مقدمة

يُعدّ المهباش أحد أهم مقتنيات البيت الأردني في كافة المناطق الأردنيّة، وهو الأداة التي تُستخدم لطحن حبوب البُن بعد حمسها (تحميصها) استعدادًا لطبخها وتحضير القهوة الأردنيّة؛ التي لها مكانة مرموقة في قيم الضيافة الأردنيّة تتخطّى كونها مشروبًا للضيافة وترتبط بما حمّله الأردنيّون للقهوة تاريخيًا من المعاني والدلالات والقواعد التي تحكم إعدادها وتقديمها وشربها، حتى باتت القهوة الأردنية “مفتاح السلام والكلام” وميزانًا لتقدير المواقف ولغةً تختصر الكثير من الشرح والتوضيح لإيصال الكثير من الرسائل في الفرح والحزن والسّلم والحرب.

والمهباش هو كتلة خشبيّة أسطوانيّة الشّكل في ثلاثة أرباعها السفليّة وقطرها 30 سم، ومخروطيّة الشّكل في ربعها العلويّ الذي ينتهي بفتحة قطرها حوالي  8 إلى 10 سم، وتمتد هذه الفتحة في عمقها إلى داخل الكتلة الخشبيّة بما يساوي ثلثي ارتفاعها الذي يكون بمجمله حوالي 35 سم. وللمهباش يدٌ خشبيّة على شكل أسطوانة رفيعة قطرها أقل من قطر فوهة المهباش بما يسمح لها بالدخول إلى عمقه، وطولها حوالي 80 سم. ويُطلق على المهباش تسميات عدّة منها : الجرن، النجر، الهاون، المدق. أما يد المهباش فتُسمّى بالأردنية “إيد المهباش”، أو “إيد الجرن”.

التسمية

جميع تسميات المهباش الأخرى (الجرن، المدق، النجر، الهاون)؛ تفضي إلى معنىً واحدٍ وهو طحن وتفتيت الحبوب التي توضع بداخله لهذه الغاية. لكن تسمية مهباش؛ وهي لفظة تعني في اللغة النحوية (جَمَعَ)، وعليه فإن المهباش هو الوسيلة التي يُجمَع بها الناس وتتم دعوتهم من خلالها لأمرٍ ما، كما أن الرواية الشفوية تقول أن شيخ إحدى العشائر كان لديه خادمً اسمه مهباش، كلما أراد أن يجمع أفراد عشيرته أرسل مهباش لينادي بهم، وبعد موت مهباش استعان الشيخُ بأخيه، فلم يكن يجيدُ ما كان يقوم به أخوه، فأشار عليه الناس للضرب بالجُرن والاستعانة بها كوسيلة للفت انتباه الناس إلى بيت الشيخ ودعوتهم إليه، وحصل أن سُمّي الجرن آنذاك بالمهباش، تكريمًا وتخليدًا لمرسال الشيخ.

الاستخدامات

للمهباش عدة استعمالات نشأت وتطوّرت حسب الحاجة من عدمها وخضعت لتبدّلات وتغيّرات النمط الاقتصادي والاجتماعي في الأردن، وهي كما يلي :

الاستخدام النفعي : وهو الغرض الأساسي الذي استخدم الأردنيون من أجله المهباش، لطحن حبوب القهوة بعد حمسها بالمحماسة. ولهذه الغاية؛ اقتنى الأردنيون المهابيش في بيوتهم، وبنوعٍ خاصٍّ في المضافات وبيوت الشيوخ، ووضعوه في الزاوية المخصصة لإعداد القهوة، وتاريخيًا؛ فإن هذه المهمّة يقوم بها الرجال حصرًا لما فيها من مشقّة إشعال النار وطحن القهوة قبل طبخها وتقديمها للضيوف. ويُدعى الشخص الذي يقوم بإعداد القهوة “القهوجي” أو “الفداوي”، وهو بالضرورة يتقن دق المهباش بحرفية ومهارة عالية إلى جانب تميّزه بإعداد القهوة بالمقادير والمعايير الدقيقة التي يحرص الأردنيون على تطبيقها للوصول إلى أفضل نكهةٍ يمكن تقديمها للضيوف، وعلى الرّغم من أهميّة المهباش ومكانته إلا أن الفداوي الذي يتسبب بكسره خلال النجر يحصل على مكافأة خاصّة وهي عبارة عن رداء يُسمى “لبسة الجرن”، وذلك لأن كسره دليلٌ على كرم صاحب البيت الذي لا تنطفئ ناره ولا تهدأ مهابيش بيته عن طحن القهوة خلال تحضيرها المتواصل إكرامًا للضيوف.

الاستخدام الجمالي : ويُقصد به الموسيقى الايقاعيّة التي يُشكّلها ويرتجلها الفداوي خلال طحنه للقهوة بالمهباش، وهو سلوكٌ طوّره الإنسان الأردني على مرّ الزمن لتحويل العمل الروتيني (طحن القهوة يوميًا) إلى مساحة جماليّة يستخدم خلالها ضربات المهباش بالتعبير الجميل عن استمتاعه بإعداد القهوة للضيوف الذين لهم ولضيافتهم قدسية فائقة في الناموس الأردني.

الاستخدام الديكوري : مع تفوّق الماكينة الكهربائيّة وتطوّر المعدّات التي سارع الأردنيون لاستخدامها لتحضير القهوة في سياق تفاعلهم الإيجابي مع تطوّرات العصر وتمسّكهم بتقاليد ضيافة القهوة، لم يكونوا ليتخلّوا عن المهباش؛ فتحوّل الأخير إلى تحفة جماليّة يتم عرضها في المضافات على اعتبار أنها ترمز لهذه الأداة التي رافقت أجيال الأردنيين في حياتهم اليوميّة واهتمامهم بإكرام الضيف وحفاظهم على تقاليد القهوة الأردنية المتوارثة، فأصبح المهباش تحفة يتم تزيينها بالزخارف التراثيّة وترصيعها بالأحجار الكريمة وتلبسيها بالفضّة والذهب، كما أن المهابيش القديمة التي ورثها الأردنيّون في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين من أجدادهم المباشرين أصبحت تُعرَض كتحفة تذكارية وتاريخيّة بالنظر إلى عمرها وارتباطها بذكرى الجد أو الأب.

صناعة المهباش

تُصنع المهابيش من الخشب الخام الذي يؤخذ من جذوع الأشجار الحرجيّة، وتتباين أنواع الأخشاب بحسب التنوّع البيئي في الأردن مما يجعل لبعض أنواعها أفضليّة أكثر من غيرها نظرًا لجودتها ومزاياها التي تتناسب مع معايير صنع المهباش وكيفيّة استخدامه :

  • البطم : يُعتبر خشب البطم الذي ينمو في مناطق مختلفة في شمال وجنوب الأردن، أفضل الأنواع التي تُستخدم لصنع المهباش وذلك بسبب صلابة الطبقة السوداء التي في داخل الساق أو الجذع، وهذه الصلابة هي سرّ الصوت الرنّان الذي ينتج عن عملية الطرق. كما أن خشب البطم لا توجد فيه الكثير من الشقوق التي تسرّع من اختراقه بالسوس والحشرات، إلى جانب أنه يحتمل عمليات الزخرفة والحفر وقلّما يتأثّر بمتغيّرات الطقس من الحرارة والبرودة على مرّ الزمن.
  • البلّوط : يمتلك خشب البلوط المميزات التي تجعله من الأخشاب الشائعة في صناعة المهباش وغيره من الأدوات الخشبيّة، فهو منتشر بكثرة في الأردن، وقادر على أن يكون مثاليًا كالبطم كمادة خام لصناعة المهباش الذي يتم طحن القهوة به لمرّات عديدة في اليوم، ما يتطلب الصلابة وقدرة التحمّل كالتي يتمتّع بها خشب البلّوط.
  • الزان : يُعد خشب الزان من الأنواع ذات الجودة نظرًا لصلابته وعمره الطويل وقدرته العالية على تحمّل مختلف العوامل التي تؤدي بالعادة إلى تلف الخشب أو تكسّره، وهو خشب مقاوم للتسوّس.
  • الخرّوب : يتم استخدام خشب الخرّوب في صناعة المهباش كبديلٍ عن البطم في حال عدم توفّره، وتنمو أشجار الخرّوب في وسط وشمال الأردن، ويحتاج إلى سنة من التجفيف والتخزين ليصبح صالحًا لصناعة المهابيش منه، ويتميّز بلونه الأحمر ومقاومته النسبيّة لعوامل الطقس المختلفة والتشقّق.
  • السّدر : وهو خشب صلب لونه أحمر ويتواجد في مناطق مثل العقبة والأغوار.
  • السنديان : يُعتبر السنديان أقل صلابة من البطم، لذا فهو يُستخدم أكثر في صناعة يد المهباش على اعتبار أنه لا يؤذي المهباش خلال طحن القهوة بداخله، ويتمتّع خشب السنديان بمتانة تجعل منه أكثر ملائمة لاستخدامه في صناعة يد المهباش واحتمال تكرار الطرق والطحن.
  • المشمش : بالرغم من عيوب خشب المشمش المتمثّلة بسرعان تلفه وقابليّته للتسوّس والتشقّق، إلا أنه ذو منظرٍ جميلٍ وينتج عن استخدامه في صناعة المهباش تحسين نوعيّة صوت الطرق وجعله رنّانًا أكثر من خشب البطم.
  • الكينا : تنمو أشجار الكينا في مناطق مختلفة من الأردن، ويمتاز بطبقة حمراء بداخله وبمرونته التي تمنع تسوّسه وتشقّقه، وهو من أرخص أنواع الأخشاب نظرًا لخفّته وانعدام قوّته، واستعماله مقصور على الأغراض التجارية.
  • التوت : يعتبر خشب التوت من أكثر الخيارات التجاريّة رواجًا، لأنه خفيف وسريع الكسر، ولا يُستخدم في صناعة المهابيش المخصّصة لإعداد القهوة، وإنما لأغراض الزينة فقط.

تجدر الإشارة إلى تعرّض الثروة الحرجيّة في الأردن مطلع القرن العشرين إلى الكثير من الاعتداءات الهمجية التي قام بها جنود الاحتلال العثماني لصالح مد سكّة حديد القطار العسكريّ، وذلك بالضرورة ترك أثرًا سلبيًا على توفّر الأخشاب اللازمة للعديد من الصناعات ومن ضمنها المهباش، وهذا ربما ما يدلّ عليه لجوء بعض الأردنيين إلى استخدام بقايا ذخائر المدفعية ( الفشك والقنابل ) التي كان الاحتلال العثماني يُلقي بها على المدن والقرى الأردنيّة، وتحويلها إلى جرن حديدي كبديلٍ مؤقتٍ عن المهابيش، وهو ما يؤشر بالضرورة إلى سلوك الأردنيين في سرعة تكيّفهم مع صعوبة الظروف وحفاظهم على تقليد طحن القهوة حتى في ظل عدم توفّر الأدوات التقليديّة لهذه الغاية.

أجزاء المهباش

يتكوّن المهباش من قطعتين رئيسيتيّن لا يُلحق بهما غيرهما، هما : بدن المهباش (الجرن)، ويد المهباش (العصا أو إيد المهباش)، وفيما يلي وصفاً تفصيليًا للأجزاء الداخليّة لكل قطعة :

البدن

  1. قاع المهباش : وهي القاعدة ذات الشكل الدائري في أسفل البدن والتي توضع على الأرض.
  2. الطوق السفلي : حلقة دائريّة تعلو القاع.
  3. صحن المهباش : تجويف داخلي يُحفر في بدن المهباش من الجوانب، ولكل مهباش أربعة تجاويف لها أغراض جمالية إلى جانب أنها تساهم بالتخفيف من وزنه عند الحمل.
  4. عمود المهباش : توجد في بدن المهباش أربعة أعمدة تتباين في ارتفاعها من المهباش إلى الآخر بما يتناسب مع حجمه.
  5. الكرش : وهو الجزء النافر من وسط البدن، ووظيفته أنه يُعطي للمهباش شكله الكمّثري.
  6. الخصر : يوجد الخصر أعلى الكرش، ويعطي للبدن شكلاً جميلاً ويساهم بالتخفيف من وزنه.
  7. الطوق العلوي.
  8. الوجه : هي المساحة التي تفصل بين الطوق العلوي والفوهة أو الفتحة التي تدخل فيها يد المهباش.
  9. الفوهة : وهي فتحة المهباش، عبارة عن فتحة دائرية قطرها 7 سم، ومنها تدخل يد المهباش إلى الداخل لطحن حبوب القهوة.
  10. صفرة المهباش : تُضاف رقائق الألمنيوم أو النحاس، أو الفضّة والذهب في بعض الحالات الترفيّة، تُحفر عليها الزخارف للزينة.
أنواع الزخارف التي تُنقش على المهباش

11. يد المهباش : وهي العصا الخشبية التي تُستخدم لطحن الحبوب التي توضع داخل تجويف البدن، وتجدر الإشارة إلى أن يد المهباش لا تُصنع عادة من نفس الخشب الذي يُصنع منه البدن وذلك كي لا يؤثر ذلك على قاعدة المهباش بفعل تكرار الطرق وشدّته، لذا يُفضّل أن تُصنع من خشب خفيف وليّن وأقل جودة من خشب البدن، حتى وإن أدّى ذلك لتلف اليد بشكلٍ أسرعٍ؛ فإن صناعة اليد أقل كلفةً وجهدًا من صناعة البدن نفسه. ومكوّنات يد المهباش هي :

  1. المدقّة : وهي المسافة التي أسفل عصا المهباش بطول 25 إلى 30 سم، وهي الجزء من اليد الذي يدخل بالكامل إلى فوهة المهباش ويقوم بسحق وطحن حبوب القهوة.
  2. الجوزتان السفليّة والعلويّة : وتكون المسافة بينهما بما يعادل قبضة اليد التي تُمسك العصا، ووظيفة الجوزتان هي منع يد الإنسان من التحرّك للأسفل والأعلى خلال عمليّة الطحن. وعليه فيمكن القول أن المنطقة التي بين الجوزتين هي ممسك يد المهباش.
  3. الأسوارتان السفليّة والعلويّة : وما بينهما كرشة اليد لحفظ توازن الشخص الذي يدق، ولها وظيفة جماليّة.
  4. القمبور : شكل أسطواني في أعلى يد المهباش.

المهباش، فلسفة وموسيقى

طوّر الإنسان الأردني عبر السنين روتين تحضير القهوة وطحنها بالمهباش، إلى موسيقى إيقاعيّة خالصة، ومع مرور الوقت، أصبح “دقّ القهوة بالمهباش” مساحة يوميّة من الإبداع الجمالي وبث الأصوات الإيقاعيّة في فضاء المكان الأردني الهادئ والمفتوح، دائمًا، للضيوف والتعاليل على أنغام الربابة وغناء السّامر والهجيني.

يُشكِّلُ الإيقاع، إلى جانب اللحن، العنصرين الأساسيّين التي تعتمد عليها الموسيقى بالمجمل، وحين ننظر إلى الإيقاعات التي تصدر من المهباش والتي إن أمعنّا فيها السّمع بصفة التّحليل والتأمل نجد أنّها إعادة تدوير عفويّ لنبض “مطاردة الخيل” في بعض الأحيان، نجدها نظامًا إيقاعيًا متكامل الأصوات، وعلى اعتبار أن الألحان تتكوّن من مزيج يخلط بين الصوت والصّمت، فإن صمت البوادي والأرياف الأردنيّة في الزّمان، مع أصوات غليان السوائل في الدلال، إلى جانب البيئة الصوتيّة المزدحمة بعبارات الترحيب ونبرة الأنس والموالفة بين الناس الذين تجمعهم المودّة؛ كلّها تشكّل مع إيقاعات المهباش موسيقى من نوعٍ خاصٍ، لها سحرها ووقعها وفلسفتها الخاصّة التي تعبّر عن ذروة من ذرى الارتياح السلوكيّ والذي يؤشّر على النزعة نحو أزلية التجذّر المتأتّية من إدراك هذا الإنسان الأردني للتراكم الحضاريّ الذي يشعر به ولم يقرؤه في كتبٍ عن التاريخ، وإنما يجده في فطرته السليمة.

والمهباش كآلة موسيقيّة، هو صوت النداء الجميل والإعلان مساحة الضيافة المفتوحة للجميع، وهي مساحة ثابتة وهامّة في كل بيت أردنيّ، وتجدر الإشارة إلى أن المهباش يعكس صورة من صور التعبير الفردي عن الجمال في الأردن، لذا فإن الناس يميّزون أسلوب دقّاقي المهابيش عن بعضهم البعض، خصوصًا أولئك المحترفين في تنويع الإيقاعات وزخرفتها، ويُعتبر الذين يُعرف عزفهم بالمهارة التي تخلو من الخطأ وخصوصًا التي تشتمل على حركات جريئة ودقيقة جدًا، بمثابة فنّاني استعراض يقدّمون عروضهم الممتعة يوميًا خلال تحضير القهوة.

عندما نستعرض مكوّنات المهباش كآلة موسيقيّة، فإنه ومن المثير للإعجاب، أن القهوة تعتبر إحدى مكوّناتها إلى جانب بدن المهباش ويده، وذلك يُعزى إلى أن المهباش لا يُدَق بغير حبوب القهوة المحموسة أو لغير هذه الغاية، كما أن القهوة هي التي تعطي المهباش الطابع الصوتي الخاص به وتميّزه. لذا وكنتيجة؛ يمكننا القول أن مكوّنات المهباش كآلة موسيقية هي : بدن المهباش، يده، والقهوة.

اهتم الفنانون الأردنيّون بصوت المهباش، فاستخدموه رمزًا للموسيقى الشعبيّة كمؤثرٍ صوتيٍّ في العديد من الأعمال الفنيّة، على رأسها سيمفونيّة بترا التي كتبها المؤلف الأردني المايسترو هيثم سكّريّة مطلع القرن الواحد والعشرين، واستخدم فيها المهباش كآلة موسيقيّة، وكانت هذه المرّة الأولى التي ترافق فيها آلةٌ موسيقيّة شعبيّة الأوركسترا السّيمفوني في عملٍ فنّي ذي طابعٍ عالميّ.

المراجع

  • طبازة، خليل، دراسة ميدانيّة لحرفة صناعة (المهباش) التقليدي الأردني، 1997، مجلّة البلقاء، العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، المجلّد (7)، العدد 1، 2000، البلقاء، الأردن.
  • سليمان، وليد، لنشرب القهوة المرّة، 2017، جريدة الرأي، عمّان، الأردن.
  • المهباش، الموقع الإلكتروني لمديرية التراث غير المادي، وزارة الثقافة، عمّان، الأردن.
  • بحث آداب القهوة، موقع إرث الأردن.

المهباش

رجم (برج) الملفوف جبل عمان

مقدمة

في المصطلح الشعبي الأردني تطلق كلمة رجوم على الكثير من الرقم الحجرية الأثرية، وكان الأردنيون يعاملونها بشيء من الاهتمام، ولم يظهر حالات من التعدي عليها، حيث بقي العديد منها على حاله منذ آلاف السنوات إلى اليوم دون أي اعتداء بشري، ولقد سميت العديد من المناطق بناء على وجود هذه الرجوم، مثل رجم الشامي ورجم الملفوف في عمان (أحد الأبراج العمونية).

ولقد وجد في مناطق المملكة الأردنية العمونية، العديد من المواقع الأثرية التي أطلق عليها الأردنيين الرجوم، ومن ضمنها ما لفت انتباه الباحثين، وبدؤوا بدراستها وأطلقوا عليها اسم الأبراج العمونية، عندما استطاعوا تحديد الحقبة التاريخية التي تعود لها هذه الأبراج.

لقد شكلت الأبراج الأردنية العمونية قضية اشكالية لدى الباحثين المختصين، حيث أنها تدل على نمط عمراني متناسق، وقد اختلف الباحثون على أسباب بناء هذه الأبراج واستخداماتها.

في هذا البحث سوف نبين وجهات النظر المختلفة حول استخدام هذه الأبراج، كما سنذكر أسلوب بنائها، ومواقعها، وسنأخذ برج خلدا كحالة دراسية لنوضّح تصميمه وأسلوب بنائه.

الأبراج الأردنية العمونية – مواقعها وتصاميمها

تقع أغلب الرجوم العمونية في حدود محافظة العاصمة – مدينة عمان الحالية، وتتركز معظمها في مناطق عمان الغربية تحديدا، على تلال أو تلاع مشرفة تحيط بها أراض واسعة تحتوي على مصادر المياه وذات تربة خصبة، ومن هذه الأبراج:

  1. برج خلدا (غرب العاصمة الأردنية عمان)
  2. برج الملفوف (في وسط العاصمة الأردنية عمان، منطقة جبل عمان بالقرب من الدوار الرابع)
  3. رجوم أبو نصير (وهي بقايا عدة أبراج عمونية في منطقة أبو نصير شماليّ العاصمة الأردنية عمان)
  4. رجوم الصويفية وعبدون (وهي بقايا أبراج عمونية في منطقتي الصويفية وعبدون غرب العاصمة الأردنية عمان)
  5. رجم القويسمة (وهو بقية برج عموني في منطقة القويسمة شرق العاصمة الأردنية عمان)
  6. رجوم الحنو (وهي رجوم لأبراج عمونية في منطقة الحنو/ البلقاء)

ولقد قسمت الأبراج العمونية بناء على تصاميمها إلى نوعين رئيسيين:

رجم (برج الملفوف) جبل عمان
  • الملفوف: حيث صمم هذا النمط من الأبراج العمونية بشكل دائري أو اسطواني، وسمي شعبياً بالملفوف، واعتمدت هذه التسمية من قبل الآثاريين، ولقد أخطأ بعض علماء الآثار الأجانب التسمية في بعض المواقع وترجموه إلى الإنجليزية “cabbage” أي نبات الملفوف وهو خطأ بالترجمة ليس إلاّ.
  • القصر: ويعني الشكل المربع أو المستطيل، حيث بنيت العديد من الأبراج العمونية على شكل مربع أو مستطيل ودرجت تسميتها بالقصر.

وهنالك أيضاً شكل ثالث أكثر ندرةً للأبراج العمونية، وهو خليط ما بين الملفوف والقصر.

الأبراج العمونية – أسباب بنائها واستخداماتها

المغفور له الملك عبدالله الأول في زيارة لبرج الملفوف جبل عمان خمسينيات القرن الماضي، جريدة الرأي

لقد تعددت النظريات حول أسباب بناء أجدادنا الأردنيين العمونيين لهذه الأبراج وماهية استخداماتها، ولكن برزت نظريتان رئيسيتان حول هذه الأبراج في المجتمع البحثي، النظرية الأولى وهي الأقدم، ترى أن الأردنيين العمونيين قاموا ببناء هذه الأبراج لأسباب دفاعية كونها بنيت من حجارة ضخمة مشذبة نسبياً، و بارتفاعات عالية قياساً لمباني ذلك الزمن، كما أن المواقع التي بنيت بها هذه الأبراج تعتبر مواقع استراتيجية تشرف على المناطق المحيطة بها.

إلا أن الباحثين المتأخرين ونتيجة للتطور العلمي في دراسة البقايا الأثرية، ودقة التنقيبات الأثرية، وجدوا بذور عنب وزيتون مكربنة تؤرخ للملكة الأردنية العمونية، فاستنتجوا أن هذه الأبراج تعتبر وحدات زراعية متكاملة يسكنها المزارعون ويخزنون محاصيلهم الزراعية بها، وتقوم هذه الوحدات بتزويد العاصمة الأردنية العمونية ربة عمون باحتياجاتها من محاصيل زراعية.

ولكننا نرى أن هذه الأبراج خدمت الغرضين في آن، حيث أنه مما لا شك فيه أن هذه الأبراج تحمل صفات دفاعية على درجتين، الدرجة الأولى حماية المزارعين أنفسهم من الأخطار المحيطة سواءً من قبل السارقين أو الغازين القادمين من الحدود الشرقية للمملكة الأردنية العمونية، كما تحميهم من الأخطار الطبيعية سواءً كانت مناخية أو مرتبطة بالحيوانات المفترسة، أما على الدرجة الثانية فهي وحدات استطلاع متقدمة تستطيع كشف الجيوش القادمة من مسافات بعيدة، ومتانة بنائها تمنحها أفضلية دفاعية قادرة على تعطيل تقدم العدو إلى حين إبلاغ القيادات المسؤولة في العاصمة الأردنية العمونية آنذاك ربة عمون.

أما على الجانب الآخر فإنه من الواضح أن هذه الأبراج كانت تشكل وحدات زراعية مكتملة قد تكون الأساس للإنتاج الزراعي في المملكة الأردنية العمونية.

وصف تقريبي للأبراج العمونية – برج خلدا نموذجاً

  • وصف البرج من الخارج
الدرج الصعد على جدار ملفوف برج خلدا من الجدار الخارجي، المومني، أحمد محمد خير (1996).

يعتبر برج خلدا أحد الأبراج العمونية ذات التصميم الثالث الذي يدمج بين الملفوف والقصر، حيث يتكون برج خلدا من مبنى دائري (ملفوف) يتصل به من الشمال الشرقي مبنى مستطيل (قصر)، منفصلان تماماً، ولقد استخدم في بناء البرج حجارة كلسية وصوانية كبيرة الحجم و مشذبة تشذيباً بسيطاً.

لقد بلغت مساحة برج خلدا 190 م2، توزعت بين البناء الدائري (الملفوف) 78.57 م2، فيما شغل البناء المستطيل (القصر) باقي المساحة.

ولقد تباين عرض جدران المبنى الدائري (الملفوف) بين جدار وآخر، وقد غطيت هذه الجدران بقصارة من الخارج، وبنى المبنى المستطيل (القصر) من نفس نوع الحجارة، وكانت جدرانه تميل 15 درجة جنوباً وشرقاً، وعند التقاء جدران المبنيين من الجهة الجنوبية وجدت بقايا مدخل للبناء الدائري (الملفوف)، في حين لا يمكن التعرف إلى مدخل المبنى المستطيل (القصر)، ولا الآلية التي تجمع المبنيين سوياً، ويرتفع المدخل عن الأرض حيث وجد بقايا درج صاعد وآخر نازل على الجدار الخارجي للمبنى بالقرب من المدخل.

  • وصف البرج من الداخل
مخطط لبرج خلدا، المومني، أحمد محمد خير (1996)، العمونيون، رسالة ماجستير غير منشورة، الجامعة الأردنية، عمان، الأردن.
  1. المبنى المستطيل (القصر): قسم القصر من الداخل إلى أربع مساحات منفصلة، عن طريق أربع جدران داخلية، تستند إلى عمدان حجرية، المساحة الأكبر كانت ساحة داخلية في الزاوية الجنوبية الغربية للقصر حيث احتلت ثلثي مساحة المبنى، ويعتقد أن هذه الساحة كانت مكشوفة حيث لا وجود لعمدان ترفع السقف، ولربما كانت تستعمل للنشاطات اليومية، كما عثر بداخلها على بقايا بذور عنب وزيتون مكربنة،  فيما توزعت باقي المساحة على ثلاث غرف متقاربة المساحة.
  2. المبنى الدائري (الملفوف): يتكون المبنى الملفوف من ستة غرف، إحداها غرفة مركزية وهي الأكبر مساحةً تتوسط المبنى وتنفذ مباشرةً إلى الخارج حيث أن مدخلها هو المدخل الرئيسي للمبنى، فيما تحتوى على أربعة أبواب جانبية تفضي إلى الغرف الخمس المتبقية.

فيما كانت الغرفة الفرعية الأولى على شكل مثلث شرق الغرفة المركزية ويدخل عليها عبر أحد الأبواب الفرعية الأربعة، وتفضي هذه الغرفة من جهتها الغربية عبر مدخل صغير إلى الغرفة الفرعية الثانية التي جاءت أيضاً على شكل مثلث، بينما تفتح الغرفة الثالثة ذات الشكل المستطيل مباشرةً على الغرفة المركزية من نهاية جدارها الشمالي، عبر أحد الأبواب الفرعية الأربعة، أما الغرفة الرابعة فهي مثلثة الشكل أيضاً وتفتح على سابقتها عبر مدخل صغير، في حين جاءت الغرفة الخامسة على شكل مستطيل وهي أصغر الغرف.

الخاتمة

إن دراستنا للأبراج العمونية تتعدى بعدها العمراني، لتصل إلى المدلول الحضاري العميق الذي تشكله هذه المباني، فهي تؤشر إلى عدة مناحٍ حضارية، فبدايةً تعددت هذه الأبراج وفق نمط بنائي متطابق إلى حد بعيد، في توزيع يتسق مع جغرافيا المنطقة، يدل على نمط عمراني موحد يعكس طابعاً واحداً يميز هذه المملكة الأردنية الضاربة في الرقي والتقدم، في حين أن مواقع هذه الأبراج وارتفاعاتها تشي بتفكير عسكري استراتيجي متقدم على عصره، وقد يكون الغرض الإنتاجي الزراعي لهذه الأبراج دليلاً قاطعاً على تخطيط لوجستي بعيد المدى.

لقد قام أجدادنا الأردنيون الأوائل بواجبهم تجاه أنفسهم و تجاهنا وتجاه التاريخ على أكمل وجه، ونحن في هذه المحاولات البحثية نسعى لأن نتلمس دروب الصعود والرقي الحضاري على سبر أجدادنا في مختلف العصور، لنهيّء للأجيال القادمة أرضية معرفية صلبة يستطيعون البناء عليها لمستقبل يليقُ بماضينا المشرف.

المراجع

  • كفافي، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية والحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  • الموسى، سليمان (1985)، عمان عاصمة الأردن، منشورات أمانة العاصمة، عمان.
  • المومني، أحمد محمد خير (1996)، العمونيون، رسالة ماجستير غير منشورة، الجامعة الأردنية، عمان، الأردن.

الأبراج الأردنية العمونية

Scroll to top