة إفداه

ومن العادات المرتبطة بالحصاد “العونة” التي تدل على أن المجتمع الأردني هو مجتمع تسوده روح التعاون والمحبة والانسجام تاريخياً وتأصل ثقافة العمل التطوعي في الوعي الجمعي للأردنيين، فترسل الأسر متطوع او اثنين من أبنائها لمساعدة الأسر المتأخرة في الحصاد، وعادة بالمقابل يذبح المستفيد من العونة رأساً أو رأسين من الغنم ويولم لضيوفه من المعاونين كتعبير عن شكره لمجهودهم وتعبهم، ولا تكون هذه الذبيحة إلا منسفاً.

 

الدْراسة

أثناء وبعد عملية الحصاد يكوَّم الزرع المحصود في أكوام صغيرة يطلق البعض عليها “إغمور / الواحد منها غِمِر“، ثم يتم نقله من الحقول الى البيادر، في عملية تسمى “الرجادة” تقع مسؤوليتها بشكل أساسي على الرجال لما تتطلبه من جهدٍ بدني عال، حيث يجمعون “الغمور” بعد نهاية الحصاد وينقلونها إلى البيدر، وهو أرض سهلة يتم تنظيفها من الحصى والأشواك، وترش الغمور بالماء حتى تتلبد وتتماسك وتصبح كومة أكبر تسمى “الحلة“، ثم تنقل بالحمير والدواب إلى “المدرس” حيث يتم درس السنابل وتحويلها إلى خليط من الحبوب والقش من خلال عملية تقنية معقدة ومتقنة تدل على دقة ومهارة الصانع وقدرة الأردني على تطوير الأدوات الزراعية.

 

مادبا، عيون موسى1900  – صورة توضح مشاركة كافة أفراد الأسرة في مختلف مراحل عملية الإنتاح

الذراة

هي عمليّة فصل الحبوب عن محيطها من قش وأعواد، من خلال إلقاء المزيج في الهواء لكي تبعثر الرياح القش الخفيف وتسقط الحبوب الثقيلة على الأرض من جديد. ويستخدم في ذلك أداة خشبية تشبه الشاعوب تسمى “المذراة” يحملها الرجل الذي يتحرّى ويتحيّن لحظات هبوب الهواء الذي يساعد على إتمام عملية الذراة، ومن هنا جاءت الأهزوجة الشعبية :

هبّ الهوى يا ياسين     يا عذاب الدرّاسين

وتشارك المرأة الرجل عملية تذرية الحبوب في مشهد يبرز التشاركية والتكاملية التي يعيشها الإنسان الأردني مع زوجته  التي يعتبرها شريكة له ولا ينتقص منها، وتتلخص مهمتها في هذا الجزء بمساعدة زوجها في إزالة ما يعلق بالمذراة من كتل التبن الخشنة باستخدام جذوع الأشجار في عملية تسمى بـ “المراحة“.

وبعد نهاية العملية تبدأ مرحلة “الكيالة” لاحتساب صافي الناتج وتعبئته في “شوالات” تمهيداً لتخزينها، وذلك في لحظات مميزة يقطف فيها الجميع ثمار تعبه، وجرت العادة أن أول ما يؤخذ من رأس الكوم وصافي الناتج يتم توزيعه على الفقراء، أو/ و مبادلته بحلاوة توزع على العاملين في البيدر كحلوان لنهاية العمل وإتمام المهمة بنجاح.

وكان الأجداد الأردنيين الأدوميين من السباقين في مجال تطوير القمح جينياً من خلال انتقاء الحب الجيّد مما ساعدهم على الاعتمادعلى أنفسهم في انتاج كامل غذائهم وتصدير الفائض للمناطق المجاورة ، وتعمل مؤسسة إرث الأردن حالياً على توثيق مسيرة القمح الايدومي الذي ينتج أضعاف ما ينتجه القمح العادي،ونرفق أدناه الجزء الأول من الوثائقي الخاص بهذا الابداع الأردني :

وكان الأجداد الأردنيين الأدوميين من السباقين في مجال تطوير القمح جينياً من خلال انتقاء الحب الجيّد مما ساعدهم على الاعتمادعلى أنفسهم في انتاج كامل غذائهم وتصدير الفائض للمناطق المجاورة ، وتعمل مؤسسة إرث الأردن حالياً على توثيق مسيرة القمح الايدومي الذي ينتج أضعاف ما ينتجه القمح العادي، ونرفق أدناه الجزء الأول من الوثائقي الخاص بهذا الابداع الأردني :

الطواحين والجواريش

كما لوحظ فإن عملية الزراعة لا يمكن أن تكون مجرّدة ومنفصلة عن باقي العمليات المرتبطة بها، فقد طوّر الأردنيون على مدار عشرات السنين كل الأدوات التي تساعدهم على تخفيف العبء والحصول على النتائج الإيجابية، ولعل الطواحين والجواريش الماثلة حتى اليوم في معظم القرى الأردنية خير دليل على هذا، فنظراً لصعوبة خزن دقيق القمح (الطحين) لمدة زمنية طويلة، وحفاظاً على جودة القمح، كان السكان المحليين يخزنون القمح حباً، ويذهبون للطواحين طوال العالم لطحن ما يلزمهم أولاً بأول، وتنوعت الطواحين والتقنيات المستخدمة فيها، ما بين طواحين مائية كانت تُقام على الأودية والمجاري المائية في خطوة تُعد من أقدم الأمثلة على استخدام الطاقة المتجددة، ولا تزال الطواحين مشهداً مألوفاً في معظم الأودية الرئيسية في الأردن، واستخدمت الطواحين لمعالجة أنواع مختلفة من الحبوب بما فيها القمح والشعير والأرز والحمص والعدس والحناء والكركم وقصب السكر، وكان أصحاب الطواحين يتقاضون جزءاً من المحصول مقابل عملية الطحن، وضلت طواحين الماء مستخدمة حتى منتصف القرن العشرين حتى بعد دخول الطواحين البخارية.

وتتنوع أشكال وأساليب الطواحين تبعاً لنوع الجريش، سواء كان خشناً أو دقيقاً ناعماً جداً، واستخدمت الجاروشة وهي طاحونة الرحى كجزء من اللوازم الأساسية في البيت الأردني، وكانت تقطع من حجر الغرانيت أو البازلت البركاني غالباً، ويستغرق قطع هذا الحجر من الجبال نحو يومين من العمل الشاق، ليتم إضافة يد الجاروشة والمحور الخشبي الذي يتوسطها وبذلك تكون قد صنعت يدوياً ومنزلياً، وتحتفظ الرحى كغيرها من الأدوات التقليدية مثل المهباش والدلة برمزيتها ومكانتها، وتحتفظ بها الأسر كرمز للدلالة على الإنتاجية والكرم، وتعتبر مهمة الطحن اليدوي من مهام المرأة عادة، فتقوم بغربلة الحبوب وتنظيفها، ثم تبدأ بأخذ الحب بيدها اليسرى وتضعه في الثقب الذي يتوسط حجر الجاروشة العلويّ، ثم تديره بيدها اليمنى، ويمكن تكرار عملية الطحن مرتين للحصول على طحين أكثر نعومة.

منتجات الحبوب

يعتبر الخبز الطريقة الرئيسة لاستهلاك القمح حالياً في حياة كثير من الشعوب، الا أن للحبوب استخدامات أكثر في المطبخ الأردني، فقد اعتاد الأردنيون على تحضير الحبوب المعالجة بأشكال وأساليب مختلفة، نستعرض أهمها فيما يلي:

  1. البرغل: وهو قمح متوسط السلق يجفف ثم يجرش خشناً، اعتاد الفلاحون في شمال الأردن على انتاجه بكميات كبيرة، وتقدّر كمية البرغل التي تخزنها عائلات الفلاحين في المنطقة ما بين 50-75 كغم سنوياً لكل فرد في العائلة خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حيث كان البرغل هو الطعام الرئيس الذي يقدم في الأيام العادية، ويمكن أن يكون البرغل خشناً أو ناعماً، أو ناعماً جداً (سميدة) تتم إضافته لمشتقات الحليب لصناعة الكشك.

  2. الجريشة: القمح المجروش بدون سلق، وهي الأساس لأغلبية طعام القبائل الأردنية البدوية في جنوب الأردن كونها تتصل بنمط الحياة الأقل استقراراً.
  3. الفريكة: قمح مشوي يحصد أخضراً، في ما بين مرحلة اللبن -من مراحل نمو القمح ما قبل النضج بحيث تكون الحبّة طرية– ومرحلة النضج التام ، وتعتبر الفريكة ذات قيمة عالية، ولاحظ الباحثون والمؤرخون أن الهكتار من الفريكة يجني ضعف العائد المالي الذي يجنيه القمح العاديز
  4. السليقة : قمح مسلوق يُحضّر ليؤكل بحد ذاته كوجبة وغالباً كانت تؤكل كمنتج ثانوي عن عملية إعداد البرغل، وتقدّم للأطفال مع السكر كوجبة خفيفة وسهلة وسائغة المذاق.
  5. القَليَّة: حبوب قمح ناضج تماماً ومحمّص بالصاج يتم تحضيرها أثناء موسم الحصاد غالباً، وبإضافة السكر يمكن أن تقدم للأطفال كوجبة خفيفة، ويعتبر تحميص القمح قبل طحنه من طرق حفظه؛ فدقيق القمح المحمّص صالح للتخزين لمدة طويلة أكثرمن القمح العادي، ولهذا كان الحُجّاج يأخذونه معهم في موسم الحج.
  6. المفتول: إن رُطّب البرغل أو الجريشة ولف أيهما بالدقيق، وتم تبخيره، فسيكون أساساً للمفتول المشابه للكسكس المعروف في شمال افريقيا.
  7. الخبز بأنواعه: هو في الأساس دقيق الحبوب وتعد صنوفه المختلفة من الخبز المختمر وغير المختمر (غلاسي/ عويص) من القمح أو الشعير أو حتى الذرة، ويؤكل تقريباً مع كافة الوجبات، وللخبز قداسة لدى الأردنيين، فقد استخدمت مفردة “العيش” بمعنى الحياة للدلالة على الخبز، كما يُعامل الخبز بعناية فائقة فيُقطع باليدين بدلاً من السكين، ولا يُسمح بسقوط فتاته على الأرض، وفي حال حدث وسقطت كسرة يتم التقاطها ومباركتها، وإذا ما عُثر على كسرة منه في الشارع، فإنها تلتقط وتوضع في مكان مرتفع ليأكلها الطير فلا تُداس.

 

                          

عمان 1936 – ولائم المنسف الأردني التي أعدت لضيافة الأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية أثناء زيارته إلى الأردن

أنواع الخبز:

  1. خبز الشراك (الصاج) : وهو خبز عويص من دون تخمير، يتميز بعجينته الطرية وبكونه قرص رقيق باستدارة الصاج، ويستخدم للمنسف وفترة الجريشة ويؤكل مع السمن والزبدة والغبيب – وهذا الأخير من أنواع اللبن المخيض لكن أكثر لزوجة سيأتي ذكره بالتفصيل في البحث المتعلق بمنتجات الحليب.
  2. الخبز الغلاسي : خبز مكو من عجين دقيق القمح ولكن بدون تخمير ، ويتم تقطيعه غالباً لقطع صغيره واستخدامه مع اللبن والجميد والسمنة في أطباق المجللة والرشيدية.
  3. خبز الطابون (الحصاوي) : خبز من عجين القمح الخامر قُطر أقراصه حوالي 30 سم وسُمكها حوالي 5 سم، يخبز على حصى تسمى الرضاف توضع على أرضية الفرن فيخرج الخبز فيه تجاويف دائرية ويستخدم في الغماس عادة.
  4. خبز عويص مع زيت زيتون: يُعجن طحين القمح بالماء ويُخلط بالبصل المقطع والملح والزيت ويُترك ليلة كاملة ثم يشكل على شكل أرغفة ويخبز بالطابون. (في الطفيلة على وجه الخصوص ).
  5. خبز الحمص: يُعجن طحين الحمص الناشف بالماء وقليل من الملح بلا خميرة، وقد يُمزج بطحين القمح ويرق على شكل أقراص رقيقة السمك. (في قرى الشمال على وجه الخصوص)
  6. خبز الطرموز: ويعجن من طحين الذرة ويخبز على الصاج، ويقلب لينضج.
  7. خبز مبسبس: عجينة مخمرة يضاف إليها السمن وحبة البركة والحلبة والسمسم والسكر وتخبز في الطابون (في الكرك على وجه الخصوص).
  8. قرص النار: عجينته قاسية قليلاً وتخبز هذه العجينة كلها رغيفاً واحداً، ويخبز على الجمر مباشرة بوضعه فوقه حتى ينضج ويخبز في كل المواسم والأوقات ويؤكل مع المجللة.
  9. خبز اللّزاقي: عجينة مرقة (طرية جداً) تُصبّ داخل تجويف الصاج وعندما تجف يتم قلبها بالسكين وتترك حتى تنضج وتقطع ويتم رش السكر عليها وفتها بالسمن أو الزبدة وتُسمى هذه الأكلة مفروكية وتؤكل في كل الفصول والمواسم.

أكلة المجللة وخبز الغلاسي المستخدم في تحضيرها بعد تفتيته لقطع أصغر

أطباق أردنية تستخدم فيها الحبوب ومنتجاتها

  • المنسف : سيد المائدة الأردنية بلا منازع وطبق ذو دلالات عديدة تجسّد وحدة المجتمع الأردني وتماسكه ومساواته، ويقدم في المناسبات الاجتماعيةالمختلفة مثل الأعراس والعزاء وكجزء من طقوس الضيافة.

1931 الشونة، غور نمرين – ضيوف وزوار أجانب بضيافة الشيخ ماجد العدونا يتناولون طعام المنسف الذي يرتبط بدلالات اجتماعية وسياسية عديدة

  • البرغل الدفين : أكلة نباتية مكونة من مزيج من الحبوب والخضراوات تقدم في فترات الصوم المسيحي.
  • الكشك : إحدى وسائل حفظ اللبن في المناطق الشمالية من خلال خلطه بالبرغل وتجفيفه.
  • الرشوف/ المدقوقة: حساء الطاقة الأردني، مزيج من الحبوب مع اللبن الحامض يقدم في فترات البرد

  • البشيلة / العصيدة:  طبق خفيف ولذيذ وسهل الهضم بطعم حلو المذاق، يستخدم كنوع من الحلويات أحياناً.
  • البازينة النبطية: الفوتوتشيني الأردني رقائق الخبز بنكهة مميزة
  • تشعاتشيل: مزيج ما بين مشتقات الحبوب ومشتقات الحليب والأعشاب البرّية
  • المكمورة : من أطباق الشمال التي تمزج ما بين نكهة دقيق القمح المعجون والمخبوز مع البصل والدجاج والتوابل

  • الرشيدية: من الأطباق المشهورة في مناطق الجنوب الأردني (معان، الطفيلة، والكرك) والتي تولّف بشكل أساسي بين الخبز الغلاسي والخضار.
  • الفطيرة أو المجللة: من الأطباق القديمة المشهورة في مختلف مناطق الأردن والمحافظات الجنوبية على وجه التحديد، والتي تتكون من الخبز الغلاسي والسمن او زيت الزيتون، وقد تكون بمريس الجميد أو بالطماطم.

مطعم إرث الأردن، فرصة لتذوق الأردن في كل لقمة

ندعوكم لتذوق هذه الأطباق ومعرفة المزيد عنها وعن أكثر من 60 طبق أردني في مطعم إرث الأردن الذي تم افتتاحه بعد أربع سنوات من جولات البحث العلمي والميداني في الإرث الغذائي الأردني وتوثيق الأكلات الأردنية، يتم تحضيرها على يد أمهر الطهاة من أبناء المحافظات الأردنية وبمواد تم تصنيعها منزلياً من سيدات أردنيات في البوادي والقرى الأردنية.

المراجع

  • حتّر، ناهض. أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان: الأردن
  • بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة, مؤسسة أهلنا للعمل الاجتماعي والثقافي. عمان: الأردن
  • العبادي، احمد (1979) المناسبات البدوية ، عمان: الأردن
  • العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.
  • الحوراني، هاني (1978) التركيب الاقتصادي الاجتماعي لشرق الأردن، مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت: لبنان
  • نتائج المسح الميداني في الكرك القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة القافة الأردنية، عمان: الأردن.
  • نتائج المسح الميداني في البلقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان: الأردن
  • نتائج المسح الميداني في الزرقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان: الأردن
  • أبو حسّان، محمد (2005) تراث البدو القضائي نظرياً و عملياً، الطبعة الثالثة.
  • عبيدات، سليمان أحمد (1994) عادات وتقاليد المجتمع الأردني ، الأهلية للنشر والتوزيع.
  • صويلح، ياسين (2004) مجلة المأثورات الشعبية ، العدد 71.
  • زيارات ومقابلات، إرث الأردن الميدانية أثناء مرحلة البحث.
  • أحمد أبو خليل، موقع زمانكم، قسم مفردات مصوّرة، مقالة بعنوان: القَرَنْ”: أي ربط حيوانين أو أكثر واستخدامهما معاً في أعمال الزراعة.

 

زراعة الحبوب واستهلاكها، الأردني يجعل من الحبة محبة

تقديم

تقدم مؤسسة إرث الأردن سلسلتها البحثية الجديدة المتعلقة بالإرث الغذائي والإنتاجي الأردني تزامناً مع افتتاح مطعم إرث الأردن والذي جاء ليتوّج جهود خمس سنوات من العمل والزيارات الميدانية لمختلف المناطق الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية المصنوعة من منتجات محلية، وطرق إعدادها الأصلية كما عكفت على ذلك الجدّات والسيدات الأردنيات لسنين طويلة، بشكل يضمن استدامة هذا الإرث والحفاظ عليه، من خلال حرص المؤسسة على الحصول على المنتجات من السيدات الأردنيات اللاتي ما زلن يحافظن على أصالة هذه الأطباق ويقمن بإنتاج المواد اللازمة لذلك منزلياً في تسع محافظات أردنية، تتناول هذه السلسلة البحثية كافة تفاصيل المطبخ الأردني، وما يلتصق بعملية إعداد وتناول الطعام من أبجديات الضيافة وطقوس اجتماعية تمتد لتاريخ طويل من الإسهام في الإرث الغذائي الإنساني الممتد لأكثر من أربعة عشرة ألف سنة  تاريخ أقدم بقايا خبز تم العثور عليها في العالم على الأرض الأردنية.

تمهيد

ينظر للغذاء بوصفه أداة للتعبير عن الثقافة والهوية، وبكونه أداة وصل لبناء وتوطيد الروابط الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، بدءاً من وجبات الطعام اليومية وصولاً لأطعمة المناسبات الاجتماعية والطقوس الدينية والأحداث السياسية وغيرها، ومن خلال الغذاء يمكن الاستدلال على أسلوب الحياة الذي يتبعه مجتمع معيّن، فالأغذية التي تحضّرها وتستهلكها الجماعات الزراعية والرعوية القائمة على الإنتاجية، تعمل على تحديد ملامح شخصية هذه الجماعات وطريقة إدارتها لمواردها وتعاملها مع الظروف المحيطة بها، وبدراسة الهوية الغذائية لهذه الجماعات يمكن فهم وتحديد أوجه التشابه والتباين فيما بينها، وبالتالي يضاف بُعد آخر إضافة للبعد الجغرافي الذي يجمع هذه الجماعات ويصهرها في مزيج متجانس، يقول المفكر الفرنسي “Jean-Anthelme Brillat-Savarin” : (قل لي ماذا تأكل ، أقُل لك من أنت).

لمحة تاريخية

للأردن تاريخ ضارب في القدم يمتد لأكثر من مليون ونصف عام من الوجود الإنساني المسجّل، وانعكس ذلك على المطبخ الأردني الذي تطور عبر مئات السنين ليصل لما هو عليه الآن من تنوع وثراء، ويرتبط المطبخ الأردني ارتباطا مباشراً بميول الأردنيين نحو قيم الإنتاجية والاعتماد على الذات من خلال استثمار كل الموارد المتاحة وأهمها الأرض والتي يعتبرها الكثير من المفكرين وعلماء الاجتماع مصدراً للثروات، وقد كانت الأرض كذلك بالنسبة للأردنيين إذ فهموها وأنشأوا معها علاقة حب وبذل من نوع خاص، فمنحتهم بالمقابل خيراتها التي أحسنوا استغلالها وتدبيرها وكانوا من السبّاقين في إبداع وابتكار الطعام وأساليب تحضيره وتقديمه وتناوله، فالدراسات التي استندت على الأدلة الآثارية والمسوحات الميدانية أكدت جميعها بما لا يدع مجال للشك أن الأردنيين القدماء كانوا أول من قام بتحضير الخبز من خلال طحن البذور وعجنها وخبزها وفقاً لـ أقدم بقايا الخبز مكتشفة في العالم في الأردن ، والتي تم الكشف مؤخراً أنها تعود إلى أكثر من 14 ألف عام ، إضافة لبدايات استغلال الحليب مع بدايات التدجين الأولى، حيث اكتشف وجود بعض الأواني الفخارية التي تعود لفترة العصر الحجري النحاسي (4500-3600 ق.م) والتي يرجّح أنها استخدمت في إعداد الحليب كالمخضة التي عثر عليها في عدة مواقع أثرية في الأردن والتي تعود بتاريخها إلى مرحلة القرى الزراعية والتي تعتبر قرية “عين غزال” أقدمها وأولها، كذلك فيما يتعلق بما خلصت له دراسات مخلّفات بقايا النبات الآثاري،  فمن المرجح أن حبوب القمح المتفحمة قد تكون ناتجة عن عملية إعداد الفريكة.

أركان الهوية الغذائية الأردنية

من هنا نستنتج أن للهوية الغذائية الأردنية ، ثلاثة أركان أساسية:

  1. الحليب ومنتجاته: يعتبر حليب الضأن والماعز والإبل والبقر المقوم الأساسي الثاني في الغذاء الأردني، ومن النادر أن يشرب طازجاً ولكنه يقدم أثناء مواسم الحلب دافئاً ومحلّى أثناء الفطور، ويخضع إلى سلسلة من التحولات في عملية المعالجة، وقد ابتكر الأردنيون عبر العصور أساليب لحفظه واستدامته لاستخدامه طوال العام، فمنه الجميد والكشك والزبدة والسمنة وغير ذلك، وسيتم الشرح عن ذلك بالتفصيل في بحث منفصل.

    الكرك 1933- مضارب أمامها مجموعة من الأغنام، مشهد يوضح نمط الحياة التي اضطرت بعض العشائر الأردنيه لعيشه والاعتماد عليه خلال فترة الاحتلال العثماني بعد تحولها من الاستقرار للتنقل هرباً من بطشه

     

  2.  الحبوب ومنتجاتها بالحبة الكاملة أو المعالجة: تعتبر الحبوب المكوّن الأساسي لعديد من الأطباق في المطبخ الأردني، فقد تخضع لواحدة أو أكثر من عمليات السلق أو التحميص، أو الجرش لحبيبات مختلفة الأحجام، مثل البرغل والفريكة والجريش.
  3.  الخبز: هو في الأساس دقيق الحبوب وتعد صنوفه المختلفة من الخبز المختمر وغير المختمر من القمح أو الشعير أو حتى الذرة، ويؤكل تقريباً مع كافة الوجبات، وللخبز قداسة لدى الأردنيين، فقد استخدمت مفردة “العيش” بمعنى الحياة للدلالة على الخبز، كما يعامل الخبز بعناية فائقة فيحفظ عادة في سجادة الصلاة، ويقطع باليدين بدلاً من السكين، ولا يسمح بسقوط فتاته على الأرض، وفي حال حدث وسقطت كسرة يتم التقاطها ومباركتها، وإذا ما عثر على كسرة منه في الشارع، فإنها تلتقط وتوضع في مكان مرتفع ليأكلها الطير فلا تداس.

وهذه العناصر جميعها واضحة وأساسية في الأطباق الأردنية التي بلغت أكثر من 60 طبق حتى الآن وفقاً لقائمة مطعم إرث الأردن، والتي تم جمعها في رحلة بحثية استمرت أكثر من 4 سنوات من البحث في الأرياف والبوادي والمدن الأردنية لتوثيق الإرث الغذائي.

صورة من الطفيلة عام 1935 يلاحظ في المدى الأراضي الزراعية الممتدة وبيوت الحجر وفي مقدمة الصورة قطيع من الأغنام في شكل يبرز ملامح الهوية الاجتماعية للشخصية الأردنية في اقتصاد انتاجي نصف بدوي نصف فلّاحي

التركيبة الاجتماعية للأردنيين

يستدل بنوع الغذاء ومكوناته في منطقة معينة على نوعية ونمط الحياة التي يعيشها سكان تلك المنطقة، فيرتبط ارتباطاً مباشراً بما ينتجه السكان، وعطفاً على ما تقدم، فقد بقيت الحياة الزراعية مزدهرة في الأردن لقرون طويلة، تزامن مع ذلك استقرار السكان في بيوت دائمة، إلا أن ذلك لم يدم وتغيّر الحال في القرنين السابع عشر والثامن عشر، اللذين شهدا انحساراً كبيراً في الاستقرار والاستيطان البشري نتيجة حالة غياب الدولة واعتماد العثمانيين على أسلوب الحكم بالوكالة والتعامل مع السكان والبلاد كمزرعة لحصد الضرائب والموارد وملاحقة كل من يحاول رفض ذلك الحال، ما أدى بكثير من العشائر الأردنية للتحول من حياة الاستقرار إلى حياة التنقل والترحال هرباً إلى الصحراء بحثاً عن الحرية واحتماءً بها من بطش المحتل وملاحقته ومحاولاته للانتقام، وهنا اكتملت قصة تمازج الأردني مع محيطه، فقد لعبت الجغرافيا دورها، ففي إطار إقليم جبلي صحراوي في منتصف المسافة التي يلتقي فيها البحر والصحراء، الأخضر مع الأصفر، لا بد للأردني أن يكون متكيفاً مع كل تلك الظروف، فتراه يزرع ويرعى في آن واحد، وهو ما نتج عنه شخصية الأردني  نصف البدوي – نصف الفلّاح كما يصفها ناهض حتّر في كتابه “المعزّب ربّاح”، حيث يتّحد عالم البداوة المستقرة منتجاً اللحوم ومشتقات الحليب، مع عالم الزراعة البعلية الذي ينتج الحبوب ومنها الدقيق الذي يجعله الأردني بالحب خبزاً متعدد الأنواع والاستعمالات، ومن هنا يمكن أن نفهم رمزية المنسف الوجبة الرسمية للأردنيين، كطبق ذو رمزية ثقافية يدل على شخصية الأردني الاقتصادية والاجتماعية، فالمنسف لا يمكن أن يكون طبق بدويا في الأساس والمنشأ، نظراً لكون البدوي يعتمد على الإبل ولحمها الذي لا يصلح ليطهى في اللبن، لذلك نجد أن الثريد – لحم النياق المطهو بالماء ويسكب على الخبز الشراك – هو الطبق الأكثر شهرة والأكثر تعبيراً عن العشائر الحجازية وليس الأردنية !، إذاً فالعلامة المعيارية هنا لتصنيف المجتمع إلى مجتمع بدوي أو فلّاحي هي بالاستناد على ماذا ينتج وما هو غذاؤه بدلاً من استقراره أو تنقله، نظراً للكثير من الأسباب التي اضطرت العشائر الأردنية إلى التنقل، فقد ذكر العديد من المؤرخين أن البدو المحليين والفلاحين على حد سواء، قد استغلوا المناطق المنخفضة الدافئة شتاءً والمناطق المرتفعة الباردة صيفاً، إضافة إلى عملية “التعزيب” التي يقوم فيها الفلاح أو البدوي بمغادرة مكان سكنه واستقراره، إلى سكن مؤقت خلال مواسم الحصاد أو الرعي.

السلط 1920 – صورة لعائلة سلطية في أحد بيوت السلط وتعتبر الصورة مرجعا لطبيعة الحياة اليومية لأجدادنا ونظام البناء الداخلي لبيوت السلط القديمة إضافة لوجود أماكن مخصصة لحفظ الحبوب فيما يعرف بالكواير

ثبات ومرونة في آن واحد ، رغم التحولات والظروف

بعد سنوات عجاف استمرت لنحو قرنين، شهدت الحياة الزراعية والإنتاجية في الأردن تحسناً نسبياً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث تنبّه العثمانيون – ما بعد حملة عثمانيي مصر ممثلة بواليهم محمد علي باشا وابنه ابراهيم – لأهمية المنطقة وحاولوا القيام ببعض التحسينات الإدارية، ونشأت في الأردن عدة مناطق حكم محلي، ما سمح ببقاء بعض خير البلاد لأهلها ما شجّع على زيادة الإنتاجية، الأمر الذي جعل مناطق سهول حوران الأردنية تزوّد دمشق بالقمح، وتعدى ذلك لتصدير فائض الإنتاج إلى روما، وفي القرن العشرين شهدت الأردن العديد من التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فالدولة الأردنية الحديثة أصبحت واقعاً، بعد أن كانت حلماً طال انتظاره من الأردنيين الذين حاربوا من أجل الحصول عليه بالنار والحديد، فاستحقوه بعد 400 عام من الثورات المحلية التي تكللت بالثورة العربية الكبرى على أيدي أبناءه من محاربي وفرسان العشائر الأردنية، وتزامن ذلك مع الثورات الصناعية والتحولات الاقتصادية التي شهدها العالم من اقتصاد الكفاف، الاكتفاء الذاتي حيث ينتج المرء حاجة بيته طوال العام، إلى اقتصاد السوق الذي فتح شهية السكّان إلى استهلاك أشياء جديدة واتباع أنماط جديدة من الاستهلاك نظراً لكونها أسهل أو أفضل أو أقل تكلفة أو جميعها معاً، إضافة لما تقدم يتسم المطبخ الأردني وهويته الغذائية بالثبات والمرونة في آن واحد، فمع مرور السنوات ورغم تبدل الحقب التي عاصرها الأردن واختلاف الظروف، حافظت الهوية الغذائية الأردنية على تماسكها، وفي ذات الوقت أظهرت شيئاً من المرونة سمحت بتطورها وتحدثها تجاوباً مع المتغيرات في نزعة فطرية نحو الصمود والبقاء، أو انفتاحاً على الثقافات الأخرى، فعلى سبيل المثال اضطر الأردنيون في فترات الاحتلال العثماني إلى استبدال خبز القمح بخبز الشعير، دليلا على قسوة الظروف في تلك الفترة وقيام سلطات الاحتلال العثماني بمصادرة مخزون القمح بالقوة وإجبار المزارعين على دفعه كضرائب، وقد قيل في ذلك ” إنك تدفع الضرائب قمحا، لكنك تأكل الشعير! “، ومثال آخر على تمازج المطبخ الأردني مع الثقافات الأخرى هو الطبق الأردني الشركسي “أرب قوية شيبس” والذي يعتبر مزيج تلاقح حضاري، حيث تكيّف القادمون الجدد مع موارد الموطن الجديد ، فاستبدلوا الجبنة الشركسية التي لم تكن متوفرة، بالجميد الأردني، فأصبح المعنى الأقرب هو: شيبس جبنة الأردنيين.

جرش 1900 صورة لمختار الشركس وأقاربه في مدينة جرش ويستدل من أريحية لبس الملابس التقليدية علناً على تجذر التناغم الثقافي المجتمعي في المجتمع الأردني

الحفاظ على الهوية الغذائية

 كل تلك العوامل كان لها تأثير سلبي لا يمكن إنكاره، فالجدير بالذكر أن الطرق التقليدية في إعداد الغذاء بدأت بالتلاشي مع دخول الأغذية المستوردة رخيصة الثمن كالدقيق التجاري، والسكر، والأرز، فقد حلت الأطعمة التي اتخذ الأرز والدجاج أساساً لها مكان الوجبات اليومية التقليدية، وأصبح شراء الخبز أمراً اعتيادياً بدلاً من إعداده في المنزل، لوفرة الدقيق التجاري بتكلفة وجهد أقل، كما أصبح زيت الزيتون بديلاً أقل تكلفة للسمنة الحيوانية والتي ما زالت تحظى بالاحترام، ومن هنا بادرت مؤسسة إرث الأردن خلال السنوات الأربع الماضية في رحلة بمختلف المحافظات الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية، من خلال البحث عن سيدات من كبار السن أو ربات منازل ما زلن يقمن بإعداد مثل هذه الأطباق، فتم تصوير طرائق التحضير وتسجيل المكونات بدقة، ثم تم تدريب عدد من الطهاة المحليين على تحضيرها، بالاعتماد على مواد يتم إنتاجها منزلياً، من جميد وكشك وسمن وبرغل ونحو ذلك، لتشجيع السيدات الأردنيات على الاستمرار في إنتاج هذه الأصناف ولحماية هذا الإرث الثقافي من الضياع والاندثار، ومن هنا جاءت فكرة مطعم إرث الأردن ليكون المطعم الأردني المتخصص الأول من نوعه في الأردن والعالم !.

بعض المأكولات الأردنية التي تمزج بين منتجات الحليب والحبوب

علق الرّحالة الإنجليزي “تشارلز مونتاگو داوتي” في رحلته إلى المنطقة أن “بمقدور السيدات إعداد أطباق مميزة من الطعام باستخدام أي نوع من الحبوب، بإضافة القليل من الملح والسمن، ولا شيء غير ذلك”، ويصدق هذا القول على كثير من الوصفات الأردنية  في مختلف المناطق الأردنية، حيث يمكن إعداد تشكيلة واسعة من الأطباق باستخدام عدد ضئيل جداً من المكونات الرئيسة، ونستعرض هنا بعض أهم هذه الأطباق التي تتكون في الأساس من أحد أصناف منتجات الحليب ومنتجات الحبوب:

  • البسيسة: وهي سمن دافئ يعجن بدقيق القمح والسكر أو العسل، والشعير الذي ينقع في الماء ثم يعصر ويغلى في اللبن.
  • الفطيرة: وهي خبز غير مختمر “عويص” يُفت وينقع في اللبن أو في نقوع الجميد “المريسة” مع السمن، وقيل فيها أنها أفضل الطعام بعد اللحم.
  • المجللة: هي أكلة مشابهة للفطيرة من حيث الجوهر تضاف لها صلصة البندورة في بعض المناطق، وتُقدّم في المناسبات الخاصة.
  • الرقاقة (البازينة): وهي عجين يقطّع طولياً بما يشبه المعكرونة، ويطهى في الماء ويمزج بالسمن ليمنح مذاق رائع وشكلاً مشابه للفيتوتشيني الإيطالية.
  • الهيطلية: احدى أشهر أنواع الحلويات الأردنية تتكون من الطحين او نشأ الذرة والحليب مع السمن البلدي.
  • الرشوف: طبق مليء بالطاقة والدفء والحب، تمتزج فيها حبات الفريكة أو الجريشة مع العدس واللبن، وهي شائعة في مواسم البرد.

  • التشَعَاتشيل: بإضافة بعض المنكهات المستخلصة من الأعشاب والتي تعامل معها أجدادنا الأردنيون القدماء بذكاء وخبرة تتطلب معرفة بالأعشاب، إلى اللبن والسمن وأوراق الجعدة أو الدنديلة الجافة بعد سلقها، يمكن إضافة عجينة البيض ودقيق القمح (الطحين) والعدس والبص، تحصل على وجبة مليئة بالعناصر الغذائية المفيدة والصحية.
  • المكمورة: طبقات من العجين يتخللها اللحم والبصل المقلي في السمنة أو زيت الزيتون، تطهى في فرن على نار هادئة طوال الليل وتستكمل مراحل تحضيرها في اليوم التالي في اهتمام واضح من المطبخ الأردني ومراعاة أقصى معايير الجودة والإتقان والإبداع.
  • اللزاقيات: من أشهر أصناف الحلويات الأردنية وأوسعها انتشاراً مع تنوع في طرق التحضير والنكهات وتمزج بين الطحين والسمنة وبقية النكهات.

 

نوعية الغذاء وتوقيته

نؤكد هنا أن الأطعمة المذكورة أعلاه هي على سبيل المثال لا الحصر، بل هي أبرز الأطعمة محدودة الانتشار حالياً التي تولّف بين منتجات الحليب ومنتجات القمح بشكل أساسي في وقت كان فيه اللحم لا يعتبر جزءاً من الوجبات اليومية للأردنيين نظراً لشح الموارد والاستفادة من المواشي كمصادر للإنتاج بدلاً من كونها موضع للاستهلاك، أما طعام الولائم والمناسبات الخاصة فيتضمن اللحم كمكوّن أساسي، كما جاء في بحثنا حول  أبجديات الضيافة في قاموس الكرم الأردني حول أنواع الذبائح، وتختلف  أهمية ورمزية الطعام حسب توقيت تقديمه وموسمه، في يوم ما من السنة، أو من الأسبوع، أو في أي وقت من اليوم، وحالياً تعتبر وجبة الغداء هي الوجبة الرئيسة التي تقدم في منتصف النهار، ويقدم الغداء ساخناً بينما يقدم كل من الفطور والعشاء باردين غالباً.

تنوع وثراء المطبخ الأردني ، صفحة مطعم إرث الأردن على موقع فيسبوك

تحضير الغذاء مسؤولية تشاركية، ولا فرق بين الجنسين

في كل رحلة بحثية نستكشف أصالة النظرة الأردنية المساوية للمرأة مع الرجل، وتأصل قيم احترامها ومعاملتها بدون أي انتقاص أو دونية، وذلك كقيمة راسخة وأصيلة في المجتمع الأردني، فإلى جانب الدور الاجتماعي والسياسي للمرأة الأردنية الذي تم التطرق له سابقاً في دورها كموسيقية وملكة في الفترة النبطية والغسانية، وصولاً لدورها في الثورات المحلية ضد الاحتلال العثماني، فالمرأة الأردنية أيضاً شريكة لزوجها ومؤازرة له في الحقل والعمل، وعليها كما أسلفنا مثل ما عليها من واجب الضيافة للضيف فيما عدا المبيت، ورغم أن كثيراً من المجتمعات المجاورة تنظر للمرأة باعتبارها المسؤول الوحيد عن عملية تحضير الطعام، إلا أن المجتمع الأردني يساوي بينها وبين الرجل في مراحل هذه العملية، ففي إعداد المنسف مثلا فإن الرجال مسؤولون عن عملية الذبح وطهو اللحم، فيما تقوم النساء بذات الوقت بالخبز وطهو الجريش أو الأرز، وتحضير اللبن بالجميد أو اللبن، كما أن الرجال في بعض مناطق جنوب الأردن يعدّون صنفاً من الخبز أثناء رحلاتهم وتنقلهم.

عمان1934- ولائم حفل زفاف الملك طلال – الأمير في حينه – ويظهر دور الرجال في عملية طهو المنسف

المراجع

  • حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان:الأردن
  • بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة, مؤسسة أهلنا للعمل الإجتماعي والثقافي.عمان: الأردن
  • العبادي، احمد (1979) المناسبات البدوية ، عمان: الأردن
  • العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.
  • الحوراني، هاني (1978) التركيب الاقتصادي الاجتماعي لشرق الأردن، مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت:لبنان
  • ئتائج المسح الميداني في الكرك القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة القافة الأردنية، عمان:الأردن.
  • نتائج المسح الميداني في البلقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان:الأردن
  • نتائج المسح الميداني في الزرقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان: الأردن
  • أبو حسّان، محمد (2005) تراث البدو القضائي نظرياً و عملياً، الطبعة الثالثة.
  • عبيدات، سليمان أحمد (1994) عادات وتقاليد المجتمع الأردني ، الأهلية للنشر والتوزيع.
  • صويلح، ياسين (2004) مجلة المأثورات الشعبية ، العدد 71.
  • زيارات ومقابلات، إرث الأردن الميدانية أثناء مرحلة البحث.

 

ديموغرافية الهوية الغذائية الأردنية

مقدمة

تقدم مؤسسة إرث الأردن سلسلتها البحثية الجديدة المتعلقة بالإرث الغذائي والإنتاجي الأردني تزامناً مع افتتاح مطعم إرث الأردن والذي جاء ليتوّج جهود خمس سنوات من العمل والزيارات الميدانية لمختلف المناطق الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية المصنوعة من منتجات محلية، وطرق إعدادها الأصلية كما عكفت على ذلك الجدّات والسيدات الأردنيات لسنين طويلة، بشكل يضمن استدامة هذا الإرث والحفاظ عليه، من خلال حرص المؤسسة على الحصول على المنتجات من السيدات الأردنيات اللاتي ما زلن يحافظن على أصالة هذه الأطباق ويقمن بإنتاج المواد اللازمة لذلك منزلياً في تسع محافظات أردنية، تتناول هذه السلسلة البحثية كافة تفاصيل المطبخ الأردني، وما يلتصق بعملية إعداد وتناول الطعام من أبجديات الضيافة وطقوس اجتماعية تمتد لتاريخ طويل من الإسهام في الإرث الغذائي الإنساني الممتد لأكثر من أربعة عشرة ألف سنة تاريخ أقدم بقايا خبز تم العثور عليها في العالم على الأرض الأردنية.

 خلفية تاريخية

عرف أجدادنا الأردنيون القدماء قيمة الأرض وأولوها اهتماماً كبيراً منذ القدم فمنحوها جهدهم وحصدوا بالمقابل ثمار تعبهم فاستحقوا مكانتهم الراسخة في الإرث الإنساني، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من كون منطقة “عين غزال”  أول قرية زراعية في التاريخ الإنساني المسجّل، وأكدت العديد من المسوحات الكشفية أن المنطقة كانت تبذر فيها الحبوب وتحصد المحاصيل بتخطيط لم يشهده العالم من قبل، بعد أن كان يتم في السابق جمع الحبوب البريّة واستعمالها، وترتبط الزراعة والأرض بالضرورة بمجتمعات متحضرة ومستقرة وقادرة على إدارة وتنظيم شؤونها، وهو ما تؤكده الشواهد الآثارية التي ما زالت ماثلة حتى الآن وتعرض في المتاحف العالمية وعلى رأسها متحفي اللوفر في باريس وأبو ظبي، بالتشارك مع متحف الأردن.

واستمر الاهتمام بالأرض وتطوير نظم إدارتها وقوانين ملكيتها مع تواصل الوجود الإنساني غير المنقطع على الأرض الأردنية، وصولاً لعهد الأردنيين الأنباط الذين امتلكوا وحكموا مساحات شاسعة من الأراضي تمتد نحو شبه الجزيرة العربية جنوباً ودمشق شمالاً وصولاً لشواطئ المتوسط غرباً، بما في ذلك من تعقيدات وتنوعات جغرافية وتنوع سكاني، وهو ما استدعى وجود نظام يتم الاحتكام له في ملكية الأراضي وتقسيمها بين أبناء المجتمع الأردني النبطي بما يضمن تحقيق أعلى درجات الاستفادة منها، بحيث كانت السلطة المركزية هي المعنية بتوزيع الأراضي على الأفراد، فقد كان الأردنيون الأنباط ملتصقين ببيئتهم الزراعية ومحبين للتملك، بحيث فرضوا الضرائب على من سعى إلى خراب الأراضي الزراعية، كما كافئوا من حافظ عليها، وقد تناولنا في بحث سابق موضوع ملكية الأراضي عند الأردنيين الأنباط بشكل مفصّل.

وبقيت الأمور على هذا النحو حتى ما بعد الفترة الأردنية النبطية، وازدهرت أشكال متعددة من الزراعة خلال الفترات التالية، من إنتاج القمح وتصديره للمناطق المجاورة وصولاً لروما، بالتوازي مع انتشار أنواع مختلفة من الزراعة أبرزها قصب السكر خلال الفترة المملوكية والتي ترافقت بالتوازي مع ازدهار في الصناعة والتجارة فبرز سكر مونتريال كأول ماركة تجارية مسجلة في العالم اجتاحت الأسواق الأوروبية التي لم تكن تعرف السكر قبل ذلك الوقت، وما تزال الشواهد الآثارية قائمة حتى اليوم تشهد على عظمة الإنسان الأردني وإبداعه وإسهامه في الإرث الإنساني، وأبرزها معاصر السكر في الشوبك وطبقة فحل وبقية مناطق الأغوار الأردنية، ويمكن الاطلاع على بحثنا السابق عن تاريخ صناعة السكر في الأردن للاستزادة في هذا الموضوع.

مناخ وطبوغرافية الأرض الأردنية

تمتاز الأرض الأردنية بمزيج متنوع ما بين مناخي حوض البحر الأبيض المتوسط والصحراء القاحلة، حيث يسود مناخ حوض المتوسط في المناطق الشمالية والغربية من البلاد، بينما يسود المناخ المداري الجاف في وادي الأردن، فيما يسود المناخ الصحراوي في المناطق الجنوبية الشرقية. وبشكل عام، فإن الطقس حار وجاف في الصيف، ولطيف ورطب في الشتاء، ومن ناحية طبوغرافية فالتنوع أيضاً حاضر، ما بين سهول حوران الأردنية شمالاً الخصبة جداً لزراعة القمح والبقوليات، وجبال عجلون والسلط المشهورة بكروم العنب والزيتون والرمان، وصولاً للأغوار الأردنية، والغور هي مفردة تدل على التسمية المحلية لوادي الأردن الأدنى وتعني الأرض الهابطة والمنخفضة التي تمتد من بحيرة طبرية وحتى البحر الميت، وتعتبر من المناطق المميزة بطبيعتها التي لاءمت الإنسان عبر العصور المختلفة لخصوبة أرضها ووفرة مياهها، وعلى جنباتها يؤرخ لبدايات الوجود الإنساني المسجل بعد العصور الجليدية، وأصبحت منطقة زراعية منفردة اشتهرت بزراعات متعددة ومتنوعة كقصب السكر، والموز، والنخيل، والأرز ومختلف أنواع الخضار والفواكه وأجودها، وينظر للأغوار كسلة الغذاء، ليس للأردن فقط بل للمناطق المجاورة، سواء في الجزيرة العربية جنوباً حيث الجفاف والحر الشديد، وحتى أكثر المناطق خصوبة في سوريا لا تستطيع إنتاج بعض الأصناف خلال فترات البرد القارس شتاءً، بينما تتمكن الأغوار الأردنية من تصدير أطنان المنتجات الزراعية طوال العام.

1900 م- رجال من الشوبك بكامل أناقتهم على إحدى القمم الجبلية حيث تتميز المنطقة بمناخ مميز وماطر لوقوعها بين مناخين جغرافيين متداخلين

نقطة تحوّل ومنعطفات حرجة

شهدت الزراعة والاهتمام في الأرض تراجعاً ملموساً خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر مع دخول العثمانيين للمنطقة وإدخالها في نفق مظلم، من خلال احتلالهم غصباً للأراضي الأردنية واستيلائهم عليها وإعادة توزيعها على النظام الإقطاعي من جهة، ومن خلال سياسات الحصار الاقتصادي والتضييق التي تم اتباعها لتجويع الأردنيين ومحاصرتهم اقتصادياً لتجفيف منابع القوة التي كانت تؤرق السلطة الحاكمة في ذلك الوقت والتي أشعلت العديد من الاحتجاجات ضد الحكم الخارجي منذ أنفاسه الأولى، فما بين مطرقة الضرائب المبالغ فيها بدون أدنى عائد ومقابل، وسنديان غياب الأمن، غابت الملكية الخاصة وبذلك يغيب الدافع الأول للإنتاج، من هنا تحول جزء كبير من السكان من حياة الاستقرار في متجمعات زراعية منتجة مكتفية، وتصدر ما يزيد عن الحاجة أو تبادله بسلع أخرى، إلى مجتمعات أقل استقراراً تبحث عن نفسها وتحاول تأمين قوتها من خلال أساليب أخرى قد تكون قاسية وعلى حساب بعضها البعض، مع الأخذ بعين الاعتبار عامل تأجيج الفتن والتحريض المستمر على سياسة فرق تسد، ومع ذلك تعامل الأردنيون مع الظروف بحنكة ودهاء، فأوجدوا البدائل، وطوروا الأدوات، ونوعوا في الأساليب واستطاعوا بالقليل من الموارد الصمود والبقاء والاستمرار.

جرش 1900 – شارع الأعمدة في جرش وآثار الخراب والتهميش واضح على أهم اجزاء المدينة التاريخية

نهاية الفترة العثمانية، بداية الاهتمام

بعد تمرد الوالي العثماني في مصر محمد علي باشا وحملته التي كادت أن تطيح بالدولة العثمانية لولا تدخل فرنسا وبريطانيا دفاعاً عن العثمانيين، تنبه العثمانيون لأهمية منطقة الأردن وبدأوا بعض المحاولات لتحسينات إدارية محدودة، واستفاد الأردنيون من تلك الظروف ومن ثوراتهم المستمرة ضد العثمانيين ومحمد علي باشا في الحصول على مناطق حكم محلي خاصة بهم من خلال اختيار زعامات يضمنون حقوقهم ويديرون شؤونهم، وهو ما نتج عنه عودة للحياة الزراعية وتحسن ملحوظ في الإنتاجية بعد شعور السكان بأن هناك قيمة وجدوى لتعبهم وكدحهم قبل أن تعود الأمور للتدهور من جديد مع توريط العثمانيين لأنفسهم في حروب محكوم عليها بالفشل، زادت من حالة من التوحش في استهلاك موارد المنطقة وفق عقلية المزرعة، وسنتعرض تالياً أهم جوانب عملية الزراعة وملكية الأرض خلال تلك الفترة:

أصناف الأراضي نهايات الفترة العثمانية:

  1. الأراضي المملوكة: وهي كما حددها قانون الأراضي العثماني لعام 1858م أربعة أنواع:
  • العرصات” وهي الأراضي الموجودة ضمن المناطق السكنية في المدن والقرى ولا تزيد مساحة الواحدة منها على نصف دونم.
  • الأراضي الأميرية التي تحولت إلى ملك خاص بعد إتمام فرزها ومنحها حسب رغبات سلطات الاحتلال العثماني.
  • الأراضي العشرية: وهي تلك التي تم توزيعها وتمليكها للمقاتلين بعد احتلال مناطق جديدة لتوسيع النفوذ العثماني تحت مسمى “الفاتحين”.
  • الأراضي الخراجية، وهي الأراضي التي تقرر تركها لأصحابها غير المسلمين شريطة مشاركتهم عوائد استثمارها، بطريقتين، الأولى حراج مقاسمة يتراوح بين عُشر إلى نصف ناتج الأرض حسب درجة خصوبتها، والثاني خراج الموظف، وهو مقدار معين ثابت من المال يؤخذ بشكل مقطوع على الأراضي.
  1. الأراضي الأميرية، وهي أراضي تم استملاكها والاستيلاء عليها من قبل الاحتلال العثماني تحت مسمى “بيت مال المسلمين”، وغالباً كانت من أفضل الأراضي وأكثرها موارد مثل المزارع والمراعي والمصائف والمشاتي والمحاطب، وكانت توضع تحت تصرّف الإقطاعيين الذين عزز من وجودهم النظام العثماني وهم نوعين : الزعامة والتيمار.

    • الزعامة: الإقطاع الذي يدر ربحاً سنوياً يتراوح ما بين 20 – 100 الف أقجة عثمانية و “يمنح لمن أبدى قدرات فائقة في خدمة الدولة العثمانية” وفق نص القانون، وفي الواقع يقوم بدفع مبلغ معين للحاكم العثماني، مقابل أن يقوم باستغلال الناس واستعبادهم للعمل بالسخرة لجمع هذا المبلغ مضافاً إليه ربحه الشخصي.
    • التيمار: شكل مصغّر عن الزعامة، حيث يدر ريعاً سنوياً يتراوح ما بين (2000 – 19999) أقجة.

كما تم منح بعض هذه الأراضي لغايات إعادة توطين المهاجرين الشراكسة، والشيشان، والطاغستان، واللازكي، والتركمان في محاولات لخلق مجتمعات وبيئات حاضنة وموالية وأكثر تقبلاً للعثمانيين في وسط المناطق الأردنية.

  1. الأراضي الموقوفة: وهي الأراضي التي أوقفها أصحابها لغايات استثمارها لبناء دور عبادة من مساجد وكنائس وأديرة أو مدارس وأضرحة للصحابة والأولياء، وكثيراً ما كان يتم الاستيلاء عليها وتحويلها لغير أهدافها.
  2. الأراضي المتروكة: وتشمل الأراضي الخالية التي تركت لعموم الناس مثل الطرق العامة غير المؤهلة وغير المخططة، إلى جانب المراعي والبيادر والأحراش.
  3. الأراضي الموات: الأراضي الخالية التي تبعد عن العمران مسافة لا تقل عن ميل ونصف تخميناً أو مسير نصف ساعة مثل الجبال والأودية.
  4. الأراضي المشاع: وهي الأراضي التي تعود ملكيتها للجماعة من أهالي قرية أو عشيرة معينة وتقسم على العائلات بالتساوي بغض النظر عن عدد الأفراد، ويتم إعادة التوزيع كل سنتين أو ثلاث سنوات ويتولى ذلك شيوخ القرية أو العشيرة.
  5. الأراضي المحلولة: وهي الأراضي التي تؤول ملكيتها الفعلية للحكام والولاة التابعين للاحتلال العثماني بوفاة أصحابها دون ورثة شرعيين، أو الأراضي التي تركها أصحابها مدة تزيد على ثلاث سنوات متتالية من دون “عذر شرعي”، وكان يتم تأجيرها للأهالي بمزايدة علنية مقابل مبلغ من المال.
  6. الأراضي المدورة: وعي الأراضي التي كانت ملكيتها للسلطان عبد الحميد قبل خلعه عن العرش ثم تحولت ملكيتها لصالح خزينة الاحتلال العثماني

صورة تعود الى 1890 لسيدات واطفال من قبيلة العدوان الأردنية أثناء ترحالهم الموسمي بعيداً عن سطوة الضرائب العثمانية الجائرة التي تبتدأ ب25% على الدخل

  • طرق استثمار الأراضي الزراعية:

عرفت المنطقة خلال تلك الفترة طرقاً متعددة لاستثمار الأراضي الزراعية وبعضها ما يزال معمولاً به حتى اليوم بين المزارعين، ومن هذه الطرق:

  1. الاستثمار المباشر : أن يقوم صاحب الأرض باستثمار أرضه بمساعدة أفراد أسرته.
  2. المزارعة : من الطرق القديمة في استغلال الأراضي، يتمثل في الشراكة بحيث تكون الأراضي من طرف والعمل من طرف آخر وهي ثلاثة أنواع :
  • الشراكة: بحيث يقدم المالك الأرض ويقدم الفلاح الجهد والعمل ويتقاسمان التكاليف والنفقات، ويحصل كل منهما على نصف الغلّة 50%.
  • المرابعة: بحيث يقدم المالك الأرض ويتكفل بكامل النفقات والتكاليف، وإقامة وطعام الفلاح، بينما يقدم الفلاح العمل مقابل حصوله على ربع الغلّة 25%.
  • الخُمس: ويقدم بموجبه المالك الأرض وجميع النفقات واللوازم، في حين يقدم الفلاح عمله وكون نصيبه خمس الناتج 20%.
  1. التأجير: تأجير الأرض لمدة طويلة قد تصل لعشر سنوات مقابل مبلغ معلوم ومتفق عليه من المال، أو نسبة من الغلّة.
  2. المغارسة: يقوم المزارع بزراعة البستان بالأشجار المثمرة لفترة زمنية محددة بالسنوات، مقابل تقاسم الناتج ما بين المالك والمزارع وورثتهما حتى نهاية فترة العقد.
  3. الضمان: من طرق استثمار الأشجار المثمرة بعد ظهور الثمر، بحيث يدفع المستأجر مبلغاً من المال لصاحب البستان للاستفادة من الثمر وقطفه وينتهي العقد بنهاية موسم جني الثمر.

المنتجات الزراعية ومناطقها:

كما تقدّم ، أدى موقع الأردن المتوسط ما بين إقليم حوض البحر المتوسط والإقليم الصحراوي، وتباين التضاريس الطبيعية وتنوع مناخها إلى تنوع المنتجات الزراعية وأدوات الإنتاج، ونلخص هنا أبرز هذه المنتجات:

  1. المحاصيل الزراعية:

–          القمح والشعير: تعتبر حبوب القمح والشعير جزء أساسي من الهوية الغذائية الأردنية، وكانت تعتبر أهم المحاصيل من حيث المساحة المزروعة والناتج، وذلك لاعتماد السكان عليها في غذاءهم وفي غذاء حيواناتهم التي كانت مصادر للإنتاج، وانتشرت زراعة هذه المحاصيل في كل أرجاء الأردن خصوصاٌ في اربد والسلط، وتكثر زراعة القمح في المناطق السهلية والمنحدرات الجبلية  لخصوبة تربتها ووفرة أمطارها، وأما الشعير فغالباً ما كان يزرع في المناطق التي تقل فيها خصوبة التربة ومياه الأمطار لقدرته على تحمل العطش، وتتضح لنا من كثرة  الطواحين الماثلة حتى الآن وفرة إنتاج المناطق الأردنية من هذين المحصولين اللذين كانت تصدر كميات كبيرة منهما من حوران الأردنية إلى المناطق المجاورة، وصولاً لدمشق وأبعد من ذلك إلى روما منذ عهد الامبراطورية الرومانية وحتى فترات حديثة في بداية القرن العشرين.

صورة لسهول حوران الأردنية في اربد عام 1900 وتظهر المساحات الشاسعة  من الأرض التي كانت تزرع بالقمح وفي المدى تل الحصن ، حيث يلاحظ من النمط العمراني في المدن والبلدات الأردنية بناء السكان لمساكنهم في المناطق الجبلية للاستفادة من الأراضي المنبسطة في الزراعة

 

اليادودة 1914 وتكتل عمراني مميز وبه عناصر دفاعية نتيجة لغياب الأمن في تلك الحقبة ويلاحظ أيضاً استعمال الأراضي المنبسطة لغايات الزراعة والبناء في المناطق المرتفعة للاستفادة من الجغرافيا وتطويعها لأسباب اقتصادية وسياسية حيث كانت الجغرافيا حليف الأردنيين وصديقهم الدائم في مواجهة الاخطار والاستعمار

 

–           البقوليات: تتنوع سلة الغذاء الأردنية بشكل يوضح سبب غٍنى المطبخ الأردني بالأطباق المتنوعة، ونجد أن اهتمام المزارع الأردني تعدى المواد الأساسية لتشمل زراعة البقول بأنواعها والتي احتلت المكانة الثانية بعد زراعة الحبوب، كالعدس والكرسنة، والحمص والجلبانة والنعمانة الشبيهة بالفاصولياء، حيث زرعت هذه المحاصيل على نطاق واسع في قضاء السلط، واليادودة، ووادي السير، والرميمين، وقرية الرمان وفي سهول مأدبا والكرك.

–           كما تنوعت المحاصيل ما بين صيفية وشتوية بشكل يضمن استمرار الإنتاجية، ومن المحاصيل الصيفية السمسم والذرة ، إضافة للتبغ (الدخان/ التتن / الهيشي) ، ويذكر الرحالة والكاتب الفرنسي أنطون جاسان أن الدخان كان يزرع في الطفيلة والكرك، كما زُرع في أراضي السلط وقراها.

  1. الخضروات والمقاثي:

اهتم السكان بزراعة مختلف أنواع الخضار في المناطق المرويّة لتكتمل لوحة الألوان المنسجمة والمتنوعة في المطبخ الأردني، وذلك نظراً لخصوبة التربة وملاءمة المناخ، ومن هذه الخضروات: البندورة والبصل والثوم والبامية والباذنجان، والكوسا، وتشتهر مناطق اربد وعجلون وجرش والسلط والأغوارالأردنية وصولاً للمناطق الجنوبية بانتاج وتصدير أفضل أنواع الخضروات والمقاثي في المنطقة، نظراً لاستفادتها من الأغوار الأردنية ودفئ طقسها حتى في أصعب الظروف الجويّة، وقد اهتم الأردنيون العديد بثراء وتنوع أطباقهم فمزجوا الخضار والمقاثي مع منتجات الحبوب والألبان مما أكسب المطبخ الأردني قيمة غذائية عالية من خلال توفر كامل العناصر التي يحتاجها الجسم من فيتامينات ومعادن وحديد الى جانب الطاقة، ومن أبرز هذه الأطباق الأردنية السفرجلية ، والفناقش والمحاشي البردقانية.

  1. الأشجار المثمرة:

 اهتم الأردنيون بزراعة أنواع مختلفة من الأشجار المثمرة، وأهمها العنب الذي يعتبر من أهم تلك الأشجار نظراً لإمكانية استغلال أوراقه في تحضير الأطباق، وحبوبه التي تؤكل طازجة أو تستغل ليصنع منها الزبيب أو النبيذ حيث عثر على العديد من المعاصر التاريخية لتصنيع أجود أنواع النبيذ للاستهلاك المحلي وتصديره للمناطق المجاورة حيث تشير التقديرات أن 15% من الناتج المحلي من العنب يذهب لصناعة النبيذ، وتكثر كروم العنب في السلط وعجلون خصوصاً كما تتم زراعة العنب في اربد ومأدبا ووادي الكرك، وفي الطفيلة وقصبة معان والشوبك ووادي موسى.

كما عرفت زراعة الزيتون في المنطقة لنفس الأهداف فزيته وحبوبه تعد مكون من عناصر الهوية الغذائية الأردنية واستخدمت مؤخراً كبدائل لعناصر أخرى مثل السمنة البلدية، كما اشتهرت زراعة الرمان الذي يستهلك حباً وعصيراً ويصنع منه الدبس، ولا تكاد تخلو محافظة أردنية من أودية وبساتين الرمان، وكان الباعة المتجولين في دمشق ينادون : معاني يا رمان ، أردني يا رمان ، في إشارة لجودته وطعمه المميز، كذلك اشتهرت زراعة التين، والدراق، والسفرجل، والأجاص، والمشمش، والخوخ، والتفاح، والليمون، والتوت.

ومن الجدير ذكره أن الأهالي في قضاء الطفيلة في عام 1911 قاموا بتأسيس شركة زراعية من أجل جلب أشجار التوت وزراعتها في القضاء والاستثمار في هذا المجال، إلا أن محاولات الحصول على ترخيص من الاحتلال العثماني باءت بالرفض وحكم على المشروع الريادي بالفشل والإجهاض ككثير من أحلام الأردنيين في ذلك الوقت.

وخلال سنوات النهضة التي تلت تأسيس الدولة الأردنية الحديثة ازدهرت الزراعة بشكل واضح، وفرضت صادرات الفواكه الأردنية مكاناً لها في أسواق الدول المجاورة، فوفقاً لأرقام 1943 فإن الأردن صدّر إلى السوق الفلسطيني 500 طن من الزبيب و 2420 طن من العنب، و 1850 طن من الفواكه الأخرى.

  1. الأشجار الحرجية:

تشكل الأشجار الحرجية جزء مهم من الغطاء النباتي للأردن، حيث كانت تغطي معظم مناطق الأردن في المرتفعات الجبلية وبطون الأودية وخاصة مناطق مجاري المياه، وتعتبر أشجار البلوط والسنديان والصنوبر والسرو والبطم والدفلى والحور والصفصاف والطلح والطرفاء من أهم أشجار المنطقة، وكان السكان يعتمدون عليها مصدراً للدفء ويستفيدون من أخشابها والجذوع المتكسرة منها بشكل يضمن استدامة هذه الفائدة، ولكن كثافة هذه الغابات أغرت العثمانيين وأثارت شهوتهم للاستهلاك النهم والمتوحش، فقاموا بنهبها وتقطيعها بشكل واسع لاستغلالها وقوداً للقطارات العسكرية، حيث بلغ فيهم الأمر إلى مد خط فرعي من سكة القطار العسكري العثماني لوسط منطقة الهيشة في الشوبك التي سميت بذلك نظراً لتشابك الغابات فيها نتيجة كثافتها وذلك لتسهيل عملية قطع الأشجار منها ونقل الخشب إلى مناطق أخرى ما حوّل الهيشة حينها إلى أرض جرداء.

الزرقاء 1903 وتظهر الكميات المهولة للخشب الذي قطِع باشراف مهندسين ألمان لاستكمال بناء سكة حديد القطار العسكري لنقل الجيوش العثمانية والألمانية ومؤنها وتسريع قمع الثورات الأردنية الصغرى، كنموذج عن عقلية التوحش في استهلاك موارد المنطقة خلال فترة الاحتلال العثماني

  1. النباتات البرّية:

عرف الأردنيون كيفية الاستفادة من كل ما تقدمه الطبيعة الأم، لأنهم فهموها ودرسوها بعناية حتى تمكنوا من فهم أسرارها، فانتقوا المفيد منها بعين الخبير وميزوه عن الضار ، فأنتجوا أفضل أنواع المنكهات للأطعمة، ومن أهم هذه النباتات الحندقوق ، والسماق الذي يكثر في البلقاء، والنيلة في غور الصافي، وتضاف بعض الأعشاب للجميد لإضفاء نكهات مميزة له، كما كان ينمو نبات السمح الذي يثمر قروناً كبيرة فيها بذور، تجمع القرون وتوضع بالماء حتى تتفتح وتصعد القشور إلى السطح في حين تغوص البذور في القاع، لتجمع وتجفف وتطحن دقيقاً يصنع منه خبز لذيذ الطعم، كما تستعمل الكثير من الأعشاب في الطب الشعبي الأردني، أو حتى كوصفات منزلية بسيطة لمشاكل البرد وارتفاع الضغط وغير ذلك من الأمراض الموسمية.

المراجع:

o          حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان: الأردن

o          بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة, مؤسسة أهلنا للعمل الاجتماعي والثقافي. عمان: الأردن

o          العبادي، احمد (1979) المناسبات البدوية ، عمان: الأردن

o          العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.

o          الحوراني، هاني (1978) التركيب الاقتصادي الاجتماعي لشرق الأردن، مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت: لبنان

o          نتائج المسح الميداني في الكرك القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة القافة الأردنية، عمان: الأردن.

o          نتائج المسح الميداني في البلقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان: الأردن

o          نتائج المسح الميداني في الزرقاء القائم على المجتمع المحلي (2013-2016) وزارة الثقافة الأردنية، عمان: الأردن

o          أبو حسّان، محمد (2005) تراث البدو القضائي نظرياً و عملياً، الطبعة الثالثة.

o          عبيدات، سليمان أحمد (1994) عادات وتقاليد المجتمع الأردني ، الأهلية للنشر والتوزيع.

o          صويلح،  ياسين (2004) مجلة المأثورات الشعبية ، العدد 71.

o          زيارات ومقابلات، إرث الأردن الميدانية أثناء مرحلة البحث.

o          أحمد أبو خليل، موقع زمانكم، قسم مفردات مصوّرة، مقالة بعنوان: القَرَنْ”: أي ربط حيوانين أو أكثر واستخدامهما معاً في أعمال الزراعة.

ملكية وإدارة الأرض وتجذّر قيم الإنتاجية عند الأردنيين

تقديم

تقدم مؤسسة إرث الأردن سلسلتها البحثية الجديدة المتعلقة بالإرث الغذائي والإنتاجي الأردني تزامناً مع افتتاح مطعم إرث الأردن والذي جاء ليتوّج جهود خمس سنوات من العمل والزيارات الميدانية لمختلف المناطق الأردنية لتوثيق الأطباق الأردنية المصنوعة من منتجات محلية، وطرق إعدادها الأصلية كما عكفت على ذلك الجدّات والسيدات الأردنيات لسنين طويلة، بشكل يضمن استدامة هذا الإرث والحفاظ عليه، من خلال حرص المؤسسة على الحصول على المنتجات من السيدات الأردنيات اللاتي ما زلن يحافظن على أصالة هذه الأطباق ويقمن بإنتاج المواد اللازمة لذلك منزلياً في تسع محافظات أردنية، تتناول هذه السلسلة البحثية كافة تفاصيل المطبخ الأردني، وما يلتصق بعملية إعداد وتناول الطعام من أبجديات الضيافة وطقوس اجتماعية تمتد لتاريخ طويل من الإسهام في الإرث الغذائي الإنساني الممتد لأكثر من أربعة عشرة ألف سنة تاريخ أقدم بقايا خبز تم العثور عليها في العالم على الأرض الأردنية.

تمهيد

تطور المجتمع الأردني عبر آلاف السنين في عملية مستمرة منذ بدايات ظهور الانسان الأول على الأرض الأردنية قبل نحو مليون ونصف عام من الآن، وذلك  بعد الحركات الأرضية العنيفة التي أدت لظهور حفرة الانهدام لتكون جزيرة رطبة ودافئة صالحة للحياة خلال العصور الجليدية، وبقي هذا المجتمع يبني نفسه على مر العصور مشكلاً هويته المتماسكة في منطقة وسطى ما بين الصحراء وما يختبئ فيها والبحر وما قد يأتي عبره، في تناغم جمع الإنسان مع المكان والظروف المحيطة، وجعله يطوّع الطبيعة لخدمته ويتكيف مع التضاريس المتنوعة من حوله، ما بين حفرة انهدام وسهول غورية وشفا غورية غرباً، وسهول خصبة شمالاً ومرتفعات جبلية تمتد على طول الخريطة، وصحراء ممتدة شرقاً، عوامل كلها ساهمت في رسم الملامح العامة لشخصية المجتمع وهويته وأنماط الإنتاج والغذاء والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية ما بين أبنائه، فكانت عين غزال أول قرية زراعية في تاريخ الإنسانية على ضفاف نهر الزرقاء المزدهر في ذلك الحين، وفيها بدايات ظهور المساكن الدائرية متعددة الطبقات والتي تشير لمجتمعات مستقرة تمارس الزراعة وتقوم بتدجين الحيوانات والمواشي وتعتمد عليها كمصادر في الإنتاج.

وتؤكد نتائج العديد من الدراسات البحثية والكشفيات الأثرية إلى إسهام الأردنيين القدماء في تطور السلوك الغذائي للبشرية، حيث كان آخرها دراسة بإشراف جامعة كوبنهاجن بين عامي 2012 – 2015، خلصت نتائجها لاكتشاف أقدم بقايا للخبز في العالم تعود إلى 14.400 عام، إلى جانب مواقد دائرية وبقايا طعام أخرى تضمنت لحوم غزلان وأرانب وبقايا نباتات إضافة للكثير من الأدوات الحجرية، حيث فسّر بعض الباحثين وجود هذا الخبز إضافة للجعة في المجتمعات الإنسانية القديمة كحالة من الترف والرفاهية وبارتباطه بالولائم الاجتماعية أو الطقوس الخاصة، وهو علاوة على ذلك أمر يتطلب معرفة في زراعة الحبوب وحصادها أو التقاطها في حال كانت برية، ومعرفة بالنباتات الصالحة للأكل وغير الضارة، ثم طحنها ومزجها وعجنها، ولاحقاً خبزها، وهذه عملية انتاجية زراعية صناعية تتطلب وجود أدوات خاصة بتلك العمليات وهي ذات الأدوات التي تم العثور عليها في الموقع البحثي، وهذا ما جعلنا في مؤسسة إرث الأردن نسلط الضوء في هذه السلسلة من أبحاثنا على كيفية تشكل الهوية الغذائية الأردنية وربطها بالأنماط الإنتاجية والاستهلاكية، ودراستها من ناحية اقتصادية اجتماعية وتأثيرها على أنماط العلاقة بين الأردنيين فيما بينهم أو حتى مع غيرهم على مر العصور وصولاً ليومنا هذا.

للمزيد حول هذه الدراسة راجع تقريرنا المفصّل : من رحم الأرض الأردنية، تفاصيل ودلالات اكتشاف بقايا خبز عمره أكثر من 14 ألف سنة.

جذور الضيافة والكرم في المجتمع الأردني

يرى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، أن الضيافة قانون إنساني مطلق وغير مشروط ويتسم بالغلوّ؛ وهي أنْ نعطي للقادم كل مأواه وذاته وخصوصيته وخصوصيتنا من غير أن نطلب منه اسمه أو أي مقابل، إنما في تناقض (مستمر ومستحيل) مع قوانين الضيافة ذاتها التي تجعلها مشروطة بتفصيلات معقدة، ولكن كيف ينظر الأردني للضيافة وما هي الضيافة وجذورها وقانونها في قاموس الضيافة الأردني؟

وادي السرحان ١٩٢٦ – الأردنيون يقدمون واجب الضيافة لسلطان باشا الاطرش وأعيان جبل العرب بعد لجوئهم إلى الأردن خلال فترة مقاومتهم ضد الاحتلال الفرنسي لسوريا ( مجموعة إرث الأردن الصورية)

تعامل الإنسان الأردني تاريخياً وبحكم نمط الحياة الاجتماعية السائد في ذلك الوقت بشكل تعاوني مع محيطه، من خلال نظام القرى الزراعية التي اعتمدت على العمل الجماعي لإنتاج الغذاء وبناء المساكن المتجاورة، والحياة ضمن منظومة عشائرية تضمن له الحصول على ما يكفيه من طعامه من خلال التعاون وتوزيع العمل وتشارك مصادر الإنتاج، إلى جانب ضمان الحماية من تعدي غيره على حياته أو ممتلكاته وانتاجه، وهذا يتطلب حالة من الوعي بالمصير المشترك ووجوب تحمّل المسؤولية من خلال أن يصبح الفرد جزءاً مسؤولا في المجتمع الذي يعيش فيه، بحيث يلتزم بالعمل لإنتاج ما يحتاجه وأسرته من طعام بدلاً من البقاء عالة على من حوله، وفي حالة الحرب والخطر يلتزم بالدفاع عن مجتمعه بما يضمن أمنهم وحمايتهم، في ما قد يمكن اعتباره جذور ما يعرف اليوم بالعقد الاجتماعي، وهو الأمر الذي يتطلب علاوة على ما سبق نوعاً من الالتزام الأخلاقي من هذا الفرد تجاه المجتمع الذي يعيش فيه، والقناعة والاكتفاء خلال أوقات المواسم الجيدة، وإظهار التكافل والتضامن مع أبناء مجتمعه الذين لم ينجح موسمهم، والبذل والتضحية والتحمّل خلال مواسم القحط والجفاف والظروف غير المعتادة من حرب وترحال وعدم استقرار، فلا نتائج أكيدة ومضمونة في عملية الزراعة، بل محتملة ومعرّضة للخطر ولكن لا خوف على الذات والعائلة من الجوع والفشل في ظل النظام التضامني، وهذا ما جعل العلاقة بين أبناء المجتمع محكومة بالعديد من العادات والأعراف التي شكّلت مع مرور الوقت قانوناً اجتماعياً وأصبحت جزءاً من ثقافة المجتمع وأخلاقياته وأسلوب الحياة فيه.

كادر مطعم إرث الأردن مدرّب ومتخصص في الضيافة على الأصول الأردنية

ومن جملة هذه الأخلاقيات والقوانين والقيم، تجلّت الضيافة كقيمة مترسخة في المجتمع الأردني، في تعامل الأردنيين واحتكاكهم بسكان المناطق المجاورة، من خلال وجودهم على أهم طرق التجارة العالمية، وطريق الحج لاحقاً، فتشير الدلائل أن “بترا” كانت مركزاً للتجارة العالمية وجسراً بين المشرق والمغرب وخزانة لكنوز الشعوب وثرواتهم ورأس مالهم، فيما يمكن اعتباره سويسرا الشرق في ذلك الزمن، كما استفاد الأردنيون من ازدهار الطريق الملوكي، فطوّروا أساليب الحياة الخاصة بهم على أسس اقتصادية تضمن لهم استدامة الدخل طوال العام مستفيدين من أشهر الحج ورحلته التي كانت تمتد لعدة أشهر والتي كانت رحلة دينية وتجارية في آن واحد، فنرى أن العشائر الأردنية تولّت مهمة تنظيم قوافل الحج وحمايتها، من خلال استلام الحجاج من مناطق “المزيريب” في شمال حوران الأردنية وصولاً للمدينة المنوّرة، فأنشؤوا شبكة نقل مكوّنة من الجمال والهوادج، وشبكات حماية تضمن سلامة الحجاج في ظل حالة غياب الدولة إبان الاحتلال العثماني، إلى جانب التكفل بإقامة الحجاج وإطعامهم وسقايتهم، حيث أقيمت الاستراحات والخانات على امتداد هذه المسافة الجغرافية، يفصل بين التجمّع والآخر مسافة 50 كم تقريباً، وهي المسافة التي يقطعها الجمل خلال مسير يوم واحد، مما يجعل الضيافة نوعاً من أنواع العبادة وجزءاً من عقيدة الأردنيين.

أركان الضيافة

ومن أهم هذه الأخلاقيات ما يتعلق بالكرم أو الضيافة، فهي انعكاس يمكن من خلاله قياس مدى قدرة الإنسان على التعامل والتعاطي مع محيطه، وقدرته على البذل والعطاء بدون انتظار المقابل، ومن أهم أركان هذه العملية ، المعزّب : ويقصد به المُضيف، والضيف، وترتبط كلمة المعزّب هنا بالأرض، فقد جرت العادة أن تبنى البيوت في مكان واحد وغالباً في المناطق المرتفعة لأسباب أمنية من خلال توفير الحماية في حالات الغزو والأطماع الخارجية، في حين تترك السهول والأراضي المنبسطة والخصبة ليتم الاستفادة منها زراعياً في ارتباط وثيق يرسخ أهمية قيم الإنتاجية عند الأردنيين، وهو ما يستدعي إقامة مساكن مؤقتة في الكروم والمزارع إبان أوقات الحصاد للاستفادة من أكبر وقت ممكن من اليوم بدلاً من التنقل ما بين مكان السكن وبين العمل صباحاً ومساءً وأوقات وجبات الطعام، خاصة في حالة الاستفادة من مجهود كامل أفراد العائلة في عملية القطف والحصاد والتي تتطلب جهود الجميع لإنهاء المهمة في الوقت اللازم، وتعرف هذه المساكن المؤقتة شعبياً بـ “العزبة” وتسمّى هذه العملية بالتعزيب، وتحصل كذلك في حال جمع الناس مواشيهم مع راعِ واحد مقابل أجرة متفق عليها، فإنه يعزب في الأغنام ويرعاها في المناطق الرعوية وأماكن الحصيدة، أما في عملية الضيافة فسنتعرف تالياً على أهم أركان وعناصر هذه العملية :

أولاً: المعزّب

نخلص مما تقدّم أن من يقيم في هذا المسكن المؤقت هو ركن الضيافة الأول “المعزّب” وجمعه “المعازيب”، وهو المضيف الجاهز دائماً لاستقبال عابر سبيل، أو شخص جاء يتفقده ويطمئن عليه، إذاً فالمعزّب هو المُضيف وعليه يقع عاتقها وله شرف القيام بها، ويقع على عاتقه مهمة استقبال الضيف وإكرامه ضمن أعراف المجتمع الأردني، كما سيتم تناولها لاحقاً، وقد تغنّى الموروث الشعبي بالمعزّب، فنجده حاضراً في الأهازيج الشعبية، وأشهر الأمثلة على ذلك ما يردد من أبيات في رقصة الدحيّة والسامر:

حنّا جيناكم سريّة لا علمٍ ولا دريَّة

لولا معزّبنا ما جينا، ولا قطعنا وادينا

جيناكم يالمعازيب ياللي تعِزُّون الغريب

جيناكم يا هل الشومة، سمعنا بطاري العزومة

وهذا يوضح أهمية دور المعزّب في تخفيف عناء ومشقة السفر، خصوصاً في وقت لم تكن رفاهية وسائل النقل الحديثة متوفرة، واستعداده الدائم لاستقبال الضيوف بدون استعداد أو تحضير مسبق، أو طلب منهم، فهي مهمّة مقدّسة ومطلقة، يقول الكاتب والمفكّر الأردني ناهض حتّر في كتابه “المعزّب ربّاح” والذي ندين له بالفضل في كثير مما جاء في هذا البحث، أن المعزّب يكون رابحاً، بل ربّاحاً لأنه:

  1. يستجيب للواجب المطلق ويربح كرامته الإنسانية في مجتمع يلتئم على الضيافة.
  2. يربح التكريم المعنوي.
  3. يربح التكريم الفعلي حين ينقلب بدوره إلى ضيف، ليس على أمل السداد ولكن في سياق مطلق أيضاً.
  4. وعلى المستوى العملي يربح المعزّب، اطعام أهل بيته وعزوته وجيرته.

 

في مطعم إرث الأردن كلنا معزّيين نحرص على تأدية واجب الضيافة على أكمل وجه

واجبات المعزّب – حقوق الضيف :

  • التهلّي والترحيب بالضيوف واستقبالهم حتى لو كانوا على خصومة أو عداوة مع المعزّب
  • ربط الخيل وتقديم العلف لها، إذ للخيل رمزية خاصة في المجتمع الأردني، فهي مرتبطة بالرجولة والشجاعة، والرجل يحب فرسه ويهتمّ بها، والاهتمام بالخيل جزء من عملية الضيافة ومن إكرام الضيف.
  • بسط الفراش، ويتم إكرام الضيف وتوجيبه بتوجيهه للجلوس في صدر المجلس، وعلى الضيف الاستجابة لرغبة المعزّب في مكان الجلوس، فهو أعلم بزوايا بيته، ويضمن الترتيبات اللازمة لضمان الموازنة بين راحة الضيف وحماية خصوصية البيت.
  • تقديم القهوة، يقدمها المعزّب للضيف حال وصولهم وللقهوة أدبيات خاصة تم تناولها في بحث كامل ومختص على موقعنا.
  • تقديم الطعام، يقدم للضيف بعد وصوله وشرب القهوة، بغض النظر عن وقت حضوره، فيذبح له ويولم ويدعو الأهل والجيران لمشاركته تناول المنسف، والضيافة إحدى المناسبات القليلة التي يتم ذبح الخراف فيها، حيث لا ذبيحة في التقليد الغذائي الأردني إلاّ بمناسبة حياتية، كالزواج والولادة والوفاة والسكن ( النزالة للجيران الجدد ) وغير ذلك، وفي قمة هذه المناسبات تقع الضيافة، وذلك في اقتصاد انتاجي يتعامل مع الحلال كوسيلة إنتاج، لا وسيلة استهلاك، وحين يدعو المعزّب الضيوف لتناول الطعام يلتزم أدباً وحرصاً منه على الاعتذار عن التقصير، فيقول: “اعذرونا من القصور”.

  • الإكرام والمساواة بين الضيوف، وعدم تمييز بعضهم عن بعض، فأسوأ ما يفعله المعزّب هو إكرام بعض الضيوف وإهمال بعضهم، يقول الشاعر في هذا:

“أول السبع التلوف                         عزلك ضيوف عن ضيوف”

وفي ذات الوقت تؤخذ الأولوية والتراتبية في عين الاعتبار، فالضيف مقدّم على من سواه، ومعه كبار السن والقدر.

  • تلبية الطلب، لا يسأل الضيف عن حاجته وسبب زيارته، ولكن في حال كانت الزيارة بنية طلب شيء ما، فعلى المعزّب تلبية هذا الطلب قدر الإمكان.
  • قبول الاستجارة والدخالة والطنابة، وهذه مواضيع تتعلق بإغاثة الضيف وحمايته ونصرته وسيتم تناولها في أبحاث مخصصة ضمن حقل إرث القضاء العشائري، كما يكون للمعزّب إزاء الآخرين ما يسمى بـ “حق الملحة”، وهي الاعتراف المعنوي بالحماية الشاملة التي يضمنها المعزّب للضيف، فلا يُهان الأخير ولا يُطلب ولا يُؤذى طالما هو في ضيافة المعزّب، والممالحة في الأصل نسبة الى الحليب وهو من معاني الملح، ولكنها تعني أن من أكل لقمة أو شرب لبناً أو ماءً في بيت، فله حينها حق الحماية من قبل المضيف، ولا ينتهي هذا الحق إلاّ حين يمالح الضيف بيتاً آخر.
  • المعزّب لا يأكل، وإنما يخدم ضيفه ويعمل على راحته خلال تقديم الطعام، كما أنه ملزم بالآداب المرافقة للضيافة، فيتكلم للضيف بما تميل له نفسه، ولا يشكو الزمن أو ينظر للساعة أو يسأل عن الوقت أمام الضيف، ولا يشكو الفقر أو المرض ولا يتثاءب أو ينعس أو يبدي غضباً لئلا يفهم من تصرفه هذا تثاقلاً او تهرّباً من واجب الضيافة.

ثانياً: الضيف

أوضحنا فيما تقدم أهمية الضيافة وكونها نوعاً من أنواع العبادة وجزءاّ من عقيدة الأردنيين، فالضيف في أبجديات الضيافة الأردنية هو “ضيف الله”، وإكرامه هو واجب مقدّس، ويقال في الموروث الشعبي : الضيف أميرٌ إذا أقبل، فله الاستقبال الحسن، وأسير إذا جلس، فهو ملزم بالأدب والحشمة والالتزام بالعادات والقيم المتعلقة بالمجلس والكلام والطعام، وهو شاعر إذا رحل، يتكلّم بالخير عند مغادرة المعزبين ويمتدح ما لاقاه في ضيافتهم من حفاوة وإكرام، وكما للضيف من حقوق والتزامات يضمنها له المعزّب، دون شرط أو مقابل، فعليه واجبات أخلاقية ينتظر منه الالتزام بها بالمقابل.

واجبات الضيف – حقوق المعزّب :

  • عدم استغلال كرم المعزّب وقانون الضيافة كي يطيل الإقامة رغماً عن رغبة المعزّب، ما يعرف بـ “اللحز”، فيصبح “ملحزاً” أو “ملحزة”.
  • عدم رفض تناول الطعام وغالباً هو المنسف، حيث يُقال للضيف “أفلِح” وهي دعوة لبدء تناول الطعام، يقال في الموروث الشعبي: “الفلاح لا يلطم”، أي أن الدعوة لا ترد، ورفضها يعادل صفع صاحب الدعوة، وهي من أكبر الكبائر في قاموس الضيافة الأردني.

عمان ١٩٣٥ – ضيوف حفل زفاف الأمير طلال (الملك لاحقاً) ، يتناولون طعام القرى في بيوت شعر نصبت لاستقبالهم بجوار قصر رغدان العامر

ومن محظورات أكل الطعام عموما والمنسف تحديدا  :

  • اللهمطة: السرعة وعدم التركيز
  • الفغم: أكل الخضار بصوت مرتفع
  • اللغ: سكب اللبن بسرعة ولهوجة
  • الفنش: التغميس بلا أدب
  • اللشوطة: التعجّل على الأكل الحار (الساخن)
  • اللش: كثرة الاكل
  • مسح اليد بطرف الطبق
  • إعادة اللقمة أو بعضها بعد أخذها

رابعاً: دور المرأة الأردنية في الضيافة

لا يميز قانون الضيافة الأردني بين رجل وامرأة في منح الضيف حقوقه، وهذه قيمة أصيلة مترسخة تعبّر عن دور المرأة الأردنية التاريخي في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، فعلى المرأة في مهمّة الضيافة المقدسة مثل ما على الرجل، والمرأة تشارك زوجها هذه المسؤولية التي تتسع لتصبح مسؤولية العائلة بأكملها، وقد تتعدى ذلك لتصبح مسؤولية العشيرة وفقاً لاتساع دائرة الضيوف، والمرأة هي أيضاً معزبة لبيتها وزوجها، وهي مسؤولة عن عملية الضيافة بكافة أركانها في حال كان زوجها غائباً، فللضيف على المرأة إذاً حقوق الإكرام، والطعام، والقهوة والذبيحة والمنسف، ولكن دون حق المبيت.

الضيافة في مطعم إرث الأردن

بخبرة قرون طويلة من الإسهام في الحضارة الإنسانية من قبل الأردنيين الأوائل، وسنوات من البحث في الإرث الأردني بكافة حقوله قادها فريق عمل مؤسسة إرث الأردن، تم افتتاح مطعم إرث الأردن على اكتاف جبل اللويبدة في قلب العاصمة عمان ليحافظ على استمرارية الهوية الغذائية الأردنية وليمنح الزائر فرصة تجربة أكثر من 60 طبق من المطبخ الأردني الغني والمتنوّع، بمكوّنات ومنتجات صنعتها سيدات من مختلف المناطق والمحافظات الأردنية، ويتم تحضيرها بأيدي كادر عمل محترف ومتميّز من جميع هذه المحافظات، في أجواء أردنية تتيح للزائرين الاطلاع على معرض للصور التاريخية، والتعرف أكثر على الأطباق ورحلة توثيقها، واكتشاف الأردن مع كل طبق.

مطعم إرث الأردن في جبل اللويبدة بالعاصمة الأردنية عمان

المراجع:

o        حتّر، ناهض & أبو خليل، أحمد (2014) المعزّب ربّاح، منشورات البنك الأهلي الأردني. عمان:الأردن

o        بالمر، كارول (2008) الفلاحون والبدو في الأردن: دراسة اثنوجرافية في الهوية الغذائية، تعريب عفاف زيادة, مؤسسة أهلنا للعمل الإجتماعي والثقافي.عمان: الأردن

o        العبادي، أحمد (1994) المناسبات عند العشائر الأردنية، دار البشير.

o        عبيدات، سليمان أحمد (1994) عادات وتقاليد المجتمع الأردني ، الأهلية للنشر والتوزيع.

o        صويلح،  ياسين (2004) مجلة المأثورات الشعبية ، العدد 71.

o    Ramsy and others, Archeological evidence reveals the origins of bread, 14.400 years ago in northeastern Jordan, University of Copenhagen, PIANS Articles.

أبجديات الضيافة في قاموس الكرم الأردني

Scroll to top