معلمات إربد، سيرة حياة زينب أبو غنيمة

زينب أبو غنيمة

(c. 1900-1996)

“معلمات إربد”

إن الحصول على معلومات عن النساء الملعمات الرائدات ومديرات المدارس في بداية نشأة الدولة الأردنية ليست مهمة سهلة أبدا. فمن أين نبدأ؟ في عشرينات وثلاثينيات القرن الماضي، دعيت المعلمات اللواتي أنهين تعليمهن في القدس والدمشق لتولي إدراة مدارس البنات في الدولة الأردنية التي كانت في طريقها للنهضة الأولى. فعينت مثلا ميساء بارودة لإدارة مدرسة زين الشرف في جبل عمان. لقد كُتب القليل جدا عن النساء في العقود الأولى من القرن العشرين، أو هكذا ظننت. وإن لم يملك المرء أسماء لينطلق منها في بحثه فإن الأمر يشبه البحث عن إبرة في صحراء وادي رم الشاسعة.  ولكن أحيانا يكون الحظ في صفك. وكذلك الأمر في حالة زينب أبو غينمة، التي تعد واحدة من أوائل الحاصلات على شهادة في التعليم في إربد ومن أوائل المديرات في مدارسها. ومن خلال قصتها التي رواها لنا ابنها عدلي وزوجته هدى، اكتشفنا المزيد عن النساء الرائدات وعن معلمات عائلة أبو غنيمة في الماضي والحاضر. وبهذا تشكلت لوحة الفسيفساء الأخاذة.

يقولون بأن خلف كل رجل عظيم إمرأة ولكن عكس هذه المقولة صائب أيضا. وأحد هذه الأمثلة الرائعة “حسن أبو غنيمة” أخ زينب. وهو معلم شهير من إربد قبل وبعد إنشاء الدولة الأردنية الحديثة، كما أنه مؤسس حركة الكشافة الأردنية عام  1923لقد دفعه إيمانه القوي بأهمية تعليم المرأة لتمكين أخواته زينب وآمنة وبناته أسماء وعفاف، من الحصول على أفضل تعليم ممكن. وكانت إسطنبول ودمشق أفضل المدن للتعليم وعليها انصب اهتمام حسن. وكانت أخواته أول امرأتين في إربد تسافران إلى دمشق لاستكمال تعليمهما في أوائل عشرينات القرن الماضي. وبالرغم من الاضطراب الذي ساد دمشق عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، نجحت زينب وآمنة في تحويل فلسفة والدهما وأخيهما إلى واقع. وقد وثقت رحلتهما  إلى دمشق في ملفات وزارة التربية والتعليم.

سنبحث حياة بنات وحفيدات علي وأميرة أبو غنيمة من إربد، اللذان استقيا المعرفة من الأدب العربي والإنجليزي  وتحديا سويا الصور النمطية المجتمعية عبر بث الوعي وتعليم المرأة، بمساعدة رجال عائلتهم.

ولدت ونشأت زينب إحدى أفراد الجيل الثالث لعائلة أبو غنيمة في إربد المسماة بعروس الشمال لجمال طبيعتها. مجتمع حضري لا يختلف عن مجتمع السلط في بداية القرن العشرين، كانت إربد مدينة بطموح مدنية وسياسية عالية. وقد عزز  ذلك وقوع إربد على الطريق الشهير الذي يربط دمشق وبيروت والقدس بقبلة المسلمين في الجزيرة العربية.

إنه من الصعب تحديد موعد ولادة زينب بدقة ولكنها ولدت في العقد الأول من القرن العشرين وولدت أختها آمنة بعدها بسنة. كان والدها علي أبو غنيمة تاجرا مسلما متدينا ومعلما للقرآن وكان يؤمن بقوة أن المرء لا يكون مسلما بحق إلا إذا تعلم القراءة والكتابة. ولهذا أنشأ أول مدرسة تقليدية “كتاتيب” في بلدته وعلم الأطفال فيها القراءة والكتابة ليستطيعوا تعلم القرآن. أما والدة زينب أميرة الأنصاري كانت فهي من بيروت، وكانت ناشطة اجتماعية متعلمة أخذت على عاتقها تحسين حياة وصحة النساء في إربد والقرى المجاورة عبر بث التوعية والتثقيف. وكان جل اهتمامها ينصب على تشجيع الأهالي على إرسال بناتهن للمدارس وكانت الطريقة الوحيدة هي أن تكون مثلا يحتذى به في هذا الموضوع.

مع تركيز علي وأميرة الكبير على التعليم، تخرج حسن ومحمود ابنيهما من جامعة اسطنبول بتخصص العلوم أما الابن الأصغر محمد صبحي فكان أول طبيب مدرب في إربد حاصلا على شهادته من جامعة برلين عام 1929.  لقد صار محمد صبحي حديث المدينة عندما جلب من أوروبا أول آلة تصوير بالأشعة السينية عبر شحنها إلى ميناء حيفا ومن ثم جلبها لعيادته الحديثة في إربد. كان الطبيب محمد صبحي أيضا قوميا عربيا وشاعرا وكاتبا سياسيا وقد أثار ذلك اهتمام الأمير عبد الله بسبب امتعاض مرافقه البريطاني ألس كيركبرايد. ولكن تلك قصة أخرى قد ذكرت بمزيد من التفصيل في فصلين من كتاب ابنته الدكتورة هدى أبو غنيمة.

تلقت زينب وأختها آمنة تعليمهما الابتدائي في المنزل بإشراف من والدهما الذي ربى أولاده جميعهم على فكرة أنه لا عقل منفتح دون الوعي السياسي. بنشأتهما في جو كان الحوار هو الأمر الطبيعي فيه، تأثرت زينب وآمنة بشغف أخيهما حسن بساطع الحصري، القومي العربي، والمعلم والفيلسوف الذي شجع طلابه على السفر إلى أقاصي أراض الاحتلال العثماني الأربعة. وقد قبل حسن بالتحدي وسافر إلى اليمن لأربعة سنوات ليدرس اللغة العربية والعلوم قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. ورحلته الثانية كانت إلى لبنان، وهناك قابل زوجته سلمى. بعد ولادة ابنتيه أسماء وعفاف، انتقلت العائلة الفتية إلى دمشق حيث عين حسن مديرا لكلية المعلمين للعلوم التطبيقية. ولنشاطه ضد الاحتلال الفرنسي في سوريا تم نقله إلى دار المعلمين في الحمة. ومن هنا شجع أخواته على الالتحاق بدار المعلمات في دمشق.

إن المشاريع الاستعمارية التي وضعها الاحتلال الفرنسي على أنقاض الاحتلال العثماني، خصوصا في سورية قد أدت لاندلاع فتيل معركة ميسلون العنيفة في دمشق. وخوفا من أن يتم القبض على حسن في جملة حملة الإعدامات بلا محاكمة خلال المعركة عاد إلى إربد مع عائلته وأخواته: آمنة ذات الطبع الرقيق وزينب ذات الطبع الصريح. أكملتا سويا سنتين من ثلاثة سنوات في التعليم العالي. عام 1921، استدعى الأمير عبد الله الأول حسن ليساهم في إنشاء النظام التعليمي للأردن وبهذا انتقلت عائلته هذه المرة إلى عمان.

عمل حسن كمدير تعليم للدولة وكان أخوه محمود المدير المؤسس لمدرسة العبدلية الشهيرة للأولاد وهي أول مدرسة تبنى بقرب المدرج الروماني، أما زينب فقد عينت في أول مدرسة ابتدائية للبنات في عمان. لقد كان ممكن إبقاء الأمر عائليا، ولكن الحكمة الفردية والشغف للعلم خصوصا العلوم الطبيعية التي تستند لمراجع رفيعة المستوى والكتب والشروحات التي استخدمتها زينب بالعربية والإنجليزية قد سلمت جميعها إلى ابنها عدلي. وبعد سنوات، عثرت هدى زوجة عدلي على مجموعة من الكتب القديمة ودهشت بأن عماتها كن يدرسن بالعشرينات نفس المستوى التي تدرسه هي عام 2010.

عام 1923، عادت زينب وآمنة إلى دمشق لاستئناف دراستهما والتخرج عام 1924 كأول أردنيات حاصلات على شهادات عليا في التعليم. شهاد الدبلوم الخاصة بزينب مكتوبة بخط يد بديع ومزخرفة وقد صدرت عن مملكة سورية وتشهد لها بأنها تستحق لقب معلمة. وقد كانت تستحقه فعلا. بالإضافة إلى الشهادة أرفق كشف الدرجات في خمسة عشر مادة درستها عشرة منها علمية كانت أحرزت العلامة الكاملة فيها. لقد كانت متفوقة للغاية.

في الحقيقة، كانت زينب شديدة الحماس ولا تدع أي شيء يقف في طريقها حتى أبسط الأشياء كتاريخ ولادتها! وبالرغم من هوس الاحتلال العثماني  بتسجيل كل شيء إلا أن تواريخ ولادة الإناث كانت استثناء. لقد استغلت زينب هذه النقطة لصالحها، فإن تغير تاريخ هنا أو هناك، هذا يعني حصول مزيد من البنات على التعليم. لقد تعززت شخصيتها القوية عبر القيم والمبادئ التي لا تعزز بالنسبة لأهمية التعليم للمجتمع وقد رافقها شجاعتها الأخلاقية الرائعة.

مع تصاعد الأزمة بين الفلسطينيين والانتداب البريطاني الموالي للحركة الصهيونية، سبب قرارات المندوب السامي الموالية لليهود عاصفة ثورية بين عرب القدس وقد نتج عنها هبة شعبية في عموم فلسطين ودمج المرأة في الساحة السياسية لأول مرة. لقد دعيت الثورة بثورة البراق وحدثت في 16 أكتوبر عام 1929 وانتشرت بسرعة لتشمل الدول المجاورة. وقد حشدت المظاهرات في جرش شمال الأردن.  لا نعرف على وجه الدقة إن التحقت زينب بالمظاهرات أم لا،  ولكننا تيقنا من تواجد ابنة أخيها أسماء وأصدقائها  كما تذكر مذكرات زميل أسماء خالد  حجازي (1912-2001) وقد كان والده محافظ إربد لعدة سنوات:

“الخميس 17/10/1929. “أخذت هذا الصباح كتبي وذهبت إلى المدرسة، على عكس الطلاب الذين شاركوا في المظاهرة الحاشدة. لقد شاركت ثلاث طالبات ضمن جموع المتظاهرين: أسماء أبو غنيمة، وسندور النصراوي وأوجنين يوسف عودة. أما في المدرسة فقد وجدت طلابا عدة: جمال الحسن وطاهر الناجي ورجائي النهار وعربي سالم. أخذنا الحصة الأولى وقد كانت في اللغة الإنجليزية. كنا ثمانية طلبة في الحصص السبعة ذلك اليوم، وقد غادرت المدرسة بعد الفسحة. في ذلك اليوم قصد عدة طلبة مدينة جرش حاملين بعض التبرعات التي جمعوها دعما لفلسطين”

بينما كانت النساء الفلسطينيات يضعن بصمتهن في المشهد السياسي كانت زينب تثبت بأنها لا تقل كفاءة عن الرجال في المشهد التعليمي، لأنها فهمت اتساع الفرص المفتوحة أمامها كما فهمت المصاعب والمعوقات التي ستقف في طريقها. لم تكن لتتحدى التقاليد بشكل صارخ، التقاليد التي تحدد حركة المرأة خارج بيت العائلة، ولكنها كانت تعمل معهم كقدوة لقريناتها عبر تمثيلها لمعنى العلم كأداة قوية بين يدي المواطن. كمسلمة متدينة، الصدقة على المحتاج والفقير جزء من دينها ولكنها أعطت ما هو أكثر من الصدقة كمشورتها التي طلبتها نساء مجتمعها دوما، لقد احترمن فيها حكمتها وريادتها. لقد مثلت المرأة بوصفها رأس العائلة وعامودها وأيقنت بأن التعليم سيحسن الحياة خصوصا بالنسبة للعائلات الفقيرة التي مرت عليها خلال تجوالها مع والدتها في المناطق الريفية. في الوقت الذي عينت زينب مديرة كانت عائلتها قد أسست نظام التعليم الحكومي للبنات وقد ارتفعت معدلات التحاق الفتيات ارتفاعا ملحوظا ويعزى ذلك بشكل كبير إلى الثقة التي حصدتها من أفراد المجتمع عامة.

لقد وهبت زينب وأختها آمنة حياتهما للعمل ولم تملكا سوى القليل من الوقت للحياة التقليدية الزوجية. لقد كانتا مثالا للمرأة العملية وحذت ابنة أخيهما أسماء حذوهما. في عام 1938 تزوجت الأختان أخين من عائلة الناصر في نفس اليوم، وقد تغيرت حياتهما أكثر مما كانتا تتخيلان.

وعلى كل الأصعدة لم تكن الأختان سعيدتين في حياتهما الزوجة ولم تكونا أنجبتا بعد. وإضافة لمعاناتهما في زواجهما ظل  القانون الذي يمنع المرأة المتزوجة من العمل في التعليم موجودا في الدساتير حتى 1955. لقد وقعت العديد من السيدات ضحية للقوى المحافظة داخل وزارة التعليم.

لقد أجبرتا على الاستقالة حالما تزوجتا وقد وجدتا الأمر صعبا. لم يكن بإمكان زينب وآمنة أن تتكيفا مع التقاليد والحركة المقيدة التي فرضها الزواج عليهما فجأة. لقد شعرتا بأنهما قد استثمرتا كثيرا في التعليم ولا يمكن أن يتم يحصرهمها أزواجهما في المنزل. بالرغم من حب أزواجهما لهما إلا أنهما لم يتمكنا من تقبل استقلالية زوجاتهما وثقتهما بنفسيهما. لقد كان وضعا تسبب الحزن للجميع وقد أدى ذلك بالرجلين لاتخاذ زوجة ثانية.  كان هذا غير مقبولا بالنسبة لآمنة وزينب وقد طلبت كلتاهما الطلاق. لم يتم طلاق زينب حتى بلغ أطفالها الجامعة. أما آمنة ورغم محاولات زوجها لإصلاح زواجهما إلا أنها تركته.

كانت مدينة إربد قد دخلت في ذات المرحلة السريعة التي دخلتها عمّان، وقد تم تدشين العديد من جمعيات الرعاية الاجتماعية والاتحادات التي تختص بالمرأة بحلول عام 1945 في كلتا المدينتين، وقد رعت الأميرة مصباح العبد الله، زوجة الأمير عبد الله وأخته الأميرة زين الشرف هذه الجمعيات. لقد كرست زينب وابنة أخيها أسماء جهودهما في تلك الحركة كمعلمتين قديرتين ومرأتين حكيمتين في مجتمعهما. ألقيت العديد من الخطابات في الثاني من تموز عام 1945 خلال فتح فرع اتحاد المرأة الأردنية في مدينة إربد. وقد ألقت أسماء واحدا قالت فيه:

“”إن واجبات المرأة في بلد طموح، بلد يبتغي الصدارة لهي مسؤوليات عظيمة، لأنها من تربي الرجال وتجعلهم قادرين على مواجهة الحياة. إنها من تربي الأمهات لكي يكن أفضل ما يمكنهن في كل الأوقات. إن الأمم التي لا تعتني بالنساء وهن نصف السكان ستتراجع بالتأكيد وستتقدم ببطء شديد في مسيرتها، وستكون تلك المسيرة على أرض غير صلبة. وهذا لأن القيم الفاضلة  كالشجاعة والالتزام بالعمل والحياة ومساعدة الفقير والمحتاج والضعيف، إنها قيم تعطيها الأمهات الفاضلات لأولادهن. وقد اختتمت خطابها قائلة:

“لذا فإن الأمة التي تعول على تقدمها وتطورها عليها أن تعول على قوة هذه القيم والمبادىء في قلوب أبنائها. وإننا نشكر الله أن هذا المبدأ قد أصبح مترسخا في نفوس رجال ونساء بلدنا  وسيتم تعزيزه أكثر بافتتاح هذا الاتحاد. إننا نسعد بافتتاح فروع أكثر في مدن أردنية بجانب عمان، كإربد. إننا، نساء إربد، لحريصات أشد الحرص لإثبات أنه وسواء كنا متزوجات أو عازبات، إيماننا قوي بهذه المبادئ  وأننا سنطبقها على أكمل وجه نستطيعه.”

أحد أهم التدابير التي اتبعها الاتحاد هو نقض الحكم التمييزي ضد المعلمات المتزوجات  في وزارة التعليم. كان عليهم الانتظار حتى 1955 حيث تم نقض القانون وعادت المعلمات إلى النظام التعليمي مرة أخرى. دعى رئيس الوزراء زينب كي تستأنف عملها كمديرة مدرسة إربد للبنات وقد استمرت كمديرة لمدة سنتين بعد ذلك. أما أسماء فهي الآن أم لطفلتين رفضت عرض الرجوع إلى التعليم وفضلت التقاعد عن العمل وقد أدت الخسارة المفجعة لزوجها عام 1960 بعد 12 سنة سعيدة إلى تعزيز إيمانها بالأمومة. لقد ربت أسماء ابنتيها وحدها، رافضة كل عروض المساعدة والدعم.

بحلول عام 1957، تسلم الملك حسين العرش ونقلت زينب لتصبح مديرة المدرسة الشاملة الحديثة في جبل الويبدة والتي سميت على اسم ابنة الملك، الأميرة عالية بنت الحسين. وعندها تقاعدها عام 1960، قضت زينب بقية عمرها في العمل التطوعي. وقد كان ذلك حين حصلت على ما كانت تسعى له لعقود: الطلاق. لقد منحها ذلك انطلاقة جديدة للحياة، فقد أصبحت جذابة أكثر وغمرتها حالة من السلام، وتستذكر هدى سعيدة بأن تكون ربة الأسرة لطفليها الحبيبين: أصبح عدلي موظفا في وزارة الخارجية أما ابنتها مرام فقد أصبحت ثاني امرأة أردنية تصبح محامية، بعد إميلي بشارات.

في عام 1973 ، تم تكريم زينب لمساهمتها في التعليم حيث منحها الملك حسين ميدالية تقدير. وقد وضعت الشهادة والميدالية في مدخل منزل عدلي وزوجته هدى. توفيت زينب بسلام عام 1996 وقد خلدت ذكراها بتسمية شارع باسمها، هذا الشارع المحاذي للجامعة الأردنية، يناسب تماما رسالتها وإنجازاتها.

Scroll to top