مقدمة

 تعرضت الكثير من الشعوب لحملات “التعريب”، فالآرام والسريان على سبيل المثال يطلق عليهم “العرب” رغم أنهم شعوب مختلفة عرقيا تماما.  حصل ذات الشيء مع الأردنيين الأنباط الذين يتم ذكرهم على الدوام في المصادر اليونانية والعربية “كأنباط” لا كعرب. فيذكر الملك الآشوري  “تغلت فلاسر” ال36 قبيلة التي حاربت الغزو الأكدي ومن ضمنها قبيلة “نباطو”.

خريطة توضح امتداد المملكة الأردنية النبطية

الأردنيين الأنباط في المصادر التاريخية

ربما تكون أصول الأردنيين الأنباط من أكثر القضايا التاريخية جدلا. فقد أدى التسرع ونقص المصادر التاريخية وسوء التعامل مع النقوش الآثارية إلى إطلاق أحكام متسرعة لا تستند إلى أدلة ولا تتقصى الدقة والمنهجية العلمية المنطقية. ويأتي هذا البحث متمما لسلسلة أبحاث طويلة أجرتها إرث الأردن عن أجدادنا الأردنيين الأنباط تناولنا فيها مختلف جوانب الحضارة الأردنية النبطية.

تذكر المصادر الرومانية اسم المملكة النبطية “ريجينو دي نباتي”،وفي ما تركه لنا المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي يذكر الحملات التي قام الرومان بها على مملكة الأردنيين الأنباط  منذ القرن الرابع قبل الميلاد. ويذكر في كتابه أيضا الحملات التي شنّها الأردنيون الأنباط على اليهود.

ونستمر بالاستدلال على صحة هذا القول بتتبعنا للآثار والأخبار في المصنفات العربية التاريخية والأشعار العربية التي تذكر الأردنيين الأنباط كشعب مختلف.فقد سأل أحد المسلمين أحد الأنباط من أنتم؟ فقال: كنا نبيطا فاستعربنا وكنا عربا فاستنبطنا. دلالة على أنهم مختلفون عرقيا ولكنهم اختلطوا مع بعضهم البعض. يذكر الأصفهاني في كتابه (مجموع الغيث) (2/397) أن عمر بن الخطاب سأل عمر بن معد يكرب عن سعد فقال: خير أمير، نبطي في حبوته، عربي في نمرته، ويقول حسان بن ثابت في سياق تفريقه للأنباط: لكميت كأنها دم جوف.. عتقت من سلافة الأنباط” فإن كان الأنباط عربا لقال حسان بن ثابت وهو الشاعر العربي القاطن في الجزيرة العربية عنهم أنهم عرب ولما دعت الحاجة لوصفهم بأنهم قوم حمر (أي عجم). وأخرج السبكي  في (طبقات الشافعية الكبرى) (3/221) قصيدة لابن حزم يفرق فيها بين الأجناس:  وقبط أنباط وحرز ديلم..وروم رموكم دونه بالقواصم”

 ورغم الأدلة التي تعج فيها المصادر التاريخية والتي استعرضناها آنفا إلا أننا في هذا البحث سنعتمد على ثلاثة محاور وهي : اللغة والدين وانتقال السلطة. وسنستعرض في المباحث الثلاثة أهم القضايا والإشكالات التي ستُطرح، مُتبعينها بآخر ما توصلت إليه الدراسات والأبحاث العلمية من قراءات للنقوش وترجمات ودراسات على الواقع الجيوسياسي للأردن من ما قبل الميلاد وصولا إلى مملكة الأردنيين الأنباط.

أولا : لغة الأردنيين الأنباط

سنبحث في هذا الفصل اللغة الأردنية النبطية من جانبيها المحكي والمكتوب ورغم ما يتميز به هذا الموضوع من تعقيد واختلاط إلا إن النقوش والدراسات اللغوية المكثفة التي أجريت على النقوش النبطية والنقوش الصفاوية ستبهرنا بنتائج تؤكد أن الأردنيين الأنباط لم يكونوا عربا.
ففي الواقع، الرابطة اللغوية “العربية” هي الرابطة الأساسية التي لم تنقسم أو يتم التنازع عليها يوما، فاليوم يتحدث العرب حول العالم  لهجات لا تعد ولكنهم في ذات الوقت يظلون عربا وإن انتموا لأديان مختلفة أو أيدولوجيات مختلفة. من هذا المنطلق تأتي أهمية البحث في لغة الأردنيين الأنباط.

هل تحدث الأردنيون الأنباط العربية؟

عبر التجارة اختلط الأردنيون الأنباط مع القبائل العربية المرتحلة جنوبا ومع الكنعانيين واليهود غربا وأهل العراق وصولا إلى تواصلهم مع الرومان وقد أدى ولا بد إلى تأثر لهجتهم وإثرائها وبالتالي زيادة قوتها. ورغم هذا الانفتاح، صاغ الأردنيون الأنباط  مع الوقت لهجة خاصة بهم يمكن اعتبارها خليطا أساسيا من العربية والآرامية وقد سميت “رطانة الأنباط”.

خريطة توضح خطوط التجارة الأردنية النبطية ومدى توسعها

ورد ذكر اللهجة النبطية في عدة مصادر تاريخية عربية فقال الجاحظ في كتابه البيان والتبيين أن النبطي (القح) يجعل حرف الزاي سين فيقول بدل زورق: سورق. كما يقلب العين همزة ويفتح المكسور. (ولفنسون: 1929) إضافة لاختلافات أخرى لا تحصر. وهذا يدلنا على أن الأنباط لم ينطقوا بالعربية الفصيحة التي ننطق بها الآن إنما كانوا ينطقون بالآرامية وقد تصبغوا بالعربية نتيجة احتكاكهم بالقبائل العربية المرتحلة ونرى نتيجة هذا الاحتكاك في النقوش التي تتضمن شذرات من الكلام العربي لا أكثر.

وهنالك جانب آخر للمسألة لا بد لنا من الوقوف عليه. إن بعض النقوش النبطية الأولى تُقرأ قراءة آرامية خالصة رغم كتابتها بأبجدية أردنية نبطية أما النقوش النبطية المتأخرة فإنها تُقرأ قراءة عربية وهذا سيقودنا للجزء الثاني الشديد الأهمية من اللغة النبطية الأردنية وهو جزء الأبجدية المكتوبة.

الخط الأردني النبطي

 

الخط النبطي هو خط آرامي في الأصل ولكن مع الكثير من التحسينات والتطورات في شكل الحروف وتباين مواقعها واستخدامها في الكلمة. ورغم أن النقوش والكتابات النبطية تعد قليلة مقارنة بغيرها إلا أنها أعطتنا معلومات كثيرة. فكان يستدل من النقش على المدفن اسم الميت ومهنته وزمن الوفاة وملكية المدفن، كما تعرف الباحثون على أسماء الآلهة التي عبدت آنذاك والملوك والملكات وغيرها من الأمور التي تتعلق بملامح الحياة الاجتماعية عامة (المحيسن:2009). يرجع العلماء هذا النقص في المصادر النقشية إلى حملات السلب والنهب التي تعرضت لها المدن النبطية منذ سقوط المملكة على يد الرومان عام 106 ميلادي.

بالعودة إلى الخط النبطي فهو خط يميل للشكل المربع وتتشابه فيه بعض الأحرف مثل الباء والياء والتاء وتستخدم النقاط للتفرقة (كانتينو: 2016).

الصف الأول: الكتابة النبطية ويظهر استخدام الأنباط للنقاط للتفريق بين الراء والزاي. الصف الثاني: استخدام السريانية للتنقيط للتفريق بين الراء والزاي.

النقوش الصفاوية الأردنية وإعادة كتابة تاريخ اللغة العربية

 

لقد دار الجدل منذ القرن التاسع عشر حول أصل الخط العربي الكوفي، وكان أول من أرجعه للنبطية هو المستشرق الألماني نولدكه وبعد نصف قرن، تبنى الباحث ج. ستاركي نظرية أخرى تفيد بأن أصل الخط الكوفي هو الخط السرياني النسخي وقد اعتمد على مظهر الحروف النبطية وعدم استنادها على السطر بل تدليها منه. وقد اعتمد أيضا على رواية البلاذري التي تقول بأن ثلاثة رجال من قبيلة طيء التقوا في منطقة بقّه قرب الحيرة عاصمة اللخميين واتفقوا على الخط العربي (جرندلر: 2004) تفتقر هذه النظرية للإثباتات والنقوش وبهذا ظلت النظرية التي وضعها نولدكه بأن الخط العربي ذو أصل نبطي هي الأكثر قبولا في المجتمع العلمي.

لقد أرخ العلماء اللغة العربية إلى القرن الرابع ميلادي بالاستناد إلى نقشيين رئيسيين: نقش (فهرو) أو كما يسمى (نقش أم الجمال الأول) وهو نقش وجده الباحث ليتمان في مدينة أم الجمال الأردنية التي كانت إحدى مراكز المملكة الأردنية النبطية واستعان ليتمان بنقش إغريقي وجد بالقرب وكان ترجمة للنقش النبطي. وتكمن أهمية هذا النقش في كونه استخدم الخط النبطي المتأخر ويرجح أن يكون عائدا إلى 250-270 م.

نقش أم الجمال الأول: الترجمة الأولى على اليمين وهي تعتمد على النقش الإغريقي لتفسير النقش. بينما الترجمة الحديثة على اليسار وفيها يوضح الباحث سعد الدين استخدام العربي الفصحى في كلمة “مملك” واستخدام كلمة “نفس” بمعنى قبر كما هو الحال لدى الوثائق اللغوية المكتوبة بالمسند- ويكيبيديا

 

 والثاني هو نقش نمارة المؤرخ لعام 328م. يعرف النقش باسم نقش امرؤ القيس وقد قرأه المستشرق دوسو على أنه شاهد لقبر ملك من ملوك الحيرة؛ على أن دراسات الباحث سعد الدين أبو الحَب أفادت بان ذكر امرؤ القيس كان على سبيل التعظيم لا أكثر وأن النقش يتناول سيرة حياة مقاتل اسمه عكدي.[2]

صورة عالية الجودة لحجر نقش النمارة معلق على جدران متحف اللوفر الفرنسي في باريس © Marie-Lan Nguyen / Wikimedia Commons

وبعد نقش نمارة بسنين، أفادت دراسات الباحث أحمد الجلاد التي أجراها على نقوش الصفاوي والتي توجد حصرا في المنطقة الواقعة في البادية الشمالية الأردنية إلى أن أصل اللغة العربية يعود إلى القرن الثاني أو الرابع قبل الميلاد. وبهذا أعيد تأريخ اللغة العربية ثمانية قرون على الأقل وأكدت أبحاثه على فكرة أن اللغة العربية لم تنطلق من شبه الجزيرة العربية وتمتد إلى الشمال إنما انطلقت من البادية الأردنية وامتدت إلى الجنوب باتجاه الحجاز وشبه الجزيرة العربية.

إن نقوش الصفاوي تعد ثورة هائلة أعادت ترتيب الخارطة الزمنية والمكانية لنشأة اللغة العربية.  فالنقوش عربية وتقرأ قراءة عربية إلا أنها مكتوبة بالخط النبطي. وقد واجهت الباحث أحمد الجلاد عدة صعوبات تتعلق بقراءة هذه النقوش فالعربية تمتاز بأصوات العلة القصيرة (الحركات) والتي لا تكتب في النبطية وقد استعان بالنقوش النبطية المكتوبة باليونانية والتي تُكتب فيها هذه الأصوات وبهذا خرج الباحث الجلاد بقراءة عربية للنقوش الصفاوية.

لقد أشارت الباحثة إنعام الور، إحدى أهم الباحثات في اللهجات المحلية على مستوى العالم، إلى أن القراءة العربية للنقوش الصفاوية أفضت إلى استنتاج مدى التقارب بين اللغة المستخدمة في النقوش واللهجة الأردنية المحلية. وقد ساقت على ذلك عدة أمثلة نذكر منها الفعل “يخربش” والذي يستعمل إلى الآن في لهجتنا المحلية، والفعل “يشتّي” والفعل “يتعنّى” والذي لا زال مستخدما أيضا . فمن كان يتصور أن ما نقوله اليوم في أحاديثنا اليومية يمتد للقرن الثاني-الرابع قبل الميلاد وقد خلّده أجدادنا الأنباط في نقوشهم وباستخدام أبجديتهم.

وكخلاصة، إن كانت النقوش الصفاوية النبطية تقرأ قراءة عربية أعادت تاريخ اللغة العربية ووضحت أنها بدأت من البادية الشمالية الأردنية وامتدت إلى الجنوب، فبإمكاننا أن نستنتج أن العرب لم يبدأوا بالتكتل على شكل قبائل ذات لغة في شبة الجزيرة العربية واحدة سوى في زمن متأخر نسبيا وهذا ما يجعلنا أن نقول أنه من غير المنطقي نسبة الأردنيين الأنباط (الأقدم في الوجود الزمني) إلى العرب (الأحدث في الوجود). ومن وجهة نظر لغوية، إن كان الأنباط عربا فلماذا لم تشابه اللهجة الأردنية المتطورة عن لهجتهم لهجة عرب الجزيرة أو عربية أهل اليمن؟ ولماذا نجدها متفردة في سماتها اللغوية و(الفونولوجية -الصوتية)؟

ثانيا: الخصوصية الدينية لمعبودات الأردنيين الأنباط

 

مما لا شك فيه أن الحضارة الأردنية النبطية كانت على قدر عال من الثراء الديني والروحي. فتعددت المعبودات النبطية بشكل كبير وكانت على اتصال مباشر مع حياة الإنسان الأردني النبطي. في هذا الفصل من بحثنا سنرى كيف تفرد الأردنيون الأنباط بخصائص ميزتهم عن الآراميين[1] وعن العرب.

آلهة وطقوس نبطية خالصة

 

عبر استقصاء الآلهة الأردنية النبطية والطقوس الدينية النبطية في سلسلة من ثلاثة أبحاث مفصلة، يمكن للباحث استنتاج عدة خصائص تميزت بها المعبودات الأردنية النبطية. وصحيح أن الأردنيين الأنباط عبدوا آلهة عديدة تمتلك امتدادا تاريخيا في حضارات أخرى إلا أن أنهم تفردوا بعبادة آلهة خاصة بهم تماما.

نجد الثالوث الأنثوي المقدس (اللات والعزى ومناة) ذي أصول متعددة قد تمتد للبابليين والآرام. إلا أن الوجه الذكوري للآلهة (ذو الشرى وشيع القوم) كانا إلهين أردنيين نبطيين خالصين.

ذو الشرى

ذو الشرى أو وذ شرا أو دوسر كلها أسماء تدل على هذا المعبود النبطي العظيم. يكمن تميز هذا الإله من كونه الوحيد الذي لا يخرج من سياقه الأردني النبطي فلا نكاد نجد له أي أثر خارج حدود المملكة النبطية الأردنية على عكس كل الآلهة الأخرى. ربما يعود هذا التميز إلى كون هذا الإله مرتبطٌ بالسلالة الحاكمة وراعيا لها حيث جاء ذكره في نص بعنوان “رب الملك” كما ذكر نص آخر تحت اسم ” فاصل الليل والنهار” وفي نصوص أخرى باسم “سيد العالم والإله المنير”.

البترا المنحوتة في الصخر

تعود تسمية ذو الشرى لمنطقة جبال الشراه جنوب الأردن التي لا تزال تحمل ذات الاسم، وبوصفه أكبر الآلهة حظي باحترام وتقدير عظيمين حتى حمله التجار الأردنيين الأنباط في رحلاتهم، ففي ميناء بوتسوولي جنوب إيطاليا وجد نقش طيني بالخط النبطي يحمل اسم ذو الشرى.

شيع القوم

 بتصويره على شكل محارب، حضر الإله شيع القوم في النقوش التدمرية النبطية (المدن النبطية الشمالية كبصرى وتدمر وأم الجمال وجرش وغيرها) على وجه خاص، فلم يكن حضوره قويا في البترا العاصمة. إله المحاربين وحامي القوافل، يتقرب له التجار بالنذور والقرابين ويمتنعون عن الخمر من أجله لأنه إله كاره للخمر. يرى الدارسون بأنه أقدم من الإله ذو الشرى لأن الأردنيين الأنباط عرفوا بزراعة الكروم وصناعة النبيذ في مراحلهم المتأخرة.

ظاهرة المدينة المعبد

في هذه الظاهرة التي تعد نقلة نوعية في التاريخ الديني في المشرق بأكمله، يبهرنا أجدادنا الأنباط ببناء مدن دينية كاملة. مدن بأكملها تكرس للعبادة. وإلى جانب العبادة، مارسوا التجارة والزراعة ولا يتعارض هذا مع فكرة تكريس المدينة بالكامل للعبادة إن عرفنا أنهم عبدوا آلهة للخصب وآلهة للزراعة وهكذا دواليك.

البترا، عاصمة الأردنيين الأنباط أفضل مثال للمدينة المعبد. المدينة الوردية المنحوتة في الصخر ومدينة الخمسمئة قبر. تمتلئ البترا بالمذابح والأنصاب والمسلات والمعلايات[2]. يرمز المعبود ذو الشرى للصخر بينما ترمز اللات (زوجة ذو الشرى) إلى المياه الجارية والينابيع. إن بترا بأكملها جسد ذو الشرى بينما تجرى اللات في القنوات المائية التي حفرها الأردنيون الأنباط في جسده كالشرايين. إنها رؤية دينية ساحرة.

المدينة الثانية التي تشكل جزءا من هذه الظاهرة النبطية هي أم الجمال شمال شرق الأردن وتتبع لمحافظة المفرق. أم الجمال مدينة نبطية تتميز بحجارتها سوداء اللون. وهي عبارة عن تجمع ديني كنسي حيث تتألف من خمس عشرة كنيسة بنيت معظمها في القرن الأول ميلادي أي عند اعتناق بعض الأردنيين الأنباط للمسيحية.

والسؤال هنا، لم لا نجد هذه المدن الدينية على هذه الشاكلة في شبه الجزيرة العربية؟

الطقوس الدينية النبطية جنوب الأردن

إن الباحث والمستقصي للممارسات الدينية جنوب الأردن سيجد لا محالة ارتباطا وثيقا بين تلك الممارسات والطقوس النبطية الدينية. فحتى ثمانينات القرن العشرين كان الأردنيون في الجنوب خصوصا سكان إقليم البترا يزورون جبل هارون. ورغم وجود مقام ديني يؤرخ للقرن الثامن هجري إلا أن ارتباط هذا المقام بالمكان العالي “المقدس” لابد أن يكون له امتداد نبطي أردني.

مقام النبي هارون عام 1900 ميلادي يتربع على واحد من أعلى جبال البترا

لقد قدس الأردنيون الأنباط المكان العالي كما أسلفنا، وبعد دراسة المواقع الدينية في الحضارة الأردنية النبطية تبين أن 75% منها بنيت على مكان عال.

وتذكر المصادر أن زيارة هذا المقام كانت أشبه بالحج الذي يتم على موسمين واحد بداية الشتاء ويسمى “القنيص” وواحد بداية الربيع. ويرجح الباحثون أن الأهالي في وادي موسى استخدموا التقويم النبطي الموجود في خربة التنور والذي كان ينظم أعياد واحتفالات الأردنيين الأنباط  وفق دائرة الأبراج.

وبالعروج على تفاصيل أكبر تتشابه فيها الممارسات الدينية الأردنية الحديثة مع تلك النبطية القديمة، يشعل زوار مقام النبي هارون الشموع والبخور في الكوى كذلك فعل أجدادنا الأنباط فتجد المباخر الحجرية وبقايا البخور لا تزال في كوى الإشعال والإضاءة. ومن الممارسات الأخرى تقديم القربان. ففي المذابح الأردنية النبطية قناتان واحدة للمياه الجارية والثانية لدماء القربان وقد فعل الأردنيون من الأهالي زوار مقام النبي هارون وغيره من المقامات المنتشرة ذات الفعل.

نتيجة

إن استمرارية هذه الطقوس وانفراد الأردنيين في العصر الحديث فيها لهو دلالة على الخصوصية الدينية التي تمتع فيها أجدادنا الأنباط، حيث أننا لا نجد ذو الشرى وشيع القوم عند عرب الجزيرة ولا نجد مدينة دينية كاملة ولا تخلص عملية تتبع الممارسات الدينية الحديثة لعرب الحجاز للتطابق أو التشابه مع الممارسات النبطية.

لقد نقل العرب معبودات الأردنيين الأنباط  نتيجة للتلاقح الحضاري ولامتداد النفوذ الأردني النبطي إلى الجزيرة العربية على أن هذا النقل والتأثر لم يحرم الأردنيين الأنباط من التفرد ومن إبقاء عناصر دينية بعيدة وخاصة وعسيرة على الاستنساخ.

 

ثالثا: انتقال السلطة

نشأت على أرض الأردن قبل الميلاد ثلاث ممالك أنشأت حلفا اقتصاديا وسياسيا: عمون ومؤاب وأدوم. وبينما تمركزت الأولى في البلقاء، نشأت مؤاب بين وادي الموجب والكرك بينما كانت أدوم في الجنوب. وما يعنينا من الحلف الأردني للممالك الثلاث هي أدوم وعاصمتها بصيرا في الطفيلة. امتدت أدوم في الجزء الجنوبي ووصلت حتى ميناء أيلة (العقبة).

مبخرة فخارية أدومية
Bienkozki , piotr (1996) The art of Jordan , UK

فالأدوميون شعب أردني (1200ق.م) سكن المناطق التي سكنها بعدهم الأردنيون الأنباط، كان لهم الفضل في ثورة النحاس الصناعية الأولى كما برعوا في التجارة. لم يكن الأردنيون الأنباط مكونا سكانيا دخيلا وجديدا بل كانوا منسجمين مع الإثنية الأدومية يتاجرون معها ويتكلمون الآرامية وإن كانت بلهجة مختلفة.

عاشت الممالك الثلاث ظروفا صعبة ومحاولات غزو متكررة من الممالك المجاورة خصوصا البابليين. تذكر المصادر اسم مجموعة قبائل الأنباط كإحدى القبائل “المتمردة” ضد محاولات الغزو البابلي. ونفهم من مجمل هذا السياق السياسي أن الأردنيين الأنباط كانوا مكونا سكانيا من ضمن الممالك الثلاث وقد وقفوا معهم جنبا إلى جنب ضد العدو الخارجي وبحسب هذه النتيجة، يكون انتقال السلطة من اليد الأدومية الأردنية إلى النبطية انتقالا سلسا دون اللجوء للحرب والعنف كما قد يفعل أي صاحب سلطة من خارج الأرض.

خريطة توضح الممالك الثلاثة عمون ومؤاب وإيدوم

ولا تذكر المصادر التاريخية أي محاولات أدومية لاستعادة السلطة إنما انضوى الأردنيون الأدوميون تحت الراية النبطية لأنهم لم يشعروا بأن هذه السلطة مفروضة من الخارج. فلو كان الأنباط عربا حجازيين أو يمنيين لظهرت على السطح مشكلات اجتماعية عديدة كمحاولات التمرد والانقلاب ولكننا لا نرى أي من هذا في الحالة السياسية النبطية الأدومية.

الخلاصة

اتبعنا في هذا البحث المنهجية العلمية في وضع الفرضيات واختبارها وطرحنا أسئلة كثيرة أجابت عليها النقوش والمصادر التاريخية. فلغة الأردنيين الأنباط وخصوصيتهم الدينية إضافة لطريقة انتقال السلطة إليهم تعطينا نتيجة واحدة وهي أنهم ليسوا عربا حجازيين إنما إثنية أردنية خالصة.

المراجع

  • سعد الدين أبو الحب، نقش نمارة العربي النبطي، دراسة منشرة كفصل من كتاب Tracing Western Scholarship on the History of the Arabs and Arabic Language and Script 2011
  • جون كانتينو، اللغة النبطية، مهدي الزعبي، 2016، سلسلة دراسات
  • ولفنسون (1929) تاريخ اللغات السامية، بيروت: دار القلم
  • الماجدي، خزعل. (2012)، الأنباط: التاريخ، الميثولوجيا، الفنون، (ط1)، دمشق، دار نايا ودار المحاكاة.
  • الحموري، خالد. (2002)، مملكة الأنباط-دراسة في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، (ط1)، عمان، بيت الأنباط للتأليف والنشر.
  • الروابدة، ندى. (2008)، الحياة الدينية عند الأنباط، رسالة دكتوراة، جامعة دمشق، دمشق، الجمهورية السورية العربية.
  • المحيسن، زيدون.(2009)، الحضارة النبطية (ط1)، عمان، وزارة الثقافة الأردنية.
  • سلسلة الأردنيون عبر التاريخ، الأردنيون الأنباط، أبحاث إرث الأردن المنشورة
  • كريستيان اوجيه، عصر الأنباط (القرن الرابع ق.م. – القرن الزول ب. م.)، أطلس اأردن، المركز الثقافي الفرنسي والمركز الجغرافي الملكي (2014) p. 142-150
  • أحمد أبو بكرة، إيقاظ الهمم في إثبات أن الأنباط من العجم، صحيفة السوسنة.
  • مقال (ما هكذا تورد الإبل الجزء الثالث)، شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية

[1] الأراميون : شعب أقام و أسس حضارته في وسط و شمال ما يعرف بسوريا اليوم – حيث كان يطلق عليها اسم بلاد آرام حتى العصر السلوقي الهلنستي في القرن الرابع ميلادية ، كان لغته بلهجاتها المتعددة متعارف عليها ومستخدمة بكثرة في المنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط ودول العالم القديم .

[2] المعلية ساحة منبسطة مقتطعة من جبل، يبنى لها درج. لهذه المساحة المنبسطة ارتفاع بسيط وتحيط بها دكة مبنية استخدمت غالبا للجلوس، وغالبا ما يتوسط المعلية مذبح وتسمى حينها “مسجدا” والمسجدا هي محراب العبادة المقدس. وعلى زوايا المعلية، تحفر مجار للماء وأخرى للدماء. المصدر: أبحاث إرث الأردن. الطقوس النبطية: توليفة دينية ساحرة.

أصول الأردنيين الأنباط

مقدمة

إن الاقتصاد هو العصب الرئيسي التي تنشأ عليه أصغر التجمعات البشرية، وصولاً لأضخم الحضارات، وتعتبر دراسة النشاط الاقتصادي أحد أهم المداخل لفهم طبيعة المجتمعات القديمة، ولا يمكن لأي حضارة الاستمرار دون اقتصاد قوي يستطيع سد احتياجاتها.

وقد شهد الأردن القديم في بدايات العصر الحديدي الثاني ازدهاراً ملحوظا، إذ تدلُّ المكتشفات الأثرية على وجود وفرة في الإنتاج الغذائي الذي بدا واضحا من مواقع تخزين الحبوب والنبيذ والزيوت، الأمر الدال على حالة من الإنتاج الزراعي الضخم الذي مارسه الأردنيون الأوائل في الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون) مما يعني تطوراً اقتصاديا مذهلاً على كل الصُّعد من صناعة وتجارة، قاده أجدادنا الأردنيون الأوائل لينعموا بحياة مرفهة في عصور اتسمت بالفقر وعدم القدرة على استثمار الموارد.

لم يكن أجدادنا الأردنيون المؤابيون، يمارسون نشاطاً اقتصاديا مختلفاً كثيرا عن أشقائهم الأردنيين الأدوميين أو الأردنيين العمونيين، رغم أن النشاط الزراعي في مؤاب وعمون كان أكثر تنظيماً واتساعاً بسبب انتشار الأراضي الخصبة ووفرة المياه.

وادي الموجب 1900 نهاية القرن التاسع عشر شمال الكرك وعرف بنهر أرنون وتم ذكره في مسلة ميشع الملك المؤابي الأردني قبل الميلاد

الرعي

نشأت أولى أشكال التجمع الإنساني معتمدة على فكرة الصيد والجمع والالتقاط، على شكل تجمعات بسيطة جدا ومحدودة العدد، هذه النواة للتجمع أسست لينتقل الانسان إلى مرحلة أخرى شكلت نقلة نوعية في التاريخ البشري، حيث بدأ الإنسان بعملية استئناس الحيوانات ورعيها، وأخذت هذه التجمعات البشرية بالتضخم، وتحولت إلى نظام قبلي، حيث تستوطن كل قبيلة مساحة معينة من الأرض، وتمارس فيها عملية الرعي، وقد انتشر هذا النمط من الإنتاج الاقتصادي في البوادي على حواف الصحراء، ولم يختلف أجدادنا الأردنيون الأوائل عن باقي شعوب العالم في هذه المرحلة من التطور.

وعلى الرغم من التطور الحضاري الذي أنجزه أجدادنا الأردنيون المؤابيون، والمنجز السياسي الضخم الذي قاموا به من تأسيس دولة وطنية، لها أعرافها السياسية وحدودها وقوانينها الناظمة، التي أدت إلى التطور والازدهار الاقتصادي الذي ذكرناه مسبقاً، إلا أن الرعي كنمط إنتاج استمر طوال عمر المملكة الأردنية المؤابية، على أطرافها الشرقية، وقد مارست القبائل الأردنية المؤابية التي استمرت في حالة الرعي دوراً أساسيا في حماية المناطق الشرقية للمملكة الأردنية المؤابية، من هجمات القبائل البدوية من صحراء جزيرة العرب، كما كان شباب هذه القبائل الناشئين في ظروف أكثر قسوة من ظروف المدينة أو القرية الأردنية المؤابية، العمود الفقري للجيوش الأردنية المؤابية التي خاضت حروبا عنيفة مع جيرانها الطامعين بها، كما فعل أحفادهم رجال العشائر الأردنية عندما كانوا العمود الفقري للجيوش التي حررت الإقليم من نير الاحتلال العثماني في مطلع القرن العشرين.

وكان لنمط الانتاج الرعوي أهمية اقتصادية أيضاً، حيث كان منتجات الثروة الحيوانية المرعية (المختلفة عن الحيوانات الداجنة التي تربى في الريف داخل الحظائر)، ذات جودة عالية، سواء الحليب ومشتقاته أو اللحوم، كما كان الصوف والجلود جزءاً هاماً من البضائع التي صدرها أجدادنا الأردنيون المؤابيون للخارج.

الزراعة

تعتبر الزراعة أول نشاط اقتصادي منظم، أدى إلى إنتاج فائض عن الحاجة، مما ساهم في تنوع السلع والتبادل التجاري، بحيث دفعت عملية الزراعة عجلة التطور الصناعي، لحل المشكلات التي يواجهها المزارعون.

يؤكد نقش الملك الأردني المؤابي ميشع على الاهتمام البالغ الذي منحه أجدادنا الأردنيون المؤابيون للزراعة، لتحقيق حالة من الأمن الغذائي في ظل واقع صارع به أجدادنا الأردنيون الأوائل صراعاً مريراً لإثبات وجودهم وحماية منتجهم الحضاري في إقليم كان على الدوام بؤرة للصراعات والحروب.

انتشرت الزراعة المنظمة في المملكة الأردنية المؤابية، في المناطق الغورية شرقاً، وفي الوديان والمناطق الجبلية غربا، حيث خاض أجدادنا الأردنيون المؤابيون، جدلاً بنّاءاً مع طبيعة جغرافية صعبة جداً، حيث واجهوا وعورة الأراضي التي تغلبوا عليها عبر بناء المصاطب، وتطويع الجبال وحواف الأودية، وجروا المياه بطرق مبتكرة من الينابيع والأودية، وتغلبوا على شح المياه صيفاً عبر حفر برك وأحواض مائية ضخمة كانت كفيلة، بري محاصيلهم الزراعية طيلة فصل الصيف الجاف.

وتنوّعت المحاصيل الزراعية التي أنتجها أجدادنا الأردنيون المؤابيون، من الحبوب إلى الخضروات والفواكه، ودلّت المكتشفات الأثرية على وفرة واضحة بهذه المحاصيل التي كانت تخزن بطرق مبتكرة، مثل تخزبن النبيذ والزيت بالجرار الفخارية، وحفظ الحبوب مثل القمح في حفر معزولة داخل الأرض، لمواجهة سنوات القحط، كما كان الإنتاج الزراعي الغذائي جزءاً مهما من عملية التجارة والخدمات المقدمة على الطرق التجارية.

ثورة الملك الأردني المؤابي ميشع الزراعية

مسلة الملك الأردني المؤابي ميشع Henri Sivonen from Helsinki, Finland – Mesha Stele
aka. the Moabite Stone (2007-05-19T14-10-19.jpg)

إن من  أبرز ما قام به الملك الأردني المؤابي ميشع، هو الثورة الزراعية الضخمة التي قادها بنفسه، حيث بدا اهتمامه واضحا في الإنتاج الزراعي وسُبل تحسينه وتضخيمه، بعد أن قام أعداء المملكة الأردنية المؤابية بتدمير هذا القطاع الإنتاجي المهم حبر الحروب التي خاضوها ضد المملكة، حيث كان أهم ما قام به الملك ميشع، حفر البرك والآبار الضخمة، وممّا يدلل على اهتمامه منقطع النظير بعملية الزراعة طلبه من أهل قرحي أن يحفر كل بيت من بيوتها بئرا ”  لأن المدينة كانت خالية من أي بشر. فقد قلت يومها للشعب: (ليحفر كل رجل منكم بئرا بداخل بيته).”

الصناعة

الصناعة هي قمة التطور البشري، حيث تقاس قوة الشعوب وعظمتها بناء على تطورها الصناعي، وفي حين كان الأردنيون الأوائل سباقون إلى الصناعة منذ عصور ما قبل التاريخ، في قرية عين غزال وغيرها، فقد استمر هذا التطور الصناعي بالتراكم وصولاً إلى عصر الدولة الأمة (الممالك الأردنية الثلاث)، حيث نمت الصناعات بأشكالها المختلفة، لتلبية الحاجات الداخلية، بالإضافة لدعم العملية التجارية بالتصدير لبضائع أردنية المنشأ.

أولا : الصناعات الغذائية

تعدُّ الصناعات الغذائية من أبسط الصناعات، وهي صناعة تحويلية، إلا أن ممارسة هذه الصناعة على نطاق واسع في المملكة الأردنية المؤابية يؤشر إلى تطور مهم في تلك الحقبة الزمنية، حيث أن التصنيع الغذائي يتطلب وجود وفرة بالمحاصيل، ودراية بطرق الحفظ والتخزين، كما أنه يدلُّ على ذائقة ممتازة وأصناف غذائية وأساليب طهي معقدة، أما أهم هذه المنتجات الغذائية فهي: النبيذ، الزيت، الفواكه المجففة، مشتقات الألبان وغيرها.

أنثى تحمل جرة من الفخار على رأسها، العصر البرونزي المبكر، موقع باب الضهرة الأثري.
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

ثانيا : صناعة الفخار

يعدُّ الفخار نقلة نوعية في تطور الجنس البشري، حيث يستخدمه بعض علماء الآثار كوسيلة للتأريخ، ما قبل وما بعد الفخار، كما أن دراسة الفخار وبقاياه من أهم أدوات استنباط معلومات تاريخية عن الحقب السحيقة.

ويعدُّ الفخار الأردني المؤابي من أجود أنواع الفخار في عصره، ولقد استخدمت الطريقة المؤابية في تصنيع الفخار لدى العديد من الشعوب المجاورة.

رابعا : الصناعة الحربية

وجد الأردن تاريخياً، في إقليم ملتهب، مليء بالصراعات والحروب والتناحر، لذلك كان لزاما على أجدادنا الأردنيين المؤابيين، تطوير قدراتهم العسكرية، من تجهيز المقاتلين وتدريبهم وصولا إلى صناعة الأسلحة، لذلك كانت صناعة الأسلحة أحد أهم النشاطات الانتاجية التي مارسها أجدادنا الأردنيون المؤابيون، من السيوف والنبال والرماح، وصولاً للعربات القتالية، وتعدُّ عملية صناعة الأسلحة عملية معقدة ومركبة، حيث أنها تبدأ من التعدين ومعالجة المعادن لتنتهي بالشكل النهائي للسلاح، مرورا بعملية الهندسة والتصميم.

التجارة

برع الأردنيون الأوائل عبر التاريخ في التجارة، وقد يكون الموقع الجغرافي الذي لا يمكن الاستغناء عنه للقوافل التجارية أحد أهم أسباب هذه الهِبَة.

إن مرور الطريق التجاري الملوكي (أهم الطرق التجارية في العالم القديم) عبر الأراضي الأردنية من الجنوب إلى الشمال، كان فرصة استثمرها أجدادنا الأردنيون الأوائل على أفضل وجه ممكن.

ولقد مرّ هذا الطريق من منتصف المملكة الأردنية المؤابية، فقام أجدادنا الأردنيون المؤابيون، بتقديم الخدمات اللوجستية للقوافل التجارية، كما كفلوا الأمن للقوافل المارة في أراض المملكة، ولكن الأهم من ذلك كان تطوير قدراتهم التجارية، من الوساطة التجارية، إلى إنشاء القوافل وتسييرها، وصولا لتصدير منتجاتهم الوطنية إلى العالم، ولم يكن من الممكن أن تنجح تجارتهم هذه لولا تحليهم بالدبلوماسية والانفتاح وتفهم الثقافات المختلفة.

الخاتمة

حاولنا في هذا البحث، تلخيص الأدلة العلمية المتوفرة، من نتائج الأبحاث التاريخية، والمسوحات والتنقيبات الأثرية، للوصول إلى تصور عام عن طبيعة النشاط الاقتصادي في المملكة الأردنية المؤابية، آخذين بعين الاعتبار أهمية النشاط الاقتصادي في عملية التطور الانساني، لنجد أن أجدادنا الأردنيين المؤابيين، استغلوا قدراتهم حتى النهاية، في صراع صعب مع ظروف طبيعية وسياسية غاية في الصعوبة، تاركين لنا مثالاً يحتذى بالنهضة وصناعة المستقبل.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  2. A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين، د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان
  3. أبحاث إرث الأردن، الملك الأردني المؤابي ميشع
  4. أبحاث إرث الأردن، مملكة أدوم الأردنية- النشاط الاقتصادي

المملكة الأردنية المؤابية – النشاط الاقتصادي

تمثال عين غزال، العصر ما قبل الفخاري
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

مقدّمة

وجدت المسوحات والحفريات الأثرية على امتداد جغرافيا الأردن، دلائل على منظومات ميثولوجية دينية، منذ عصور ما قبل التاريخ، تجلت هذه الدلائل، في طرق الدفن، وصناعة التماثيل، ووجود المباخر، وانتشار المذابح أو ما يشبهها، وقد مرت هذه المنظومات بتطورات هائلة مع التقدم الاجتماعي والسياسي الذي مر به أجدادنا الأردنيون الأوائل عبر مراحل التاريخ المختلفة.

كان للدين دور مهم في حياة أجدادنا الأردنيين المؤابيين، فالدين في تلك العصور كان يمثل محاولات الإجابة على أهم الأسئلة الفلسفية التي راودت البشر، كما كان الدين يغطي الجانب الروحي، وهو الوعاء الذي يحتوي جميع أنواع الفنون.

واعتمد الأردنيون المؤابيون كثيراً على آلهتهم في الحروب، حيث شنّوا الحروب باسمها، واستنصروها في حالات الضعف أو قبيل المعارك الهامة، إلا أن ذلك لم يكن يمنعهم من احترام الديانات والآلهة المختلفة التي تعبدها الشعوب المجاورة، كما توافرت قواسم مشتركة عديدة بين الديانة الأردنية المؤابية وديانات جيرانهم، وبالأخص ديانات أشقائهم في الممالك الأردنية المجاورة (مملكة أدوم الأردنية، مملكة عمون الأردنية).

ميثولوجيا الأردنيين الأوائل قبل نشأة الممالك الأردنية الثلاث (أدوم، مؤاب، عمون)

أنثى تحمل جرة على رأسها من الفخار، العصر البرونزي المبكر، موقع باب الضهرة الأثري.
The art of Jordan, treasures from an ancient land,edited by Piotr Bienkowski, alan sutton publishing.

عادة ما كانت الشعوب القديمة، تستقي منظوماتها الدينية من البيئة المحيطة، وقد تطورت الأديان القديمة لتجيب على الأسئلة الوجودية التي كانت تؤرق الإنسان القديم، ولوضع التفسيرات حول ما لم يستطع العقل البشري تفسيره حين ذاك، كما ساهمت طبيعة الإنتاج في تشكيل الطقوس الدينية المُمَارسَة، حيث ارتبطت أغلب الطقوس والشعائر في مواسم الزراعة والحصاد.

ولم يختلف أجدادنا الأردنيون الأوائل في تلك الحقب عن مجمل الوجود البشري، وقد بدأ نشوء التصورات الدينية لدى الأردنيين الأوائل مع بداية الاستقرار الزراعي حوالي 9000 قبل الميلاد، وقد كانت هذه التصورات في تلك الفترة بسيطة، وارتبطت المظاهر الموجودة حول عادات الدفن بشكل رئيسي، ويعتقد أن البذرة الأولى للمعتقدات الدينية، كانت مرتبطة بتفسير ظواهر طبيعية، وخصوصا المطر الذي كان المصدر الرئيسي لري المزروعات حيث كانت الزراعة في طورها الأول البسيط، واستمر الأردنيون الأوائل في تطوير منظومتهم الدينية، جنباً إلى جنب مع تطورهم الانتاجي بشكل رئيس، حتى ارتقت تلك المنظومة بشكل كبير، مع العصور البرونزية وحقبة (الدولة المدينة)، حيث وجدت الحفريات الأثرية في تلك الحقبة معابدا داخل المدن الأردنية القديمة، وحيث أصبحت مجتمعات المدن الأردنية القديمة مجتمعات مقسمة طبقياً، بسبب حالة المدنية والانتاج الفائض، فإن رجال الدين كانوا يمثلون طبقة منفصلة، وتعتبر من الطبقات المتسيّدة، وتشير الدلائل أن رجال الدين مارسوا أيضا مهام إدارية داخل المدن.

الآلهة الأردنية المؤابية

أحد أهم مميزات الديانة الأردنية المؤابية هو عدم تعدد الآلهة وكثرتها مثل الشعوب المجاورة في تلك الحقبة الزمنية، حيث اكتفى أجدادنا الأردنيون المؤابيون بالإله كموش وزوجته الإلهة عشتر- كموش، وهو أمر غريب ويصعب تفسيره، وقد امتاز الإله كموش وزوجته عشتر- كموش بهالة من القدسية، حيث سمي الأشخاص والمدن تيمنا بهم، وأنشئت  لهم معابد ضخمة، وقدّمت لهم الأضاحي والقرابين.

لا نستطيع أن نجزم أن الإله كموش وزوجته الإلهة الأم عُبدوا وحدهم بشكل مطلق داخل أراضي مؤاب، حيث أن آلهة محلية عُبدت بالتأكيد في مناطق مختلفة من المملكة الأردنية المؤابية، بالإضافة إلى التداخل السكاني من الشعوب المجاورة داخل مملكة مؤاب الأردنية، كما أن الحركة التجارية النشطة التي شهدتها مؤاب الأردنية، ساهمت بتلاقح ثقافي مع شعوب متعددة، تركت بعضا من معتقداتها وأساليبها في العبادة والفن والعمارة وصناعة الفخار، لدى الشعب الأردني المؤابي، إلاّ أن المؤسسة الدينية الرسمية، كانت تكرّس الإله كموش والإلهة الأم عشتر- كموش، ولم تُقَم المعابد لسواهما، الأمر الذي يعتبر مؤشراً على مؤسسة دينية موحدة، يرأسها الملك، معنية بتنظيم الأمور الدينية للشعب الأردني المؤابي.

الإله المؤابي كموش

عندما بدأ الشعب الأردني المؤابي بتأسيس دولته، والسيطرة على الحيز الجغرافي الذي سُمّي باسمه، كانت هناك آلهة متعدد تُعبد في المنطقة، ومن اهمها الإله بعل- فغور أحد آلهة الميديين، ولكن أجدادنا الأردنيون المؤابيون، سعوا منذ اللحظة الأولى إلى ترسيخ منظومتهم الثقافية والميثولوجية، دون محاولة مسح الثقافات الفرعية الموجودة على أرض مملكتهم، في هذا السياق بدأت عبادة كموش الإله المؤابي الأردني بالانتشار، وكان الإله كموش محط احترام المؤابيين، حيث أنه يمثّل إله الحرب، وإله الشمس، وإله القمر، وغيرها، كما يُعد الإله الأكبر، محتلاً بذلك مكانة العديد من الآلهة المجتمعة على حد سواء.

وقد طُرحت عدة فرضيات حول تسمية الإله كموش، حيث يذهب بعض الباحثين إلى القول بأن الإسم كموش مشتق من الكلمات ( أكو وماشو)، بمعنى إله القمر، في حين يذهب باحثين آخرين إلى القول بأن كموش تعني إله الشمس، أما الفرضية الأكثر قبولا هي أن معنى الإسم هو إله الحرب بسبب الدور الذي لعبه الإله كموش في الحروب التي خاضها الأردنيون المؤابيون. 

ولقد كان الإله كموش بلا شك راعياً لجميع نواحي الحياة لدى الأردنيين المؤابيين، وقد سُمي الأشخاص والملوك باسمه، مثل: (كموشعونادبي، كموشيخي، كموش ملك، كموش صاديق وغيرهم).

الإلهة عشتر- كموش

وهي زوجة الإله كموش، والإلهة الأم، وإلهة الخصب والحمْل، وقد صورت في التماثيل على شكل إمرأة، تحمل بين يديها رمز الخصب بشكل متقاطع فوق صدرها، ولقد ورد ذكر عشتر- كموش في لوحة أثرية، مما يدل على أهميتها في المنظومة الدينية الأردنية المؤابية، فيما بُني لها معابد خاصة، وقُدّمت لها الأضاحي والقرابين، الأمر الذي يعتبر انعكاساً لمكانة المرأة الأردنية المؤابية في المجتمع بشكل عام.

المعابد الأردنية المؤابية

صورة لتل ذيبان الأثري عاصمة مملكة مؤاب الأردنية- جريدة الغد-محمد أبو غوش

وجد الآثاريون العديد من المعابد الأردنية المؤابية، واللافت بالأمر أن هذه المعابد بنيت في العصر البرونزي المتأخر، مما يعطي انطباعاً بأن الحضارة الأردنية المؤابية بدأت بالتشكل قبل العصر الحديدي، على عكس ما تورده كلاسيكيات التأريخ القصصي.

وجدت معابد تعود للعصر البرونزي، مبنية من الحجارة الغشيمة، ويتوسطها مذبح، وأمامه ساحة كبيرة، وقد عُثِر في ذيبان على بقايا مبنى ضخم، يحتوي بداخله على قاعدة مبخرة، ويعتقد أن هذا هو المعبد الذي بناه الملك الأردني المؤابي ميشع وأورد ذكره في مسلته عقب انتصاره.

المؤسسة الدينية الأردنية المؤابية

طبيعة الكهنوت الديني في المملكة الأردنية المؤابية غير واضحة لنا تماما، ولا نستطيع الجزم إن كان هنالك مجموعة من رجال الدين يقومون بالإشراف على العبادات، إلا أنه بناءً على المقارنة مع الديانات القديمة وخصوصا المجاورة، يتأكد لنا أن ثمة مجموعة من رجال الدين تسهر على خدمة المعبد، واستلام القرابين والأضاحي، والإشراف على العبادات، كما أنه من الواضح أن للملك مكانة روحية خاصة في الديانة الأردنية المؤابية ، حيث ذكر أن الملك بولاق قام بتقديم الأضاحي للإله كموش، كما أن الملك الأردني المؤابي  ميشع ذكر في مسلته (مسلة ميشع-ذيبان) أنه قام بتقديم الأضاحي للإله كموش، وبنى المعابد ونذرها لخدمته، بالإضافة إلى أن الملك كان هو المسؤول عن مخاطبة الإله كموش واستنصاره في وجه الأعداء، كما ذكر الملك المؤابي الأردني ميشع أنه كان يتلقى الأوامر مباشرة من الإله، ما يؤكد أن الملك يرأس المؤسسة الدينية الأردنية المؤابية.

أهم الطقوس الدينية المعروفة في المملكة الأردنية المؤابية

تابوت من مملكة مؤاب في متحف عمان Bernard Gagnon

أولا : القرابين، من ضمن اللقيات الأثرية التي وجدت في مملك مؤاب الأردنية، دُماً فخارية صغيرة، لحيوانات مثل الكباش والعجول، الأمر الذي يؤكد رسوخ فكرة الأضاحي والقرابين التي تقدم للآلهة، ضمن طقوس معينة، ويعتقد الآثاريون أن هذه الأضاحي كانت تقدم إما  للمذبح أو كهدايا للكهنة، وذكر في الروايات التاريخية، أن الملك المؤابي الأردني بالاق قد قام بتقديم الأضاحي للإله كموش قبيل اشتباكه مع العبرانيين في بداية دخولهم للمنطقة، كما ذكر الملك الأردني المؤابي ميشع تقديمه الأضاحي للإله كموش لكي ينصره، وقد اعتبر القتلى من أعدائه ضحايا للإله أيضا، وفي تصرف فريد من نوعه، قدم ميشع ابنه أضحية للإله كموش في سبيل الانتصار على أعدائه.

ثانيا : حرق البخور، يبدو أن حرق البخور كان أحد الطقوس الدينية المتبعة لدى أجدادنا الأردنيين المؤابيين، حيث وجد على المباخر وقواعد المباخر في أكثر من موقع أثري مؤابي.

ثالثا : غنائم الحرب، كانت غنائم الحرب تقدم للمذبح كقربان، وشُكرٍ للآلهة التي قامت بمساعدة أجدادنا الأردنيين المؤابيين على الانتصار.

رابعا : حالات الحزن واليأس، كان الأردني المؤابي يقدّم دُماً محززة الوجه للمعبد في حالة شعوره باليأس، وقد تكون عادة وشم الوجه في حالات الحزن ذات جذر مؤابي، كما أن بإمكان الشخص الذي يشعر بالحزن واليأس أن يقدم خصلة من شعر رأسه ولحيته للمعبد.

المراجع

  1. كفافي ، د. زيدان عبد الكافي (2006 )، تاريخ الأردن وآثاره في العصور القديمة ( العصور البرونزية و الحديدية) ، دار ورد ، عمان .
  2.  A.H.Van Zyl، تعريب وإعداد، ياسين، د. خير نمر، (1990)، المؤابيون، الجامعة الأردنية عمان
  3. أبحاث إرث الأردن، ملامح الديانة الأردنية الأدومية

ملامح الديانة الأردنية المؤابية

مقدمة

حكم الأردنيون الغساسنة الأردن وما حولها لمدة تزيد عن الأربعة قرون وكان كل حاكم وأمير وملك منهم على قدر عالٍ من المسؤولية والحزم. يقول الملك الأردني الحارث الملقب بالأعرج موصيا ابنه:

   ” والنَّاسُ سرحُ رِباعٍ والمُلوكُ لهُمْ … ما بينَ راعٍ وحفَّاظٍ وسوَّاقِ

ولا يحُوطُ ولا يرعَى الأنامَ سوى … من في ذُرَى المجدِ عالٍ في العُلى راقِ

ماضِي العزيمةِ ذي حَزْمٍ وذي فِطنٍ … مُوفٍ لدى العقدِ من عهدٍ وميثاقِ”

وفي هذه الوصية تظهر لنا فلسفة الحكم عند الأردنيين الغساسنة، فالملك هو ” راعٍ وحفَّاظٍ وسوَّاقِ” يتولى رعاية شعبه ويكفل لهم أمنهم وأمانهم. في هذا البحث من سلسلة أبحاث الأردنيون الغساسنة سنستعرض سيرة مجمل الملوك والنظام السياسي والأمراء الأردنيين الغساسنة وإنجازات كل واحد منهم إضافة لألقابهم الفخرية والدينية.

خريطة لممالك العالم القديم وتظهر مملكة الأردنيين الغساسنة التي تمتد على أرض الأردن- سوريا وشمال السعودية- فلسطين

التسمية والنسب

ينسب الأردنيون الغساسنة إلى بئر ماء يدعى غسان كانوا قد نزلوا عندها فترة، إلا أنهم ينسبون لجدين آخرين (جفنة  وثعلبة). يعرف آل غسان بآل جفنة وجفنة بالعربية تعني الطبق الكبير، أي أنهم سموا كذلك نسبة لشدة كرمهم وجودهم وتعود تسميتهم  بآل جفنة إلى أحد أجدادهم  المسمى بالإسم نفسه. وقد ذُكروا كثيرا في شعر حسان بن ثابت بآل جفنة وأولاد جفنة  فيقول في رثاء الملك الأردني الغساني  ابن مارية المرجح بان يكون هو ذاته الحارث بن جبلة:

أولاد جفنة حول قبر أبيهم   قبر ابن مارية الكريم المفضلِ

أما التسمية الثانية (آل ثعلبة) فهي تعود لجد آخر. يعتقد الباحثون بأن ثعلبة وجفنة أخوان وأن نسلهما أولاد عمومة ولهذا لقبوا باللقبين على التوازي (نولدكه: 1933)

الألقاب الملكية

 تباينت الألقاب التي حصل عليها ملوك الغساسنة وكانت أغلبها تصبغ بصبغة دينية كنسية. بداية كان اللقب الأشهر هو الفيلارخ أو الفيلارك بمعنى الوالي أو رئيس القبيلة. والبطريق (بطريرك) والذي لقب به أعظم ملوك الأردنيين الغساسنة الحارث بن جبلة. فقد كان يمارس سلطتين أساسيتين، رئاسة المملكة ورئاسة أسقفيتها. (شهيد: 1995) وقد تناولت الوثائق السريانية والرومانية ألقاب أخرى اختص بها الحارث بن جبلة ” كالبطريق الأمجد والأشهر” وملك جميع العرب” و” الأكثر تقى وصلاح” و”محب المسيح الأكثر عبادة ” (نولدكه:1993)

صورة تخيلية للملك الحارث بجانب الامبراطور البيزنطي

 ويجدر الذكر بأن الملك الأردني الحارث بن جبلة هو الوحيد الذي حصل على لقب ملك من قبل الإمبراطور البيزنطي جوستنيان وقد سمي باقي الحكام الأردنيين الغساسنة ملوكا بمعنى أمراء، كما سيلي توضيحه في الفصل التالي.

الأمراء والملوك الغساسنة

أولا: الاختلاف التاريخي في سلسلة الحكم

مهّد الحصار الاقتصادي للمملكة الأردنية النبطية وسقوط العاصمة بترا في أيدي الرومان بعد محاولاتهم الكثيرة في القرن الأول والثاني إلى خلق جو من الفراغ السياسي. ودفع هذا الفراغ بالأردنيين الغساسنة  إلى إنشاء كيانهم السياسي المستقل وإرساء علاقات تحالف جيدة مع البيزنطيين والدفاع بشراسة عن حدودهم وأمانهم وحريتهم الدينية.

لقد كان حكم الأردنيين الغساسنة مرتكزا على فكرة الحكومة المركزية التي تتشعب منها حكومات صغيرة محلية. فمن حوران الأردنية ومن ثم البلقاء أدار الأردنيون الغساسنة مملكتهم وتحت حكمهم تم تعيين حكام محليين. فكان هناك حاكم لقبيلة كندة وآخر لفلسطين وآخر لنجران وغالبا ما كان هؤلاء الحكام يسمون (فيلارخ) وفي كتب التاريخ يسمون مجازا ملوك وفي السريانية تكتب كلمة أمير “ملكا” ولهذا ربما أطلق على باقي الملوك لقب ملك. ولم يقتصر هذا التقسيم على المدن الكبيرة إنما امتد للحواضر الصغيرة وقد قسمت ولايتها بين أفراد السلالة الأردنية الغسانية الحاكمة.

نقش كنيسة نتل الغسانية في قرية نتل قرب عمان ويقرأ “أوه يا حارث يابن الحارث”

أدّى هذا التقسيم إلى اختلاف كبير بين المؤرخين حول عدد الملوك وأماكن حكمهم ومدة حكمهم. سنتناول في بحثنا الاختلاف بين أهم مؤرخين لمملكة الأردنيين الغساسنة، المؤرخ حمزة الأصفهاني والمؤرخ الألماني نولدكه.

يختلف الباحثون كما أسلفنا في عدد الملوك الأردنيين الغساسنة فبعضهم يقول 32 ومنهم من يقول 10 أو 11 وآخرون يقولون 9 فقط. (العيسى: 2007) يقول المؤرخ الأصفهاني بأنهم 32 ملكا ولكن نولدكه المحقق والمؤرخ يعيب على رواية الأصفهاني لأخبار ملوك الأردنيين الغساسنة لأنها لا تتطابق مع الوقائع التاريخية كنَفيْ الملك الغساني المنذر وابنه النعمان وحروب المسلمين مع البيزنطيين والغساسنة كمعركتي اليرموك وتبوك، إضافة للسبب الذي أوردناه آنفا وهو طبيعة هيكلة الحكم عند الغساسنة القائمة على حاكم مركزي وحكام محليين يحملون لقب “ملك” مجازا فالملك الأردني الوحيد الذي حمل هذا اللقب من قِبل الإمبراطورية الرومانية هو الحارث بن جبلة.  ولهذا يورد نولدكه أن ملوك الأردنيين الغساسنة يبلغ عددهم 10 ملوك.

وبحسب تحقيق نولدكه المعتمد على المقارنة بين المصادر اليونانية والسريانية والرومانية، تم استخلاص العشر ملوك إضافة لسنين حكمهم كالتالي:

  • أبو شمر جبلة: حكم حوالي السنة 500 م تقريبا
  • الحارث بن جبلة: استمر حكمه من حوالي 529-569 م.
  • أبو كرب المنذر بن الحارث: حكم من سنة 569-582م.
  • النعمان بن المنذر: حكم من سنة 582- 583م.
  • الحارث الأصغر بن الحارث الأكبر. (مدة حكمه غير معلومة على وجه الدقة)
  • الحارث الأعرج بن الحارث الأصغر (مدة حكمه غير معلومة على وجه الدقة)
  • أبو حجر النعمان: حكم 583- 614 م.
  • عمرو (مدة حكمه غير معلومة على وجه الدقة)
  • حجر بن النعمان (مدة حكمه غير معلومة على وجه الدقة)
  •  جبلة بن الأيهم: حكم سنة 635م

وينبغي أن ننوه أن قائمة الملوك التي تبدأ من القرن السادس تُعنى بالفترة التي نضج فيها كيان الإمارة الأردنية الغسانية وانتقل إلى شكل ملكي أكثر تنظيما على يد أول من لُقّب بالملك أو ملك العرب، الملك الأردني الغساني الحارث بن جبلة عام 530. أما قبل ذلك، تؤرخ بدايات تأسيس حكومات محلية بقيادة الأردنيين الغساسنة إلى القرن الأول ميلادي.

ثانيا: الملوك

الحارث بن جبلة (529 -569م)

لُقّب الملك الأردني الحارث بن جبلة بالحارث بن أبي شمر وقد يكنى ابن مارية وهو من أشهر الملوك الأردنيين الغساسنة وأكثرهم ذكرا في النصوص والمصادر اليونانية والرومانية. تميز الملك الحارث بن جبلة بالذكاء والحنكة الكبيرين، لم يقدم تنازلا عن الحرية الدينية لشعبه، وأسس تحالفا مع البيزنطيين مبنيا على احترام الطرف الآخر لعقيدة المجتمع الأردني آنذاك (المونوفيزية).

منمنة (صورة تخيلية) تصور الملك الغساني الحارث وهو في خيمته

بلغت المملكة الأردنية الغسانية أوج اتساعها في عهد الملك الحارث بن جبلة حيث شملت البترا والبلقاء وصحراء الصفا (البادية الأردنية) وسهول حوران الأردنية.  وتكللت جهوده في النصر في معركتي عين أباغ ويوم حليمة ضد المناذرة والفرس. على إثر هذه الانتصارات منحه الإمبراطور البيزنطي جوستنيان لقب بطريق وهو لقب ديني/عسكري. كما منحه لقب “فيلارك” بمعنى رئيس ومن ثم منحه لقب “ملك” وغالبا ما يقترن اسمه بألقاب وصفات أخرى “كالحارث الأمجد والأشهر”.

يُحسب للملك الأردني الحارث بن جبلة دفاعه عن المذهب الديني (المونوفيزي) فرغم أنه يخالف المذهب الديني الرسمي للإمبراطورية البيزنطية إلا أنه استطاع تعيين أكثر من 89 أسقفا على امتداد المملكة الأردنية الغسانية، إضافة لعلاقته الجيدة مع الإمبراطورة البيزنطية ثيودورا، زوجة جوستنيان، التي كانت تدين بالمونوفيزية. وساهمت هذه العلاقة الوطيدة في خلق جو من التسامح الديني وإيقاف الاضطهاد الديني الذي كان سائدا من قبل. ولا تزال رسالته إلى القس يعقوب البرادعي شاهدة على العلاقة الوثيقة بينه وبين الأساقفة الذين عينهم.

فسيفساء للإمبراطور جوستنيان وزوجته ثيودورا

توفي الحارث سنة 569 وقد حكم قرابة أربعين سنة وتوقف ذكره في المصادر الكنسية وبدأ ذكر ابنه الملك المنذر بن الحارث.

المنذر بن الحارث (569-581)

كان  أبو كرب المنذر بن الحارث كوالده قائدا عسكريا محنكا إلا أن علاقاته مع البيزنطيين لم تكن دوما موفقة فقد كتب الإمبراطور جوستيان رسالة في عزله وانفصل حكمه ثلاثة سنوات وانقطعت العلاقات بينه وبين البيزنطيين.  ولكن البيزنطيين تراجعوا عن موقفهم عندما أدركوا استحاله الدفاع عن مصالحهم ضد الهجمات الفارسية والمناذرية دونه، وقد وجدوا أنفسهم مضطرين لاسترضاء المنذر الغساني بأي ثمن (نولدكه: 1933) . وبالفعل استطاع هزيمة المناذرة بعدما عقد البيزنطيين الصلح معه في الرصافة عند قبر القديس سرجيوس.

النقش اليوناني المكتشف في كنيسة موقع تل العميري قرب العاصمة عمان. ويقرأ النقش بأن الكنيسة رصفت بالفسيفساء في عهد المنذر ولشفاعة القديس جاورجيوس

وفي عام 580 وصل المنذر بن الحارث إلى القسطنطينية وكان رأسه مزينا بالتاج المُهدى إليه من الإمبراطور البيزنطي تيباريوس وهو أمر لم يحصل للملوك الأردنيين الغساسنة من قبله حيث كانوا جميعا يلبسون الإكليل فقط (شهيد: 1995)

ورغم العلاقات الحسنة التي أنشأها المنذر مع تيبريوس إلا أنها ضعفت عقب واقعة شهيرة. فعندما تقدمت القوات الغسانية والقوات البيزنطية لمحاربة الفرس وجدوا جسر نهر الفرات مقطوعا فاتهمه البيزنطيون بالخيانة والتآمر مع الفرس. طلب بعدها البيزنطيون الصلح فقعدوا معاهدة صلح عند قبر القديس سرجيوس في الرصافة في العراق. لم يدم هذا الحال كثيرا،  فقد حاول المنذر الغساني إعادة توطيد العلاقات مع البيزنطيين بشن حرب أخرى على المناذرة، فاتهمه البيزنطيون بتحدي الإمبراطورية والكنيسة.

وفي أثناء حضور المنذر الغساني لافتتاح كنيسة جديدة، اعتقله البيزنطيون ونقلوه إلى القسطنطينية ومن ثم نُفي إلى جزيرة صقلية هو وعائلته وكان قد حكم 13 سنة تقريبا.

 

النعمان بن المنذر

غضب أبناء المنذر، الملك الذي تم نفيه، وقادوا تحت حكم ابنه الأكبر النعمان حربا ضد الحامية البيزنطية في بصرى وغنموا منها غنائم عظيمة واضطروا الحامية لأن تتخلى عن ذخائرها الحربية وقد كانت ثاني أكبر حامية عسكرية بعد حامية دمشق (نولدكه: 1933) وليس من المعروف كم بقيت المملكة على هذا الحال إلا أنه يرجح أن الأمور بقيت هكذا لوقت طويل. في النهاية، خطط البيزنطيون لحيلة أوقعت النعمان، فقد طلبوا منه القدوم إلى العاصمة أنطاكية للصلح ومن ثم قبضوا عليه وحبسوه ونفوه إلى صقلية عند والده.

بعد سجن المنذر والنعمان دعت الحاجة للاجتماع تحت راية قائد أردني غساني جديد وكان الحارث الأصغر بن الحارث بن جبلة وأخ المنذر بن الحارث هو القائد الجديد. وعقبه عدة ملوك  آخرين ولكن حكمهم كان أكثر محلية ولم تتوافر المعلومات الكثيرة عن حقبتهم، سوى ما سجّله المؤرخ الألماني نولدكه عبر استخلاصه أسماء الملوك اللاحقين من الشعر العربي القديم وقد وجد عبر تحقيقه التاريخي ستة أسماء لملوك أردنيين غساسنة: الحارث الأصغر بن الحارث الأكبر، الحارث الأعرج بن الحارث الأصغر، أبو حجر النعمان: حكم 583- 614 م. ، عمرو، حجر بن النعمان، جبلة بن الأيهم،  حكم سنة 635م.

ومن المتفق عليه أن جبلة بن الأيهم هو آخر حاكم أردني غساني فِعْلي، اذ انتهى حُكمه بعد أن انفضت عنه القبائل الأردنية وهزمته بعد قتالها إلى جانب جيش خالد بن الوليد في معركة اليرموك عام 363 وقد رحل للقسطنطينية ومات هناك.

غادرت الأسرة الغسانية الحاكمة المشهد السياسي في الأردن كأسرة مالكة وانخرط أفرادها في المجتمع وفي الدولة الأموية من بعد ذلك، ويقول المؤرخون أن الفرع الحاكم من الغساسنة قد تفرقوا من بعد نفي المنذر فبعضهم انضم للفرس وبعضهم انتخب كحاكم محلي وبعضهم انسحب من المشهد السياسي والديني.

الخاتمة

إنَّ المُلوكَ رُعاةُ النَّاسِ حينَ لهُمْ … ما كانَ في الأرضِ من عِزٍّ وسُلطانِ

كُنْ خيرَ راع إذا استرعاكَ ربُّهمُ … إياهُمُ ولنا كُنْ خَيرَ ما ثانِ[1]

يلخص الملك والشاعر الأردني الحارث الأعرج، سادس ملوك الغساسنة، رؤية الحُكم لدى أسرة الأردنيين الغساسنة التي حكمت الأردن لمدة 4 قرون، وبالطبع لو انفضاض عقدها الاجتماعي مع القبائل الأردنية وفُقدانها للشرعية السياسية مع الوقت لاستطاعت أن تحكم البلاد لفترة أطول.

المراجع

  • العيسي، سالم (2007) تاريخ الغساسنة، ط1، دار النمير. دمشق: سورية
  • نولدكه (1933)، أمراء غسان من آل جفنة، المطبعة الكاثوليكية، بيروت: لبنان
  • Shahid, I. Byzantine and Arabs in the sixth century, Political and Military music (1995), VOL1, P1, Dumbarton Oaks, Harvard University.

[1] المصدر: الشعر في بلاط الغساسنة، الهزاع (1994) ص 153

الأردنيون الغساسنة: الملوك والنظام

المقدمة

استعرضنا في أبحاثنا السابقة من سلسلة الأردنيين الغساسنة جوانب مهمة من تاريخ وحضارة المملكة الأردنية الغسانية التي انطلقت من حوران الأردنية وتمركزت لاحقا في البلقاء. وفي هذا البحث نستكمل الحديث عن جانب مهم من جوانب الحضارة الأردنية الغسانية وهو جانب العمران.

لم يغفل الأردنيون الغساسنة عن التفنن في المعمار، فاقتبسوا الطرز البيزنطية ومزجوها مع الطرز الفارسية. وغالبا ما تركزت بناهم حول الكنائس والأديرة والمجامع الرهبانية. يتميز العمران الغساني الأردني بالفسيفساء، الفن الأردني الخالص الذي نراه جليا في الكنائس الأردنية.

أولا: المصادر الدينية

ساهمت الأديرة التي انتشرت في كل مناطق مملكة الأردنيين الغساسنة في عدة أمور أهمها “رسالة رؤساء الأديرة العرب” المكتوبة 570 ميلادي. فصحيح أن كل الأديرة كانت ذات عمران متميز، ومساحات زراعية واسعة ساهمت، بحسب الباحثين، في النهضة الزراعية والتجارية للبلاد، إلا أن الوثائق التي تركتها لنا الأديرة هي الكنز الثمين الذي سنتتبّع من خلالها طبوغرافية مملكة الأردنيين الغساسنة، وأماكن توزع الأديرة والكنائس.

وبالعودة لأهم وثيقة دينية حصلنا عليها، تُعد وثيقة رؤساء الأديرة العرب نصا دينيا يمثل جوهر الإيمان الأرثوذكسي (المونوفيزي) (خلف:2008) فالأردنيون الغساسنة كانوا مسيحيين على المذهب الذي يؤمن بالطبيعة الواحدة للمسيح وكانوا مخلصين دافعوا طوال الأربع قرون عن حريتهم في ممارسة تعاليم مذهبهم. ويُرجع مؤرخو الكنيسة الفضل للملك الأردني الحارث بن جبلة لعدم ضياع هذا المذهب.

تكمن أهمية هذه الوثيقة بكونها تحمل توقيع 137 رجل دين، أغلبهم من رتبة الأرشمندريت (رئيس دير) وعدد قليل من الشمامسة والكهنة. (خلف: 2008)

تمنحنا هذه التواقيع تأكيدا على أن الأردنيين الغساسنة عرفوا اليونانية إلى جانب السريانية والعربية. فهناك 18 قس وقعوا باليونانية و34 وقعوا بالسريانية وواحد لا يجيد الكتابة وأكثر من خمسين وقعوا بالنيابة (خلف: 2008) وكان التوقيع الشخصي يرفق باسم الدير وموقعه.

ثانيا: البناء على طول خط التجارة

خريطة الطريق العربي الغربي وهو طريق تجاري استحدثه الأردنيون الغساسنة وكانوا مسؤولين عن حمايته. المصدر:
Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

كنّا قد تناولنا في بحث منفصل عن طرق التجارة الأردنية الغسانية كيف عمل الأردنيون الغساسنة على استحداث ثلاثة طرق تجارية جديدة متفرعة عن طريق الحرير التجاري الرئيس. كانت الطرق الأردنية الثلاثة (طريق وادي السرحان – الطريق البحري – الطريق العربي) تمر بأهم المدن والحواضر الأردنية وقد دعت الحاجة حينها لبناء الأديرة على طول هذه الطرق. ونتيجة لهذا الامتداد التجاري الواسع إضافة لكون الأردنيين الغساسنة يضطلعون بمهمة حماية القوافل التجارية وتأمينها؛ اتصفت الأديرة على طول هذه الخطوط بأنه أشبه ما تكون بقلاع منيعة مسورة وأبراج عالية للمراقبة. (خلف: 2008)

ثالثا: الأديرة الغسانية

إن كانت تلك المدن والحواضر قد اندثرت آثارها اليوم فهي مذكورة في الوثيقة الرسمية التي ترجمت من السريانية إلى اللاتينية من ثم إلى العربية، ولو اختلف رسم الأسماء بشكل أو بآخر كان من السهل أن نتتبع مواقع الأديرة الأردنية الغسانية وذلك لأن كثير من المدن والقرى الأردنية لا زالت تحمل اسمها من العهد الأردني الغساني وحتى الآن. وسنستعرض تاليا أسماء الأديرة في المدن والقرى الأردنية التي وقع رؤساؤها على وثيقة “رؤساء الأديرة العرب”

طورا حرثا (دير جبل الحارث)

آثار قويلبة “أبيلا” في حرثا إحدى مدن الديكابولس الأردنية

تكريما للملك الأردني الغساني الحارث بن جبلة، سميت منطقة حرثا باسمه، أما طورا حرثا فهي الاسم السرياني لدير جبل الحارث. (خلف: 2008) ويعتقد أن هذه المدينة امتدت بشكل واسع شمالا في سهول حوران الأردنية.

وحرثا اليوم قرية في أقصى شمال الأردن وتتبع للواء بني كنانة. وتحوي واحدة من أهم مدن حلف الديكابولس الأردنية: مدينة أبيلا أو كما تسمى اليوم (قويلبة).  وبحسب الأبحاث والدراسات المستمرة على المنطقة يُعتقد بأنّ المدينة الحالية مبنية على مدينة كاملة مدفونة.

حريمايا (حوش حريمة – دير حريمايا)

سهول حريما الخضراء

تعني حريمايا الدير المقدس. وقد وقع رئيس ديرها القس جرجس على الوثيقة. وحريما اليوم قرية أردنية تبعد 10 كلم شمال مدينة إربد وتتبع للواء بني كنانة.

عقربا (دير مار اسطفانوس دير الأباتي تيطس)

عقربا المطلة على نهر اليرموك

ديرين في مدينة واحدة، فلا بد أن تكون عقربا ذات أهمية ومكانة خاصة لتحوي ديرين بحسب الوثيقة. أما اسمها “عقربا” فهي صيغة آرامية لكلمة “عقرب” العربية. (خلف: 2008) وهي اليوم إحدى قرى الكفارات في إربد تطل على نهر اليرموك وتتبع إداريا للواء بني كنانة .

حوارة (دير برج حوارة)

لافتة بلدة حوارة في إربد

وقع على الوثيقة القس مار بولس رئيس دير برجا حوارة (برج حوارة). وحوارة اليوم مدينة أردنية عامرة تبعد 4 كلم شرق مدينة إربد.

 جديراثا (دير جديراثا)

إطلالة على آثار أم قيس

جديرا أو جدارا، مدينة أم قيس الشهيرة بآثارها. جدارا إحدى مدن الديكابولس الأردنية وتقع في الشمال. تحتوي على كنيسة قديمة، وقع عن الدير فيها (يوحنا) بالنيابة عن القس مار إيليا رئيس الدير. (خلف: 2008)

كفر جوزا (دير كفر جوزا)

سهول كفر جايز الخضراء

لا توجد قرية أو مدينة تسمى حرفيا بمثل هذا الاسم ولكن من الأرجح أنه قد تم تحويره ليصبح “كفر جايز” وهي حاليا قرية من قرى شمال غرب إربد. وقد وقع بالنيابة الشماس أيوب رئيس دير كفر جوزا.

عين جرا (دير عين جرا)

يُرجح أن عين جرا هي الاسم الأصلي لعنجرة وهي بلدة أردنية تقع في لواء قصبة عجلون. وقد وقع الشماس بولس على وثيقة رؤساء الأديرة العرب بالنيابة عن الدير فيها.

دير كيفا

تحمل اسم كيفا قرية “كفر كيفيا” في إربد. وكيفا كلمة سريانية تعني الصخرة وهي اسم لبطرس الرسول. (خلف: 2008) والقرية مشتهرة بآثارها القديمة ويرجح أن الدير كان موجودا ولكنه اندثر.

أفا (أيوبا -دير أيوبا)

أفا كلمة سريانية وعند كتابتها بالعربية تقلب الفاء باء.  وتحمل “كفر يوبا” اسما قريبا معدلا عن “ايوبا”. وهي  قرية أردنية تعد من أكبر قرى إربد وتبعد عن الوسط 3 كلم. وقد وقع على الوثيقة القس نطيرو رئيس دير أيوبا.

غسانيا (دير غسانيا)

أما في سهول حوران الأردنية فيمتد تل غسان الذي سمي نسبة للغساسنة الأردنيين وفي الموقع مغاور وكهوف تعود للعصر النبطي والروماني والغساني إضافة لبقايا معاصر عنب وزيتون وبرك مياه وقنوات وآثار طرق قديمة (خلف:2008)، ولكن لا أثر للدير فيعتقد أنه تهدم بفعل عوامل الزمن واندثر ولكن آثار الموقع تدلل على أهميته. وقد وقع القس يوحنا رئيس دير غسانيا بالنيابة عن مار إيليا رئيس الدير.

بهذا نكون قد استعرضنا الأديرة المذكورة وفقا لوثيقة رؤساء الأديرة العرب السريانية. ويدل هذا الانتشار الكثيف للأديرة على أهمية المواقع التي بنيت فيها وعلى ازدهار العمران الديني لدى الأردنيين الغساسنة.

رابعا: الكنائس

كنيسة القديس سرجيوس في الجابية

الجابية عاصمة الأردنيين الغساسنة الأولى ومن المفترض أن تحوي عدة كنائس ولكن وثيقة رؤساء الأديرة العرب لم تذكر سوى كنيسة واحدة تدعى كنيسة القديس سيرجيوس أو سرجس (شهيد: 2002) وهي كنيسة بنيت لتمجيد ذكرى الشهيد القديس سرجس أو سركيس شفيع الغساسنة والذي تتوسط أيقونته الشعار الحربي للأردنيين الغساسنة.

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

كنيسة بيت غسان

يصلنا ذكر هذه الكنيسة من كتابة “الإصابة في تمييز الصحابة” لكاتبه العسقلاني وفيه يذكر “ابن أرطبان” ويزيد على أن أرطبان ” هو شماس كنيسة بيت غسان” ولا تذكر مصادر أخرى هذه الكنيسة (شهيد: 2002)

كنيسة يوحنا المعمدان

يدلنا نقش ثنائي اللغة وجد في حرّان (منطقة في سهول حوران الأردنية) على وجود كنيسة بناها “شراحيل بن ظالم” لتمجيد القديس يوحنا المعمدان عام 463. ويمنحنا هذا النقش تصورا عن طبيعة الحكم لدى الغساسنة حيث من الواضح أن شراحيل كان فيلارخا (أي أميرا) غسانيا ولكنه غير مذكور خارج هذا النقش ولا في أي مصدر آخر. (شهيد: 2002)

كنيسة نجران

يذكر معجم البلدان وجود عدة مناطق تحمل اسم نجران واحدة في سهول حوران الأردنية والثانية في جنوب الجزيرة العربية. والأرجح أن الكنيسة المقصودة هي في نجران حوران الأردنية. كان أهالي نجران يعتنقون ذات المذهب المسيحي الذي يعتنقه الأردنيون الغساسنة ولذلك نشأت روابط قوية بينهما (شهيد:2002)  ذكر ياقوت الحموي  وجود “بيت” أي كنيسة في نجران وقد مدح جمال هذه الكنيسة وروعة مذبحها، فيقول هي بيعة عظيمة عامرة حسنة مبنية على العمد الرخام منمّقة بالفسيفساء وهو موضع مبارك[1]

كنائس جلق

جلق مدينة من مدن حوران الأردنية – تقع في الأراضي السورية حاليّا- وكانت بمثابة عاصمة أخرى من عواصم الأردنيين الغساسنة ويأتي ذكر كنائس جلق من شعر يزيد بن معاوية حيث يقول واصفا محبوبته بأنها تبيت في “بِيَع جمع بيعة وهي الكنيسة”  ويصفها بأن ذات قباب ويحفها الزيتون (شهيد: 2002)

نزهة حتى إذا بلغت … نزلت من جلق بيعا

في قباب وسط دسكرة … حولها الزيتون قد ينعا [2]

كنائس حوارين (إيفاريا)

حوارين قرية من قرى سهول حوران الأردنية وكانت تسمى إيفاريا. ومن المؤكد أن إيفاريا احتوت على كنيسة واحدة على الأقل بدلالة أن القس يوحنا (519) قس إيفاريا كان من أوائل القساوسة عند الأردنيين الغساسنة. كما تذكر المصادر أن المنذر ذهب لإيفاريا لافتتاح كنيسة  (شهيد: 2002)

كنيسة تل العميري

النقش اليوناني المكتشف في كنيسة موقع تل العميري

كشفت التنقيبات في موقع  تل العميري عن كنيسة أثرية تعود للعهد الغساني. موقع تل العميري أحد المواقع الأثرية الشهيرة ويقع قرب منتزه عمّان القومي في العاصمة وهو منطقة مأهولة بالبشر منذ العصر الحجري. يذكر النقش الذي تم اكتشافه أنه تم رصف مقام القديس سرجيوس ( سركيس)، شفيع الأردنيين الغساسنة بالفسيفساء، وبأن هذا العمل مهدى للملك الأردني الغساني المنذر بن الحارث. ويخلد النقش أيضا بناء الكنيسة التي تم التنقيب عن آثارها حديثا ليتم الكشف عن صحنها وخزان ماء وعدة مرفقات أخرى.

صورة جوية لكنيسة تل العميري الأردنية الغسانية

ترجمة النص عن اليونانية: “يا رب ، تقبل قربان المتبرع صاحب الكتابة ، عبدك موسيليوس و أبناءه
يا رب يسوع المسيح ، إله القديس سرجيوس ، احمي القائد بالغ التعظيم المنذر
يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك أوزيبيوس وأبناءه!
يا إله القديس سرجيوس ، بارك ابنك يوانيس مع زوجته وأولاده!
يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك عبد الله وديونيسيوس و [- – -]!
في عهد الأسقف بوليوكتوس ، المحبوب من الله ، تم رصف هذا الضريح للشهيد القديس سرجيوس بالفسيفساء بسعي من ماري ، ابن ربوس ، الكاهن الأكثر تقوى ، وجورجيوس الشماس ، وسابينوس وماريا. في شهر أبريل في وقت [..].” [3]

إشكاليات تاريخية

طرح العديد من الباحثين في علوم الآثار قضية أن الآثار والقصور الأموية تعود في الحقيقة للأردنيين الغساسنة. تم الاستدلال على هذه الفكرة بأسلوب المعمار والزخارف والرسوم التي تزين القصور. ومن المعلوم أن العادة جرت على تحويل المباني إلى اسم ودين الحاكم الجديد. فالمعابد الوثنية تم تحويلها لكنائس عند تحول الإمبراطورية الرومانية للمسيحية، والكنائس المسيحية تم تحويل الكثير منها لمساجد عند سيطرة الحكم الإسلامي عليها.

قصر المشتى أحد أهم القصور في البادية الأردنية

قصر المشتى أحد أهم القصور الصحراوية في الأردن والشهير بالواجهة المزخرفة التي قام الاحتلال العثماني بنزعها واهدائها للقيصر الألماني تماشياً مع سلوك ادارة المزرعة بتلك الحقبة المظلمة من تاريخ الأردن، ما زال هذا القصر يثير الجدل إلى الآن. فيرى المؤرخان كبرنوف ونودلكه أن القصر غساني ويعود للقرن السادس الميلادي، أما سترزغوتسكي  فيرى أنه يعود للقرن الثالث أو الرابع الميلادي، وجانسن وسيرغناك يقولان بأنه غساني أو لخمي (مناذري).

يواجه الباحثون قضية أخرى متعلقة بكل الآثار الرومانية المبنية ضمن حقبة حكم الأردنيين الغساسنة. فالمدرج الروماني والكنائس البيزنطية ككنيسة الخارطة في مادبا، كل الآثار التي بنيت على أرض الأردن في تلك الفترة تطرح سؤالا مهما. وقد ثبت أن الأردنيين بمختلف تنوعهم السكاني (القبائل الأردنية في البادية والحضر – إدوميين – أنباط – غساسنة … الخ) قد بنوا هذه المباني والآثار فلماذا ما زالت تُنسب حتى الآن إلى الرومان أو البيزنطيين والأمويين أحيانا أخرى؟

خارطة مادبا الفسيفسائية

من المتعارف عليه أن المناطق الواقعة تحت النفوذ الروماني ستتبع الأسلوب الروماني في البناء، وفي أفضل الحالات سيؤدي التلاقح الحضاري لاقتباس بعض السمات المعمارية كما هو الحال مع الخزنة في البترا المبينة على الطراز الروماني. وعلى هذا، صحيح أن المدرجات والكنائس الأردنية القديمة مبنية على الطراز الروماني إلا أنها وبكل تأكيد بنيت بأيد أردنية، وباتت تستحق استعادة هذا النسب وإعادة تدقيق الوصف والمُسمى الأثري والتاريخي لها.

الخاتمة

استعرضنا في هذا البحث المصادر التي اعتمدنا عليها في تتبع الأديرة والكنائس الأردنية الغسانية. الكثير من العمران يثبت مدى التفوق والرقي والاهتمام الكبير الذي أولاه الأردنيون الغساسنة لهذا الجانب الثقافي من حضارتهم التي امتدت لأربعة قرون.

المراجع

  • Shahid, (1995) Byzantium and the Arab in sixth century, VOL.2, Part 1, the Toponymy, monuments and historical geography, Dumbarton Oaks Research library: Washington D.C
  • خلف، تيسير، كنيسة العرب المنسية (2008) دار التكوين، دمشق: سوريا
  • واجهة قصر المشتى.. تحفة فنية أردنية في برلين، صحيفة الدستور، نوفمبر 2015

[1] ياقوت الحموي، معجم البلدان الجزء الخامس، الصفحة 270

[2]  السيوطي، تاريخ الخلفاء، الجزء الأول، ص 159

[3] حقوق الترجمة محفوظة للباحث تيسير خلف.

العمران الأردني الغساني

مقدمة

تحّدثنا في بحثنا  السابق “الدين عند الأردنيين الغساسنة: مدخل عام” عن الحالة الدينية السائدة في الأردن وما حولها. وعن الثلاث طوائف مسيحية التي تشاركت الوجود ككيانات دينية وسياسية منفصلة. فالغساسنة مونوفيزيون والبيزنطيون ميافيزيون أما المناذرة فاعتنقوا النسطورية. ورغم أننا ربطنا في البحث الأول الدين بالأحداث والمجريات السياسية كان لا بد لنا من وقفة على الآثار الاجتماعية والحضارية للمسيحية عند الأردنيين الغساسنة.

مسيحية الغساسنة

في القرون الميلادية الأولى، كانت الإمبراطورية الرومانية تمارس اضطهادها الديني على المؤمنين بالمسيحية عدا عن الظلم والاستبداد ومحاولات فرض الولاية والسيطرة بالقوة. في تلك الأثناء خرجت من رحم الصحراء الأردنية الشرقية الملكة ماوية، قادت القبائل الأردنية وأغارت على الحاميات الرومانية في الأردن ولبنان وسورية وفلسطين وحتى مصر. أرعبت قوة الملكة وجيوشها الأردنية القوات الرومانية فاضطروا لعقد صلح معها.

تصوير كنسي للملكة الأردنية المحاربة ماوية

اعتنقت الملكة المحاربة المسيحية على يد القديس يعقوب البرادعي وكانت أولى شروطها أن يتولى القديس البرادعي أسقفية القبائل الأردنية وتلاه صديقه القديس ثيودور وتولى الجزء الغربي من الأردن بالتعاون مع الأردنيين الغساسنة. سرعان ما انتشر المذهب اليعقوبي (نسبة ليعقوب البرادعي) في المنطقة فاعتنق المذهب معظم الأردنيين في سهول حوران الأردنية والبلقاء وما حولها.  تمسك الغساسنة بشدة بهذا المذهب ودافعوا عنه بغيرة وإباء أمام محاولات الإمبراطورية البيزنطية لتحويلهم عنه.

صورة للقس البرادعي الذي عينته الملكة ماوية وكان مسؤولا عن المذهب المونوفيزي في الشرق

يورد الباحث تيسير خلف ترجمة لرسالة بعثها الملك الغساني الحارث بن جبلة إلى القديس يعقوب البرادعي يناقش فيها آخر انتصاراته :

رسالة البطريق الأمجد “الحارث بن جبلة ” للقديس يعقوب البرادعي

أود أن أعلمكم يا صاحب الغبطة أن الله والقديسة مريم باركا سفري وغمراني بنعمة النجاح في ما عزمت عليه من أعمال، وعندما كنت استعد لمغادرة العاصمة حدثني الأسقف مار بولس رئيس الدير الكبير(الأرشمندريت) بالأمر الذي سبق أن ناقشه معك، والذي كتب بخصوصه إليك. وقال لي إنه أرسل لك ثلاث رسائل بهذا الشأن، وأود أن أخبر غبطتكم أنه إذا لم تستطيعوا إرسال الرسائل والأشخاص المكلفين بتنفيذ ما أمرتم به، أو إذا منعتكم الظروف من الحضور إلينا، بإمكانكم إرسال الرجال المعنيين محملين بالرسائل، وأطلب من الله أن يساعدني على إنجاز الأمور حسب إرادته، ولهذا يجب اختيار الأشخاص المؤهلين لهذه المهمة”[1].

وتتوضح العلاقة القوية بين القديس البرادعي وأهم ملوك الأردنيين الغساسنة الحارث بن جبلة في هذه الرسالة. إذن، من عند الملكة الأردنية ماوية بدأت الحكاية ولكن في ذات الوقت الذي كانت الملكة ماوية تغذ الخُطا بشجاعة نحو القوات الرومانية، وُجد قديسون آخرون، كانوا ملهمين وحاضرين في الوجدان الغساني كرموز دينية لا تُنسى.

وقد كانت الممالك المسيحية الثلاث (الغسانية الأردنية والمناذرية والنجرانية) تتبارى في تكريس جهودها للحفاظ على مذاهبها ونظامها الكنسي وكان الأردنيون الغساسنة يتصدرون المقدمة حيث أن المناذرة اعتنقوا المسيحية في وقت متأخر من القرن السادس ميلادي بينما كانت نجران مدينة صغيرة معرضة لتهديد مستمر ممّن حولها حتى الوقت الذي انضوت فيه تحت الراية الغسانية.

التعاليم والطقوس

امتاز الأردنيون الغساسنة بإحساسهم الديني الحار، فتعج المصادر والتقاويم الكنسية باحتفالاتهم وأعيادهم وأيام صومهم. كان الغساسنة يعظمون الصيام إذ صاموا الصيام الكبير(أربعين يوما) إضافة لأيام العذراء مريم. ويذكر الأب قاشا في كتابه “صفحات من تاريخ المسيحيين العرب قبل الإسلام” أن الكنائس كثرت في بلاد الغساسنة وأن صوت أجراس الكنائس كان يتردد في كل مكان وعليه يورد بعض الأشعار التي تغنى فيها الأدباء بصوت نواقيس كنائس بلاد غسان:

حنت قلوصي بها والليل مطرق

بعد الهدوّ[2] وشاقتها النواقيسُ[3]

ومما ذكر في الشعر العربي القديم عن احتفالات الأردنيين المسيحيين بعيد الفصح قول حسان بن ثابت:

قد دنا الفصح فالولائد ينظمن

سراعا أكلة المرجــان

يتبارين في الدعاء إلى الله

وكل الدعاء للشيطان  (أي كل الدعاء واللعنات على الشيطان )

 ذلك معنى لآل جفنة[4] في الدير

وحق تصرّف الأزمان

صلوات المسيح في ذلك الدير

دعاء القسيس والرهبان[5]

وفي عيد الشعانين[6] الذي كانوا يسمونه “يوم السباسب[7]” أنشد النابغة الذبياني واصفا الأردنيين الغساسنة أثناء احتفالهم:

رقاق النعال طيب حجزاتهم

يحيون بالريحان يوم السباسب

ومن الأعياد الأخرى التي تذكرها كتب التاريخ القديمة، عيد “السُبّار” وهو عيد تبشير جبريل (ع ) للسيدة مريم (ع) بحملها بالمسيح (ع). وعيد “القلنداس” وهو عيد الأسبوع الأول بعد ولادة السيد المسيح (ع). وعيد “الدِنح” وهو عيد ظهور السيد المسيح (ع) لبني إسرائيل. وعيد “السُلاق” وهو يوم تسلق المسيح إلى السماء.

ومن شدة اهتمام الأردنيين الغساسنة بهذه الأعياد الدينية كانوا يحيكون لها ملابسا خاصة. فعرف عندهم ثوب ” الإضريح” وهو ثوب من قماش خاص مصنوع من صوف الماعز يلون باللونين الأحمر أو الأصفر (قاشا: 2005)

الرهبنة عند الغساسنة

كان النظام الكنسي الذي أسّسه وحافظ عليه الغساسنة نظاما يتماشى مع الأسس العامة للديانة المسيحية. فقد أنشأوا كما أسلفنا الأديرة والكنائس وكان الراهب يعيش حياته محتذيا بالمسيح (ع) ويهبها لفعل الخيرات والعبادة.

ولا تختلف التقاليد التي اتبعها مسيحيو الأردن من الغساسنة عن التي يتبعها مسيحو اليوم. فقد تولّى الراهب أو الأسقف تقاليد الاعتراف، وحفلات العماد والزواج والتكريسات الدينية والقداس.

كما اهتم الأردنيون الغساسنة ببناء الأديرة والبِيَع (جمع البِيعة وهي الكنيسة) ليس فقط في الأردن وسوريا إنما وصلوا إلى مصر. فيذكر أنهم عقب انتصارهم على المناذرة عام 554 أعادوا بناء كنيسة سانت كاترين الواقعة على جبل في سيناء.

صورة حديثة لدير سانت كاترين في سيناء، والدير مبني على أنقاض كنيسة جددها الأردنيون الغاسسنة واعتنوا بها

عرف الرهبان الغساسنة عدة أنماط سكنية، ظل بعضها صامدا على أرض وطننا الأردن حتى الآن. يعدُّ البرج أو “الأسطوانة” من أبرز المباني الدينية عند الرهبان الأردنيين الغساسنة. يحوي موقع أم الرصاص الأثري أقدم برج من هذا النوع، وهو الوحيد الذي صمد رغم الزلازل التي ألمّت بالمنطقة. في تلك الفترة انتشرت ظاهرة التعبد عبر الخلوة والانقطاع عن الأمور الدنيوية وقد بني البرج لخدمة هذا الهدف فهو في تجمع كنسي محاط بحصن وبارتفاع 15 متر. وكان القديس سمعان العمودي هو من بدأ هذه الطريقة في الرهبنة وسميت فيما بعد الرهبنة العمودية.

البرج أو الأسطوانة الباقية في مجمع كنائس أم الرصاص في الأردن

ومن المباني الدينية الأخرى التي اشتهرت هي “الأُكيراح” وهي مبان لاحتفال الرهبان بالأعياد الدينية. وهنالك “التامور أو التأمور” وهو مبنى منعزل للتعبد. و”الدير” و”الصرح” و”الركح” و”الصومعة” “والطربال” و”العُمر” و”القلاية” و”القوس” و”الكرح” و”الناموس” وقد ذكرت كل هذه المباني ذكرا في الأدبيات القديمة دون الوصول لآثار حقيقية ملموسة لها. (شيخو: 2011)

القديسون والأساقفة

منذ القدم، ترسخت في نفوس أبناء الأردن الحرية والصمود وقول كلمة الحق أمام الظلم والطغيان. في سيرة القديسين والشهداء المسيحيين الأردنيين الغساسنة أمثلة لا تضاهى. فهنالك شهداء وادي فينان وشهداء فيلادلفيا يوليانوس وإفبولوس وملكامون وغيرهم. ومن البترا نجد تمجيدا للقديس أثينوجينوس وأمه الناسكة ذامياني والقديس بولس أسقف رايثو، البترا. والقديس زكا الشماس وهو من أم قيس. والقديس بطرس من بيت راس والقديس جراسيموس الأردني. لا يمكن لنا أن نلمّ بكل شهداء الأردن في العصر الغساني الذي شهد اضطهادا دينيا واسع المدى، ولكننا نمجد بالطبع ذكرى هؤلاء الشهداء بوصفهم شهداء وطن، ومدافعين أصيلين عن حرية الرأي والاعتقاد المنسجمة بالفطرة مع جوهر الروح الأردنية.

القديس جراسيموس الأردني

تذكر المصادر التاريخية العديد من القديسين والأساقفة بتفصيل أكبر متناولة حياتهم ومساهماتهم وقصصهم. وفيما يلي استعراض لأهم القديسين في عهد الأردنيين الغساسنة.

القديس إليان العمّاني 

تصوير للقديس إيليان العمّاني

من فيلادلفيا انطلقت تمجيدات القديس الأردني إيليان العمّاني الذي استشهد بعد رفضه تقديم القربان للإله خرونس في جرش. كان للقديس العمّاني دكان قرب كنيسة جرش يحيك فيها الثياب وعندما بدأ الإمبراطور ماكسيموس (245- 313) بجمع الناس لاضطهادهم وإجبارهم على تقديم القرابين كان القديس من ضمنهم ورفض ذلك فقيّدوه، وتذكر الروايات الدينية عدة معجزات على تحرر القديس من قيوده وعلى نطق الوثن أمامه. استشهد القديس في الثامن والعشرين من تشرين الثاني حافرا اسمه في سجل شهداء الأردن المبجّلين. [8]

 

القديسان زينون وزيناس

(القديسان زينون وزيناس، من رسم جداري في كنيسة الراعي الصالح في مركز سيدة السلام، عمان، الأردن)

في عهد الإمبراطور ميكسيمانوس الذي أمعن في الاضطهاد الديني وفي منطقة زيزياء جنوب عمان، وقف زينون أمام ظلم الإمبراطور وإجباره للشعب على الوثنية. أما زيناس فهو خادم وتلميذ زينون وقد عذبا بطريقة وحشية ونالا “إكليل الشهادة والخلود” سويا. سطر القديسان مثالا في القوة والصمود يحتذي به الأردنيون حتى اليوم. [9]

تصوير آخر للقديسين زينون وزيناس

الأسقف  ثيودور (540-570)

الأسقف ثيودور هو أحد الأساقفة الأكثر شهرة، فقد تولى أسقفية المملكة الغسانية في أوج ازدهارها في عهد الحارث بن جبلة. كان الأسقف ثيودور صديقا للقديس يعقوب البرادعي الذي ولته الملكة الأردنية ماوية على مسيحيي البادية الأردنية وما حولها. بشّر ثيودور بالمذهب اليعقوبي المونوفيزي وكان يبعث بالرسائل إلى شيوخ وملوك الحواضر والمدن الأخرى. وكان ملتزما بحضور المجامع الدينية الكنسية للتوفيق بين المذاهب المسيحية ، كما لعب دورا حاسما في حركة الثالوثية التي حاربت المذاهب التي ترفض الطبيعة الإلهية للمسيح.

ناقشت العديد من الكتب السريانية اللاتينية والآرامية حياة الأسقف ثيودور بشيء كبير من التفصيل ومؤخرا ترجمت بعض الرسائل التي كتبها هو أو كتبت له نقلا عن السريانية والآرامية، وتعد الرسالة التي بعثها الملك الغساني الحارث بن جبلة إلى القس يعقوب البرادعي من أهم الرسائل التي تذكر حكمة ومكانة القس ثيودور:

وفي هذه المناسبة، أبلغ غبطتكم عن موضوع آخر، وهو أن طيّب الذكر ثيودور بابا الإسكندرية تفضّل وتحدث معي حول موضوع مار بولس رئيس الدير الكبير (الأرشمندريت)، فكنت في غاية السرور، و حمدت الله فقد تحدثت معه وجهاً لوجه واستفدت منه كثيراً، وبتنفيذي للأمور التي أمرتموني بها، أرجو أن أكون أهلاً لصلواته” [10]

القديسان سركيس وباخوس

شعار المملكة الغسانية وفي المنتصف أيقونة القديس الشهيد سركيس

على الشعار الحربي للقوات الغسانية نرى أيقونة رجل محاط بهالة نورانية؛ إنها أيقونة القديس سركيس أو سرجيوس. في القرن الثالث ولد القديسان سركيس وباخوس. في ذلك الوقت كانت الاضطرابات الدينية تسود المنطقة، المسيحية لا زالت دينا حديث الانتشار والإمبراطورية الرومانية تقوم بتعذيب معتنقيه بصورة بشعة ووحشية.

أيقونة قديمة للقديسين سركيس وباخوس وفي المنتصف ترتسم صورة المسيح- المصدر: وكيبيديا

أما القديسان فكانا في الجيش عندما امتنعا عن تقديم الأضاحي والقرابين للإله مركوري (المشتري) تبعا للتقاليد الوثنية في الإمبراطورية الرومانية وعندها اكتشف قائد الجيش اعتناقهما للمسيحية فعذبهما طويلا بغية جعلهما يرتدان عن المسيحية ولكنهما صمدا. استشهد القديس باخوس  في البداية وظل القديس سركيس يتعرض للاضطهاد حتى عرف القائد الروماني بأنه لن يرتد مهما فعل فقطع رأسه في مدينة الرصافة في العراق.

أيقونة تخيلية لمشهد استشهاد القديسين على يد القوات الرومانية- المصدر: موقع بطريركية أنطاكية

بنيت أول كنيسة لتكريم ذكراهما في سهول حوران الأردنية في مدينة الجابية عاصمة الغساسنة الأولى. وبنيت كنيسة أخرى في مدينة بُصرى في القرن السادس ميلادي. كذلك كنيسة أم الرصاص التي تسمى “كنيسة التوأم” لأنها كنيستين في كنيسة واحدة وقد بنيت في عهد الغساسنة في القرن السادس ميلادي تحديدا عام 586.

كنيسة القديس سرجيوس أو سركيس المبنية على أنقاض كنيسة غسانية قديمة. تحوي الكنيسة أقدم خارطة فسيفساء في العالم للأردن وفلسطين- أم الرصاص الأردن

 

ومن الكنائس الأردنية القديمة التي كرست للشفيع كنيسة أثرية في تل العميري، قرب منتزه عمّان القومي في العاصمة. وتل العميري منطقة مأهولة بالبشر منذ العصر الحجري، يذكر النقش اليوناني المكتشف هناك أنه تم رصف مقام القديس  سرجيوس (سركيس)، شفيع الأردنيين الغساسنة، بالفسيفساء وبأن هذا العمل مُهدى للملك الأردني الغساني المنذر بن الحارث. ويخلد النقش أيضا بناء الكنيسة التي تم التنقيب عن آثارها حديثا ليتم الكشف عن صحنها وخزان ماء وعدة مرفقات أخرى.

النقش اليوناني المكتشف في كنيسة موقع تل العميري

ترجمة النص عن اليونانية: “يا رب، تقبل قربان المتبرع صاحب الكتابة ، عبدك موسيليوس و أبناءه
يا رب يسوع المسيح ، إله القديس سرجيوس ، احمي القائد بالغ التعظيم المنذر
يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك أوزيبيوس وأبناءه!
يا إله القديس سرجيوس ، بارك ابنك يوانيس مع زوجته وأولاده!
يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك عبد الله وديونيسيوس و [- – -]!
في عهد الأسقف بوليوكتوس ، المحبوب من الله ، تم رصف هذا الضريح للشهيد القديس سرجيوس بالفسيفساء بسعي من ماري، ابن ربوس، الكاهن الأكثر تقوى، وجورجيوس الشماس، وسابينوس وماريا. في شهر أبريل في وقت [..].”

صورة جوية لموقع تل العميري الأثري

عظّم الأردنيون الغساسنة القديس سركيس كثيرا ووضعوا أيقونته على شعارهم الحربي. مثّل القديس الشهيد بالنسبة لهم “شفيعا” دينيا واستعانوا بذكراه للصمود أمام أعدائهم في الحروب. وتذكر المصادر التاريخية التي كتبها القساوسة باللاتينية أو السريانية أن ملوك الغساسنة وحتى المناذرة والفرس احترموا قبر الشهيد سركيس وكانوا يلتزمون بحضور القداسات والاحتفالات الدينية. ويقول الشاعر جرير واصفا ارتباط الأردنيين الغساسنة بذكرى القديس الشهيد:

يستنصرون بمار سرجيس وابنه

بعد الصليب ومالهم من ناصرِ[11]

لعب قبر القديس الشهيد في الرُّصافة دورا هاما في التاريخ السياسي الغساني. فعندما بدأت العلاقات الغسانية البيزنطية تأخذ منحى سيئا عقب موت الملك الغساني الحارث وتولي ابنه المنذر، كان قبر القديس المكان الذي اختاره المنذر الغساني لقبول طلب الصلح الذي قدمه البيزنطيون في القرن السادس.

القديسان قزمان ودميان

قصة القديسان قزمان ودميان إحدى القصص المؤثرة التي ظلت محفورة في ذاكرة الأردني الغساني. فقد ربتهما أمها ثاؤذتي الشهيدة على حب الخير فأصبحا طبيبان يعالجان الفقراء والمحتاجين بالمجان. استشهدا هما وأختيهما وأمهما على يد الإمبراطور دقلديانوس وكانت أول كنيسة تمجد لذكرى هذين الطبيبين في جرش، سنأتي على ذكر قصة القديسين لاحقا بشيء من التفصيل في فصل المرأة الغسانية والدين لأن ذكر القديسين اقترن دوما بقصة والدتهما الشهيدة ثاؤذتي.

إطلالة على كنيسة القديسين

القديس ( جاورجيوس ) 

القديس جرجس ( جاورجيوس ) رمز مسيحي مشهور حول العالم ولكن قصته لم تكن لتنطلق للعالمية لولا التمجيد الذي حظي به عند الأردنيين الغساسنة. يشابه في صفاته “الخضر” وله عدة كنائس ومقامات تنتشر في السلط وماحص ومادبا والكرك. لقصته وقع جميل ومؤثر في النفس فهو إحدى الشخصيات التي لاقت مصيرا مؤلما من العذاب والاضطهاد لأجل الدين. بصمود القديس جرجس أو “الخضر” آمن الكثيرون بالمسيحية ابتداءً بالعامة وصولا إلى زوجة الإمبراطور دقلديانوس نفسه.

رسم لاتيني للقديس جاورجيوس – الخضر

يحتفي الأردنيون في البلقاء (عاصمة الأردنيين الغساسنة) وما حولهما بالقديس جرجس أو جاورجيوس الذي منح الخلود عندما أنطق الوثن في المعبد  وقال بحسب المرويات ” لست أنا الإلهة الذي تعبد” وقد قتله الإمبراطور على إثر هذه المعجزة.

واجهة كنيسة الخضر في السلط

اهتم الأردنيون الغساسنة قديما في القديس جاورجيوس وكان حاضرا في أدبياتهم وأشعارهم وقد استمر الأردنيون حتى اليوم بتمجيده. بنيت لذكراه كنيسة السلط في القرن السابع عشر، وسمي على إثرها شارع الخضر الشهير في السلط إضافة لحي الخضر. أما في مأدبا، فبنيت كنيسة الخارطة في القرن التاسع عشر على أنقاض كنيسة غسانية قديمة تحوي أقدم وأكبر خارطة فسيفسائية في الأردن وفلسطين، بينما تحوي بلدة ماحص في محافظة البلقاء على مقام مسيحي إسلامي مشترك للخضر.

كنيسة الخارطة في مادبا

 

الفنون المسيحية الغسانية

إنه من المنصف أن نصف الحضارة الغسانية بأنها حضارة “فنيّة” فقد غلف الفن كل جوانب حياة الإنسان الأردني الغساني. وإن استطلعنا الكنائس التي بنيت في عهد الغساسنة نجدها على قدر عال من الجمال. ومن المؤكد أن هذه الكنائس التي تحوي خرائط  فسيفسائية عظيمة حوت تصاوير وأيقونات ملوّنة للقديسين والشهداء قد بنيت كلها بأيدي الحرفيين الفنيين الغساسنة الذين أبدعوا في هذه الفنون.

جزء من خارطة فسيفساء كنيسة القديس جورجيوس ويظهر فيها نهر الأردن

المرأة الغسانية والدين

آمن الغساسنة بالمسيحية وكانوا مخلصين لمذهبهم، فكما ناقشنا في بداية البحث، اعتنقوا المذهب المونوفيزي بتأثير من الملكة الأردنية ماوية التي فعلت الكثير لتثبيت هذا المذهب في المشرق. كانت صورة السيدة مريم العذراء تَمثُل دوما أمام كل امرأة غسانية. فالسيدة مريم مثلت بالنسبة إليهن الصورة الكاملة للمرأة الأم التي تكافح وترعى الجميع.

امتد تأثير السيدة مريم ومن بعدها الملكة ماوية إلى الملكات الغسانيات تحديدا فبنين العديد من الأديرة. كما تسمين باسمها ونسبن أولادهن لها فنرى أن اسم والدة أحد ملوك الغساسنة الحارث بن جبلة تسمى “مارية” وهو أحد أسماء السيدة مريم. (شهيد: 2009)

صورة للسيدة مريم العذراء التي ألهمت شخصيتها النساء الغسانيات

الشهيدات الغسانيات

عظّمت الملكات الغسانيات سيرة الشهيدات اللواتي قضين نحبهن وهن متمسكات بدينهن أمام الاضطهاد. عام  520 ميلادي قُتلت حوال 100 امرأة من نجران التي كانت تابعة آنذاك لحكم مملكة كندة ومن ثم لحكم الغساسنة، فآوت الملكات الغسانيات النساء المهاجرات من نجران وكانت من أهمهن امرأة تدعى “رُحُم أو روهوم” ذكرت كثيرا كقائدة روحية وملهمة لشعراء الغساسنة (شهيد: 2009)

تصوير كنسي للثاؤذتي وعائلتها، الذين خلدوا في الذاكرة لتمسكهم وإخلاصهم لدينهم

تُعد قصة الشهيدة ثاؤذوتي وبناتها انسيموس وابرابيوس ولانديوس إضافة لابنيها الطبيبين قزمان ودميان من القصص المؤثرة للغاية. كانت ثاؤذوتي امرأة طيبة القلب ربّت أبناءها على أن يكونوا مخلصين للمسيحية. دفعت بابنيها قزمان ودميان لتعلم الطب وعلاج المرضى المحتاجين والمساكين بالمجان أما بناتها الثلاث فسلكن طريق الرهبنة ووهبن حياتهن للكنيسة. عندما ارتد الإمبراطور دقلديانوس عن المسيحية بدأ بتعذيب الأهالي المسيحيين بطريقة وحشية وكانت ثاؤذتي وعائلتها من الذين خضعوا طويلا للاضطهاد الديني.

 وقفت  ثاؤذتي بشجاعة أمام الإمبراطور نفسه ونهرته عن أفعاله فقطع الإمبراطور رأس ثاؤذتي ولم يجرؤ أحدهم على الاقتراب حتى صرخ ابنها القديس قزمان وقال: يا أهل المدينة أليس فيكم أحد ذو رحمة ليستر جسد هذه العجوز الأرملة؟ فقاموا ودفنوها. وغضب الإمبراطور من ذلك فأعدم باقي عائلتها. وبحسب الروايات المسيحية نالت هي وأبناؤها إكليل الحياة وصُوِّرت وهي ترتديه في الكنائس والأيقونات كما بنيت أكبر وأقدم كنيسة تمجد ذكرى ابنيها القديسين قزمان ودميان في جرش.

المرأة والحج

كان المجتمع الغساني بأكمله يمتلئُ حماسا عند موسم الحج. شاركت المرأة بطقوس الحج الدينية بشكل أكبر حتى من الذكور. يذكر الأصفهاني اسم أميرة غسانية تدعى ليلى كانت ترعى الحجاج وتساعدهم وتؤمن لهم المأوى والطعام. وقد تمتعت المرأة الغسانية بحرية تنقُّل كبيرة وواسعة وذمة مالية مستقلة ساعدتها على الإنفاق على رحلتها أو على مساعدة الحجيج الآخرين.

اكتسبت المرأة الغسّانية صفة “الحاجّة” وكانت من تمتلك هذا اللقب تحظى باحترام كبير. اقترن هذا اللقب بداية بصفية بنت ثعلبة وهي غسانية أعطت “حق الجوار” أي الأمان  للأميرة هند بنت النعمان آخر أميرة من سلالة المناذرة وكانت تدين هي الأخرى بالمسيحية. وصفت صفية بنت ثعلبة بالحاجة أو الحجيجة (صيغة تحبب وتصغير) وكانت شاعرة مُجيدة، حتى أن الأبيات الشعرية التي أنشدتها في حادثة إعطاء الأمان للأميرة هند لا زالت موجودة تشهد لها على حسن الخلق:

أحيوا الجِوار فقد أماتته معا

كل الأعارب يا بني شيبان

ما العُذر قد لفٌت ثيابي حرةٌ

مغروسةٌ في الدرٍّ والمرجان

بنت الملوك ذوي الممالك والعُلى

ذاتُ الحِجال وصفوة النعمان

كان الغساسنة مؤمنين مخلصين يهتمون للغاية بتقويم الأعياد المسيحية. ارتبطت المرأة الغسانية روحيا بأعياد السيدة مريم العذراء[12]. في سجلات الكنيسة  يكاد يغيب ذكر الذكور في أغلب ما يتعلق بهذه الأيام وتنفرد النساء الغسانيات بالتجهيز لتلك الأيام المقدسة.

لم تقتصر حياة الرهبنة على الرهبان، إنما كانت النساء الغسانيات أكثر ميلا لهذه الحياة. “التأسي بالمسيح” كان أسلوب حياة تتخذه الراهبات فينقطعن عن الملذات ويهبن حياتهن لأعمال الخير والعبادة.

وقد تغنى الشاعر امرؤ القيس الذي يُنسب إلى الغساسنة عن طريق والدته[13] “بالرواهب – الراهبات” وقد ذُكرن أيضا في شعر حسّان بن ثابت. وكان التنظيم الذي تتبعه رهبنة النساء الغسانيات يقسم للراهبات العاديات وللراهبة الأم التي تسمى “حَيجمانة أو هَيجمانة”

الخاتمة

تنقّلنا في هذا البحث من التعاليم والطقوس المسيحية عند الأردنيين الغساسنة إلى أهم الشخصيات الدينية من أساقفة وقديسين واستعرضنا مكان المرأة من خارطة المسيحية الغسانية.  أضواء عيد الميلاد في الأردن تُضاء كل عام، وكنيسة القديس جورجيوس في السلط ومأدبا ما زالت شموعها تشهد لسيرة المسيحية التي بدأها الأردنيون الغساسنة في القرن الأول للميلاد.

المراجع والمصادر

  • Shahid, (1995) Byzantium and the Arab in sixth century, VOL.1, Part 2, the ecclesiastical history, Dumbarton Oaks Research library: Washington D.C
  • E. Shahid (1996) Byzantium and Arab in the sixth century, Vol1. Dumbarton Oaks Washington D.C
  • اليسوعي، ل.( 2011) الآداب النصرانية قبل الإسلام،(ط2) دار المشرق: بيروت
  • قاشا. س (2005) صفحات في تاريخ المسيحيين العرب قبل الإسلام، (ط1) لبنان: بيروت، منشورات المكتبة البوليسية، سلسة الكنائس المسيحية الشرقية
  • أبحاث إرث الأردن، المرأة الغسانية

[1] من مقال منشور للباحث تيسير خلف على موقع مفكر حر: https://mufakerhur.org/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%AC%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%B1%D8%AB-%D8%A8%D9%86-%D8%AC%D8%A8%D9%84%D8%A9-%D9%84%D9%84/

[2] بعد الهدو أي عند السحر فمن عادة الرهبان أن يدقوا أجراس الكنائس قبل طلوع الفجر

[3] قاشا (2005) صفحات من تاريخ المسيحين العرب قبل الإسلام، ص270

[4] آل جفنة اسم آخر من أسماء آل غسان نسبة لجدهم جفنة. وجفنة تعني صاحب الطبق الكبير دلالة على شدة الكرم والجود

[5] المصدر السابق ص272

[6] عيد الشعانين هو عيد مسيحي يوافق الأحد قبل عيد الفصح وهو عيد دخول المسيح لبيت المقدس. وسمي شعانين نسبة لتحية الأهالي للمسيح حيث كانوا يقولون “هوشعنا” المصدر السابق.

[7] السباسب هي أوراق سعف النخيل التي أمسكها سكان بيت المقدس لتحية المسيح عند دخوله. المصدر السابق

[8] المصدر: http://noursatjordan.com/news-details.php?id=47339

[9] المصدر: http://www.orthonews.org/ar/node/2751?page=4

[10] من مقال منشور للباحث تيسير خلف على موقع مفكر حر: https://mufakerhur.org/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%AC%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%B1%D8%AB-%D8%A8%D9%86-%D8%AC%D8%A8%D9%84%D8%A9-%D9%84%D9%84/

[11] المصدر السابق. ص275

[12] للمزيد انظر: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AF_%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B0%D8%B1%D8%A7%D8%A1

[13] كان النسب قديما إلى الأم في نظام اجتماعي يسمى بالنظام الأمومي.

الدين عند الأردنيين الغساسنة: المسيحية كثقافة وحضارة غسانية

مقدمة

تعد اللغة الأداة والوسيط الذي تنقل به الحضارات معارفها وتاريخها. إن كل الحضارات على مر التاريخ كان لها لغة وشعر وكتابات ونقوش، يمكننا أن نفهم من خلالها كيف فكّر الإنسان في تلك الحضارات وما أهم الأحداث التي مرّت. من النقوش والكتابات الأردنية النبطية عرفنا ملوك أجدادنا، ونظام حياتهم، ودينهم وعاداتهم وحتى موسيقاهم. ومما تركه لنا الأردنيون الغساسنة من أشعارعربية فصيحة ونقوش على الكنائس والقصور سنعرف أكثر عن حضاراتهم.

نقش من المرحلة النبطية المتاخرة. كتب بأبجدية نبطية ويقرأ قراءة عربية حيث أن الخط العربي مشتق بالأصل عن الخط الأردني النبطي

في فصول هذا البحث سنتطرق لعدة جوانب ثقافية لغوية ميزت اللغة عند الأردنيين الغساسنة. فمن ثنائية اللغة وصولا إلى الثورة الأدبية في القصيدة العربية الجاهلية، خلق الأردنيون الغساسنة جوا ثقافيا إبداعيا يتوجب علينا أن نتلمس آثاره مما تركوه لنا من قصائد تفيض حكمة وقوة وإبداع.

التعدد اللغوي عند الغساسنة

إن عملية تعلم أي لغة تتسم بقدر عال من الصعوبة. ويعدُّ الانفتاح على لغات العالم المحيط أمرا يصبغ جوانب الحياة الاجتماعية بصبغة تتسم بالقبول والعلمية. كان الأردنيون الغساسنة بحكم تجارتهم الواسعة والطويلة المدى والتي امتدت على طول طريق الحرير والطرق الأردنية الثانوية المتفرعة منه على احتكاك مستمر مع التجار القادمين من الشرق الأقصى ومن الغرب (الإمبراطورية البيزنطية).

لقد أفرز هذا الاحتكاك معرفة في لغات أخرى بجانب اللغة العربية. فالأردنيون الأنباط  الذين  كتبوا بالأبجدية النبطية وتحدثوا عدة لغات انخرطوا في المجتمع الغساني ناقلين معارفهم باللغة اليونانية والرومانية والآرامية والسريانية.

منمنة (صورة تخيلية) تصور الملك الغساني الحارث وهو في خيمته

لطالما اتصف المجتمع الأردني بتجانسه وتكاتف أبنائه وشغفهم بالعلم. فالأطباء الغساسنة كتبوا مصنفات كثيرة بالسريانية ولم يصلنا منها سوى كتابات تاريخية تذكرها. كُتب التاريخ الكنسية وقوائم التعميد وأسماء الرهبان والمطارنة كُتبت بالسريانية واليونانية كرسالة الملك الأردني الغساني الحارث بن جبلة والملقب بالبطريق الأمجد إلى القس يعقوب البرادعي يخبره فيها بآخر إنجازاته. وقد كانت الرسالة مترجمة عن السريانية إلى اللاتينية وترجمها الباحث تيسير خلف مؤخرا إلى العربية وجاء فيها:

رسالة البطريق الأمجد الحارث بن جبلة للقديس يعقوب البرادعي

أود أن أعلمكم يا صاحب الغبطة أن الله والقديسة مريم باركا سفري وغمراني بنعمة النجاح في ما عزمت عليه من أعمال، وعندما كنت أستعد لمغادرة العاصمة حدثني الأسقف مار بولس رئيس الدير الكبير(الأرشمندريت) بالأمر الذي سبق أن ناقشه معك، والذي كتب بخصوصه إليك. وقال لي إنه أرسل لك ثلاث رسائل بهذا الشأن، وأود أن أخبر غبطتكم أنه إذا لم تستطيعوا إرسال الرسائل والأشخاص المكلفين بتنفيذ ما أمرتم به، أو إذا منعتكم الظروف من الحضور إلينا، بإمكانكم إرسال الرجال المعنيين محملين بالرسائل، وأطلب من الله أن يساعدني على إنجاز الأمور حسب إرادته، ولهذا يجب اختيار الأشخاص المؤهلين لهذه المهمة.
وفي هذه المناسبة، أبلغ غبطتكم عن موضوع آخر، وهو أن طيب الذكر ثيودور بابا الإسكندرية تفضل وتحدث معي حول موضوع مار بولس رئيس الدير الكبير (الأرشمندريت)، فكنت في غاية السرور، و حمدت الله فقد تحدثت معه وجهاً لوجه واستفدت منه كثيراً، وبتنفيذي للأمور التي أمرتموني بها، أرجو أن أكون أهلاً لصلواته
.
وفي ختام رسالتي أقبل قدمي قداستكم راجياً أن تذكروني في صلواتكم المقدسة والساعية لرضا لله”[1]

ومن الأدلة الأخرى القوية التي تثبت ثنائية اللغة عند الأردنيين الغساسنة الوثائق الدّينية المطولة التي وقع عليها شمامسة وأساقفة الأديرة الغسانية الذين يبلغ عددهم 137 قسا وأسقف وشماس. كتبت الرسائل والوثائق بالسريانية وترجمت حديثا إلى العربية.

وتتناول هذه الوثائق موضوعات عدة كالمجامع الدينية التي عقدت للتوفيق بين المذاهب وبين المطالبة بالكتابة اللاهوتية لتدعيم فكرة الثالوث المقدس، ومراسلات أخرى تتسم بطابع ديني تبشيري.

 

آثار نتل -وكالة بترا

وفي نِتِل، بلدة أردنية جنوب عمّان تزخر بالآثار الغسانية، يخلّد الأردنيون الغساسنة اسم أهم ملوكهم على الإطلاق الحارث بن جبلة عبر الفسيفساء، الفن الأردني بامتياز. وتقرأ الفسيفساء المكتوبة بالخط اليوناني “أوه يا حارث يا ابن الحارث”

نقش كنيسة نِتِل الغسانية وقد كتب باليونانية ويُقرأ “أوه يا حارث يابن الحارث” وتظهر في النقش الفسيفساء الأردنية المبهرة

ومن النقوش الأردنية الغسانية الأخرى التي كتبت باليونانية نقش وجد في تل العميري، قرب منتزه عمّان القومي في العاصمة. وتل العميري منطقة مأهولة بالبشر منذ العصر الحجري، يذكر النقش أنه تم رصف مقام القديس سرجيوس (سركيس)، شفيع الأردنيين الغساسنة، بالفسيفساء وبأن هذا العمل مُهدى للملك الأردني الغساني المنذر بن الحارث. ويخلد النقش أيضا بناء الكنيسة التي تم التنقيب عن آثارها حديثا ليتم الكشف عن صحنها وخزان ماء وعدة مرفقات أخرى.

صورة جوية لكنيسة تل العميري الأردنية الغسانية

ترجمة النص عن اليونانية: “يا رب ، تقبل قربان المتبرع صاحب الكتابة ، عبدك موسيليوس و أبناءه
يا رب يسوع المسيح ، إله القديس سرجيوس ، احمي القائد بالغ التعظيم المنذر
يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك أوزيبيوس وأبناءه!
يا إله القديس سرجيوس ، بارك ابنك يوانيس مع زوجته وأولاده!
يا إله القديس سرجيوس ، بارك خادمك عبد الله وديونيسيوس و [- – -]!
في عهد الأسقف بوليوكتوس ، المحبوب من الله ، تم رصف هذا الضريح للشهيد القديس سرجيوس بالفسيفساء بسعي من ماري ، ابن ربوس ، الكاهن الأكثر تقوى ، وجورجيوس الشماس ، وسابينوس وماريا. في شهر أبريل في وقت [..].” (ترجمة الباحث تيسير خلف)

النقش اليوناني المكتشف في كنيسة موقع تل العميري

تدلنا هذه الجوانب على أن الأردنيين الغساسنة كانوا في أغلبهم ثنائيي اللغة في الحد الأدنى. فالتأثير السرياني جاء بفعل اللغة السريانية التي كانت الكنيسة تعتمدها. أما اللغة اليونانية فهذا لأنها كانت اللغة الرسمية للإمبراطورية البيزنطية وكانت المعاملات والوثائق تكتب فيها. لم تضعف اللغات المتعددة اللغة العربية عند الأردنيين الغساسنة وظهر منهم شعراء مجيدون أسسوا لثورة في القصيدة العربية القديمة، وسنتناول فيما يلي بتفصيل أهم الشعراء الغساسنة وجوانب فنية وتاريخية من شعرهم.

الثراء اللغوي

أدى التعدّد اللغوي الذي امتاز به الأردنيون الغساسنة إلى ثراء لغوي غير معهود. ويقصد بالثراء اللغوي أن تأخذ اللغة مفردات وألفاظ من اللغات الأخرى وأن تعطيها أيضا. وصحيح أن الأردنيين الغساسنة كتبوا باليونانية أغلب وثائقهم لكونها اللغة الرسمية للمعاملات آنذاك إلا أن الوثائق التي وصلتنا لا تخلوا من الكلمات العربية الفصيحة التي نستعملها حتى هذا اليوم والتي لم يجد الكَتَبة الغساسنة مرادفا لها باليونانية فكتبوها عربية ولكن بالرسم اليوناني.

صورة لإحدى البرديات التي اكتشفت في البترا وتؤرخ لعهد الملك الغساني أبو كرب. للاطلاع على باقي البرديات: http://papyri.info/search?SERIES=P.Petra

 وجدت في البترا، العاصمة الأردنية النبطية، مجموعة من البرديات المتفحمة استطاع العلماء إنقاذ بعضها وأُرّخت لعهد الملك الغساني أبو كرب (539 ميلادي) الحاكم الغساني على ولاية فلسطين. وتضمن البرديات مجموعة من عقود الملكية والمواريث وغيرها. وقد استخلص العلماء منها العديد من الكلمات العربية التي كتبت باليونانية مثل:

(βαιθ αλαχβαρ) بيت الأكبر: الغرفة الكبيرة
(βαιθ αλμεναμ): بيت المنام: غرفة النوم
(αλκασεβα): القصبة: قطعة أرض
(αλνασβα): النصبة: حقل العنب
(χαφφαθ): قفة: إناء لحفظ الطعام أو الشراب
(μαραβζ): مربض: حظيرة أبقار أو أغنام
(αβου χηρηβυσ): أبو كرب ملك الغساسنة

ولم يقتصر الثراء اللغوي عند الأردنيين الغساسنة على كتابة العربية باليونانية إنما استخدام خاصية تعريب الكلمات عن الآرامية والأليونية (إحدى لغات اليونان نسبة لمدينة ليون إحدى مدن الحضارة اليونانية) والفارسية واللاتينية.

فعن الآرامية أخذت كلمات مثل كلمة “أكار” بمعنى الحراث، وكلمة ” ناتور” عربت لتصبح “ناطور” وكلمة “فدان” وحدة قياس المساحة وكلمة “سراجا” التي أصبحت “سراج”وعن الأليونية كلمة “يونتيكا” التي أصبحت بندق. وعن اليونانية كلمة “كانديلا” التي عربت وأصبحت قنديل وكلمة “فرنس” التي أصبحت فرن. ومن الصّعب حصر عدد الكلمات التي أعطتها العربية للغات الأخرى ولكنها في بعض اللغات تتجاوز الآلاف كالإسبانية والآرامية.

إن خطوط التجارة الممتدة والشغف بالعلم أثرى بلا شك حياة المجتمع الأردني تحت ظل حكم الغساسنة وهذا ملمح من ملامح الرقي الحضاري الذي يمكن أن نتتبعه في مدة حكمهم.

الملوك الشعراء

كان الأردنيون الغساسنة قوم بلاغة وفصاحة وقد نقلوا لنا في شعرهم الحكمة. ومن الواضح أن السلالة الأردنية الغسانية الحاكمة كانوا شعراء أبا عن جد. وبهذا الصدد، نستشهد بأشهر ما قيل في الوصية، وصية الملك الأردني الغساني الحارث الأكبر لابنه عمرو بن الحارث على بحر البسيط:

يا عمرُو أصلِحْ لكَ النَّاسَ الَّذينَ لهُمْ … فِيهَا السَّوارِحُ …
احلل بوادي بِهَا عن قُربِ حاضِرِهَا … بحيثُ موجوءها شِيحٌ وقيصُومُ[3]

صورة تخيلية للملك الحارث بجانب الامبراطور البيزنطي

وفي هذا الشعر نجد الحكمة والقوة والإحسان والعدل، قيم لا زال المجتمع الأردني يحتفي بها. وبها يوصي الملك الأردني الحارث الأكبر ابنه عمرو بن الحارث بالعدل والإصلاح.

ويتابع الملك الغساني عمرو بن الحارث الذي اشتهر بفراسته وقدرته على التنبؤ بنظم وصيته لابنه الملك الحارث الملقب بالأعرج أو الخطّار فيقول على بحر البسيط:

يا حارِ  إنِّي أرى دُنيايَ صائِرةً … منِّي إليكَ وقد قامَتْ على ساقِ[4]

غداً ستجتازُها دُونِيْ وتَملِكُهَا … إنْ يأذنِ اللهُ لي فيها بتفراقِ

ما يقتِنيْ المُلكَ إلاَّ من تبوَّأهُ … عندَ النَّوائِبِ مِنْ ماضٍ ومن باقِ

والنَّاسُ سرحُ رِباعٍ والمُلوكُ لهُمْ … ما بينَ راعٍ وحفَّاظٍ وسوَّاقِ

ولا يحُوطُ ولا يرعَى الأنامَ سوى … من في ذُرَى المجدِ عالٍ في العُلى راقِ

ماضِي العزيمةِ ذي حَزْمٍ وذي فِطنٍ … مُوفٍ لدى العقدِ من عهدٍ وميثاقِ

تفِيضُ كالبحرِ ذي الأمواجِ راحتُهُ … بنائِلٍ مُستهِلِّ السَّيبِ دفَّاقِ

فإنْ ألمَّتْ عوانٌ للحُرُوبِ وقى … مِنها الَّذي لا يقيهِ دافِعٌ واقِ

بذابلٍ من قنا الخطِّيِّ يقدمُهُ … وصارمٍ كشُعاعِ الشَّمس برَّاقِ

هيَ الوصِيَّةُ فاحفظهَا كما حُفِظَتْ … لِلمُلكِ عن كُلِّ فَتَّاقٍ ورتَّاقِ

وفي هذه الوصية تظهر لنا فلسفة الحكم عند الأردنيين الغساسنة، فالملك هو ” راعٍ وحفَّاظٍ وسوَّاقِ” يتولى رعاية شعبه ويكفل لهم أمنهم وأمانهم. ويتابع وصفه للملك فيقول أنه قوي العزيمة وحازم وفطن ويوفي بوعوده ومواثيقه ” ماضِي العزيمةِ ذي حَزْمٍ وذي فِطنٍ … مُوفٍ لدى العقدِ من عهدٍ وميثاقِ”

يستكمل الملك الحارث الأعرج نظمه للوصية الشعرية فيقول قصيدة يشابه مطلعها مطلع وصية جده الحارث الأكبر يوصي فيها ابنه بالصدق وبأن يكون ملكا عادلا يرعى الضعفاء والمساكين ومن لا راعي لهم:

لا تكذبنَّ فخيرُ القولِ أصدقُهُ … والمرءُ يكذِبُ في سرِّ وإعلانِ

ما مِثلُ مُلكِكَ مُلكٌ حازَهُ ملِكٌ … من نسلِ حميرَ أو من نسلِ كهلانِ

إلاَّ التَّبابِعةُ الغُرُّ الَّذين لهُمْ … كانتْ تدِينُ مُلوكُ الإنسِ والجَانِ

أبناءُ قيصرَ قدْ كانتْ تدينُ لهُمْ … وكانَ دانٍ لهُم كِسرى بنُ ساسانِ

إنَّ المُلوكَ رُعاةُ النَّاسِ حينَ لهُمْ … ما كانَ في الأرضِ من عِزٍّ وسُلطانِ

كُنْ خيرَ راع إذا استرعاكَ ربُّهمُ … إياهُمُ ولنا كُنْ خَيرَ ما ثانِ[5]

ويذكر الأصمعي في كتابه “تاريخ العرب قبل الإسلام” قصائد أخرى لملوك أردنيين غساسنة وكلها تصب في الوصية والأخلاق الحسنة فيقول الملك الغساني عمرو بن الحارث (المحرق) لابنه أيهم يوصيه فيها بالعدل والإحسان:

فإذا ملكت وصرت صاحب أمرها … بعدي فحطها بالتي هي أقوم
أحسن إلى من كان فيها محسنا … واعدل فمهما تستطع فتقدم
من نائل وسماحة تعلو بها … لبني أبيك سناؤها المتعظم
والجار والمولى فلا تخذلهما … فكلاهما لك صاحب لا يسلم
وعلى العشيرة كن عطوفا إنها … لبني أبيك صناعة لا تهزم
هاتا وصاتي إنني أوصيكها … فاعمل بها دون الورى يا أيهم[6]

ونرى في هذه الأبيات البلاغة والفصاحة التي كان اكتسبتها القصيدة العربية عند شعراء الأردنيين الغساسنة الملوك. وقد أوصى الأردنيون الغساسنة أبناءهم بالعدل والإصلاح والحزم والقوة وهذا ما مكن ملوك الغساسنة الأردنيين من الحكم لمدة تزيد على الأربعة قرون حكما يمتاز بالرقي والحضارة.

الشعراء الغساسنة

من الأردنيين الغساسنة شعراء آخرون، نستعرض في هذا الفصل أهم الشعراء الغساسنة الذين  تخلدت قصائدهم في كتب التاريخ.

الشيظم بن الحارث الغساني وهو من السلالة الغسانية الحاكمة، تذكر المصادر قصته بأنه قتل رجلا ورحل إلى العراق وهناك احتمى بخربة أو كهف وأنشد أثناء رحيله شعرا كثيرا وصلنا منه قصيدته التي مطلعها

لحى الله صعلوكا إذا نال مذقة      توسد إحدى ساعديه فهوما

وساقته الأقدار عبر التجارة إلى أن يعود لموطنه متخفيا ورأى الملك المنذر بن الحارث فأنشد فيه شعرا وشرح له قصته فافتداه الملك. (الهزاع: 1994)

عدي بن الرعلاء الغساني، وهو من الشعراء الذين نسبوا لأمهم وفقا لتقاليد النسب في المجتمع الغساني. صاحب بيت شعري من أشهر البيوت الشعرية الجاهلية:

“ليس من مات فاستراح بميت …. إنما الميت ميت الأحياء

إنما الميت من يعيش ذليلا… كاسفا باله قليل الرجاء”

أنشد عدي بن الرعلاء الغساني شعرا في موقعة عين أباغ التي وقعت بين الغساسنة والمناذرة ويفتخر فيها بقوة وبأس الأردنيين الغساسنة. يقول في مطلع القصيدة:

“كم تركنا بالعين عين أباغ … من ملوك وسوقة القاء”

وتذكر المصادر التاريخية التي أرخت طبقات الشعراء قبل الإسلام عدة شعراء غساسنة آخرين بعضهم كان متأخرا (في القرن السابع وما بعده) كالمثلم الغساني وآخرون لم تصلنا سوى أسماؤهم وأبيات قليلة من قصائدهم كالفظ بن مالك الغساني وأوفى بن يعفر الغساني الملقب بابن عنق الحية وجذع بن سنان الغساني وحبة بن الأسود الغساني.

رعاية البلاط  الأردني الغساني للشعراء

احتفى البلاط الأردني الغساني بالشعراء من جميع أقطار الأردن وما حولها وعلى امتداد نفوذهم الواسع. إننا نجد ذكر أمجاد الأردنيين الغساسنة في قصائد شعراء من المدينة المنورة ونجران وكندة وغيرها من المدن والحواضر التي نالها نصيب من الحضارة الأردنية الغسانية على مدار أربعة قرون من الحكم.

صورة لمنزل أثري قديم يعتقد بأنه يعود لحاتم الطائي

ونذكر من أكثر الشعراء اتصالا ببلاط الأردنيين الغساسنة الشاعر حاتم الطائي الذي يُضرب فيه المثل في الكرم والجود. كان الشاعر حاتم الطائي  أحد أمراء  قبيلة طيء وهي قبيلة عربية لم تكن على علاقة جيدة مع الملوك الأردنيين الغساسنة فكانوا يحاولون الإغارة على القوافل التجارية التابعة للغساسنة وفي مرة نجحوا وقتلوا ولدا للملك الأردني النعمان بن الحارث فغضب الحارث فأغار عليهم وأخذ منهم أسرى كثر (الهزاع: 1994).

لم يكن من قبيلة طيء سوى أن تستنجد بالشاعر حسن الخلق ذي المكانة حاتم الطائي، فقصد بلاط النعمان وأنشده شعرا بديعا أعجبه وكان من عادات الأردنيين الغساسنة أن يجزلوا العطاء للشعراء المجيدين، فطلب حاتم الطائي من النعمان أن يطلق سراح قومه ففعل النعمان إكراما لهذا الشاعر.

وقد قال في مدح النعمان بعدها قصيدة مطلعها:

أَبلِغِ الحارِثَ بنِ عَمروٍ بِأَنّي     حافِظُ الوُدِّ مُرصِدٌ لِلصَوابِ

وَمُجيبٌ دُعائَهُ إِن دَعاني         عَجِلاً واحِداً وَذا أَصحابِ

أما حسّان بن ثابت فهو أكثر الشعراء الذين ذكروا الأردنيين الغساسنة في أشعارهم. نكاد لا نجد قصيدة للشاعر حسان بن ثابت إلا ويتغنى فيها بحضارة ورقي وانتصارات الأردنيين الغساسنة. وفي الواقع، يعد شعره أهم وثيقة اجتماعية تاريخية تطلعنا على تفاصيل الحياة الأردنية الغسانية. فمن شعره عرفنا كيف يلبسون وكيف هي احتفالاتهم الدينية ومجالس الطرب وانتصارات الحرب (شهيد: 2009) اعتمد الباحثون أحيانا اعتمادا شبه كامل على شعر حسان بن ثابت لصياغة صورة تاريخية أكثر وضوحا عن الحضارة الأردنية الغسانية. ومن أشهر ما قال في الغساسنة قصيدة مطلعها:

لله در عصابة نادمتهم           يوما بجلق[7] في الزمان الأول

وتذكر المصادر التاريخية عدة لقاءات بين الشاعر حسان بن ثابت وبين ملوك الغساسنة جبلة بن الحارث والحارث بن أبي شمر والنعمان وغيرهم وكانت تدور في هذه اللقاءات مساجلات شعرية يرعاها البلاط الغساني الأردني.

أما الشاعر الأخير المهم والذي استقر في بلاد الأردنيين الغساسنة بصفة قريبة لمفهوم اللجوء السياسي اليوم فهو الشاعر النابغة الذبياني من بني تميم.

صورة تخيلية للشاعر النابغة الذبياني

كان النابغة شاعرا سياسيا مجيدا، من عليّة القوم في قبيلة بني تميم. ويذكر أبو الفرج الأصفهاني أنه وجّه شعرا لملوك الغساسنة يدعوهم فيها لإطلاق سراح الأسرى من الذي أخذوا في موقعة يوم حليمة وعين أباغ. وقصّة النابغة الذبياني مع البلاط الغساني فيها تضارب واختلاف وجدل كبيرين. فقد كان الشاعر على علاقة جيدة مع مملكة المناذرة (أعداء الغساسنة) ولأسباب كثيرة اختلف مع النعمان بن المنذر ملك المناذرة وخاف أن يقتله ملك المناذرة فلجأ إلى الحارث الأصغر، الملك الأردني الغساني في ذلك الوقت، ودخل في حمايته (الهزاع: 1994)

وكعادة الأردنيين الغساسنة في حماية اللاجئ وإغاثة الملهوف، أعطوا النابغة الحماية وظلّ في بلاد الأردنيين الغساسنة آمنا حتى مات.

ويظل امتنان النابغة الذبياني للملك الأردني الغساني الحارث الأصغر (عمرو بن الحارث) خالدا في كتب التاريخ وفي ديوانه:

كليني لهم، يا أميمة ، ناصب        وليل أقاسيه، بطيء الكواكبِ

عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة          لوالده ليست بذات العقاربِ[8]

ماذا يخبرنا الشعر الغساني؟

لقد أسلفنا الحديث عن شعر حسان بن ثابت وشعر النابغة وكلاهما شاعران جاهليان احتفى بهما البلاط الأردني الغساني. وبما أن الشعر هو وثيقة اجتماعية وسجل تاريخي مهم يعكس لنا أحوال الشعوب، يمكننا أن نستشف من أشعار حسان بن ثابت والنابغة أهم سمات المجتمع الأردني الغساني وفقا للدراسات التي تناولت ديوانهما.

أولا: مناطق النفوذ والمدن والحواضر الغسانية

من الأمور التي تمكنا من معرفتها بمساعدة الشعر هي المناطق التي امتد عليها الحكم الأردني الغساني. وتذكر العديد من الأشعار هذه المناطق، فيقول حسان بن ثابت  في مطلع قصيدة ألقاها في حضرة الملك عمرو بن الحارث، يذكر فيها المدن والحواضر الأردنية الغسانية، التي تدل كثرتها على اتساع الحضارة وامتداد سيطرة المملكة:

لمن الدار أوحشت بمعان….. بين أعلى اليرموك والخمان

       تلك دار العزيز بعد أنيس ….. وجلول عظيمة الأركان
ثكلت أمهم وقد ثكلتهم……. يوم حلوا بحارث الجولان

ويقول في موضع آخر:

أسألت رسم الدار أم لم تسأل…… بين الجوابي فالبضيع فحومل
فالمرج مرج الصفرين فجاسم……….. فديار سلمى درساً لم تحلل

ثانيا: الأحوال الدينية والاجتماعية

يمكننا أيضا أن نشكل صورة جيدة عن الأحوال الدينية والأعياد والمناسبات من تلك الأشعار. فقد جاء الشعراء على وصف احتفالات عيد الفصح وأحد الشعانين (يوم السباسب والسباسب هو سعف النخيل) إضافة للأحوال الاجتماعية كالملابس والأحذية. (النعيمات: 2006)

يقول النابغة في واحدة من أجمل وأشهر القصائد التي تصف بدقة الأردنيين الغساسنة في الجانبين الديني والاجتماعي:

مخافتهم ذات الإله ودينهم… قويم فلا يرجون غير العواقبِ

رقاق النعال، طيب حجزاتهم…. يحيون بالريحان يوم السباسبِ

تحييهم بيض الولائد بينهم….وأكسية الإضريح فوق المشاجبِ

يصنون أجسادا طال نعيمها ….. بخالصة الأردان خضر المناكبِ

فهم أناس متدينون، “رقاق النعال” واصفا ملوك الأردنيين الغساسنة وهم يمشون بين العامة دلالة على العفة والزهد والتواضع. أما الإضريح والأردان فهي أنواع من الملابس الغالية.

 

شعرهم من ناحية فنية

تقوم القصيدة العربية التقليدية على ثلاثة عناصر أساسية وهي: المقدمة والتخلص والخاتمة. (النعيمات: 2006) والمقدمة هي مفتتح تقليدي لا يخرج عن موضوعات محددة كالغزل والبكاء على الأطلال[9]. أما التخلص فهو الانتقال من موضوع المقدمة إلى موضوع القصيدة الرئيس بشكل جيد لا يفقد القصيدة وحدتها.

لقد حفّز الجو الثقافي الذي رعاه ملوك الأردنيين الغساسنة الشعراء على الإبداع وعلى إخراج أشعار رقيقة  تطرب السامعين. فمن المقدمات الطللية التي بدأ حسان بن ثابت فيها إحدى قصائده في مدح ملوك الأردنيين الغساسنة:

أسألت رسم الدار أم لم تسأل ….. بين الجوابي فالبضيع فحومل

أما القصائد “الغسانية” المحتوى والتي تبدأ بمقدمة غزلية قصيدة بديعة للأعشى:

أترحل من ليلى، ولما تزود؟…. وكنت كمن قصى اللبانة من ددِ [10]

أما الخاتمة فهي بحسب النقاد “ما يبقى في الأسماع” ولهذا يضرب المثل في خاتمة قصيدة النابغة الذبياني الشهيرة في مدح آل غسان:

حبوتٌ بها غسان إذا كنت لاحقا… بقومي وإذا أعيت علي مذاهبي

وبحسب الدراسات التي أجريت على شعر الغساسنة وشعر من سكنوا ديار الأردنيين الغساسنة، فإن اللغة الشعرية خاصتهم تميل للسهولة والرقة إلا في الأشعار التي تتناول الحروب والرواحل (وصف القوافل والإبل). ولأن البيئة الغسانية كانت بيئة حضرية أقرب للمدنية منها للبدوية، فكان لا بد للألفاظ أن تكون أكثر رقة وسهولة.  وفي الشعر الغساني صور فنية بديعة وكثيرة، ومن أشعارهم ما يزال يستخدم كشواهد نحوية وبلاغية إلى الآن. ويفيض الشعر الغساني بالحكمة، فقول ابن الرعلاء الغساني :”ليس من مات فاستراح بميت …. إنما الميت ميت الأحياء” ما زال حاضرا في الشعر العربي اليوم.

ومن ناحية أدبية فنية، تتعدد الأغراض الشعرية التي كتب بها الأردنيون الغساسنة فقد كتبوا كثيرا في الفخر والمدح والرثاء والحكمة.

دور الشعر الغساني في حركة الشعر العربي القديم

 لا يمكن أن نغفل مقدار القصائد التي رفدت بها المملكة الغسانية نهر الشعر العربي القديم.  فقد وفر ملوك الغساسنة كل أجواء الإبداع والراحة لشعرائهم وأجزلوا لهم العطاء. ولم تقتصر الإضافة التي قدمها شعراء الأردنيين الغساسنة على (الكم) إنما (النوع) فتمتاز قصائدهم بأنها ذات قيمة فنية عالية، وبأنها متعددة الأغراض الشعرية ومتجددة الصور الفنية والجمالية إضافة للقيمة التاريخية لهذه القصائد.

عندما يرغب الدارس بدراسة الأدب الجاهلي القديم سواء دراسة تاريخية أو شعرية أسلوبية فلا بد له/ لها أن يتبحر في الشعر الذي أفرزته المملكة الأردنية الغسانية على مدار أربعة قرون من الحضارة والإبداع.

خاتمة

تناولنا في هذا البحث من سلسلة الأردنيين الغساسنة عدة جوانب ميّزت الواجهة الحضارية الأكثر غنى عند الأردنيين الغساسنة.  فكما يقال، إن أراد شعب أن يقول من هو فإنه يخرج للعالم شعراءه وفنانيه. وقدمت لنا الحضارة الأردنية الغسانية شعراء مجيدين ومتميزين لا زال تاريخ الأدب العربي يحتفي بشعرهم حتى يومنا هذا.

المراجع

  • النعيمات. ريهام. (2006) صورة الغساسنة والمناذرة في الشعر الجاهلي، رسالة ماجستير منشورة، جامعة آل البيت
  • E (1996) Bazantinum and Arab in the sixth century, Vol2, Part 2 Dumbarton Oaks, Harvard University.
  • اليسوعي، لويس.( 2011) الآداب النصرانية قبل الإسلام،(ط2) دار المشرق: بيروت
  • الهزاع، قطنة. (1994) الشعر في بلاط الغساسنة، رسالة ماجستير منشورة، جامعة اليرموك.
  • المرزباني، معجم الشعراء، تحقيق د.فاروق سليم.، ط1 (2005)، دار الصادر، بيروت: لينان
  • ديوان النابغة الذبياني، شرح وتحقيق د. حنا نصر الحتي،ط1 (1991) دار الكتاب العربي، بيروت: لبنان
  • خلف، تيسير. ( 2008) كنيسة العرب المنسية، ط1، دار التكوين. دمشق: سورية
  • العيسي، سالم (2007) تاريخ الغساسنة، ط1، دار النمير. دمشق: سورية
  • الراوي، عثمان (2017) بلاد العرب السعيدة وما تبقى من شعرها غير المجموع في الجاهلية والإسلام، ط1، دار غيداء. عمان: الأردن

[1] المصدر:كنيسة العرب المنسية للباحث تيسير خلف. ص215

[2] حقوق الترجمة محفوظة للباحث تيسير خلف.

[3] المصدر: كتاب وصايا الملوك وأبناء الملوك من أبناء قحطان بن هود لدعبل الخزاعي، ج1، ص33

[4] المصدر السابق. حارِ: صيغة ترخيم لاسم ابنه الحارث

[5] المصدر: الشعر في بلاط الغساسنة، الهزاع (1994) ص 153

[6] المصدر السابق. ص154

[7] إحدى المدن الغسانية في سهول حوران الأردنية

[8] النابغة الذبياني، الديوان، تحقيق محمد أبو الفضل ص 40

[9] البكاء على الأطلال أو “الطللية”  هي افتتاح القصيدة بالتحسر على الديار وعلى أحوال الماضي وفيها استذكار للمشاعر القديمة والذكريات.

[10] اللبانة: الحاجة. الدد يعني اللهو واللعب

الشعر واللغة عند الأردنيين الغساسنة

مقدمة

مكّن الموقع الاستراتيجي للمملكة الأردنية الغسانية الطرق التجارية والصناعات أن تزدهر. فكونها تقع على أهم طرق التجارة في العالم القديم جعلها تستفيد أقصى استفادة من القوافل التجارية التي تقصد الشرق الأقصى والهند وتلك التي تريد أن تعبر لمصر أو للبحر الأبيض المتوسط.
رغم الحالة الحربية المتقلبة والمعارك التي تنشب باستمرار مع المناذرة أو الفرس الساسانيين، استطاعت المملكة الأردنية الغسانية أن تخلق جوا آمنا لتلك القوافل. في العالم القديم، لم تكن الحروب لتوقف سير الحياة التجارية والصناعية فكانت الحضارات القديمة تبرم عهودا خاصة لتضمن أمان قوافلها. وكان الأردنيون الغساسنة من اضطلع بالمهمة الصعبة: مهمة تأمين القوافل وضمان سلامة البضائع.
في هذا البحث سنستعرض أهم محاور الاقتصاد الغساني وكيف استغل الأردنيون الغساسنة بحكمة وذكاء موقعهم الاستراتيجي وأي الصناعات ازدهرت جراء هذا الموقع.

الطرق التجارية

يعدُّ طريق الحرير الواصل بين حضارات العالم القديم أشهر الطرق التجارية على مستوى العالم. وذلك كونه يصل الشرق الأقصى (الصين -مدينة تشانغ آن تحديدا- واليابان والهند ومناطق نفوذ الإمبراطورية الفارسية) بالمشرق (الأردن والعراق وسوريا ومصر والجزيرة العربية) وبالغرب (الإمبراطوريات اليونانية والرومانية -مدينة أنطاكية تحديدا).

خريطة توضح طريق الحرير والطرق الفرعية منه. طريق الحرير أشهر الطرق التجارية في العالم القديم وكان يمر بالأردن.

تتفرع عن هذا الطريق طرق تجارية ثانوية حيوية تربط المدن والحواضر في بعضها البعض. ولكن التقسيم الأكثر شهرة والذي كان سائدا زمن الأردنيين الغساسنة هو تقسيم طريق الحرير لطريقين: طريق البحر وطريق البر.( شهيد: 2009)
يمتد طريق البحر من الصين إلى سريلانكا (كانت تعرف بسيلان قديما) وصولا إلى البحر الأحمر. أما طريق البر فكان يمتد من الصين عبر آسيا الوسطى ماراً ببلاد فارس وصولا إلى بلاد الرافدين ومن ثم الأردن.
كان للأردن في عهد المملكة الأردنية الغسانية نصيب وافر من التجارة. فالطريق البري يمر قطعا بالأراضي الأردنية عبر وادي السرحان (دومة الجندل) وصولا للمدن الغسانية المنتعشة تجاريا كالجابية في حوران الأردنية وبيت راس وجرش ومادبا وغيرها. أما طريق البحر فكان يصل للبحر الأحمر إلى ميناء أيلة (العقبة) وسنبحث فيما يلي، بتفصيل أكبر، الطرق التجارية الأردنية في عهد الأردنيين الغساسنة . (شهيد: 2009)

حُماة القوافل

شارك الأردنيون الغساسنة بشكل فاعل في حركة التجارة العالمية آنذاك، إذ سيّروا القوافل وروّجوا لبضاعتهم التي تباينت بين الخمر والمزروعات والثياب وغيرها. ولكن كُتب التاريخ تخص الأردنيين الغساسنة دوما بلقب حُماة القوافل.
كما أسلفنا بالحديث عن طريق الحرير الذي كان عامرا بالقوافل، يجب ألا ننسى أن الطريق كان صعبا من نواح عدة. من ناحية طبيعية جغرافية يمتد على عدد هائل من التضاريس. يجعل هذا الطقس أيضا غير مأمونا. أما الناحية الأخرى فكانت انتشار قُطّاع الطرق الذين ينهبون ويسلبون القوافل التجارية. وشكّل مرور القوافل التجارية بإمبراطوريات العالم القديم هاجسا آخر أمنيا وعسكريا، فرغم المعاهدات التي تضمن مرور القوافل؛ تظل الثغور والحدود متحفزة دوما ولهذا كان الأردنيون الغساسنة حُماة القوافل التجارية على طريق الحرير المار بالأراضي الأردنية. (شهيد: 2009)
وفي الأحلاف السياسية بين الفرس والمناذرة مقابل الغساسنة والبيزنطيين، كان الأردنيون الغساسنة ينفردون بحماية القوافل لما عرف عنهم من قوة وحكمة. فبعد النصر الكبير الذي أحرزه الغساسنة على المناذرة عام 554 ميلادي وبعد نقاشات كثير محتدمة بين الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية ومملكتي الغساسنة والمناذرة، صيغت معاهدة سلم عام 561 ميلادي نصت على أن للغساسنة الحق في عقاب كل من يتعدى على القوافل التجارية وأن عليهم حماية القوافل التجارية وإيصالها آمنة مقابل ضريبة يقتطعونها من التجار وكانت تلك مهمة يسيرة على الأردنيين الغساسنة لمعرفتهم بطبوغرافية المنطقة جيدا ولتفوقهم العسكري كذلك. (شهيد:2009)

الطريق العربي الغربي

نتيجة للصراعات المستمرة بين الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية وانخراط الأردنيين الغساسنة بالحروب مع المناذرة خصيصا في القرن الخامس الميلادي، ظهر طريق تجاري جديد يتفرع عن طريق الحرير، ويبدأ هذا الطريق الفرعي من اليمن شمالا ليمر بمدينة تبوك (التي كانت وقتها ضمن النفوذ الغساني) وصولا للمدن الأردنية المزدهرة كالبترا والربّة ومعان ومادبا وعمّان وإن كانت القوافل ستقصد البحر الأبيض المتوسط فعليها أيضا أن تمر من الميناء الغساني في غزة. (شهيد: 2009)

خريطة الطريق العربي الغربي وهو طريق تجاري استحدثه الأردنيون الغساسنة وكانوا مسؤولين عن حمايته. المصدر:
Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

وهنا نرى أن كل طريق تجاري يتفرع يجب أن يمر بالمملكة الأردنية الغسانية آنذاك وهذا بلا شك من الأمور التي أثرَت الحواضر والمدن الأردنية على مر التاريخ.

امتداد الطريق العربي الغربي ومروره بالمدن الأردنية المزدهرة. المصدر Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

كان الأردنيون الغساسنة مسؤولين عن تأمين هذا الطريق بأكمله، ولهذا امتد نفوذهم ووجودهم كحضارة وثقافة مسيحية إلى جنوب الجزيرة العربية فكانوا يستريحون في نجران التي اعتنق أهلها المسيحية وكانت على تواصل قوي مع الأردنيين الغساسنة. ورغم أهمية طريق الحرير الرئيسي إلا أن الطريق العربي الغربي كان ذي أهمية أكبر بالنسبة للأردنيين الغساسنة فقد جعلهم ينخرطون أكثر في التجارة بعيدة المدى سواء عبر البر في الجزيرة العربية أو عبر البحر عن طريق المرور بفلسطين التي كانت تحت ولاية الأمير الغساني أبو كرب، أخ الملك الغساني الحارث. وقد أدت هذه الخبرة الطويلة المتراكمة إلى خلق أساليب دفاعية متميزة.(شهيد: 2009)

طريق وادي السرحان الأردني

وادي السرحان الأردني – أو كما يعرف أيضا بوادي الأزرق – هو منخفض تضاريسي يمتد من حوض الأزرق شمال شرق الأردن إلى بادية الصفاوي جنوبا، وكانت تلك المنطقة ولا زالت من مضارب القبائل الأردنية في البادية الأردنية الشمالية عبر العصور.

خريطة توضح طريق وادي السرحان الأردني وهو طريق تجاري استحدثه الأردنيون الغساسنة وكانوا مسؤولين عن حمايته. المصدر Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

اشتهر هذا الطريق بعدة مدن أردنية غسانية كدَومة الجندل والنبك والأزرق ودوما. وقد شهد هذا الوادي الأردني عدة مواجهات حربية كمعركة الملك الغساني الحارث مع قبائل تميم. اكتسب هذا الطريق أهميته من طبيعته الجغرافية فهو منخفض تتجمع فيه مياه الأمطار الآتية من الأزرق وفيه حوض مائي جوفي ضخم كما أن طبيعته الجيولوجية متميزة للغاية، فصخور وادي السرحان إحدى أهم مصادر الملح في المشرق بأكمله.(شهيد: 2009)
ساعدت تلك الخصائص على ازدهار التجارة في طريق وادي السرحان وكان الأردنيون الغساسنة يولون اهتماما بالغا لهذا الطريق.

الطريق البحري

خريطة توضح الطريق البحري الغساني وميناءان رئيسيان هما ميناء غزة وميناء صوغر. المصدر
Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

 

امتلك الأردنيون الغساسنة طرقا تجارية برية كما أسلفنا ولم يغفلوا عن ضرورة إيجاد طريق بحري لتصل القوافل للعالم الغربي عبر البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. كانت المملكة الأردنية الغسانية بشقها الثاني الذي تولاه الأمير الغساني أبو كرب (أخ الملك الحارث) تمتلك ميناءين أولهما على مدينة صوغر Zoara إحدى المدن الأردنية المسيحية الخمس (بنتابوليس) 1 والميناء الثاني هو ميناء أيلة أو إيلات (الاسم القديم للعقبة). وبهذين الميناءين إضافة لميناء غزة وصل الأردنيون الغساسنة للأسواق المصرية والبيزنطية.

 

 

الخريطة الفسيفسائية في مادبا وتظهر إلى اليسار صور القوارب في البحر الميت.

 

برع الأردنيون الغساسنة في إدارة الموانئ وتأمينها وقد قاد ذلك لازدهار التجارة في الجزء الجنوبي من المملكة الأردنية الغسانية. وكان البحر الأحمر ذي أهمية خاصة خصوصا بوجود جزيرة أيوتاب (جزيرة تيران حاليا) التي كانت محطة تجارية مهمة للسفن المحملة بالبضائع، ويذكر أن هذه الجزيرة خضعت لحكم الملك الأردني الغساني جبلة بن الحارث وأعيدت لها مكانتها التجارية بعد أن فقدتها عقب انتهاء حكم السلالة البطلمية 2 . (شهيد: 2009)

إذن، اكتسب ميناء أيله الأردني مكانة تجارية لا مثيل لها في عهد الأردنيين الغساسنة وصارة بوابة المشرق على حضارات العالم القديم وراء المحيط الهندي وأمسى نقطة التقاء حيوية تتجمع فيها القوافل والسفن كما هو حال ميناء العقبة الأردني اليوم.

المعارض التجارية والأسواق

إحدى أهم مميزات الحضارة الأردنية الغسانية انتشار الأسواق والمعارض التجارية. هيأت الطرق التجارية البديلة التي استحدثها الأردنيون الغساسنة لانتشار هذه الأسواق والمعارض على طول هذه الطرق. الرومان والبيزنطيون والفرس والعرب من الجزيرة ومن العراق كانوا يحيون هذه الأسواق التي تحوي مختلف الأصناف والمنتجات الآتية من إفريقيا ومن أوروبا ومن الشرق الأقصى.

شهدت الأردن في الحقبة الهلنستية قيام فكرة المدن ذات الحكم المستقل وقد عرفت بمدن الديكابوليس. نبعت فكرة الديكابوليس من طبيعة الأردنيين الذين لم يكونوا ليقبلوا لأي أحد بأن يسلبهم حريتهم واستقلالهم ويفرض عليهم ولاية ليست منهم.
فيلادلفيا وبيلا وأرابيلا وجدارا وكانثا ودايون وهيبوس وجراسا، مدن الديكابوليس الأردنية التي تتابع كمدن أردنية رائدة بأسماء حديثة: عمان، طبقة فحل، أم قيس، أم الجمال، إيدون، الحصن وجرش، مستكملة دورها التجاري والحضاري الذي بدء منذ قرون طويلة.

خريطة توضح مدن الديكابوليس الأردنية والتي كانت مراكزا تجارية على طول الخطوط التجارية الأردنية الغسانية

يمكننا إذن تصور الأمر كالتالي. ثمان مدن أردنية تعمل كمراكز تجارية تربط العالم القديم، الشرق والغرب، تتلاقى فيها الحضارات ويتبادل الناس معارفهم وتجارتهم ويحفظ أمن هذه المدن جنود المملكة الأردنية الغسانية البواسل.

أشهر الأسواق الغسانية في سهل حوران الأردني. المصدر: Shahid. E (2009) Bazantinum and Arab in the sixth century

 

وبعيدا عن مدن الديكابوليس، اشتهرت ثلاث أسواق محلية في سهول حوران الأردنية، الأول سوق دير أيوب (شيخ سعد) والثاني سوق أدريعات (درعا) والثالث سوق بوسطرا (بصرى). تتوقف القوافل التجارية الآتية من الجنوب والشمال والشرق في هذه الأسواق وكان الأردنيون الغساسنة يمارسون عدة أدوار فهم حُماة القوافل وجامعو الضرائب والتُّجار.

تحصيل الضرائب

مارس الأردنيون الغساسنة تحصيل الضرائب، وكانت الضريبة التي تقدر بعُشر البضائع أو ثُمنها تؤخذ بدل أجرة الحماية وتأمين الطريق. وتذكر المصادر التاريخية أنهم حصّلوا الضريبة من قوافل قبيلة جذام الأردنية، أما مؤرخو بيزنطة فيذكرون لفظة Commericiaruis والتي تعني جامع الضرائب. (شهيد: 2009)

الزراعة

رغم فقر المصادر المتعلقة بالزراعة إلا أننا نملك بعض الدلائل على ازدهارها كذلك. فيقال في التراث العربي القديم “جنان آل غسان”، والأغلب أن الواحات الزراعية والكروم انتشرت وكانت قنوات الري تنقل الماء من مصادر جوفية (كحوض الأزرق ووادي السرحان) ومصادر أخرى سطحية كنهر الأردن، بحيرة طبريا وسيل الزرقاء. كما تدلنا المحاصيل والحبوب التي ورد ذكرها في الأسواق على ازدهار الزراعة هذا عدا عن كون قسم جيد من أرض الأردن أرضا خصبة ومناسبة للزراعة.

الحرف والمهن الأخرى

انتشرت عدة مهن وحرف أخرى في بلاد الأردنيين الغساسنة وذلك دليل على الإنتاجية العالية والتنوع الذي تميز به المجتمع الأردني الغساني. من الصناعات التي ازدهرت “دباغة الجلود” والتي تتضمن صناعة الأحذية الجلدية والمصنوعات الجلدية المتعلقة بالأحصنة والحروب. كما انتشرت صنعة حياكة الثياب والغزل، وفي الواقع عرف الأردنيون الغساسنة الكثير من الأثواب التي كانت تُعدُّ فاخرة بالنسبة لعصرها. يعود ذلك لازدهار تجارة الحرير على الطرق التجارية الذي كان الأردنيون الغساسنة مسؤولين عن حمايتها وتأمينها.
ويمكننا أن نستنتج من وجود الموانئ البحرية الغسانية المنتعشة بالتجارة كميناء أيلة وميناء صوغر وميناء غزة بأنهم أتقنوا الملاحة. وكانت حرفة النجارة مشتهرة أيضا وذات طابع ديني فالسيد المسيح كان نجارا. (شيخو: 2011)
ولم يكن لآل غسان أن يتخلفوا عن التفوق في الصناعات الحربية، فقد ذاع سيط قرية في البلقاء تدعى المشارف وكان ينسب لها “السيف المشرفي” وهو من أجود وأفخر أنواع السيوف. وعُرف أيضا صانع سيوف غساني اسمه “سرجس” وسميت سيوفه بالسُرجيات وقال الشاعر العجاج فيها “وبالسُرجيات يخطفن القصر” وبحسب المرويات التاريخية والدينية أهدت بلقيس ملكة سبأ الملك سليمان سبعة سيوف وصل اثنان منها إلى الملك الغساني الحارث بن جبلة وكان لقب السيفين “المخدم والرَّسوب” ويعنيان السيف الحاد الضربة حتى اشتهرت السيوف الغسانية بسيوف “الرَّسوب”.
ذكر العالم الكندي في رسالته الشهيرة عن السيوف سيوف الغساسنة بأنها ذات شفرات حسنة متعددة القدود من عراض ودقاق وقصار. ويذكر سيوف “الشراة” نسبة لجبال الشراة جنوب الأردن وهي سيوف مصنوعة من حديد يسمى الزماهن بشكل رقيق وطويل. وأتى الكندي على ذكر السيوف “الديافية” نسبة إلى منطقة دياف جنوب البترا.

الخاتمة

طرق تجارية مزدهرة وموانئ تصل إلى أقاصي العالم، ومدن أردنية تصل حضارات العالم القديم ببعضها البعض؛ إلى هذا الرقي والتقدّم وصلت حضارة الأردنيون الغساسنة. فالسيف المشرفي البلقاوي والسيف الديافي كانوا خطوات على درب الاستقلال والحرية التي رسمتها سواعد الثوار والأبطال الأردنيين عبر التاريخ.

المصادر والمراجع

  •  Social History Vol2, Part 2 Dumbarton Oaks, Harvard University.
    • شيخو اليسوعي، ل.( 2011) الآداب النصرانية قبل الإسلام،(ط2) دار المشرق: بيروت

[1] البنتابوليس (بنتا تعني خمس وبوليس هو تجمع لخمس مدن في العهد الإنجيلي. واحد من أهم هذه التجمعات كان في الأردن في خمس مدن ذكرت بالكتاب المقدس في سفر التكوين (سدوم/ عمورة/ أدمة/ صبوييم/ صوغر أو بالعا). انظر https://st-takla.org/Bibles/BibleSearch/showChapter.php?chapter=14&book=1 وانظر https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D9%86%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%B3_(%D8%AA%D9%88%D8%B6%D9%8A%D8%AD)

[2البطالمة هم عائله من أصل مقدوني نزحت على مصر بعد وفاة الإسكندر الأكبر سنة 323 ق.م. للمزيد انظر: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A9

حماة القوافل وحملة السيوف المَشرَفية: ملامح الاقتصاد الأردني الغساني

Scroll to top