مقدمة

تزخر جراسا جوهرة مدن الديكابولس الأردنية بالكثير من الآثار والتي تدلنا على أهم المظاهر الحضارية. وربما تكون أكثر مدن الديكابولس دراسة وبحثا وقد انصب عليها اهتمام حملات التنقيبات والحفريات. في هذا البحث من سلسلة مدن الديكابولس الأردنية سنطلع على أهم معالم الحضارة في جراسا كاقتصادها وتجارتها وآثارها.

الاقتصاد في جراسا

اعتمد اقتصاد مدن الديكابولس الأردنية بشكل عام على الزراعة والصناعات المرتبطة بها تحت مظلة الاقتصاد الزراعي. وأتاحت الطرق التجارية التي استحدثها الأردنيون الغساسنة متفرعة من طريق الحرير القديم على جعل مدن الديكابولس الأردنية مراكز تجارية متخصصة في منتجات مميزة، كزيت الزيتون الذي اشتهرت فيه أبيلا (حرثا) أو تجارة الحيوانات المدجنة الذي اشتهرت فيه بيلا (طبقة فحل). ولكن تمتعت جراسا بمكانة مميزة لكونها تقع في قلب خريطة مدن الديكابولس الأردنية.

العلاقات التجارية مع الأردنيين الأنباط

 في نهاية القرن الأول قبل الميلاد بدأت المملكة الأردنية النبطية بالاتساع  حتى وصلت دمشق، فصارت بوسطرا (بصرى) مدينة نبطية وظلت جراسا (جرش) على مكانتها كمدينة ديكابولس أردنية مرموقة ولكنها تأثرت كثيرا بالثقافة الأردنية النبطية بفعل حركة التجارة العالمية التي قادها أجدادنا الأردنيون الأنباط في العالم القديم عبر ما سمي بطريق الملوك[1] وبالرومانية سمي  “طريق مارس”.

شهدت المملكة الأردنية النبطية في عهد الملك الأردني النبطي الحارث الرابع 9 ق.م – 41 م أشد حالات اتساع نفوذها السياسي والتجاري. حيث اعتمدت مدينة جراسا على النقد النبطي خصوصا الذي يعود لحقبة الحارث الرابع وقد وحجت الكثير من العملات النقدية خلال حملات التنقيب إضافة للعديد من المنتجات النبطية كالفخار النبطي ونرى أيضا تأثر جراسا بمعتقدات الأنباط الدينية وأنظمة الري والهندسة المعمارية. (شهاب: 1989)

لم يتغير الحال التجاري عندما سقطت المملكة الأردنية النبطية بعد حصار اقتصادي طويل عام 106 ميلادي فقد أعاد الإمبراطور تراجان تقسيم الطرق التجارية وجعل مركزها مدينة جراسا وكانت تابعة إلى ما سمي “الولاية العربية البترائية- بترايا أرابيا” ( العقيلي: 1973)

خريطة توضح خطوط التجارة الأردنية النبطية ومدى توسعها

أما في عهد الأردنيين الغساسنة (القرن 2-6 ميلادي) فقد شهدت مدن الديكابولس نهضة تجارية لا مثيل لها. وصارت المنتجات الزراعية والصناعية الأردنية تجوب أنحاء العالم القديم بفضل الشبكة التجارية المحكمة التي استحدثها الأردنيون الغساسنة كفروع عن طريق الحرير القديم. إضافة للمراكز التجارية وخطوط الطرق فقد عرف الأردنيون الغساسنة بأنهم حماة القوافل فقد كانت مهمتهم تأمين القوافل التجارية القادمة والذاهبة من مدن الديكابولس الأردنية إلى أنحاء العالم.

خريطة الطريق العربي الغربي وهو طريق تجاري استحدثه الأردنيون الغساسنة وكانوا مسؤولين عن حمايته. المصدر:
Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

الزراعة

 تحيط غابات عجلون بمدينة جراسا وقد وصفها العديد من الرحالة كجنة خضراء تحيط بها عيون الماء ويتخللها نهر متدفق لقب “بنهر الذهب” وقد ذكره ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان بأنه متدفق وغزير ويدير عدة طواحين. إضافة للنهر في جراسا عدة ينابيع طبيعية غزيرة كعين القيروان وعين البركتين واستخدمت الأولى للشرب والثانية للري. وقد أسس الأردنيون في جراسا نظاما مائيا يغذي المدينة وكان يستخدم لري كل البساتين حول المركز وقد خلصت دراسة أجرتها دائرة الآثار الأردنية عام 1982 إلى مخطط شبكة المياه والري والمجاري.

تتمتع جراسا بتربة خصبة للغاية كحال أغلب مدن الديكابولس الأردنية. وقد عزز توافر المياه والتربة الخصبة إضافة لإتقان الأردنيين لأسس الزراعة وأساليبها على جعل جراسا من أهم المدن الزراعية الأردنية التي تنتشر فيها كروم العنب والزيتون ونستدل على وجود معاصر الزيتون والنبيذ الحجرية المكتملة والتي تعد من المعاصر الأكبر حجما في الأردن.

من بقايا معاصر الزيتون في جراسا- حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

مخطط وبناء المدينة

 يتسم تخطيط مدن الديكابولس الأردنية بالتنظيم وبعناصر أساسية لا غنى عنها في كل مدينة. فلكل مدينة بوابة وسور عظيم وسبيل حوريات ومسارح (مدرجات) وشارعين رئيسين (كاردو) ( وديكيمانوس)، وتتابين التفاصيل الأخرى. ولكن في مدينة جراسا يختلف الأمر قليلا فقد تحكمت العوامل الجغرافية والطبيعية في بناء المدينة وتوسعها وأهم هذه العوامل هو وجود النهر الذي يقطع جراسا إلى جزأين غربي وشرقي وتقع أغلب المدينة الأثرية في الجزء الغربي إلا أن توسعها كان أمرا يتبع للحقبة التي تقع فيها.

مخطط المدينة الأثرية وقوس النصر وملعب الخيل إلى اليسار من المخطط

يمكننا تقسيم الطرز المعمارية وتوسع المدينة بحسب أهم الحقب التي مرت عليها. وسنبدأ من الحقبة البطلمية فكما أسلفنا وقعت جراسا تحت حكم السلالة البطلمية[2] في القرن الثالث قبل الميلاد. وبمقارنة جراسا بأختها فيلادلفيا نجد بعض الفروق في اعتبار جراسا حامية عسكرية بنيت فيها قلعة على الهضبة الغربية الجنوبية حيث يقع المدرج الجنوبي ومعبد زيوس. وتختلف هذه القلعة في تخطيطها عن القلاع العسكرية التي بنيت في فيلادلفيا أو جدارا. وفي تلك الفترة بني للمدينة أيضا سور عظيم فيه أبراج للمراقبة وتتميز هذه الأسوار بأنها تسير بشكل مستقيم ومن ثم تنحرف على شكل زاوية حادة وفي كل زاوية برج مراقبة وللسور بوابة واحدة تقع على الجهة الشرقية.  وتبلغ المساخة الداخلة ضمن هذا السور 147 ألف متر مربع. (شهاب: 1989)

جزء من سور المدينة الأثرية- حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

في القرن الثاني قبل الميلاد حتى القرن الأول دخلت المدينة في الحقبة السلوقية  وتمثلت أهم معالمها المعمارية ببناء سور دفاعي بطول خمسة كيلومترات وبعرض مترين لثلاثة أمتار. إضافة لذلك، شهدت هذه الحقبة تطور العلاقات التجارية مع الأردنيين الأنباط مما ساهم في تلاقح الأساليب المعمارية وتطويرها؛ فبنيت عدة بوابات للمدينة.  ففي السور الدفاعي أربعة بوابات رئيسة تم تغيير وإعادة بناء بعضها عند دخول المدينة الحقبة الرومانية، إلا أن البوابة الشمالية الغربية التي بنيت  76-75 ميلادي هي البوابة الوحيدة التي لم يتم تغييرها. (شهاب: 1989)

البوابة الشمالية – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

أما البوابات الأخرى فقد تأثرت كما أسلفنا بدخول الحقبة الرومانية في القرن الأول الميلادي. فالبوابة الشمالية قد أعيد بناؤها عام 115 ميلادي وذلك لحل مشكلة تقاطع شارعين رئيسيين الأول هو طريق تراجان القادم من بيلا (طبقة فحل) والثاني شارع الكاردو في المدينة. والبوابة الجنوبية الضخمة التي تتفرد بثلاثة مداخل قد أعيد بناؤها على فترات مختلفة وصولا إلى العصر الإسلامي.

تقع  البوابة الشمالية عند النهاية العليا لشاعر الكاردو  وهي على امتداد طريق بيلا (طبقة فحل) التجاري. فيها ممر واسع به جانبان أضيق قليلا وعلى الممر من الأعلى وجد النقش الذي يؤرخ لسنة إنشائها وهي أعرض قليلا من البوابة الجنوبية التي وجدت في حالة دمار بعد اكتشاف غرفة الحارس. البوابة الجنوبية مشابهة لقوس النصر ولكن أصغر حجما وهي مثله تحوي على أربعة أعمدة. (شهاب: 1989)

زودت البوابات بمداخل من نوعين الأول هو الدرجات للاستخدام البشري والثاني هو المنحدر لاستخدام الحيوانات والعربات. وقد اكتشفت بوابة أخرى من الجهة الشرقية أثناء شق طريق وهي مغلقة بالحجارة ولكنها جعلت الباحثين يعيدون النظر بتخطيط المدينة حيث اقترح بعضهم وجود شارعين آخرين رئيسيين وبهذا تصبح جراسا مدينة الديكابولس المتفردة التي تحوي أربعة شوارع رئيسة تقسم المدينة إلى مستطيلات تتراوح أبعادها بين الخمسين والمائة متر على مساحة خمس دونمات (شهاب: 1989)

المباني الأثرية

 كانت جراسا مدينة شديدة الازدهار وقد تجلى ازدهارها الحضاري بعظمة تخطيطها وبنائها وفي ما يلي أهم آثار المدينة :

قوس النصر 

إن قوس النصر هو أول ما يراه القادم من فيلادلفيا إلى جراسا وهو بناء ضخم وجميل بني على شرف الإمبراطور الروماني أدريان  129-130 ميلادي. .”  ولأنه يشرف على عمان ولأنه بني تخليدا للإمبراطور أدريانوس لقب قوس النصر (بوابة عمان) و(بوابة أدريان).

صورة لقوس أدريان أو بوابة عمان

 ونقش على قوس النصر “تخليدا للإمبراطور ادريانوس، أغسطس، الكاهن الأعظم أبي الوطن، ولسعادة وسلامة أسرته. إنها مدينة أنطاكية الواقعة على سيل كريزوراس، جرش بتوصية من فلافيوس أغربيا تتقدم هذه البوابة مع  تمثال النصر”

 يتكون البناء من مدخل كبير مقوس في الوسط ومدخلان جانبيان وفوق القوس الكبير وضع تمثال الإمبراطور أدريان ممتطيا عربة بأربعة خيول. وفي الواجهة أربعة أعمدة مزدانة بأكاليل الخرشوف والقوسان الصغيران فيهما حنايا لوضع التماثيل. (شهاب: 1989)

ملعب الخيل (هيبودروم)

 يقع ملعب الخيل على يسار قوس النصر ويمتد على شكل مستطيل طوله 160 متر وعرضه 65 متر وكان يحيط بالملعب جدار سمكه 5 متر. من المرجح أن هذا الملعب قد بني في القرن الثاني الميلادي بعد بناء قوس النصر. يعد هذا الملعب مرفقا ترفيهيا مهما حيث كانت تدار فيه ألعاب سباق الخيل والعربات. والجدير بالذكر أنه قد طرأ عليه بعض التغيرات عند الغزو الفارسي 614 ميلادي حيث عثر على ثغرات خاصة بلعبة الصولجان الفارسية. (العقيلي: 1973)

إطلالة على ملعب الخيل

للملعب مدرجات شمالية وغربية للمتفرجين وهي قائمة على أقبية كبيرة تشبه نظام بناء المسارح والمدرجات المغلقة. والأغلب أن هذه الأقبية استخدمت كإسطبلات للخيل. (العقيلي: 1973)

سبيل الحوريات

يعد سبيل الحوريات مبناً مشتركاً نجده في كل مدن الديكابولس الأردنية وهو دليل واضح على الرخاء والرفاه الاجتماعي. في جراسا، يتألف السبيل من طابقين وهو عبارة عن هيكل لعذارى الماء (النمفيوم) ويعد حمام جراسا متميزا من ناحية الزخارف والمعمار فتتدفق الماء من أفواه الأسود المنحوتة إلى المصارف تحتها إلى أن يمتلئ الحوض. وسبيل الحوريات مزود بشبكة تصريف مياه متميزة مكونة من قنوات فرعية تصب في أخرى رئيسية وأخرى أكبر تصل مدن الديكابولس الأردنية ببعضها. (العقيلي: 1973)

سبيل الحوريات المؤلف من طابقين والمزين بأجمل الزخارف

هيكل أرتميس

 تشتهر أرتميس بكونها آلهة الصيد وآلهة المدينة الأعظم وحاميتها. وبني هيكلها لتكريمها. يقع الهيكل في الجانب الغربي الشمالي من المدينة ويعتبر من أعظم آثار جراسا على الإطلاق. بني الهيكل في منتصف القرن الثاني الميلادي. (العقيلي: 1973)

تبلغ أبعاد الهيكل 40 متر طولا، 22.5 متر عرضا و4.5 ارتفاعا وقد بني على عدد كبير من الأقبية وهو مطل على أغلب المدينة الأثرية وقريب من البوابة الشمالية والبوابة الشمالية الغربية ومن القرب منه بنيت عدة حمامات لا زالت بعض بقاياها موجودة. كان للهيكل حرمة فلا يدخله سوى الكهنة. (العقيلي: 1973)

إطلالة على هيكل أرتميس – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

يعد هيكل أرتميس رائعة معمارية قل مثيلها في المدن التي بنيت على الطراز الروماني في العالم أجمع. فهو مبني على طراز الممرات والساحات ويبدأ نظام الممرات شرق سيل جراسا ب300 متر ويشكل الممر شارعا بطول 38.7 متر وعرض 11 متر يتقاطع مع الشارع الرئيسي ويصنع ساحة على شكل شبه منحرف. وللهيكل بوابة عظيمة يبلغ ارتفاع جدارها 14 متر ويمتد لمسافة 120 متر. وإلى الداخل توجد بوابة بديعة ثلاثية مزدانة بالأعمدة والزخارف النباتية وبعد البوابة تأتي الساحة الداخلية تليها عدة درجات ومن ثم الهيكل. يخلّف هذا النظام من تقاطع الممرات والساحات شارعا مقدسا وآخر للاحتفالات ويعد استغلالا رائعا للمساحات بهدف خلق حالة من الشعور بالرهبة والخشوع. (شهاب: 1989)

معبد زيوس

 زيوس هو كبير آلهة الأولمب اليونانية وهو سيد البرق والصواعق ويلقب بأب الآلهة والبشر وانتشرت عبادته في مدن الديكابولس التي خضعت للتأثيرات اليونانية لفترات طويلة.

معبد زيوس – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

  يقع معبد (هيكل) زيوس شرقي المسرح الجنوبي وأعمدته متساقطة في نفس الموقع وبعض من جدرانه لا يزال قائما. والمثير في هذا المعبد هو الأقبية الضخمة التي أُنشئت لرفع مستوى ساحة المعبد والتي استخدمت كمخازن للأدوات. (العقيلي: 1973)

وقد ذكر المسؤول عن حملة تنقيبات البعثة الفرنسية في ثمانينات القرن الماضي الباحث “جاك سين” أن أبرز ما اكتشفته البعثة هو أن بناء المعبد قد تم على يد وتحت إشراف واحد من أبناء جراسا بالاعتماد على الكتابة اليونانية التي وجدت في ساحة المعبد. (شهاب: 1989)

الساحة (الفورم)

تقع الساحة البيضاوية في مكان منخفض بين الهضبتين الشرقية والجنوبية الغربية وهي من أكثر المعالم الأثرية شهرة. تبلغ  أبعادها 80 × 90 مترا وهي مبلطة بالحجر الكلسي الأملس ويحيط بها 55 عمود. أما من ناحية تخطيط المدينة فهي تقع في نهاية الشارع الرئيسي في الجهة الجنوبية من المدينة الأثرية. (شهاب: 1989)

الساحة البيضاوية المحاطة بالأعمدة

يطلق عليها عدة أسماء (الفورم) باليونانية وساحة الندوة حيث كانت ملتقى اجتماعي وثقافي وسياسي. وهي تشهد على ازدهار جراسا في القرن الأول الميلادي. (شهاب: 1989) وفي الذاكرة الشعبية كانت تلقب الساحة “السحاجّة” للاعتقاد السائد بأن الله أنزل غضبه على أهل المدينة عندما كانوا يعدون لسهرة “الدحية والسحجة” فحولهم لأعمدة.

 شوارع الأعمدة

شارع الديكمانوس الفرعي والذي يتقاطع مع الكاردو

من الساحة البيضاوية  باستقامة حتى البوابة الشمالية، يبلغ طول الشارع الرئيس 600 متر وهو شارع مزدان بالأعمدة على جانبيه ( العقيلي: 1973) وتختلف الأعمدة في طرازها فمن الجانب الشمالي هي على الطراز الأيوني الذي يتميز بصغر قطر العمود نسبيا وتاجه البسيط أما من الجانب الجنوبي فتتبع الأعمدة الطراز الكورنثي وهي أعمدة بتاج مزخرف بزخارف نباتية وورود.  في شارع الكاردو قرابة الألف عمود ومن هنا أخذت جراسا لقبها “مدينة الألف عمود”

تصميم العمود الأيوني حيث يكون رفيعا وبنهاية ملتفة
نهاية العمود الكورنثي المزين بالزخارف النباتية

يتقاطع الشارع الرئيسي بشارعين متقاطعين آخرين. لا زال الشارع الفرعي الممتد من الشرق إلى الغرب ظاهرا بينما اختفت آثار الشارع  الفرعي الجنوبي. ومن المثير أن نجد في هذه الطرق آثار باقية للعربات وقنوات تجميع وتصريف المياه. ( العقيلي: 1973)

شارع الألف عمود

 

عمارة الكنائس

كما ناقشنا في البحث الأول عن مدينة جراسا ازدهرت المسيحية في  المدينة ولقت فيها تربة روحية خصبة وقد أسفر هذا عن إبداع غير مسبوق في مجال عمران الكنائس. حتى الآن، اكتشفت 15 كنيسة مسجلة ولكن الباحثين يرجحون أن المدينة حوت عددا أكبر وربما يكون هنالك المزيد من الكنائس المطمورة تحت الأنقاض.

 تتسم عمارة الكنائس بطابع جمالي يؤرخ لحقبة كان فيها الإنسان الأردني على قدر عال من الإبداع. أغلب الكنائس في جراسا تتبع طراز البازليكا أي الكنيسة المستطيلة وغالبا ما ترصف بالفسيفساء الجميلة الملونة والمزدانة بالزخارف النباتية والحيوانية إضافة إلى  الأعمدة والنوافير والغرف المرفقة. ( العقيلي: 1973)

من الزخارف النباتية على الجدران

وفي الحقيقة،  تمثلت الحركة العمرانية في جراسا بل في مدن الديكابولس الأردنية ببناء الكنائس ذات الطراز المعماري المميز. ونذكر من هذه الكنائس كنيسة القديس ثيودور التي تقع بجانب البركة المقدسة وكنيسة يوحنا وكنيسة القديس جورج وكنيسة الشهيدان قزمان ودميان (كوزموس ودميانوس) وكنيسة القديسين بطرس وبولس وآخر ما بني من الكنائس كانت كنيسة المطران جينيسوس. ( العقيلي: 1973) وهناك أيضا كنيسة الرسل والشهداء والكنيسة ذات الرواق وكنيسة بروكوبيوس وكنيسة إلياس وماري وسورح إضافة لكنيس يهودي حول إلى كنيسة عام 531 ميلادي. (شهاب: 1989)

كنيسة الكاتدرائية إحدى أقدم الكنائس في مدن الديكابولس

من الجدير بالذكر أنه في القرون الميلادية الأولى وخصوصا بعدما اعتنق الإمبراطور أوغسطين  المسيحية وأعلن أن دين الإمبراطورية هو الدين المسيحي بدأت مدن الديكابولس الأردنية باعتناق المسيحية وتحولت المسيحية من دين جديد مضطهد إلى دين الأغلبية وقضت الحاجة بتحويل المعابد الوثنية إلى كنائس. ففي فيلادلفيا (عمان) حُول هيكل فينوس إلى كنيسة وكذلك كان الحال في جراسا حيث تحول معبد ديونيسيوس إله الخمر إلى كاتدرائية وأقام الأردنيون بجانبه معبدا لمريم العذراء والملاكيين جبرائيل وميكائيل ويصعب تحديد عمر الكنيسة ولكن يرجح المؤرخون أنها لا تتعدى القرن الرابع الميلادي. (شهاب: 1989)

كنيسة القديس ثيودور واحدة من الكنائس المهمة في جراسا- حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

عمارة المسارح

 عاشت مدن الديكابولس الأردنية رفاهاً ورخاءً اقتصاديا واجتماعيا، وتساعدنا الآثار التي وجدت في مدن الديكابولس على اكتشاف ماهية معالم الحضارة الأردنية. تنتشر المسارح التي بنيت في الحقبة الكلاسيكية في الأردن وقد بلغ عددها 13 مسرحا 3 منها في جراسا: المسرح الجنوبي، والمسرح الشمالي، ومسرح البركتين. (العقيلي: 1973)

يشيع استخدام لفظة “مدرج” بدلا من المسرح، ولكن المدرج في الحقيقة جزء من المسرح. تبدو المسارح متشابهة في مدن الديكابولس الأردنية ولكن مع بعض التدقيق تظهر لنا اختلافات جوهرية فالمسارح التي بنيت في الحقبة اليونانية تكون مفتوحة السقف ولكن تلك التي بنيت في الحقبة الرومانية والبيزنطية تكون مغلقة بسقف خشبي أو واق من الشمس وهي معدة لتمثيل المسرحيات لا للمصارعة مع الحيوانات. (العقيلي: 1973)

كانت المسارح تبنى على سفوح الجبال أو تقتطع من الجبال وذلك لتجنب حوادث الانهيارات كحادثة انهيار المسرح الخشبي في أثينا 500 ق.م. ومن ثم تطور أسلوب البناء ليصبح البناء على “حجر الزاوية” وهو نمط معماري يقوم على تأسيس نظام من الأقبية والعقود لتتحمل مباني قد يصل ارتفاعها لأربعة طوابق. ويشمل هذا البناء على مداخل داخلية لممثلين وخشبة مسرح ومكان مخصص لأوركسترا ونوافير جانبية لتلطيف الجو أثناء العرض المسرحي. (العقيلي: 1973)

المسرح الجنوبي أكبر المسارح التي بنيت في مدن الديكابولس الأردنية

وبالعودة إلى مسارح جرش الثلاثة، بني المسرح الجنوبي وهو أكبر المسارح في الأردن في القرن الأول ميلادي  وتحديدا 81-98 ميلادي في عهد الإمبراطور روميتان ويؤكد هذا كتابة يونانية طويلة على الصف الأول وهي تؤرخ لتقديم ضابط نبطي تمثالا للنصر عقب الثورة على اليهود عام 70 ميلادي ويبلغ ثمن هذا التمثال ثلاثة آلاف دراخما. ويقع  المسرح قرب معبد زيوس. (العقيلي: 1973)

المسرح الشمالي

أما مسرح البركتين فهو يقع قرب البركتين على بعد 1200 متر شمال البوابة الشمالية. والبركتين عبارة عن نبع ماء غزير يسقي البساتين المحيطة وسمي بالبركتين لأنه يتكون من حوضين. اكتشف هذا المسرح المستكشف الألماني شوماخر. واكتشف بعض النقوش التي تعود للقرن السادس الميلادي أن احتفالا وثنيا يسمى “عيد ماء يوماس” كان يقام في هذا المسرح وكان المسيحيون لا يتقبلون هذا النوع من الأعياد ورغم ذلك ظل هذا العيد حتى وقت متأخر كالقرن السادس الميلادي. (العقيلي: 1973)

حوض البركتين – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود
المسرح الاحتفالي في موقع البركتين – حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

المدافن واللقى الأثرية

خلال عمليات التنقيب التي أجرتها دائرة الآثار الأردنية عام 1985 اكتشفت العديد من الآثار التي تعود للحقب المتعددة التي مرت على المدينة. فقد اكتشف مدفن على الطراز الروماني يقع غرب البوابة الشمالية خارج سور المدينة. وهو مبني من الحجارة على طراز القناطر ويؤرخ للقرن الثاني الميلادي. (شهاب: 1989)

وكشفت تنقيبات عام 1984 عن غرفة ويتوسطها تماثيل بشرية رخامية بأسماء يونانية ويقع هذا الموقع شرقي المدينة الأثرية. كما اكتشف مفتش آثار جرش لعام 1967 السيد سليمان دعنه فسيفساء في استراحة جرش. وقادته الصدفة لاكتشاف غرف متعددة  مرصوفة بالفسيفساء الجميلة ولها أقواس وقناطر. أسفرت  التنقيبات عن العديد من اللقى الأثرية كسراج فخاري مميز عليه رسوم لأسماك وصليب وتدل الأسماك على فكرة “المسيح ابن الله” وهي رمز كان يستخدمه المسيحيون الأوائل  زمن اضطهاد الأباطرة الرومان لمعتنقي الديانة المسيحية وقد استمر استخدام هذا الرمز حتى يومنا هذا.

إطلالة على المدينة الأثرية

 ووجد فنجان وعدة عملات  ورأس تمثال وقبر مرسوم عليه بالدهان الأحمر صليب وقد أرخ الموقع لنهاية القرن الرابع 396 ميلادي. أسفرت التنقيبات الكشف عن قناة خاصة للمياه في هذه الغرف ومكان مخصص لوضع العلف للدواب وجداران مكتوب عليهما (أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمدا رسول الله)  ويدل هذا على استمرار استخدام هذه المساكن والمدافن في العصور الإسلامية.  (شهاب: 1989)

تتوالى المفاجآت الأثرية في جراسا حيث اكتشفت بقرب مخيم سوف كنيسة بيزنطية مزدانة برسوم نباتية وحيوانية ونقوش يونانية. إضافة لاكتشاف العديد من المنازل التي تعود للعصور الإسلامية واكتشاف شوارع داخلية فرعية بطول ستة أمتار ونصف وعلى جانبيها بقايا منازل تحوي الكثير من الخزفيات والفخار والعملات. إضافة لاكتشاف واجهة لمبنى ضخم يبلغ عرضه خمسين مترا ويقع خلف الشارع المعمد في منتصف المسافة الواقعة بين المصلبة الجنوبية والساحة  البيضاوية المعمدة. على جانبي المبنى شارعان بعرض ستة أمتار ونصف. واكتشفت أرضية فسيفسائية هندسية بجانب هذا المبنى أيضا. (شهاب: 1989)

صورة جوية لواحد من مواقع المدافن المكتشفة. حقوق الصورة محفوظة للباحث نصير الحمود

وأثناء عملية شق شبكة الصرف الصحي في جرش عام 1981 اكتشف أيضا مدفن  يحوي حجرتان  في كل حجرة ثلاثة نواويس (توابيت حجرية) وفي الغرفة الثانية عامودين عند المدخل وحجر لعصر الزيتون في المنتصف حيث يرجح استخدام الحجر كمعصرة قبل تحويلها إلى مدفن. والمدفن مرصوف بالحجارة الكلسية والتوابيت لها شناكل حديدية عبث بها من قبل اللصوص فكانت مفتوحة. واحتوى كل تابوت على عدة هياكل وعملة برونزية تعود لأوائل القرن الرابع ميلادي. عثر في هذا المدفن على عدد كبير من اللقى الأثرية كمعطرة زجاجية وفخاريات ملونة بالأحمر والوردي وجرار للخمر وسرج فخارية.

اكتشف أيضا مدفن روماني عام 1985 شرق قوس النصر ووجدت فيه هياكل عظمية لإناث وطفلة صغيرة ووجدت في التوابيت عدة حلي ذهبية وجرار فخارية للخمر والحبوب وأخرى زجاجية ويعود المدفن للقرن الثاني الميلادي. واكتشف في نفس العام مدفن جماعي يعود للقرنين الأول والثاني الميلادي بجثث مدفونة بالأرض دون توابيت إضافة لعدد من الجرار الفخارية والزجاجية.

الخاتمة

  استعرضنا في الجزء الثاني من بحثنا عن جراسا اقتصادها ومعمارها الذي يعد الأكثر تميزا من بين مدن الديكابولس الأردنية. تستقطب جراسا ملايين السياح سنويا، راغبين بالاستمتاع بالحضارة الأردنية.

المراجع

  • شهاب، أسامة (1989) جرش تاريخها وحضاراتها. دار البشير للنشر: عمان، الأردن
  • العقيلي، رشيد (1973) المسارح في مدينة جرش الأثرية، منشورات دائرة الثقافة والفنون الأردنية: عمان، الأردن
  • جراسا والديكابولس، موسوعة التراث غير المادي، موقع وزارة الثقافة الأردنية
  • مجلي،عبد المجيد (1982) نظام المياه والمجاري في مدينة جرش الكلاسيكية، حوليات دائرة الآثار الأردنية

[1] طريق الملوك أو الطريق السلطاني كما كان يسمى في العصور الإسلامية ظل مستخدما حتى نهايات الاحتلال العثماني وكان يربط العقبة بروما.

[2] البطالمة هم عائله من أصل مقدونى نزحت على مصر بعد وفاة الإسكندر الأكبر سنة 323 ق. م ، حيث تولى أحد قادة جيش الإسكندر الأكبر وهو “بطليموس” حكم مصر للمزيد انظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A9

مدن الديكابولس الأردنية : جراسا جوهرة الديكابولس الأردنية – الجزء الثاني

مقدمة

يعتبر العرس الأردني فرصة اجتماعية يتم استغلالها بأقصى ما يمكن لاستعراض وإعادة انتاج وتوريث العديد من العادات والتقاليد، وترسيخ الكثير من القيم المجتمعية التي توارثتها الأجيال على مر السنوات الطويلة، من الشخوص وأدوارهم التي يقومون بها خلال أيام العرس، مرورًا بالطقوس والإجراءات وكيفية تنفيذها، وصولاً إلى مظاهر الفرح التي يعبّر عنها الأردنيون بالكثير من الألوان الغنائية والرقصات المتنوّعة والمختلفة، ولا يوجد قالب غنائي معين للعرس الأردني، فقد جرت العادة أن تُغنّى مختلف الألوان الغنائية في الأعراس، كلٌّ بحسب منطقته.

ويمتاز العرس الأردني بتسلسل مراحله وامتدادها على أكثر من يوم واحد، لتصل مراسم العرس في بعض الاحيان إلى “سبعة أيام بلياليها”، ولكل يومٍ تحضيرات خاصّة، ومراسم خاصّة، ولكل من هذه التحضيرات والمراسم أغانٍ معيّنة، نستعرضها في هذا البحث بحسب موقعها من مراحل العرس.

تراويد وأغاني الحنا والفاردة

تنتشر طقوس الحنا في مختلف مناطق الأردن، وتمتاز بعض المناطق بطقوس الحنا للعريس أيضًا وليس فقط للعروس، وليلة الحنا هي الليلة التي تسبق الزفاف، وظلت هذه الليلة متواجدة في العرس الأردني حتى هذه الأيام وإن أخذت أسماء أخرى مثل “سهرة الوداع، سهرة الشباب”، فعلى الرغم من قلة استخدام الحنا في هذه الليلة حديثًا، إلا أنها احتفظت بطابعها الوداعي، بصفتها الليلة الاخيرة التي يقضي فيها العرسان آخر أوقات العزوبية في بيت العائلة.

لم تكن تجري مراسم تحناية العروس في بيت أهلها، بل في بيت أحد الأعمام أو الأخوال، وذلك تمهيدًا أو محاكاةً لخروجها من بيتها إلى بيت الزوجيّة. وتسمّى النساء المشاركات في ليلة الحنّا : الحنّايات، ولهن تراويد مشهورة يقلنها في أثناء سيرهن إلى البيت الذي ستجري فيه مراسم الحنا :

واحنا مشينا ليلتين وليلة .. واحنا خذينا من كبار العيلة

يارب يسلم من تريده عيني .. علي ومحمد يسلموا الاثنين

وأيضًا الترويدة الشهيرة التي تقال في هذه المناسبة وأيضًا في الفاردة :

يا بيي فلان وسّع الميدان .. والعز لك والفرح للصبيان

يا بيي فلان وكثّر الترحيبي .. واحنا البنات ما بينا الغريبة

وافرم اللحم واذبح الشاتين .. وفلان هدّى ع النسب الزّين

شاة النذل تمشي على رجليها .. شاة أبو فلان مقصّعات ايديها

يا بيي فلان يا ذهب ع صدري .. ذابح خروفه والنذل ما يدري

ويوجد لهذه الترويدة نسخة أخرى وهي الأكثر شهرة :

فرّش الديوان يا بيي فلان وفرّش الديوان

والفرحة للصبيان والعز لك والفرحة للصبيان

قهوتك عسلية يا بيي فلان قهوتك عسلية

دقة الصبحية رطلين الشامي دقة الصبحية

من طليت أشوفه بيتك يا فلان ومن طليت أشوف

والشباب تحوفه عمدانه صنوبر والشباب تحوف

نازلين الدرب هلك يا فلانة نازلين الدرب

يشلعون القلب اهل الصهاوي يشلعون القلب

صفلنا الكراسي يا بيي فلان صفلنا الكراسي

رافعات الراسي جنك الصبايا رافعات الراسي

وتقال التراويد السابقة في الفاردة أيضًا وليس فقط في مشوار الحنايات إلى ليلة الحنا، ويُطلق على مَن تغني هذه الأغاني “روّادة”، وتُسمّى أيضًا بالـ “فرّادة” وهو الفعل الذي تقوم به في المسير إلى بيت العروس لحنّاها أو لزفافها المُسمّى “فاردة” أو “تفورد”، وتغنيها النساء من طرف أهل العريس لأهل العروس الذين يستقبلون الفرّادات بالزغاريد والبارود، وتوزيع صرر الحناء على الجارات والقريبات والصديقات ممن حضرن اللحظة، وتتم دعوة كل من تصلها صرّة الحنّا للعشاء بالغناء :

فرّقوا حنّاها تحت الدوالي فرّقوا حنّاها

وابعدوا مشحاها يا بي فلانة وابعدوا مشحاها

وبعد العشاء يأتي دور الحنا، على وقع التراويد وأشهرها :

لمّي يا لمّي وحوشيلي مخدّاتي

طلعت من البيت وما ودعت خيّاتي

لمّي يا لمّي وحوشيلي قراميلي

طلعت من البيت وما ودّعت أنا جيلي

وهي من التراويد الحزينة التي تحمل العروس على البكاء واستحضار مشاعر الشوق المحتملة لأهلها خصوصًا بعد استشعارها لحقيقة لحظة مفارقة بيت أهلها الذي كبرت وترعرعت به. ومن تراويد ليلة الحنا أيضًا ما قد تروّد به إحدى النساء من أهل العروس معاتبة :

يا الاهل يا الاهل لا يبري لكم ذمة

وش هو الـ عماكو عن ابن الخال والعمّة

يا الاهل يا الاهل لا يبري لكم خاطر

وش هو الـ عماكو عن ابن العم هالشاطر

وهناك ما تروّده النساء بما يملأ القلب حسرة وألمًا، إذا ما شعرت الروادة أن العروس مقبلةٌ على عريس لا تريده :

يا حسرتي يا رويدة بختنا قصّر

والنذل ما نوخذ وع السبع نتحسّر

والبارحة يا رويدتي كنت أنا وانتي

والفلفك بحضني وانتحب وابكي

والبارحة يا رويدتي كنا بالحارة

واسمع حنينك مع العصفورة طيارة

ومن التراويد التي تعاتب بها العروس أهلها وأباها وتتمنى بقاءها في بيته حتى وان كانت سعيدة بزواجها :

ياريت ابوي يحلف عليّ الليلة

وانا العزيزة انام بين العيلة

ياريت ابوي يحلف عليّ أباتي

وانا العزيزة انام بين خيّاتي

قولوا لأبوي الله يخلي أخوتي

استعجل عليّ وطلّعني من عزوتي

وتغني بعض العرائس تراويد تعني استعجالها للخروج من بيت اهلها، وشوقها للحظة لقاء عريسها، ومن مثل هذا :

يا حنا ما اريدك تعقد على أديّا

غير تا ييجي فلان ويعطف عليّا

يا حنّا ما ريدك تعقد على راسي

غير تا ييجي فلان واعرف خلاصي

وفيما يلي نماذج مختلفة جُمعت من مناطق عديدة للتراويد التي تقال للعروس أو على لسان العروس، سواء في الفاردات أو في ليلة الحنا :

واتحملونا يا الاهل هالليلة

وبعد سويعة وبخاطرك يا ميمة

واتحملونا يا الاهل ثلاث ساعات

وبعدها بخاطركن يا خيّات

يا ليلة الحنا متى تنقضي

وارمي ثويباتي ع دار اهلي

يا ليلة الحنا متى تكملي

واشلح ثويب امي وابوي واخوتي

يا هلي ظللوني عند القايلة

وان عطيتوني لشويقي ماني سايلة

يا منقشة بالحنا والحنا ع دياتك

والليلة باتي عنا وبكرا عند حماتك

يا منقشة بالحنا والحنا ع قميصك

والليلة باتي عنا وبكرا عند عريسك

لا تطلعي ع الدرج ترى الدرج عالي

لا تنزلي للعزب ترى العزب غالي

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة السكر

لا تأمني للعزب ترى العزب يسكر

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة القهوة

لا تأمني للعزب ترى العزب يهوى

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة الحليب

لا تأمني للعزب ترى العزب غريب

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة المشمش

لا تأمني للعزب ترى العزب يكمش

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة التفاح

لا تأمني للعزب ترى العزب بوّاح

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة الحنّا

لا تأمنّي للعزب ترى العزب يهنا

لا تطلعي ع الدرج يا عليبة الراحة

لا تزعلي ع العزب ترى العزب راحة

زفاف العروس

في اليوم التالي لليلة الحنّا، تقوم النسوة بتجهيز العروس وتجميلها بالملابس والحِلي والمجوهرات، بعد غسل شعرها وتمشيطه وتجديله، جدلتين على الأغلب، وفي هذه الأثناء تكون الفاردة التي يسير بها أهل العريس متجهين لمقر إقامة العروس، تسير على وقع غناء الحدا، وعند وصولها يستأذن كبير الجاهة أو الفاردة من والد العروس، وعند إجابته الطلب تنطلق حناجر النساء من أهل العروس بالزغاريد والأغاني التي تعلن بداية لحظة زفاف العروس لعريسها، ومن هذه الأغاني ما يوجد فيها مفردات تدل على استخدامها حتى نهايات القرن العشرين :

قومي اركبي ع المهر يا شجيرة الحنّا .. عريسك مثل القمر بالبيت يتسنّى

قومي اركبي ع الفرس يا شمس الملاحي .. أهلك عليكي حرس بسيوف ورماحي

قومي اركبي يا “فلانة” تمامك عادي .. شعرك رطايب رابي ع شط هالوادي

قومي اركبي يا “فلانة” والتكسي ع باب الدار .. بيك أبو فلان وبرطيله زنّار

**

رحّبي بظيوف أبوكي يا عروس يا أم الاسوارة

يا هلا بظيوف أبوي لو كانوا ملات الحارة

رحّبي بظيوف أبوكي يا عروس يا ام الحلق

يا هلا بظيوف أبوي لو كانوا ملات البلد

وتشارك النسوة من أهل العريس بالغناء وبالذات المهاهاة، مطلقات المدائح الوصفية على شرف أهل العروس :

يخلف على “بو فلان” يخلف عليه خلفتين .. طلبناه النسب واعطانا بناته الثنتين

قومي اطلعي قومي اطلعي من دارك .. واحنا حطينا هدوم أبوكي وخالِك

قومي اطلعي قومي اطلعي ولا يهمّك .. واحنا حطينا هدوم خوالك وعمّك

وعند خروج العروس يُقال :

مشّوها ع مهلها .. عزيزة ع أهلها

وعلى مهلها مشّوها .. عزيزة على أبوها

مشّوها براحتها .. عزيزة ع أخوتها

ولمواساة والدها الذي يكون متأثّرًا في الغالب لخروج ابنته من بيته، كما هو معروف عن الآباء الأردنيين شدّة تعلّقهم ببناتهم، فإن النساء تغني له الأغنية التالية وهي من مشتقات لحن “وسّع الميدان” :

لا تنام غضبان يا بيّ فلان لا تنام غضبان

فزعتك صبيان والحمدلله فزعتك صبيان

يا ولد نخيتك واعلى بظهرها يا ولد نخيت

يا كريم ببيتك والشيخة لك يا كريم ببيت

وقد تغني النساء في الفاردة على لسان العروس في حال كانت غريبة ولم تتزوج من نفس القرية أو العشيرة :

قولوا لبوي الله يخلّي ولاده .. استعجل عليّ وطلّعني من بلاده

قولوا لبوي الله يخلي اخوتي .. استعجل عليّ وطلّعني من عزوتي

ومن جملة ما تغنيه النساء عمومًا في الفاردة التي ركبت بها العروس :

واحنا مشينا ليلتين بيوم .. واحنا خذينا من كبار القوم

علّية أبو فلان بالثريا دومي .. فراشة قطايف والبسط مرقوم

يا بيي فلان شنشل الدبّوس .. خش المحاكم واطلِع المحبوس

وأيضًا :

ومن وادي لوادي واحنا مشينا من وادي لوادي

بنات الاجواد واحنا خذينا بنات الاجواد

من حارة لحارة واحنا مشينا من حارة لحارة

بنات الأمارة واحنا خذينا بنات الأمارة

من صيرة لصيرة واحنا مشينا من صيرة لصيرة

والبنت الأصيلة احنا خذينا البنت الأصيلة

ومن الصبح للعصر احنا مشينا من الصبح للعصر

طيّبات الأصل احنا خذينا طيّبات الأصل

وأيضًا :

حنا نوينا واتكلنا على الله .. يارب تسلم من قصد باب الله

يا خظر الأخظر وافتح البوّابة .. “فلان” دخيل ع النبي وصحابه

وعند وصول العروس لبيت العريس تقول النساء :

خش الفرح دارنا يا مين يهنينا .. واللي فرح لينا يجي ويهنينا

واللي فرح لينا يجي لنص الدار .. إلا إنت يا صويحبي ما جيت ولا مشوار

واللي فرح لينا يجي لنص البيت .. إلا إنت يا صويحبي ما جيت ولا هنّيت

حمام العريس وزفّته

كان الأردنيون في السابق يأخذون العريس إلى أحد عيون الماء أو الغدران التي في الجوار، للقيام بطقوس حمام العريس وإلباسه الملابس الجديدة الخاصة بالزفاف والعودة به إلى مقر الفرح حيث تكون مجموعة من النساء تنتظر موكب حمام العريس وتستقبله بالأهازيج والأغاني التي منها :

يا نويعمة الريّانة يا نويعمة الريّانة “فلان” عريس وميمته فرحانة

قولولها لام العريس قولولها ترى العريس بالحمام عريان

وديتله ميتين بدلة مخيطة يلبس ويلبِّس من حدا عريان

قولولها لأم العريس قولولها ترى العريس بالحمام حفيان

وديتله ثمان كنادر مبنّدة يلبس ويلبِّس من حدا حفيان

وأيضًا:

بالورق يا ناشد لف الحلاوة بالورق يا ناشد

للعدا جاهد واحنا انتصرنا للعدا جاهد

بالورق يا توفي لف الحلاوة بالورق يا توفي

والعدو يشوفي واحنا انتصرنا والعدو يشوفي

بالورق يا ملبّس لف الحلاوة بالورق يا ملبّس

والعدو يتيبّس واحنا انتصرنا والعدو يتيبّس

أما الأغاني التي يغنيها الشباب للعريس فمنها :

طلع الزين من الحمام الله واسم الله عليه

مبارك حمام العريس بهالساعة الرحمانية

ان شاء الله تسلم وتدوم وانت ميّة عينيّا

وانت الملك يا عريس واحنا عندك رعيّة

طلع طلع هالعريس حلو وملبّس تلبيس

زغرتي يا ام العريس جبنالك ذهب بالكيس

جبنا الورد غمار غمار ونثرناه بقاع الدار

يا ما شاء الله على طوله طوله يا مطرق ريحان

يا ما شاء الله على عيونه عيونه يا وسع الفنجان

يا ما شاء الله على سنونه سنونه يا حب الرّمان

يا ما شاء الله على جبينه جبينه يا كهرب عمّان

شطبنا اسم العريس من دفتر العزوبية

ومن أغاني النساء في هذه اللحظات :

يا راشق حنّا على عروق الشجر .. والحمدلله توّه قليبي انجبر

بالله اطلعوا “فلان” وبارونه .. يا كحل عينه من بغداد يشرونه

وفي هذه الأثناء يكون العريس قد خرج من الحمام وفي طريقه إلى إحدى الأماكن المتعارف عليها في البلدة كالمقامات المباركة أو إحدى الأشجار الشهيرة أو في ساحة معيّنة، وتتبرّع إحدى قريباته برش الملح وحبات الملبّس والتوفي وأحياناً النقود المعدنية، خوفًا عليه من عيون الحاسدين، وتسير وراءه مجموعة من النساء تعلو حناجرهن بالأغاني التي من أشهرها :

وين أزفّك وين “فلان” يا عريس .. قاعد بالحمام تلبس بالقميص

وين أزفّك وين “فلان” يا مدلّل .. قاعد بالحمام والشّعر مبلّل

وين أزفك وين يابو عيون السّود .. ع الخظر الاخظر والنبي داوود

ويغني الرجال في زفة العريس من ألوان الحداء الأردني :

حنا رجال الحرايب ضرب الموازر يلبق لنا

يا طير يلّي بالسما بلّغ سلامي لاهلنا

واحنا ان نوينا ع الحرب بالسيف ناخذ ثارنا

دارٍ دعتنا للفرح واجب علينا نزورها

ومن أغاني زفّة العريس الشهيرة التي يغنيها الرجال :

تلولحي يا دالية يا ام غصون العالية .. تلولحي عرضين وطول تلولحي ما اقدر أطول

تلولحي ع دارنا وعلى دار جارنا .. يا ام ثويبٍ طرّزتيه وحطيتي البلاوي فيه

يا ام ثويبٍ زم بزم زمّيني وانا بنزم .. هون واربط باب الحوش بيضا والفستان كلوش

شامم ريحة حندقوق وشلعت قلبي هاللي فوق .. شامم ريحة زنزلخت واخذت عقلي هاللي تحت

وتغني النساء للعريس أيضًا :

غنن لفلان يا بنات خالاته .. زفن فلان وخيّطن بدلاته

غنن لفلان يا قرابة أمه .. زفّن فلان والورد ع كمّه

وأيضًا :

طلوا النشامى من ورا التلّين .. كلهم نشامى مبرشمين الخيلِ

يا فرحتي وان كان فلان معهم .. وان كان فلان قايد الصفّين

طلّي يا فلانة من العلالي وزغردي .. وقولي هظول اخواني واهلي وعزوتي

أغاني الصمدة

عند وصول موكب الزفاف إلى موقع الاحتفال، الذي تقول الأسطورة أنه كلما توقف الموكب مرات متكررة يكون ذلك فال خير يتعلق بعدد مرّات الإنجاب، وتجلس العروس على المصمد (اللوج لاحقًا) الذي يكون مرتفعًا ليراها الجميع ولا يتسع إلا للعروسين. وتختلف أغاني الصمدة عن بقية أغاني العرس حيث يرافقها الإيقاعات على الطبلة “الدربكّة” والدفوف وغيرها من أدوات الايقاع، ذلك لسهولة استخدامها في مكان مغلق، بعكس أغاني الزفة والحنا التي يكون فيها الجهد مركّز على شؤون أخرى، ومن أغاني الصمدة :

جينا نهني ونغني عشان أمه .. ورشينا العطر الغالي على كمّه

جينا نغني ونهنّي عشان أخته .. ورشينا العطر الغالي على تخته

“فلان” حقه علينا علينا .. “فلان” ما هو غريب منّا وفينا

“فلان” حقّه عليكِ يا ام سوارة .. “فلان” ما هو غريب ابن الأمارة

**

ع عرق الدالية ترعى بغنمها ع عرق الدالية ع العالي يلا

حلوة وغالية عروسك “يا فلان” حلوة وغالية قولوا ما شاء الله

ع عرق التفاحة ترعى بغنمها ع عرق التفاحة ع العالي يلا

حلوة وفلاحة عروسك “يا فلان” حلوة وفلاحة قولوا ما شاء الله

ع عرق البندورة ترعى بغنمها ع عرق البندورة ع العالي يلا

حلوة وغندورة عروسك “يا فلان” حلوة وغندورة قولوا ما شاء الله

**

مية اسم الله يا عروس مية اسم الله

عريسك قمر وسلافك ما شاء الله

مية اسم الله يا عروس يا ام سوارة

عريسك قمر وسلافك أمارة

مية اسم الله يا عروس يا ام الخاتم

عريسك جدع وسلافك أوادم

**

غنن له يا بنات عمّه .. يا “فلان” ترى زال همّه

غنن له يا بنات الناس .. يا “فلان” ترى رافع الناس

غنن له يا بنات أخته .. يا “فلان” ترى اليوم بخته

**

بالورد والحنا رشوا العرايس بالورد والحنا .. توخذ وتتهنا يا شب “فلان” توخذ وتتهنّا

بالورد والهيلِ رشوا العرايس بالورد والهيلِ .. من كبار العيلة واحنا خذينا من كبار العيلة

بالورد والزعتر رشوا العرايس بالورد والزعتر .. يطلب يتأمر قولوا “لفلان” يطلب ويتأمّر

بالورد والريحة رشوا العرايس بالورد والريحة .. وأخذ المليحة يا شب “فلان” وأخذ المليحة

أغاني يوم الِقِرى

الِقِرى هو اسم الطعام الذي يقدّمه العريس للمعازيم الذين يحضرون الفرح، وهو بطبيعة الحال طبق المنسف الأصيل الذي يقدّمه الأردنيون في مختلف مناسباتهم، وتعكس مكوّناته الكثير من القيم الغذائية والاجتماعية. وتكون وجائب الضيافة عملاً جماعيًا يسمّيه الأردنيون بالـ “عونة” أو “الفزعة”، إذ يهب الجميع لمساعدة أهل المناسبة بتأدية واجب الضيافة للضيوف، وهي من الأدوار المقدّسة التي لا يرغب أي أردني بتأديتها على غير صفة الكمال والدقّة والمبالغة في بعض الأحيان. وتعكس بعض أغاني يوم الِقِرى قيم العونة والفزعة الجماعية :

يا مين يعاونّا ويا مين يعينّا

ع جر المناسف يا مين يعينّا

يا مين يردّ الحمل لا صار مايل

وفلان يردّ الحمل لا صار مايل

**

ذبحنا الذبايح ع المرج الاخضر .. واللي مكذّبنا يجي اليوم يحضر

**

يا علا واطلع المنسف مليان .. يا علا رز ولحم خرفان

والمنسف يدرج يدرج على الطار .. منسف أبو فلان صدّر الخطّار

والمنسف يدرج يدرج على هونه .. منسف ابو فلان خيّر يذكرونه

وفيما يلي مجموعة مختارة من أغاني العرس الأردني، قام الفنان الأردني عمر العبدللات بإعادة أدائها حديثًا للحفاظ عليها وإفساح المجال لحضورها اليوم بعد انتقال الأعراس إلى الصالات الحديثة :

المراجع

  • الزعبي، أحمد شريف، الأغاني الشعبيّة الأردنيّة، 2015، وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، الأردن.
  • النصيرات، نضال محمود، الأغاني الشعبيّة الأردنية في العرس الأردني، دراسة، 2016، مجلّة الفنون الشعبيّة، عدد 21، وزارة الثقافة الأردنيّة، عمّان، الأردن.
  • الزعبي، أحمد شريف، أغاني الزفّة الشعبيّة الأردنية، دراسة، 2016، مجلّة الفنون الشعبيّة، عدد 21، وزارة الثقافة الأردنيّة، عمّان، الأردن.

أغاني العرس الأردني

Scroll to top