في البترا الصغيرة وما حولها، معاصر للنبيذ والزيتون اكتسفت حديثا، أثار هذا الاكتشاف انتباه الباحثين والدارسين حيث أبهرت التقنيات الزراعية وتقنيات الري التي استخدمها أجدادنا الأنباط العالم. كيف حوّل الأردنيون الأنباط المناخ الصحراوي لجنّة خضراء؟ توافيكم إرث الأردن بترجمة عن معاصر النبيذ النبطية الأردنية.

على الرغم من المناخ الصحراوي، استطاع الأردنيون الأنباط في بترا القديمة زراعة الكثير من الأصناف وصولا إلى صناعة النبيذ وذلك وفقا للباحث وعالم الآثار أولريش بلفالد.

خزنة البترا

في محاضرة ألقيت في المعهد الألماني البروتستانتي للآثار في عمان حول زراعة الكروم وصناعة النبيذ في المنطقة قدم بلفالد نموذجا لمصنع نبيذ في واد غرب “بترا الصغرى” كمثال على الوحداث الزراعية النبطية.

“إن وجود السد على المخرج الجنوبي للوادي يثبت بأنه صناعي بالكامل أي من صنع الإنسان” أضاف الباحث الذي نشر عدة مؤلفات عن بترا ونظامها المائي الذي ساعد الأردنيين الانباط على الزراعة في الصحراء القاحلة.

بعد إنشاء السد، ردم الوادي بفعل سيول الشتاء ومع الوقت ظهرت مساحات زراعة العنب  إلى الوجود. امتلك الأردنيون الأنباط “نظام ري متطور” في  منطقة في بترا (235كلم جنوب عمان) حسبما قال المهندس المعماري السويسري ومؤرخ الفن، لقد تم إنتاج أنواع مختلفة من المنتجات الزراعية.

وقد وضّح الباحث بأن الدراسين قد وجدوا معاصر للنبيذ في منطقة البيضا (البترا الصغيرة) على نطاق واسع وفي مناطق أخرى حول البترا كانت أشجار الزيتون مزروعة إضافة لمحاصيل أخرى مخصصة للاستهلاك البشري والحيواني.

واجهة ضريح في البيضا (البترا الصغيرة)
السيق البارد المؤدي للبيضا (البترا الصغيرة)

ويقول بلفالد “في منطقة البيضا، تقتطع المعاصر من الحجر كتلك الموجودة في قرية البيضا التي تعود إلى العصر الحجري على الجهة الغربية من طريق قرية أم صيحون. وبالمحصلة وجدت 50 معصرة نبيذ” وأضاف أن أشكال المعاصر الحجرية المختلفة أثبتت بأن الأردنيين الأنباط قد أنتجوا النبيذ الأبيض والأحمر على حد سواء” لم يجد الباحثون أي كسرات فخارية في المواقع حتى الآن، لذلك فإنه من المرجح أن الأردنيين الأنباط قد استخدموا جلود الماعز والخراف لتخزين ونقل النبيذ.

أضاف بلفالد بأنه من المثبت أن الأردنيين الأنباط قد حفظوا النبيذ في الكهوف لإبقائه باردا قبل الاستهلاك.كما أشار الباحث إلى أن الطريق التجارية النبطية الرئيسية مع روما قد انتهى في بورتس يوليوس بالقرب من نابولي، وربما يفترض أن جزءًا من معرفتهم عن صناعة النبيذ جاء من مصانع النبيذ الرومانية في كامبانيا.

“إنه أمر موثوق حيث أنه في في النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد وجدت مستوطنة نبطية في بورتس (ميناء)  يوليوس في فيكوس لارديديانوس.”

نقلاً عن المؤرخ الروماني وعالم الجغرافيا سترابو (64BC -24AD) ، قال بلفالد أن الأردنيين الانباط اعتادوا تنظيم ندوات للأحداث الدينية أو الطقوسية أو الاجتماعية أو التجارية، على غرار وجبات الضيوف الاحتفالية المشتركة في العصور اليونانية والرومانية.

المصدر: مقال منشور على جوردان تايمز

http://www.jordantimes.com/news/local/archaeologist-highlights-nabataean-heritage-agriculture-wine-making

عالم آثار يسلط الضوء على الإرث النبطي في زراعة الكروم وصناعة النبيذ

نظم ري حديثة وغير متعارف فيها في البترا عاصمة الأردنيين الأنباط. موقع معزول استغل منذ فجر البشرية. إنها الوعيرة المنطقة التي قلما نسمع عنها يحولها باحث إيطالي بالتعاون مع دائرة الآثار في لواء البترا إلى مختبر آثاري حي يحاكي أحدث ما اكتشف من مناهج البحث في الآثار. توافيكم إرث الأردن بترجمة عن الوعيرة والمنهج البحثي الجديد المطبق فيها.

تكمن أهمية موقع الوعيرة من وجهة نظر آثارية وتاريخية في نقطتين: الأولى انعزال الموقع والثانية تعاقب الوجود البشري. وذلك بحسب ما أشار إليه البروفيسور أندريا فاني ديسيديري، الذي يدرّس تاريخ المستوطنات والأنظمة السكنية في كلية الدراسات العليا للإرث الأثري في جامعة فلورنسا.

خارطة توضح موقع الوعيرة في وادي موسى جنوب الأردن

ويضيف الباحث بأن الوعيرة هي منطقة معزولة في البترا تكاد تكون أشبه بالجزيرة حيث يتم جلب كل شيء ضروري من خارجها. ويؤكد “مهما تجد في الموقع سيكون قادما من الخارج عبر المعبر الوحيد في وادي الوعيرة” وبالمقابل فإن فقدان المواد في المنطقة، غالبا ما يكون عائدا إلى عوامل طبيعية كانزلاق المسطحات أو الانهيارات الأرضية والزلازل.  وبهذا يشكل الموقع عالما مغلقا من المعلومات تتعاظم فيه القيمة الآثارية. “إني أعتقد بأن حماية هذا الموقع ستكون من تحديات المستقبل”.

فيما يتعلق بالعامل الثاني، فإن الاستخدام المتواصل للموقع، والذي يمتد من العصور القديمة وحتى وقت متأخر من العصر الإسلامي، يعني “أنه قد تم اختياره بسبب عزلته”، التي لبت احتياجات مختلفة على مدار تاريخه. أوضح الباحث أن استخدام الموقع قد تغيّر من وقت لآخر ولكن دائمًا ما استغل انعزاله.

قلعة الوعيرة الفرنجية التي بناها بلدوين الثاني

وقال الباحث بأنه من الصعب جدا إجراء الدراسات في مثل هذا الموقع نتيجة تشابه البنية إضافة إلى أن عملية “دراسة المساحات عبر صناعة حفرة لمعاينة الطبقات” عليها أن تكون فائقة الدقة وإلا تدمرت طبيعة وخصوصية الموقع. أضاف إن “إدارة مواد النفايات التي تنتجها الحفريات الأثرية هي إشكالية للغاية وتحتاج إلى سلوك أكثر قبولا من ناحية بيئية، حتى لا تؤثر على المناظر الطبيعية. من ناحية أخرى، فإن تنظيم مناطق لتخزين مثل هذه المواد في الموقع غير ممكن بدون حجب المناطق ذات الأهمية الأثرية المحتملة. ومن وجهة نظري إن الأمر متعلق بمدى احترامنا للبلد الذي نعمل فيه.”  وقد أشار إلى أنه يحاول دائما قدر الإمكان ألا يترك للسكان المحليين عبء مشاكل إضافية، مثل تنظيف أو استعادة المناظر الطبيعية.

وبسبب هذه الأمور طبق الباحث منهجا جديدا في دراسة موقع الوعيرة الأثري لتجنب سلبيات الطرق القديمة قدر الإمكان. وبهذا تحول موقع الوعيرة إلى مختبر لأحدث منهاج دراسة الآثار.

“بدأ بتطبيق طرق “الأركيولوجيا الخفيفة” بعدما طبقها علماء آثار القرون الوسطى في إيطاليا في جامعة فلورانسا وقد لاقت نجاحا كبيرا” وببساطة فإن هذه الطريقة الحديثة هي  قراءة كرونو-طبقية وطوبوغرافية جنبا إلى جنب من كمية البيانات الإيجابية والسلبية المتاحة على سطح التربة أو في المبنى لا يزال قائما “، وقد طور الباحث ديسيديري مع زميله غيدو، مدير مهمة بدأتها بعثة البتراء الأثرية في العصور الوسطى في عام 1986، هذه النظرية وبلوراها وبعدها تم تأجيل الحفريات بعد ضبط الأسئلة العلمية الدقيقة.

إطلالة اخرى على قلعة الوعيرة الفرنجية، والجدير بالذكر أن الوعيرة تصغير الوعر أي صعب الوصول

 “خلال المرحلة الآثارية المتأخرة ، تم إبراز جميع سمات الموقع المعزول”، وأضاف أن “العلاقة الأصلية بين الوصول إلى الصخور المثقوبة تم قطعها من أجل تحكم أفضل في مدخل العينة الصخرية”، عدلت القطعة الصخرية على شكل قبة مرات عديدة من أجل تثبيت الجسر المتحرك، وأشار إلى أن الخنادق الجنوبية والشمالية، مع المنزلقات الغربية، كانت تحصينا ضد الفرنج وكل ذلك يعد كشفا آثاريا حديثا.

“بالإضافة إلى ذلك، خلال تلك المرحلة، بدأ السكان بإحضار كتل الحجر الجيري التي لم تكن موجودة في السابق، إلى الموقع كمواد بناء جديدة. وقد تم استخدام كتل خام وكبيرة من هذه المواد لبناء جدار عازل، في حين تم استخدام الحجر الجيري المتراص للعناصر المعمارية من الآثار غير المعروفة وعلاوة على ذلك، فإن الاكتشاف الحديث لنوع معين من أنظمة المياه غير المتعارف عليه حتى الآن في منطقة البترا وتحديداً كنيسة صخرية في الوعيرة، يمكن أن تكون مفاتيح مهمة لتفسير المرحلة الثالثة المثيرة للجدل في الموقع.

وبالرغم من مشاركته المباشرة في هذا المشروع الذي امتد لأكثر من ثلاثين عام، لا يزال البروفيسور أندريا فاني ديسيديري مصرا ومصمما على المضي قدما. “وكما ترون، ثلاثون عاما من البحث في موقع الوعيرة لم يطفئ حماسه وأهدافه”.

أما المشروع البحثي المقبل فسيتمخض في السنين المقبلة من التعاون المستمر مع دائرة آثار البترا والحديقة الأكيولوجية وسيواجه هذا المشروع مشاكلا في التفسير للمرحلة ما قبل الفرنجة في الموقع.

المصدر: مقال منشور على جوردان تايمز الإنجليزية

http://www.jordantimes.com/news/local/italian-expert-transforms-al-wuayra-site-archaeological-laboratory%E2%80%99

خبير إيطالي يحول موقع “الوعيرة” إلى مختبر آثاري

مقدمة

يعتبر الغناء الدرزي من الأنماط الموسيقيّة المميزة في الإرث الموسيقي الأردني، إذ أنه يتمتّع بخصوصيّة في القوالب البنائيّة والألحان والمفردات الشعريّة الذي لبعضه شخصيته المستقلّة تجعل منه لونًا غنائيًا خاصًّا غير موجود في مواقع أخرى من الأردن، بينما تشترك أخرى مع غيرها من قوالب الإرث الموسيقي الأردني في التسمية والسمات الفنيّة والجذور التاريخيّة. وبني معروف، أو الدروز، هم من سكّان المناطق الشماليّة في الأردن، إذ انتشرت مضاربهم بجوار العديد من العشائر والقبائل البدوية الأردنية، وتداخلت مناطق نفوذهم مع العديد من القرى والمدن في الشّمال وحتى الوسط، وكان لهم إسهامات شتّى في الممارسات الغنائيّة الشعبيّة ساهمت، دون شك، في نشر وتطوير العديد من الألحان والقصائد التي يزخر بها إرثنا الموسيقي الذي تبلور خلال مئات السنوات من النشاط الحضاري القائم على الانفتاح والتفاعل بين مكوّنات المجتمع الأردني. نستعرض في هذا البحث ألوان الغناء الدرزي في الأردن، أو ما يُعرف بالقوالب الغنائيّة: الفن، الهوليّة، العتابا. ويُضاف إليها: الهجيني، الحداء، الشروقي، السحجة (السّامر)؛ التي سبق وأفردنا لها أبحاثًا خاصّة يمكنكم الإطلاع عليها.

الأزرق 1900 أردنيون من بني معروف ( الدروز) بلباسهم التقليدي الجميل يرتدونه بارتياح ما يدل على مجتمع أردني تتأصل به قيم الانفتاح والتنوع

الفن

يُعد اللون الغنائي المُسمّى “الفن” من أكثر القوالب الغنائية الدرزية شهرةً وانتشارًا بين القبائل الدرزية، وربما هو الأقرب إلى وجدانهم نظرًا لخصوصيّته التي يختص بها الدروز عن غيرهم من خلاله، وهو أيضًا من أكثر الألوان الغنائية سهولةً للاستيعاب والتوظيف شعرًا ولحنًا. ويعتقد أن تسميته جاءت من كثرة ما تفنّن الشعراء الدروز ببناء قصائد الفن شكلاً ومضمونًا، ولبراعتهم في التنويع على أساليب الفن الشعريّة والغنائيّة، حيث حمّلوه الكثير من المفردات والموضوعات والقوافي والألحان، سافرت جميعها بالشخصيّة الدرزيّة وفلسفتها الخاصة نحو الحياة والحب إلى آفاق إنسانيّة راقية. ويسمّي البعض الفن بالـ “الفن الدرّازي”، ولهذه التسمية تأويلان؛ أولهما أنه لون غنائي خاص بالدروز، أما الثاني فهو تشبيه نظم القصائد الفنية بعملية الدرز أو التطريز، وكلا التأويلين يعبّران عن امتلاك القبائل الدرزية لهذا اللون الغنائي واعتزازهم به وجدانيًا وثقافيًا.

وفيما يرى البعض أن الفن يشمل كافة الألوان الغنائية التي يغنيها الدروز، مشتملة على الهجيني والحداء والجوفية والشروقي وقصيدة الفن نفسها، إلا أن الأخيرة تتميّز بشكلها البنائي الخاص الذي يجعلها تختلف عن غيرها من الألوان الغنائية وإن كانت جميعها “فنون”.

تتشكّل قصائد الفنون من عدد غير محدد من المقاطع، تكاد تتشابه جميعها في البناء والنمط الشعريّ، وغالبًا ما يكون المقطع الأول ذا أهميّة بالغة لأنه مفتاح القصيدة وبابها، ولذلك فهو يختلف في تركيبته الشعرية عن باقي المقاطع، إذ تشترك الشطرات الأولى والثانية والرابعة فيه بنفس القافية التي تكون الأساسيّة للقصيدة كلها، وتنفرد الثالثة بقافية مختلفة لكسر الملل والرتابة ولترسيخ القافية الأساسية الواردة في بقيّة الشطرات. وعلى الرغم من وحـدة الموضوع والمضمون لكامل القصيدة، إلا أنه وفي بعض الأحيان تكون المقاطع الشعرية المكوّنة من بيتين في قصيدة الفن بمثابة وحدة فنيّة ذات مسار فرعيّ من الموضوع الرئيسيّ. من الأمثلة على الفنون قصيدة “زاد هم القلب زاد” التي يُلاحظ فيها ما تقدّم بيانُه فيما يتصّل بالبناء الشعريّ :

زاد هم القلب زاد .. عوّفني لذيذ الزّاد

سبب علّتي يا ناس .. غرٍّ نطحني ورّاد

غرٍّ نطحني بعيني .. طوله رمح لرديني

بسوى من هون للصيني .. وأيضاً قرايا بغداد

بسوى من الذهب مليون .. خدّه يا قمر كانون

ع فراقه سُحِت مجنون .. ذبحني حُمُر لخداد

ومن الأمثلة على قصائد الفن التي تظهر فيها التقنية الشعريّة عالية المستوى من خلال تكرار نهاية البيت السابق في مطلع البيت اللاحق، ما جاء في قصيدة “هلّي يا دموعي” :

هلّي يا دموعي هلّي .. تنبكي ع ولفٍ لي

على شوقٍ لاقيته .. مبارح من بعد الحَلِّه

على شوقٍ لاقيته .. يسوى كل اهل بيته

لولا الحيا حبّيته .. وهو على البير يملّي

ع البير يملّي جودُه .. يا مرحوم ابو جدودُه

ويلي من حُمر خدودُه .. رمّان على امّه مدَلّي

رمّان مدلّي اغصانه .. لسّا ما حل أوانه

لحرُث على فدّانُه .. واجعل هالعمر يولّي

الهوليّة

وهي رقصة غنائية شعبيّة يؤديها الرجال والنساء معًا في المجتمع الدرزي، يقف فيها المشاركون على شكل حلقة تتشابك فيها أيديهم على الأكتاف وتتحرّك دائريًا إلى اليمين على إيقاع غناء شعبيّ خاص بهذه الرقصة، وتدور الحلقة بعكس عقارب الساعة بنظام خطوتين لليمين وخطوة إلى اليسار، وبداخل الحلقة ينفرد راقصٌ وراقصةٌ بأداء منفرد، الأمر الذي يُشبه من حيث توزيع الأدوار إلى حدٍّ قريب رقصة السامر البدوية التي يقف فيها المشاركون صفًا واحدًا فيما تستعرض أمامهم الحاشي رقصتها الخاصة. والهوليّة، كالسّامر، تؤدّى في نهاية سهرة طويلة، ويشترك في أدائها الأقارب.

أما تسمية هذه الرقصة بالهولية فيعود للتهويل، والتهويل لغةً يعني المبالغة، واصطلاحًا في القاموس الشعبيّ وبخاصة عند الدروز فهو يعني النقوش والزينة والحلي التي تُظهرها المرأة للمبالغة في جمالها. وتُسمّى الهولية بهذا الاسم تشبيهًا لزينة المرأة الجميلة، فالأغاني الهوليّة مزخرفة بالكثير من المفردات والأبيات الشعريّة الجميلة التي ترافق الرقصة الرشيقة ذات الإيقاع النشط. وتشبه الهولية الزينة في عشوائيتها الجماليّة، فهي غير محكومة بنظامٍ غنائيّ محدد، لا سيّما وأن معظم الهوليّات متوارثة عبر الأجيال ولا يُعرَف قائلها، مما يسمح بالكثير من الإضافات والزخارف في الكلمة والنغمة، ويعطي مساحة للتنويعات الشعريّة الجديدة بحسب ما تقتضي طبيعة الحال والمزاج، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى ثراء كبير في مخزون الهوليّات الجماليّ، وفيما يلي نموذج لإحدى الهوليّات :

بظلّك يا شيخة لافرش وانام .. بظلّك يا شيخة يا هويدلو

بهوى المليحة ليش ولّعتوني .. بهوى المليحة يا هويدلو

بظلّ التفاحة لافرش وانام .. بظل التفاحة يا هويدلو

ما يشوف الراحة هاوي المزيونة .. ما يشوف الراحة يا هويدلو

العتابا

اشتُقّ اسم العتابا من العتب، والعتب كما يُقال “ع قدّ المحبّة”، فهو من الألوان الغنائية التي تنحاز أشعارها إلى الحديث عن الحب بكافّة أبعاده وزواياه، فمن الحنين إلى اللوم مرورًا بالوجد ووصولاً للغزل؛ تتنوّع وتتراكم أبيات العتابا التي تناقلتها الأجيال عبر مئات السنين. والعتابا غناء موّالي فرديّ غير جماعي، وغير موزون بإيقاع، أي غناء حرّ أقرب إلى الارتجال، ما يعطي للمغني مساحة أكبر للتعبير عن حالته المزاجيّة وعن انعكاس مضمون الأبيات الشعريّة التي يغنّيها على حالته الوجدانية.

يُعد العتابا ذروة من ذرى الاتقان الشعريّ واستعراض القدرة البشرية على التلاعب باللغة واظهار مكنوناتها الجماليّة، فتأليف أبياته يتطلّب براعة ودقّة لفظية كبيرة، ومخزون غنيّ من المفردات الشعبيّة الصالحة للتوظيف في قالب العتابا بحسب شروطه البنائية، حيث يتكوّن كل موّال عتابا من بيتين (أربع شطرات)، تنتهي بالضرورة الشطرات الأولى الثلاث بنفس الكلمة، في كلّ مرّة يجب أن يكون لنفس الكلمة معنى مختلف، فيما يجب أن تنتهي الشطرة الأخرى بكلمة تكون القافية فيها (آب) ككلمة (البواب، الجواب، الأحباب…إلخ). وبالرغم من صعوبة وتعقيد الشروط البنائيّة إلا أن الأمثلة كثيرة على العتابا، ومنها :

لوماهن ما انشهر الاحدب ولا انسال .. لوماهن ما انسلب ميزان جسم ولا انسال

لوماهن ما انهرق دم ولا انسال .. لوماهن ما انتصب ميزان الحساب

انسال الأولى : تعني انسلال السيف (الاحدب)، وانسال الثانية تعني : أن يصاب الجسم بمرض السّل، وانسال الثالثة تعني : أن يسيل الدم.

المضمون الشعري

تتسم الأشعار الغنائية الدرزية، كغيرها من أنماط الغناء في الأردن، بتنوّع المضامين واحتمالها لمختلف الموضوعات التي تعبّر عن الوظائف الاجتماعيّة والدوافع النفسية والحالة المزاجيّة العامّة لمختلف أفراد المجتمع، فمنها ما يعكس تنوّع المجتمع برمزيّات بسيطة كالحديث عن اختلاف لون البشرة، مثل :

بين السّمر والبيض مشروعيّة .. والكل منهن دوم يشكن ليِّه

إحنا يا البيض إحنا الحجر ألماس .. تاج الذهب مرفوع فوق الراس

والسّمر حديد للمحماس .. ولّا خلق صاجات للعزبيّة

ولم يكن مضمون الأغنية الدرزية ببعيدٍ عن النضال ضد المستعمر جنبًا إلى جنب مع بقية الأردنيين، فقد عبّرت عن قيم البطولة والحرية، خصوصًا وأن هذه القيم هي من أكثر ما تهتم به الأعراف الدرزية تاريخيًا، وتشير المصادر إلى أن العديد من الشعراء الذين صاغوا وكتبوا هذه الأغاني كانوا من بين المقاتلين في قوّات الثورة، وعند العودة لدراستها ومقارنتها بالأحداث التاريخية يجد الباحث أنها ساهمت بتوثيق التاريخ العسكري والسياسي للأحداث الجارية في حينه. ومن أمثلة الأغاني التي تضمنت الحديث عن النضال الدرزي ضد المحتل العثماني :

نمشي على الباغي بجد .. ما نختشي من حرابها

حنا على سن الرّمح .. تركيا لا ما نهابها

وبلادنا حصن منيع .. عيّت على طلابها

تفديها بغالي النجيع .. وتهوشِ عند بوابها

كما اشتملت الكثير من الأغاني الكثير من الحكم والمثل الإنسانيّة التي تمثّل فلسفة الإنسان الدرزي، ومن أمثلة ذلك :

إن جاد حظك باع لك واشترى لك .. ويحفظك من بالشان وتصير من ناس

وإن غاب حظك يكرهنّك رجالك .. ويعيب عرسك يا فتى الجود للساس

السمات الفنيّة

الشّعر : تتميّز الأشعار الغنائية الدرزية بإسهابها وسرديتها الطويلة للتفاصيل، فهي لا تقف عند بيتين أو ثلاثة، وانما تتابع الأبيات فيها لتكوّن قصيدة طويلة قادرة على حمل قصّة سرديّة أو صور وصفيّة أو حوارات غزليّة.

تحمل الأشعار الدرزية أنظمة قوافي متعددة، فمنها ما يعتمد على قافيتين ثابتتين للصدر والعجز طول القصيدة، ومنها ما يعتمد على قافية محددة تتكرر في نهاية كل بيتين من القصيدة، ومنها ما يكون أكثر تحرّرًا على سبيل التجديد والابتكار، ما يؤشر على رشاقة وصِبا الثقافة الشعريّة عند الدروز، واتساعها للتجارب الشعريّة الجديدة.

تمتاز الحالة الشعريّة الدرزية، كغيرها من الحالات في الإرث الموسيقي الأردني، بأرضيتها الحاضنة لنمطيّة اللغة “اللهجة” المحكيّة، بكل تغيّراتها وتطوّراتها المُحتملة التي تترافق مع تغيّر أنماط العيش ودخول مفردات جديدة أو تغيّر بعض الأنظمة اللغوية فيها. وتتسع القصيدة الغنائية الدرزية الواحـدة لمفردات قد تميل للبداوة أو المدنيّة في نفس الآن.

اللحن : لا يمكن النظر إلى الخصائص اللحنيّة للغناء الدرزي بمعزلٍ عن الأخذ بعين الاعتبار الخصائص والسمات الشعريّة والبنيوية اللفظية والعروضيّة للقصائد الغنائية الدرزيّة، وعليه؛ فإن المتتبِّع والممعن في تحليل الألحان الغنائية الدرزية يجدها تحت ظلال القافية والمعنى بشكلٍ واضح، وهو ما يرسّخ فكرة الإبداع المتعدد الجوانب والمعتمد على العناصر الجمالية الأساسيّة الثلاثة : الكلمة، اللحن، الأداء.

تّتسم الألحان الدرزية عمومًا برشاقة بنيتها اللحنيّة وبساطتها باعتبارها غناءً شعبيًا، وبالرغم من بساطتها في الغالب، إلا أنها تحتوي في بعض الأحيان على قفزات لحنيّة بعيدة تعطيها الطابع الموسيقيّ الأكثر تعقيدًا دونًا عن النمطية الرتيبة للألحان الشعبيّة الشهيرة في مناطق أخرى، وتجعلها جذّابة للاستماع والأداء على حدٍّ سواء.

أما بالنسبة للمقامات الموسيقيّة المستخدمة في الأغاني الدرزية، فبحسب الدراسات والأبحاث السابقة، فإن مقام البياتي يحتل المرتبة الأولى في الألحان الغنائية، وهي سمة شائعة في الغناء الأردني عمومًا، يليه مقام السيكا فمقام الراست، بينما يأتي مقام الصبا والهزام في الآخر.

الإيقاع : تترافق معظم الأغاني الدرزية، ما عدا المواويل والعتابا، بالمرافقة الإيقاعيّة، سواء كانت باستخدام الآلات الإيقاعيّة أو من خلال الممارسات الإيقاعيّة غير الموسيقيّة كأصوات الدبكة والرقصات المختلفة، ومن الإيقاعات المستخدمة في الأغاني الدرزية : الأيوب، اللف، المقسوم، الفالس، الهجع.

الأداء : تتنوّع طرق الأداء الغنائي عند الدروز، ما يخلق تصنيفًا واضحًا للأغاني استنادًا لطريقة الغناء، فمنها ما تغنيه مرأة منفردة أو رجل منفرد، ومنها ما تغنيه مجموعة من النساء أو مجموعة من الرجال، ومنها ما تشترك فيه مجموعتان من الرجال والنساء في حوارٍ غنائيٍّ، والذي قد يكون أيضًا على شكل حوارٍ بين دور منفرد ومجموعة من الردّيدة كذلك النمط الأدائي الموجود في غناء السّامر. وتؤدى الأدوار الأدائية في الغناء بصورة تلقائيّة في المناسبات الاجتماعيّة.

ومن الملفت للنظر التنوّع الثري في الطرق الأدائية للغناء الدرزي، الرجالية والنسائية، الفردية منها والجماعية، التي تسمح بالأداء مع المرافقة العزفية أو بدونها في بعض الأحيان. أما فيما يتصل بالمرافقة العزفية فإن الآلات الموسيقية المنتشرة في المجتمع الدرزي هي الربابة والشبّابة وآلة العود.

ولقد برز على الساحة في العصر الحديث العديد من المؤدين الشعبيّين الذين انتزعوا مكانتهم وشهرتهم في الوسط الفنّي الشعبيّ، تميّزوا بأدائهم الرصين وحفاظهم على الإرث الموسيقي الدرزي، وتناولت الدراسات والأبحاث أعمالهم وأداءهم بالتحليل وساعد ذلك في فهمٍ أعمق للموسيقى الدرزية.

المراجع :

  • الغوانمة، محمد، الغناء الدرزي في الأردن (1)، 2017، مجلّة الفنون الشعبيّة، العدد 21، وزارة الثقافة الأردنيّة، عمّان، الأردن.
  • الغوانمة، محمد، الغناء الدرزي في الأردن (2)، 2017، مجلّة الفنون الشعبيّة، العدد 23، وزارة الثقافة الأردنيّة، عمّان، الأردن.

قوالب الغناء الدرزي

Scroll to top